
لواقح الأنوار القدسية في مناقب الأخيار والصوفية
وهو كتاب الطبقات الكبرى
تأليف الشيخ عبد الوهاب الشعراني
![]() |
![]() |
ومنهم سفيان بن سعيد الثوري (رضي الله عنه)
وكانوا يسمونه أمير المؤمنين في الحديث. ولد رضي الله عنه سنة سبع وتسعين وخرج من الكوفة إلى البصرة سنة خمس وخمسين ومائة وتوفي رضي الله عنه بالبصرة سنة إحدى وستين ومائة وكان رضي الله عنه عالم الأمة وعابدها وزاهدها وكان رضي الله عنه يقول: لا ينبغي للرجل أن يطلب العلم والحديث حتى يعمل في الأدب عشرين سنة، وكان يقول إذا فسد العلماء فمن يصلحهم، وفسادهم بميلهم إلى الدنيا، وإذا جر الطبيب الداء إلى نفسه، فكيف يداوي غيره، وكان رضي الله عنه يقول: إذا لم يكن تحت الحنك من العمامة شيء فهي عمامة إبليس، وكان يقول من تصدر للعلم قبل أن يحتاج إليه أورثه ذلك الذل، كان يمكث اليومين والثلاثة لا يأكل حتى يضر به الجوع شغلا عنه بما هو فيه من العبادة.
وكتب إلى عابد من العباد اعلم يا أخي أنك في زمان كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذون أن يدركوه، ومعهم من العلم ما ليس معنا، ولهم من القدم ما ليس لنا، فكيف بنا حين أدركناه على قلة العلم وقلة الصبر وقلة الأعوان على الخير، وفساد من الزمان، فعليك بالأمر الأول والتمسك به، عليك بالخمور فإن هذا زمان خمول، وعليك بالعزلة وقلة مخالطة الناس، فقد كان الناس إذا التقوا ينتفع بعضهم ببعض، فأما اليوم فقد ذهب ذلك، فالنجاة الآن في تركهم فيما ترى وإياك يا أخي والأمراء أن تدنو منهم أو تخالطهم في شيء من الأشياء، ويقال لك تشفع أو تدرأ عن مظلوم أو ترد مظلمة، فإن ذلك من خديعة إبليس، إنما اتخذ ذلك القراء سلماً للقرب منهم، واصطياداً للدنيا بذلك وكان رضي الله عنه يقول: لو علمت من الناس أنهم يريدون بالعلم وجه الله تعالى لأتيت إلى بيوتهم، فعلمتهم ولكن إنما يريدون به مجاراة الناس وأن يقولوا حدثنا سفيان، وكانوا إذا قالوا له حدثنا ما أراكم أهلا للحديث، ولا أرى نفسي أهلا لأن أحدث، وما مثلي ومثلكم إلا كما قال القائل افتضحوا فاصطلحوا وكان رضي الله عنه يقول ما كفيت من المسألة والفتيا فلا تزاحم فيه، وكان يقول قد ظهر من الناس الآن أمور يشتهي الرجل أن يموت قبلها، وما كنا نظن أننا نعيش لها وكان يقول: ما كنت أظن أن أعيش إلى زمان إذا ذكرت الأحياء ماتت القلوب، وإذا ذكرت الأموات حييت القلوب، وكان رضي الله عنه يقول: إلهي البهائم يزجرها الراعي فتنزجر عن هواها وأراني لا يزجرني كتابك عما أهواه فيا سوأتاه.
وكان يقول: قال رجل لعيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام أوصني قال انظر خبزك من أين هو وقيل له إن فلاناً يدخل على المهدي ويقول أنا في خلاص من تبعاته فقال كذب، والله أما أرى إسرافه في ملبسه ومأكله وملبس خدمه وخيله ورجله هل قال له قط يوماً إن هذا لا يليق بك هذا من بيت مال المسلمين وكان يقول رضا الملحين غاية لا تدرك.
