موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

إيجازُ البَيَانِ عَنْ سِيرَةِ فَضِيلةِ الشَّيْخِ رَمَضَانْ

حَيَاةٌ لا مَوْتَ فِيهَا وَمَوْتٌ لا حَيَاةَ فِيه

1- مولد فضيلة الشيخ رمضان ونشأته:

 

 


1- مولد فضيلة الشيخ رمضان ونشأته:

وُلد فضيلة الشيخ رمضان صبحي ديب الدمشقي، أطال الله في عمره وبارك له في صحته، في يوم التاسع من شهر رمضان سنة 1338 للهجرة، الموافق للسابع والعشرين من شهر أيار سنة 1920 للميلاد، في حيِّ العمارة في دمشق القديمة، لأسرة فقيرة معروفة بالصلاح والتقوى، وكان والده صبحي علي دياب (1297هـ/1880م-1392هـ/1973م) يعمل طحَّاناً، وكان الناس يعيشون في فقرٍ شديدٍ بسبب الأزمة الاقتصادية التي كانت تمرُّ بها البلاد، حتى إنَّ والدته كانت تقسم البيضة الواحدة بين أبنائها. ولقد واجهوا جميع هذه المصاعب بالشكر والصبر الجميل إلى أن بسط الله عليهم الرزق وزادهم من فضله وكرمه حتى أصبحوا في سعة ورغد من العيش.

كان والده صبحي علي دياب شديداً وقاسياً، وقد أجبره العثمانيون أثناء حرب السفربرلك (الحرب العالمية الأولى) على الالتحاق بالجيش التركي، كما فعلوا مع جميع الرجال والشباب في سورية، إلا أنَّه هجم على الحرّاس وتمكن من الهرب واضطرَّ بعد ذلك إلى تغيير كنيته من "دياب" إلى "ديب" حتى لا يعثر عليه الدرك. وكان صبحي ديب "حكيم نفسه"، حيث كان يحرص على الغذاء الجيِّد وكثرة الحركة، وكان يغسل معدته بنقيع الحنظل كلَّ سنة، فكان يتمتع بصحة جيدة حتى آخر حياته. وقد ورث عنه ابنه الشيخ رمضان الكثير من هذه الصفات كما سنرى خلال هذا الكتاب.

الشيخ صبحي ديب والد الشيخ رمضان حفظه الله

ولكن نظراً لطبيعة الظروف القاسية التي مرَّ بها أثناء الحربين العالميتين، والتي ولّدت عنده خوفاً شديداً على أولاده، فقد كان يمنعهم من صحبة الشيخ وحضور مجالس العلم، غير أنَّ ذلك تغيَّر بشكل كبير في آخر حياته وذلك بتأثير ابنه الشيخ رمضان، فأصبح ملازماً لحضور مجالس سماحة الشيخ أحمد كفتارو، قدّس الله روحه، إلى حين وفاته سنة 1392هـ/1973م، ودفن رحمه الله في مقبرة الدحداح[81] وسط دمشق.

وأما زوجته الحاجة منيرة فقد كانت كثيرة التردد على بيت الشيخ بدر الدين الحسني، الذي ذكرناه في الفصل الأول، وتذكر أنها رأت مرة في المنام أنها تسير مع جارتها في بستان جميل كأنه الجنة، وإذا بشاب ذي طلعة بهية يناديها ويقول لها: إن والدي يدعوكِ، فذهبت معه وإذا بشيخ جليل يجلس في صدر البستان، فمدَّ يده إلى غدير من الماء العذب وأخرج لها فرخين عظيمين من السمك وأعطاهما لها. فقالت له إن معي جارتي فهل أعطيها واحداً منهما، فقال لها: سيكون لها عطاء آخر، أما هٰذين الفرخين فهما لك خاصة دون سواك. ثم أمر الشيخ ابنه أن يرافقها حتى تعود من حيث أتت، فقالت لهذا الشاب: من هو هذا الشيخ الذي أعطاني فرخَيْ السمك؟ فقال لها: هذا والدي أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأنا ابنه عبد الله. فلمَّا روت الحاجة منيرة تلك الرؤيا المبشرة للشيخ بدر الدين الحسني رضي الله عنه بشرها أنها ستلد ولدين ذكرين صالحين يكون لهما شأن كبير في الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ، فكان الشيخ رمضان وأخوه الشيخ رجب، رضي الله عنهما، وكانت عادة والد الشيخ رمضان أن يسمي أبناءه بحسب المناسبة من السنة أو الشهر الذي ولدوا فيه.

