
لواقح الأنوار القدسية في مناقب الأخيار والصوفية
وهو كتاب الطبقات الكبرى
تأليف الشيخ عبد الوهاب الشعراني
![]() |
![]() |
خاتمة
وليكن ذلك آخر الطبقات، وقد أحببت أن ألحقها بذكر نبذة صالحة من أحوال العلماء العاملين من أهل مذهبنا فقط تبركاً بذكرهم، ونشراً لعبير مسكهم رضي الله عنهم فأقول، وبالله التوفيق كان أبو بكر بن إسحاق الضبعي لا يترك قط قيام الليل في سفر، ولا حضر، ولا صيف، ولا شتاء، وكان إماماً في جميع الحلوم، وكان ابن الصباغ رضي الله عنه حافظ للمذهب صائم الدهر، وكان القمولي رضي الله عنه لا يفتر قط عن قول لا إله إلا الله. وكان أبو العباس الدبيلي رضي الله عنه يصوم دائماً، ويدرس القرآن دائماً، ويخيط بالنهار فإذا أمسى صلى المغرب واشتغل بالفقه رضي الله عنه.
وكان أبو زيد المروزي رضي الله عنه متقشفاً زاهداً، وكان أصحابه رضي الله عنهم يقولون خالطناه إلى أن مات فما نظن أن الملائكة كتبت عليه خطيئة رضي الله عنه. وكان الإمام ابن الحداد يختم كل يوم، وليلة ختمة، ويصوم يوماً، ويفطر يوماً، ويختم كل جمعة ختمة أخرى في ركعتين في الجامع قبل الصلاة سوى التي يختمها كل يوم رضي الله عنه. وكان الإمام أبو جعفر الترمذي رضي الله عنه نفقته أربعة دراهم في كل شهر، وكان لا يسأل أحداً قط رضي الله عنه وربما كان رضي الله عنه يتقوت بحبة زبيب كل يوم، وكان مع ذلك شجاعاً رضي الله عنه، وكان الإمام ابن خزيمة رضي الله عنه يضرب به المثل في الأدب لا سيما مع شيخه البوشنجي حتى إنه سئل عن مسألة وهو في جنازة فقال لا أفتي حتى أواري أستاذي التراب رضي الله عنه.
وكان الشيخ أبو العباس النيسابوري رضي الله عنه يقول: ختمت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة ألف ختمة وضحيت عنه اثنتي عشرة ألف أضحية رضي الله تعالى عنه. وكان الإمام محمد بن برذزبه البخاري رضي الله تعالى عنه يختم القرآن كل يوم، ويقرأ في الليل عند السحر ثلثاً من القرآن فمجموع ذلك ختمة، وثلث، وكان يقول: أرجو أن ألقى الله تعالى، ولا يحاسبني أني اغتبت أحداً رضي الله تعالى عنه. وكان الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد رضي الله تعالى عنه يقول: ما تكلمت قط كلمة، ولا فعلت فعلا منذ وعيت على نفسي حتى أعددت لذلك جواباً بين يدي الله عز وجل. وكان الإمام محمد النيسابوري يصلي طول نهاره، ويصوم الدهر فإن أتاه مستفت أفتاه، وإلا فهو في صلاة رضي الله عنه. وكان الإمام محمد المعروف بفقيه الحرم أحد تلامذة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي يقرأ كل يوم ستة آلاف مرة " قل هو الله أحد " من جملة أوراده رضي الله تعالى عنه. وكان الإمام الحسن الأصبهاني رضي الله تعالى عنه ينفرد عن تلامذته كل أسبوع، ويبكي حتى ذهبت عيناه، ويقول: قد بكى من كان قبلي الدم، وما قاموا بواجب حق الله عز وجل رضي الله تعالى عنه. وكان الشيخ زين الأمناء الدمشقي رضي الله تعالى عنه قد جزأ الليل ثلاثة أجزاء ثلثاً للتلاوة، والتسبيح، وثلثاً للنوم، وثلثاً للعبادة، والتهجد، وكان يطول السجود، وكان يقال له السجاد، وكان نهاره كذلك رضي الله