وكان يقول: المال في زماننا هذا سلاح للمؤمن وكان يقول أحب لطالب العلم أن يكون في كفاية فإن الآفات وألسن الناس تسرع إليه إذا احتاج وذل وكان رضي الله عنه يقول: لا طاعة للوالدين في الشبهات وكان يقول: إنما يطلب العلم ليتقي به الله تعالى فمن ثم فضل على غيره، ولولا ذلك كان كسائر الأشياء، وكان يقول: شكوى المريض إلى أحد من إخوانه ليس من شكوى الله عز وجل، وكان يقول للمهدي في وجهه: احذر من هؤلاء الأعوان، والمترددين إليك من الفقراء، فإن هلاكك على أيديهم يأكلون طعامك، ويأخذون دراهمك، ويغشونك ويمدحونك بما ليس فيك، وكان رضي الله عنه يقول: أئمة العدل خمسة أبو بكر، وعمر، وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز، من قال غير هذا فقد اعتدى وقوموا ثياب الثوري التي عليه حتى النعل فبلغ درهماً وأربعة دوانق، وكان رضي الله عنه لا يجلس في صدر مجلس قط إنما كان يقعد في جنب حائط يجمع بين ركبتيه، وكان يقول: لا يأمر السلطان بالمعروف إلا رجل عالم بما يأمر وينهي رفيق بما يأمر، وينهى عدل في ذلك وقال له رجل: ذهب الناس يا أبا عبد الله وبقينا على حمر دبرة.
فقال الثوري: ما أحسن حالها لو كانت على الطريق، وكان رضي الله عنه يقول: إذا بلغك عن قرية أن بها رخصاً، فارحل إليها فإنه أسلم لقلبك ودينك وأقل لهمك، وكان رضي الله عنه يقول: لا تجب أخاك إلى طعام إلا إن كنت ترى أن قلبك يصلح على طعامه.
ونصح يوماً إنساناً رآه في خدمة الولاة، فقال: فما أصنع بعيالي؟ فقال: ألا تسمعون لهذا يقول: إنه إذا عصى الله رزق عياله، وإذا أطاعه ضيعهم، ثم قال رضي الله عنه: لا تقتدوا قط بصاحب عيال، فإنه قل صاحب عيال أن يسلم من التخليط، وعذره دائماً في أكل الشبهات والحرام قوله: عيالي، وكان يقول: لو أن عبداً عبد الله تعالى بجميع المأمورات إلا أنه يحب الدنيا إلا نودي عليه يوم القيامة على رؤوس أهل الجمع ألا إن هذا فلان بن فلان قد أحب ما أبغض الله تعالى، فيكاد لحم وجهه يسقط من الخجل وكان رضي الله عنه يقول: لأن أخلف عشرة آلاف دينار أحاسب عليها أحب من أن أحتاج إلى الناس، فإن المال كان فيما مضى يكره أما اليوم، فهو ترس للمؤمن يصونه عن سؤال الملوك والأغنياء وكان يقول لا بد لمن يحتاج إلى الناس أن يبذل لهم دينه فيما يحتاج فيمسك على ما بيده من المال، وكان يقول: لا تصحب في السفر من يتكرم عليك فإنك إن ساويته في النفقة أضربك، وإن تفضل عليك استعبدك.
وكان يقول: الحلال في زماننا هذا لا يحتمل السرف، وكان يقول: خرجت مرة في الليل فنظرت إلى السماء، ففدت فلبي فذكرت ذلك لأمي فقالت: إنك لم تنظر إليها نظر اعتبار وإنما نظرت إليها نظر قلة.
وكان يرد ما يعطاه ويقول: لو أني أعلم منهم أنهم لا يفتخرون علي بعطائهم لأخذته منهم ولذلك كان يجوع، ولا يقترض ويقول: إنهم لا يكتمون ذلك بل يروح أحدهم، ويقول: جاءني سفيان الثوري البارحة، واقترض مني، وكان يقول: الأذان بخراسان أفضل من المجاورة بمكة، وكان يقول: الزهد في الدنيا هو قصر الأمل ليس بكل الخشن ولا بلبس الغليظ والعباء، وكان يقول: ازهد في الدنيا ونم لا لك، ولا عليك وكان يقول: إذا رأيتم العالم يلوذ بباب السلطان، فاعلموا أنه لص، وإذا رأيتموه يلوذ بباب الأغنياء، فاعلموا أنه مراء، وكان يقول: إن الرجل ليكون عنده المال وهو زاهد في الدنيا وإن الرجل ليكون فقيراً، وهو راغب فيها، وكان يقول: إني أحب أن أكون في مكان لا أعرف فيه.
وكانوا إذا ذكروا عنده الموت يمكث أياماً لا ينتفع به أحد، وكان يقول: إذا عرفت نفسك لا يضرك ما قيل فيك، وكان يقول أصل كل عداوة اصطناع المعروف إلى اللئام، وكان يقول: إذا رأيت أخاك حريصاً على أن يؤم فأخره، وكان يقول: لأن أشتري من فتى يتغنى أحب إلي من أن أشتري من قارئ لأن القارئ يتأول عليك في دراهمك، والمغني يعطيك دراهمك كاملة مروءة، أو ديانة وكان يقول: ما خالفت قارئاً إلا خفت منه أن يشيط بدمي، وإذا كان لك إلى قارئ حاجة فلا تضرب له بقارئ مثله، يقف عن قضاء حاجتك.
