موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

لواقح الأنوار القدسية في مناقب الأخيار والصوفية

وهو كتاب الطبقات الكبرى

تأليف الشيخ عبد الوهاب الشعراني

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


ومنهم إمامنا أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي (رضي الله عنه)

ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتقي معه في عبد مناف.

ولد رضي الله عنه بغزة ثم حمل إلى مكة وهو ابن سنتين وعاش أربعاً وخمسين سنة وأقام بمصر أربع سنين ونيفاً ثم توفي بمصر ليلة الجمعة بعد المغرب سنة أربع ومائتين.

نشأ رضي الله عنه في حجر أمه في قلة عيش وضيق حال،

وكان رضي الله عنه في صباه يجالس العلماء، ويكتب ما يستفيده في العظام ونحوها، لعجزه عن الورق حتى ملأ منها خبايا.

وتفقه في مكة على مسلم بن خالد الزنجي ونزل في شعب الخيف منها ثم قدم المدينة فلزم الإمام مالكاً رضي الله عنه، وقرأ عليه الموطأ حفظاً فأعجبه قراءته وقال له اتق الله فإنه سيكون لك شأن وكان سن الشافعي رضي الله عنه حين أتى مالكاً ثلاث عشرة سنة، ثم رحل إلى اليمن حين تولى عمه القضاء بها، واشتهر بها ثم رحل إلى العراق، وجد في الاشتغال بالعلم وناظر محمد بن الحسن وغيره، ونشر علم الحديث وأقام مذهب أهله، ونصر السنة واستخرج الأحكام منها ورجع كثير من العلماء عن مذاهب كانوا عليها إلى مذهبه، ثم خرج إلى مصر آخر سنة تسع وتسعين ومائة وصنف كتبه الجديدة بها ورحل الناس إليه من سائر الأقطار.

قال الربيع بن سليمان رأيت على باب دار الإمام الشافعي رضي الله عنه سبعمائة راحلة تطلب سماع كتبه رضي الله عنه، وكان يقول مع ذلك إذا صح الحديث فهو مذهبي،

وكان رضي الله عنه يقول: وددت أن الخلق تعلموا هذا العلم على أن لا ينسب إلي منه خوف قال شيخنا شيخ الإسلام، أبو يحيى زكريا الأنصاري وقد أجابه الحق إلى ذلك فلا يكاد يسمع في مذهبه إلا مقالات أصحابه قال الرافعي قال النووي قال الزركشي ونحو ذلك وكان يقول وددت أني إذا ناظرت أحداً أن يظهر الله تعالى الحق على يديه وكان يقول: طلب العلم أفضل من صلاة النافلة، وكان يقول من أراد الآخرة فعليه بالإخلاص في العلم وكان يقول: أظلم الظالمين لنفسه من تواضع لمن لا يكرمه ورغب في مودة من لا ينفعه، وقبل مدح من لا يعرفه وكان يقول: لا شيء أزين بالعلماء من الفقر والقناعة والرضا بهما وكان يقول صحبت الصوفية عشر سنين ما استفدت منهم إلا هذين الحرفين الوقت سيف، وأفضل العصمة ألا تجد.

وكان يقول من أحب أن يقضي له بالحسنى فليحسن بالناس الظن وكان يقول: أبين ما في الإنسان ضعفه فمن شهد الضعف من نفسه نال الاستقامة مع الله تعالى وكان يقول من طلب العلم بعز النفس لم يفلح ومن طلبه بذل النفس وخدمة العلماء أفلح، وكان رضي الله عنه يقول: تفقه قبل أن ترأس فإذا ترأست فلا سبيل إلى التفقه، وكان يقول: دققوا مسائل العلم لئلا تضيع دقائقه، وكان يقول: جمال العلماء كرم النفس، وزينة العلم الورع، والحلم، وكان رضي الله عنه يقول: لا عيب بالعلماء أقبح من رغبتهم فيما زهدهم الله فيه وكان يقول: ليس العلم ما حفظ إنما العلم ما نفع، وكان يقول: فقر العلماء اختيار، وفقر الجهلاء اضطرار، وكان يقول: المراء في العلم يقسي القلب ويورث الضغائن وكان رضي الله عنه يقول: الناس في غفلة عن هذه السورة " والعصر إن الإنسان لفي خسر " " العصر: ا - 2 " وكان قد جزأ الليل ثلاثة أجزاء الثلث الأول يكتب والثاني يصلي والثالث ينام وفي رواية ما كان ينام من الليل إلا يسيراً، وكان يختم في كل يوم ختمة، وكان يقول: ما كذبت قد ولا حلفت بالله لا صادقاً، ولا كاذباً، وما تركت غسل الجمعة قط لا في برد ولا في سفر ولا حضر وما شبعت منذ ست عشرة سنة إلا شبعة طرحتها من ساعتي، وكان رضي الله عنه يقول: من لم تعزه التقوى فلا عز له.