والشيخ أبو أحمد رمضان بن صبحي بن علي ديب الدمشقي هو الابن الثاني لوالديه وله أخٌ أكبر منه سنّاً اسمه سليمان، ولكنَّه لم يشتغل في طلب العلم، توفي سنة 1424هـ/2003م، ولم بلغ الشيخ رمضان من العمر حوالي عشر سنوات تقريباً أنعم الله عليه بأخيه الشيخ رجب الذي ولد سنة 1349هـ/1931م، وهو أيضاً من الشيوخ الكبار الذين تربوا عند سماحة الشيخ أحمد كفتارو حتى أصبح من أعلام الدعوة في دمشق وعلى مستوى العالم،[82] لتتحقق بذلك رؤيا والدته كما عبّرها لها الشيخ بدر الدين الحسني. وكذلك في فترة لاحقة أنعم الله عليهم بأخ رابع واسمه محمد أمين، ولكنَّه أيضاً لم يشتغل بالعلم، ولهم كذلك أختان توفيت إحداهما سنة 1428هـ/2007م والأخرى لا تزال ترافق أخاه الشيخ رمضان.

في سنِّ السابعة من عمره الْتحق بمدرسة "سعادة الأبناء" التي أسسته "الجمعية الغرّاء لتعليم أولاد الفقراء"، وهي جمعية أُسِّست في عام 1343هـ/1924م بمبادرة من الشيخ علي الدقر الذي كان واعظاً في جامع الأقصاب في حيِّ باب الجابية بدمشق، وذلك بالتعاون مع الشيخ محمد هاشم الخطيب، وبمباركة شيخهما الشيخ بدر الدين الحسني، ودعم عددٍ من التجار، وكانت مدرسة شرعية تحاول الحفاظ على أسس الدين والأخلاق التي بدأت تتراجع في المدارس الحكومية التي كانت فرنسة تتحكم بها وتدير مناهجها.[83]

وفي مدرسة سعادة الأبناء أنهى الشيخ رمضان ديب الصفَّ الأوَّل في ستة أشهر ثم انتقل إلى الصفِّ الثاني؛ غير أنه، بعد ذلك بشهرين فقط، وفي ظلِّ الظروف القاسية التي كانو يمرون بها، طلب منه والده التوجُّه للعمل لكسب لقمة العيش التي أصبحت عزيزةً تحت وطأة الاحتلال الفرنسي، فانقطع بذلك عن العلم وأهل العلم لفترة ليست بالقليلة.

لكنَّ هذه المدّة الوجيزة التي قضاها في المدرسة تركت في نفسه شوقاً للعلم وحبّاً وتبجيلاً للعلماء، وكان يرى في هذه المدرسة الطلاب الذين هم أكبر منه سنّاً ويراقب تصرُّفاتهم وطريقة دراستهم، فكان ممن لفت انتباهه طالبٌ كان في الصفِّ السادس، ولكنَّه لم يكن طالباً عادياً بل كان كثير الجدِّ والاجتهاد، لا يضيع لحظة واحدة من وقته إلا في القراءة والحفظ، فكان لا يترك الكتاب من يده متجهاً نحو الجدار، حتى لا يشغل نفسه بزملائه الذين كانوا يلعبون في باحة المدرسة، وهو يتابع حفظه وقراءته حتى في أوقات الاستراحة بين الدروس. لقد كان هذا الفتى -وهو سماحة الشيخ أحمد كفتارو نفسه- مثالاً له يتمنى دائماً أن يكون مثله، وهو لا يعرف ماذا يخبِّئ لهما الدهر، وكيف سيجمع بينهما في صحبة روحانيةٍ دائمةٍ لا تنقطع ولا يفرُّق بينهما حتى الموتُ.