عنه. وكان الإمام الحسن بن سمعون رضي الله عنه إماماً زاهداً ورعاً كثير التهجد قلما يخرج من بيته إلا في أيام الجمع لأجل الصلاة، وطول نهاره في قعر بيته رضي الله عنه. وكان الشيخ أبو علي بن حيران رضي الله عنه إماماً زاهداً صامتاً فأكرهه السلطان على أن يوليه القضاء فأبى فوكل على بابه حراساً، وختم على باب داره بضعة عشر يوماً ثم أعفاه، وقال لبعض تلامذته انظر يا بني حتى تحدث إن عشت بعدي أن إنساناً به مثل هذا ليلي القضاء فامتنع، وكان يعيب على ابن سريج في ولايته الضاء، ويقول: هذا الأمر لم يكن في أصحابنا، وإنما كان في أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه. وكان أبو عبد الله الحاكم يقول: تبعت الشيخ حسيناً النيسابوري حضراً وسفراً نحو ثلاثين سنة فما رأيته قط يترك قيام الليل يقرأ في كل ركعة سبعاً رضي الله عنه. وكان الإمام البغوي رحمه الله زاهداً ورعاً حتى كان يأكل الخبز وحده فعذلوه في ذلك فصار يأكله بالزيت إلى أن مات رضي الله عنه. وكان القفال المروزي يغلب عليه البكاء في الدرس حتى يغمي عليه ثم يفيق، ويقول: ما أغفلنا عما يراد بنا رضي الله تعالى عنه. وكان أبو بكر النيسابوري رضي الله عنه يقوم الليل دائماً حتى مكث أربعين سنة يصلي الصبح بوضوء العشاء رضي الله تعالى عنه.
وكان الشيخ عبد الله الأصبهاني المعروف بابن اللبان رضي الله عنه يصلي بالناس التراويح، ويصرفهم ثم ينتصب للصلاة حتى يطلع الفجر فإذا صلى جلس يدرس أصحابه، وكان لا يضع جنبه للنوم في رمضان ليلا، ولا نهاراً. وكان ابن أبي حاتم رضي الله عنه زاهداً ورعاً خاشعاً لا يكاد يرفع طرفه إلى السماء، وجاءه رجل، وهو في الدرس فقال إن سور طرسوس قد انهدم منه جانب، واحيتج في عمارته إلى ألف دينار فقال الشيخ للحاضرين من يعمره، وأنا أضمن له على الله قصراً في الجنة فقام رجل أعجمي، وجاء بألف دينار، وقال اكتب لي ورقة بهذه الضمانة فكتب له الشيخ ثم إن العجمي مات، ودفنت معه الورقة فحملها الريح حتى ألقاها في حجر الشيخ رضي الله عنه فإذا مكتوب في ظهرها قد وفينا ما ضمنته، ولا تعد رضي الله تعالى عنه.
وكان الشيخ عبد الرحمن الأنباري النحوي رضي الله عنه لا يوقد قط في بيته سراجاً لعدم صفاء ثمن ما يشتري به الزيت، وكان تحته حصير قصب وعليه ثوب خلق، وعمامته من غليظ القطن فيصلي فيها الجمعة ما يفرق الناس بينه، وبين الشحاتين في رثاثة الهيئة، وكان لا يخرج من بيته إلا لصلاة الجمعة رضي الله عنه. وكان الشيخ عبد الرحمن الداودي البوشنجي رضي الله عنه عالماً ورعاً زاهداً لم يأكل اللحم منذ أربعين سنة من حين نهبت التركمان البهائم، وكان لا يأكل السمك فحكى له شخص أن بعض الجند أكل على شاطئ النهر الذي يصاد له منه، ونفض سفرته في النهر فأكله السمك فلم يأكل بعد ذلك منه سمكاً، وكان له أرض ورثها من آبانه يزرع فيها ما يقوته، وله فيها بقرة، وبئر ماء فمطرت يوماً فأطلقت البقرة إلى أرض جاره ثم رجعت وفي حافرها، وحل فاختلط في أرضه فترك الأرض للناس، وخرج منها، ولم يزرع بعد ذلك فيها شيئاً إلى أن مات، وكان له فرن يخبز فيه في داره فجاء فقراء يزورنه، وكان