
لواقح الأنوار القدسية في مناقب الأخيار والصوفية
وهو كتاب الطبقات الكبرى
تأليف الشيخ عبد الوهاب الشعراني
![]() |
![]() |
ومنهم الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه
كان رضي الله عنه يقول: طوبى لمن أحمل الله تعالى ذكره وكان يقول: رأيت رب العزة في المنام فقلت يا رب ما أفضل ما تقرب به المتقربون إليك فقال بكلامي يا أحمد، فقلت بفهم أو بغير فهم قال بفهم وبغير فهم
وكان رضي الله عنه إذا جاءه حديث وحده لم يحدثه حتى يكون معه غيره قلت وكذلك كان يحيى بن معين وعبد الله بن داود والله أعلم،
وكان رضي الله عنه يقول: تزوج يحيى بن زكريا عليهما السلام مخافة النظر،
وكان رضي الله عنه يضرب به المثل في اتباع السنة واجتناب البدعة، وكان لا يدع قيام الليل قط، وله في كل يوم وليلة ختمة وكان يسر ذلك عن الناس
وقال أبو عصمة رضي الله عنه بت ليلة عند أحمد رضي الله عنه فجاءني بماء فوضعه، فلما أصبح نظر إلى الماء كما هو فقال يا سبحان الله رجل يطلب العلم ولا يكون له ورد من الليل، وكان يلبس الثياب النقية البياض ويتعهد شاربه وشعر رأسه وبدنه، وكان مجلسه خاصاً بالآخرة لا يذكر فيه شيء من أمر الدنيا وكان يأتي العرس والإملاك والختان، ويأكل، وتعرت أمه من الثياب، فجاءته زكاة فردها، وقال: العري لهن خير من أوساخ الناس، وأنها أيام قلائل ثم نرحل من هذه الدار، وكان إذا جاع أخذ الكسرة اليابسة فنفضها من الغبار ثم صب عليها الماء في قصعة حتى تبتل ثم يأكلها بالملح، وكانوا في بعض الأوقات يطبخون له في فخارة عدساً وشحماً، وكان أكثر إدامه الخل، وكان إذا مشى في الطريق لا يمكن أحداً يمشي معه، ولما مرض عرضوا بوله على الطبيب فنظر إليه وقال هذا بول رجل قد فتت الغم والحزن كبده، وكان يحيي الليل كله من منذ كان غلاماً وكان من أصبر الناس على الوحدة لا يراه أحد إلا في المسجد أو جنازة أو عيادة، وكان يكره المشي في الأسواق، وكان ورده كل يوم وليلة ثلاثمائة ركعة فلما ضرب بالسياط ضعف بدنه فكان يصلي مائة وخمسين ركعة كل يوم وليلة، وحج رضي الله عنه خمس حجات ثلاثاً منها ماشياً وكان ينفق في كل حجة نحو عشرين درهماً ولما قدم للسياط أيام المحنة أغاثه الله تعالى برجل يقال له أبو الهيثم العيار فوقف عنده وقال يا أحمد أنا فلان اللص ضربت ثمانية عشر ألف سوط لأقر فما أقررت، وأنا أعرف أني على الباطل فاحذر أن تتقلق وأنت على الحق من حرارة السوط، فكان أحمد كلما أوجعه الضرب تذكر كلام اللص، وكان بعد ذلك لم يزل يترحم عليه ولما دخل أحمد على المتوكل قال المتوكل لأمه يا أماه قد نارت الدار بهذا الرجل ثم أتوا بثياب نفيسة فألبسوها له فبكى وقال: سلمت منهم عمري كله حتى إذا دنا أجلي بليت بهم وبدنياهم ثم نزعها لما خرج، وكان رضي الله عنه يواصل الصوم فيفطر كل ثلاثة أيام على تمر وسويق، وقال الفضيل بن عياض رضي الله عنه: حبس الإمام أحمد رضي الله عنه ثمانية وعشرين شهراً، وكان فيها يضرب كل قليل بالسياط إلى أن يغمى عليه وينخس بالسيف ثم يرمى على الأرض ويداس عليه ولم يزل كذلك إلى أن مات المعتصم، وتولى بصلى الله عليه وسلم الواثق فاشتد الأمر على أحمد وقال لا أسكن في بلد ألحد فيه فأقام مختفياً لا يخرج إلى صلاة ولا غيرها حتى مات الواثق وولي المتوصل فرفع المحنة عن أحمد وأمر بإحضاره وإكرامه وإعزازه وكتب إلى الآفاق برفع المحنة وإظهار السنة وأن القرآن غير مخلوق وخمدت المعتزلة وكانوا أشر الطوائف المبتدعة.