ومنذ صباه تعرّض الشيخ رمضان لبعض الأحداث التي كانت تدعوه للتقرّب من أهل الله الذين يعيشون على ذكره عزَّ وجلَّ، فمرّة كان يمشي على ضفة النهر وإذا برجل يصيد السمك، ولكنّه لاحظ أنّه كان يأخذ السمكة فيضعها قرب أذنه وكأنه يصغي إليها ثم إمّا يرميها في السلّة أو يعيدها إلى النهر! فجاءه الشيخ رمضان وسأله عن ذلك فقال له: "أُنصت إليها فإذا كانت تذكر الله أعدتها إلى الماء، وإن كانت غافلة وضعتها بالسلة"[84] فلا شكَّ أن الشيخ رمضان منذ ذلك الوقت كان يتساءل عن معنى ذكر الله عزَّ وجلَّ ودوره وأهميته في الإسلام.

وحتى قبل ذلك، حينما كان الشيخ رمضان لا يزال صبيّاً يلعب مع الأولاد في الحارة، فكان يرى الشيخ أبو الخير الميداني -الذي ذكرناه في الفصل السابق- ولم يكن يعرفه، ولكنَّه كان معجباً به لطلعته البهية بوجهه المنير ولحيته البيضاء، وكان يركب الحمار الأبيض الذي كان وسيلة المواصلات الشائعة في ذلك الوقت، فكان الشيخ رمضان يرافقه إلى بيته كلَّما رآه، وبقي ذلك المشهد في ذاكرته حتى شبَّ وتربى عند سماحة الشيخ أحمد كم سنرى لاحقاً، فكان سماحته يطلب منه أن يوصل الشيخ أبو الخير إلى بيته بالسيارة رغم صعوبة قيادتها في تلك الحارات الدمشقية الضيقة، فكان الشيخ يطلب منه أن ينزله في أول الحارة ولكنَّ الشيخ رمضان كان يصرُّ على أن يوصله إلى باب البيت. وهكذا فقد كانت صحبته لأهل الله صحبة قديمة، وكانوا لا شكَّ ينظرون إليه بعين الرعاية والأمل بمستقبل زاهر كما تنبأ به الشيخ بدر الدين الحسني رضي الله عنه.

بعد أن ترك المدرسة، عمل في أعمال كثيرة، وكان لا يستنكف عن أي عمل يستطيع أن يقوم به بم آتاه الله عزَّ وجلَّ من قوة في البدن وهمة عالية وصبر واحتمال على الأعمال الشاقة، فكان يتقاضى عن كلِّ يوم "برغوتاً أبو المئة" فيعطيه لأمه لتجمع له هذه "البراغيت"، وكان والده يأخذهم كلَّما احتاج للمال، فيسألها ابنها: "أين البراغيت؟"، فتقول له: "طاروا!".[85]

فضيلة الشيخ رمضان صبحي ديب الدمشقي في سنة 1988م

مارس الشيخ رمضان أعمالاً كثيرة في مجالات مختلفة كالبناء والميكانيك والصناعة، وكان يتوق دائماً لتعلُّم كلِّ جديد ويحبُّ أن يزاول كلَّ شيءٍ بيديه، حتى إنه عمل مدَّة آذناً في مستشفى نخمن الشهير وقد تفاجأ الأطباء بمهارته وقدرته على التعلُّم حتى بلغ به الأمر أن سمحوا له إجراء بعض العمليات الجراحية في ذلك الوقت في منتصف الثلاثينيات، فكان يراقب الطبيب عندما يخيط الجروح ويجري العمليات، ويتعلم منه، إلى أن أصبح يمارس كلَّ شيء بيديه، وكان عمره حينئذ لم يتجاوز الخامسة عشرة، كم سنرى بمزيد من التفصيل بعد قليل. وفي نفس الوقت بينما كان الشيخ رمضان يقضي المساء عند الدكتور فؤاد كحيل، وكان طبيب أسنان مشهور، تعلم منه كيفية صنع أطقم الأسنان ومعالجتها وتعقيمها. وهكذا تعلم الشيخ رمضان مهنة الطبّ وطبّ الأسنان في وقتٍ كثرت فيه الأمراض ولم يكن هناك الكثير من الأطباء، الذين كانوا يتعلمون المهنة بالممارسة ولم تكن هناك ضرورة للدراسة والشهادات الجامعية كما هو الحال اليوم.