غائباً فوجدوا باب فرنه قد انهدم منه جانب فعجنوا طيناً، وأصلحوه فامتنع من الخبز فيه، وبني له خلافه لكون من ليس على قدمه في الورع بناه رضي الله تعالى عنه. وكان الشيخ عبد الله الرازي رضي الله عنه أحد طلبة أبي إسحاق الشيرازي مجاب الدعوة، وحج مرة فعطش الحجاج فقالوا له: يا فقيه استسق بنا فتقدم، وقال: اللهم إنك تعلم أن هذا بدن لم يعصك قط في لذة ثم استسقى فنزل المطر كأفواه القرب رضي الله تعالى عنه. وكان الشيخ أبو الحسن المقري رضي الله عنه من العلماء العاملين طول ليله في صلاة، ونهاره في صيام وكان عارفاً زاهداً حتى إنه كان بينه، وبين أخيه عمامة، وقميص فكان إذا خرج أحد لبسهما، وجلس الآخر في البيت، ودخل عليه زائر يوماً فوجده عرياناً فقال: نحن إذا غسلنا ثيابنا نكون كما قال القاضي أبو الطيب الطبري رضي الله تعالى عنه:
قوم إذا غسلوا جمال ثيابهم ... لسوا الميوت إلى فراغ الغاسل
أو كما قال غيره:
قوم إذا غسلوا الثياب رأيتهم ... لبسا البيوت، وزرروا الأبوابا رضي الله عنه.
وكان الشيخ أبو الحسن الاستراباذي مجتهداً في العبادة عمره، وكان يكتب عامة النهار، وهو يقرأ القرآن ظاهراً لا يمنعه أحد الأمرين عن الآخر رضي الله عنه، وكان إذا دخل عليه أحد، وأكثر اللغو يقول له أخرج، ولو كان من أعز الناس، وكان له الدرس، والفتوى، ومجلس النظر، والتوسط، ومع ذلك كان يختم كل يوم ختمة رضي الله عنه. وكان الشيخ أبو علي المرزباني رضي الله عنه إماماً ورعاً زاهداً، وكان يقول ما أعلم لأحد قط على مظلمة في مال أو عرض، مثله لا يخفي عليه تحريم الغيبة، وسوء الظن بالمسلمين رضي الله عنه. وكان أبو الحسن الأشعري إماماً زاهداً ورعاً عالماً مواظباً على السنة مقدماً على أقرانه من المتكلمين رضي الله عنه، ومكث عشرين سنة يصلي الصبح بوضوء العشاء، وكانت نفقته في كل سنة سبعة عشر درهماً رضي الله عنه. وكان الحافظ ابن عساكر رضي الله عنه إماماً زاهداً ورعاً مواظباً على صلاة الجمعة في المسجد كثير التلاوة للقرآن كثير النوافل، والأذكار آناء الليل وأطراف النهار، وكان يختم القرآن كل أسبوع في التهجد رضي الله عنه.
وكان الشيخ أبو الحسن القزويني رضي الله عنه يكاشف، ويتكلم على الخواطر، وكان ملازماً للصمت لا يخرج من بيته رضي الله عنه فكل هؤلاء كانوا علماء عاملين غير مشهورين بالعبادة والزهد، والورع رضي الله تعالى عنهم فذكرناهم لننبه على فضلهم رجاء الخير، والترحم عليهم رحمهم الله تعالى، والاقتداء بهم. وأما من اشتهر بالعبادة والزهد، والورع كالشيخ أبي إسحاق الشيرازي، والإمام الغزالي، والإمام الرافعي، والإمام النووي رضي الله تعالى عنهم، ورحمهم، ورحمنا بهم فاكتفينا بشهرتهم، رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
قال المؤلف الشيخ الإمام العالم العامل الكامل الراسخ المحقق المدقق أحد ملوك العارفين بالله تعالى سيدي عبد الوهاب بن أحمد بن علي الشعراوي الأنصاري رضي الله تعالى عنه:
كان الفراغ من كتابتها، وتأليفها خامس عشر رجب سنة اثنتين، وخمسين، وتسعمائة بمصر المحروسة،
والحمد لله رب العالمين.
![]() |
![]() |