وكان يقول: ما فزعت من الفقر قط وكان يقول: طلب فضول الدنيا عقوبة عاقب الله بها أهل التوحيد. وكان يمشي على العصا فقيل له في ذلك فقال لأذكر أني مسافر من الدنيا، وكان يقول من شهد الضعف من نفسه نال الاستقامة، وكان يقول من غلبته شدة الشهوة للدنيا لزمته العبودية لأهلها، ومن رضي بالقنوع زال عنه الخضوع وكان يقول من أحب أن يفتح الله تعالى عليه بنور القلب فعليه بالخلوة وقلة الأكل وترك مخالطة السفهاء وبغض أهل العلم الذين لا يريدون بعلمهم إلا الدنيا، وكان يقول لا بد للعالم من ورد من أعماله يكون بينه وبين الله تعالى وكان يقول لو اجتهد أحدكم كل الجهد على أن يرضي الناس كلهم عنه فلا سبيل له فليخلص العبد عمله بينه وبين الله تعالى، وكان يقول لا يعرف الرياء إلا المخلصون، وكان يقول لو أوصى رجل لأعقل للناس صرف إلى الزهاد، وكان يقول: سياسة الناس أشد من سياسة الدواب، وكان يقول العاقل من عقله عقله عن كل مذموم، وكان يقول: لو علمت أن الماء البارد ينقص مروءتي ما شربته، وكان يقول أصحاب المروءات في جهد، وكان يقول: من أحب أن يختم الله له بخير فليحسن الظن بالناس، وكان يقول: مكثت أربعين سنة أسأل إخواني الذين تزوجوا عن أحوالهم في تزوجهم، فما منهم أحد قال رأيت خيراً قط، وكان يقول ليس بأخيك من احتججت إلى مداراته، وكان يقول من علامة الصادق في أخوة أخيه أن يقبل علله ويسد خلله ويغفر زلله، وكان يقول: من علامة الصديق أن يكون لصديق صديقه صديقاً، وكان يقول: ليس سرور يعدل صحبة الإخوان ولا غم يعدل فراقهم، وكان يقول لا تشاور من ليس في بيته دقيق، وكان يقول: لا تقصر في حق أخيك اعتماداً على مروءته ولا تبذل وجهك إلى من يهون عليه ردك.