وسئل عن الغوغاء فقال: الذين يطلبون بعلمهم الدنيا، وكان يقول: أول العلم طلبه، ثم العمل به، ثم الصمت ثم نظره، ولو أن أهل العلم أخلصوا فيه ما كان من عمل أفضل منه، وكان يأخذ بيده دنانير ويقول: لولا هذه لتمندلوا بنا، وكان يقول كثرة الأخلاء من رقه الدين، وكان يقول: ما أدري لو أصابني بلاء لعلي كنت أكفر، وكان يقول: عجبت لكون النساء أكثر أهل النار مع أن الرجال أعمالها أقبح من أعمالهن.
وكان قد جعل على نفسه ثلاثة أشياء أن لا يخدمه أحد، ولا يطوى له ثوب ولا يضع لبنة على لبنة، وكان رضي الله عنه يقول: هذا زمان عليك فيه بخويصة نفسك ودع العامة وكان يقول: من رأى نفسه على أخيه بالعلم والعمل حبط أجر عمله وعلمه، ولعل أخاه يكون أورع منه على حرم الله عز وجل، وكان إذا أخذ في الفكر صار كأنه مجنون لا يعي كلام أحد.
وبعث أبو جعفر أمير المؤمنين الخشابين قدامه حين خرج إلى مكة وقال: إذا رأيتم سفيان الثوري فاصلبوه. فوصلوا مكة ونصبوا الخشب وجاءوا إليه فوجدوه نائماً رأسه في حجر الفضيل بن عياض ورجلاه في حجر سفيان بن عيينة، فقالوا: يا أبا عبد الله اتق الله ولا تشمت بنا الأعداء فتقدم إلى أستار الكعبة فأخذها، وقال برئت منه إن دخلها أبو جعفر فمات قبل أن يدخل مكة، وكان رضي الله عنه يقول: لميت أبا حبيب البدوي فقال يا سفيان منع الله تعالى عطاء لك وذلك لأنه لا يمنعك من بخل ولا عدم، وإنما هو نظر إليك واختبار، وكان رضي الله عنه يقول إن الملكين ليجدان ريح الحسنات والسيئات إذا عقد القلب على ذلك فكما لا يؤذونك لا تؤذهم.
وسئل عن رجل يكتسب لعياله ولو صلى في الجماعة لفاته القيام عليهم ماذا يصنع؟ قال: يكتسب لهم قوتهم ويصلي وحده وكان يقول: كثرة النساء ليست من الدنيا لأن علياً رضي الله عنه كان من أزهد الصحابة، وكان له أربع نسوة وتسع عشرة سرية.
وكان رضي الله عنه يقول: هذا زمان لا يأمن فيه الخامل على نفسه فكيف المشهور فيه، وكان يقول إذا سمعتم ببدعة فلا تحكوها لأصحابكم، ولا تلقوها في قلوبكم وكان يقول: قد قل أهل السنة والجماعة في زماننا هذا
وكان رضي الله عنه يقول: إني لأعرف محبة الرجل للدنيا بميله لأهل الدنيا وإرساله السلام لهم وكان يقول: إذا رأيتم شرطياً نائماً عن صلاة فلا توقظوه لها فإنه يقوم يؤذي الناس ونومه أحسن.
وقيل له ألا تدخل على الولاة فتتحفظ وتعظهم وتنهاهم فقال: أتأمروني أن أسبح في بحر ولا تبتل قدماي إني أخاف أن يترحبوا بي فأميل إليهم فيحبط عملي. وشكا له رجل مصيبة فقال قم عني ما وجدت أحداً أهون في عينيك مني تشكو الله تعالى عنده،
وكان رضي الله عنه يقول: العلماء ثلاثة عالم بالله وبأمر الله فعلامته أن يخشى الله ويقف عند حدود الله، وعالم بالله دون أوامر الله فعلامته أن يخشى الله ولا يقف عند حدوده، وعالم بأوامر الله دون الله فعلامته أن لا يقف عند حدود الله ولا يخشى الله وهو ممن تسعر بهم النار يوم القيامة، وكان يقول إذا أرضيت ربك أسخطت الناس، وإذا أسخطتهم فتهيأ للسهام والتهيؤ للسهام أحب من أن يذهب دين الرجل، وكان يقول: إذا رأيتم قارئ القرآن يحبه جيرانه فأعلموا أنه مداهن ومناقبه رضي الله عنه كثيرة والله أعلم.
![]() |
![]() |