قال أحمد بن عسال: ولما حملت مع أحمد إلى المأمون تلقانا الخادم وهو يبكي ويمسح دموعه وهو يقول: عز علي يا أبا عبد الله ما نزل بك قد جرد أمير المؤمنين سيفاً لم يجرده قط وبسط نطعاً لم يبسطه قط ثم قال وقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا رفعت السيف عن أحمد وصاحبه حتى يقولا القرآن مخلوق، فجثا أحمد على ركبتيه ولحظ السماء بعينيه ودعا فما مضى الثلث الأول من الليل إلا ونحن بصيحة وضجة فأقبل علينا خادمه وهو يقول صدقت يا أحمد القرآن كلام الله غير مخلوق قد مات والله أمير المؤمنين، وكان قد لقيه قبل أن يدخل المدينة رجل من العباد فقال: احذر يا أحمد أن يكون قدومك مشئوماً على المسلمين فإن الله تعالى قد رضي بك لهم وافداً والناس إنما ينظرون إلى ما تقول فيقولون به فقال أحمد حسبنا الله ونعم الوكيل، ولما سجنوه رضي الله عنه وضعوا في رجليه أربعة قيود وكان ابن أبي داود هو الذي تولى جدال أحمد عن الخليفة وقال للخليفة إن أحمد ضال مبتدع ثم يلتفت إلى أحمد ويقول قد حلف الخليفة ألا يقتلك بالسيف، وإنما هو ضرب بعد ضرب إلى أن تموت، فما زالوا بأحمد رضي الله عنه يناظرونه بالليل والنهار إلى أن ضجر فالخليفة من ذلك، فلما طال بهم الحال قال ابن أبي دؤاد يا أمير المؤمنين اقتله ودمه في أعناقنا فرفع الخليفة يده ولطم بها وجه أحمد، فخر مغشياً عليه، فخاف الخليفة على نفسه وممن كان من الشيعة مع أحمد فدعا بماء فرش منه على وجه أحمد قال أحمد ولما قدمت إلى الضرب والناس بين يدي الخليفة قيام قال: لي إنسان أمسك رأس الخشبتين بيديك وشد عليهما فلم أفهم مقالته، فتخلعت يداي قالوا ولم يزل أحمد رضي الله عنه يتوجع منهما إلى أن مات رضي الله عنه ولم يزالوا بعد الضرب يقطعون اللحم والجلد من مقاعد أحمد سنين عديدة إلى أن مات رضي الله عنه.
وكان بشر بن الحارث رضي الله عنه يقول: امتحن أحمد بعدما أدخل الكير فخرج ذهباً أحمر. وقال الهيثم رضي الله عنه كان أحمد رضي الله عنه حجة الله على أهل زمانه والفضل حجة الله على أهل زمانه، وهكذا الأمر في كل زمان، وكان يقول إذا كان في الرجل مائة خصلة من الخير وكان يشرب الخمر محتها كلها، وكان يقول: لا تكتبوا العلم عمن يأخذ عليه عرضاً من الدنيا.
ومرض جاره فلم يعده فقال له ابنه هلا تعود جارنا فقال يا بني إنه لم يعمنا حتى نعوده
وكان رضي الله عنه يقول: لم يجئ لأحد من الصحابة في الفضائل ما جاء لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأرسل له الخضر فقيراً فقال يا أحمد إن ساكني السماء ومن حول العرش راضون عنك بمن صبرت نفسك لله عز وجل، ومناقبه كثيرة مشهورة.
توفي رضي الله عنه سنة إحدى وأربعين ومائتين وقد استكمل سبعاً وسبعين سنة. ولما مرض رضي الله عنه اجتمع الناس والدواب على بابه لعيادته حتى امتلأت الشوارع والدروب، ولما قبض صاح الناس وعلت الأصوات بالبكاء وارتجت الدنيا لموته، وخرج أهل بغداد إلى الصحراء يصلون عليه فحزروا من حضر جنازته من الرجال ثمانمائة ألف ومن النساء ستون ألف امرأة سوى من كان في الأطراف والسفن والأسطحة فإنهم بذلك يكونون أكثر من ألف ألف وفي رواية بلغوا الذي ألف وخمسمائة ألف، وأسلم يومئذ عشرون ألفاً من اليهود والنصارى والمجوس رضي الله تعالى عنه.
![]() |
![]() |