وكان يقول: من برك فقد أوثقك ومن جفاك فقد أطلقك وكان يقول: من نم لك نم عليك ومن إذا أرضيه قال فيك ما ليس فيك، كذلك إذا أغضبته قال فيك ما ليس فيك وكان يقول: من وعظ أخاه سراً فقد نصحه وزانه ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه وكان يقول من سامى بنفسه فوق ما يساوي رده الله تعالى إلى قيمته، وكان يقول: من تزين بباطل هتك ستره وكان يقول: التكبر من أخلاق اللئام، وكان يقول: القناعة تورث الراحة، وكان يقول أرفع الناس قدراً من لا يرى قدره، وأكثرهم فضلا من لا يرى فضله، وكان يقول من كتم سره ملك أمره وكان يقول ما ضحك من خطأ رجل إلا ثبت صوابه، في قلبه وكان يقول: الإكثار في الدنيا إعسار والإعسار فيها إيسار، وكان يقول الانبساط إلى الناس مجلبة لقرناء السوء والانقباض عنهم مكسبة للعداوة، فكن بين المنقبض والمنبسط، وكان يقول ما أكرمت أحداً فوق قدره إلا نقص من مقداري بقدر ما زدت في إكرامه، وكان يقول: لا وفاء لعبد، ولا شكر للئيم، وكان يقول: صحبة من لا يخاف العار عار يوم القيامة، ومن عاشر اللئام نسب إلى اللؤم، وكان: يقول من يسمع بأذنه صار حاكياً ومن أصغى بقلبه صار واعياً، ومن وعظ بفعله كان هادياً وكان يقول: من الذل حضور مجلس العلم بلا نسخة. وعبور الماء بلا فوطة وعبور الحمام بلا قصعة، وتذلل الرجل للمرأة لينال من مالها شيئاً، وكان يقول: مداراة الأحمق غاية لا تدرك، وكان يقول: من ولي القضاء ولم يفتقر فهو لص، وكان يقول ينبغي للفقيه أن يكون معه سفيه لسافه عنه وكان رضي الله عنه يقول من خدم خدم.

وكان رضي الله عنه من أكرم الناس.

قدم من اليمن بعشرة آلاف دينار فضرب خباءه خارج مكة، فكان الناس يأتونه فما برح حتى فرقها كلها وما سأله أحد شيئاً إلا احمر وجهه حياء من السائل، وكان رضي الله عنه يخضب لحيته بالحناء حمراء قانية وتارة يصفرها اتباعاً للسنة، وكان كثير الأسقام منها البواسير وكانت دائماً تنضح الدم، ولا يجلس للحديث إلا والطشت تحته يقطر الدم فيه، قال يونس بن عبد الأعلى ما رأيت أحداً لقي من السقم ما لقي الشافعي رضي الله عنه، وكان مقتصداً في لباسه وكان نقش خاتمه كفى بالله ثقة لمحمد بن إدريس وكان ذا هيبة وكان أصحابه لا يتجرؤن أن يشربوا الماء وهو ينظر إليهم هيبة له، وكان يتشح بالرداء ويتكئ على الوسادة وتحته مضربتان، وكان يقول أحب لكل مسلم أن يكثر من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكان يقول في قوله صلى الله عليه وسلم: " ليس منا من لم يتغن بالقرآن " قال يترنم به يترنم به، وكان يقول كلما رأيت رجلا من أصحاب الحديث كأني رأيت رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يقول لو رأيت صاحب بدعة يمشي على الهواء ما قبلته، وكان يقول من لم يصبر نفسه لم ينفعه علمه، وكان إذا اشترى جارية يشترط عليها أن لا يقربها، لأنه كان عليلا على الدوام وكان يقول: الكلام والسخاء يغطيان عيوب الدنيا والآخرة بعد أن لا يلحقهما بدعة وكان يقول: من استغضب فلم يغضب فهو حمار ومن استرضى فلم يرض فهو شيطان، وكان يقول: احذروا الأعور والأحول والأعرج والأحدب والأشقر والكوسج وكل من به عاهة في بدنه فإن فيه التواء ومعاشرته عسرة، وكان يقول من طلب الرياسة فرت منه وكان يقول: ليس من المروة أن يخبر الرجل بسنه لأنه إن كان صغيراً استحقروه، وإن كان كبيراً استهرموه، وكان يقول: لينوا لمن يجفو فقل من يصفو، وكان يقول من نظف ثوبه قل همه، ومن طاب ريحه زاد عقله، وكان يقول ما نصحت أحداً فقبل مني إلا هبته، واعتقدت مودته ولا رد أحد علي النصح إلا سقط من عيني ورفضته، وقال الربيع دخلت على الشافعي ليلة مات فقلت له: كيف أصبحت قال أصبحت من الدنيا راحلا ولإخواني مفارقاً ولكأس المنية شارباً، ولسوء أعمالي ملاقياً، وعلى الكريم وارداً ثم بكى. ومناقبه رضي الله عنه كثيرة مشهورة رضي الله تعالى عنه والله تعالى أعلم.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!