إنَّ التغيرات السياسية في ذلك الزمان في أواخر فترة الاستعمار الفرنسي لسورية والحروب الطاحنة التي كانت تدور بينها وبين الثوار، كلُّ ذلك أدَّى إلى انتقال الشيخ رمضان من مهنة إلى أخرى، إلى أن انتقل للعمل مع والده في الطاحونة التي استأجرها في حيِّ البحصة حيث انتقلت عائلته إليها، وعاشوا فيها على السقيفة.

طاحونة مائية كانت تستعمل في الأربعينيات لطحن القمح

وفي الطاحونة التي كانت تقع خلف جامع الطاووسية، وكانت واحدة من بضع مطاحن تعمل في دمشق، كان الشيخ رمضان مخلصاً في عمله أشدَّ الإخلاص، يبذل الجهد الكبير بما أوتي من قوة وبنية بدنية شديدة يصرع بها الرجال، وكان الناس في ذلك الوقت لا يعتمدون على المخابز بل يفضلون شراء الحبوب وتخزينها وطحنها على حسب الحاجة ثم يحملون الطحين للخباز أو يخبزونه في التنور. فكان الشيخ رمضان يأخذ القمح من الناس ويحمله على ظهره إلى الطاحونة فيغسله وينقيه ثم يطحنه لهم ويحمل إليهم الطحين من جديد. وقد أكّد لي عدنان الخُرفان ابن الشيخ مصطفى الخُرفان أنّه كان يراه في ذلك الوقت يحمل كيس القمح، الذي يزن أكثر من مئة وعشرين كيلو، على ظهره بمفرده وهو لا يزال يافعاً.

ولم يكن هذ العمل الشاق يدرُّ عليه الكثير من الربح بل كان يقوم بكل ذلك مقابل لقمة عيشه فقط، فكان لا يملك المال ولا يكتنِز منه شيئاً أبداً.

الشيخ رمضان يتبارز مع الملاكم الشهير محمد علي كلاي

كان الشيخ رمضان بارّاً بوالدته محبّاً لها حبًّا عظيماً كما كانت هي أيضاً تحبُّه حبّاً منقطع النظير، وكانت تخاف عليه كثيراً إذا خرج من البيت وخاصة في تلك الفترة العصيبة التي عاشتها دمشق أثناء الثورة الوطنية ضدَّ الاحتلال الفرنسي. ففي خضم هذه الأحداث الدامية أثناء القصف الفرنسي لدمشق، حيث كان الثوار يخوضون معارك ضارية ضد الفرنسيين، الذين كانوا في غاية الاستنفار وقد منعوا التجول وكانوا يطلقون الرصاص على أي شيء متحرك، أصرَّ الشيخ رمضان، رغم جميع هذه المخاطر، أن يخرج لإيصال الطحين إلى أصحابه في حيِّ الجامعة في منطقة البرامكة، ولكنَّه لما وصل وجد القتال محتدماً ولم يستطع دخول الحي فقفل راجعاً إلى طاحونة الوزّ في حي البرلمان. فلم دق الباب فتحوا له وأدخلوه وأدخل الدابة وأنزل الحمولة عنها حيث لم يستطع أن يوصلها لأصحابها. لكنَّ المشكلة أن والدته كانت مريضة وهو يعرف أنها ستنهار حزناً عليه إن لم يعد إلى البيت! فقرر العودة على الرغم من أن ذلك يبدو مستحيلا.

صعد الشيخ رمضان إلى السطح حتى يستكشف الوضع قبل أن ينطلق، فرأى من بعيد دبابة فرنسية، ويبدو أنهم شاهدوه قبل أن يراهم وقد وجهوا الدبابة نحوه وأطلقوا القذيفة قبل أن يتحرك ورأى القذيفة بأم عينه تتجه نحوه ومرت على مسافة نصف متر منه ثم سقطت في النهر. ترك الشيخ رمضان السطح ونزل وخرج من الطاحونة بعد أن أصم أذنيه عن سماع نصائح أصحابه الذين حاولوا جاهدين أن يقنعوه بالبقاء في هذا المكان الآمن، ولكنَّه رفض وأصرَّ على الخروج.

فخرج، وكان بالقرب من الطاحونة بيت ضابط فرنسي كبير يحرسه رتلان من العساكر، فمرَّ من بينهم غير آبه بهم، بل بدا وكأنه هو القائد وهم الذين يحرسونه حيث إنهم لم يكونو يتوقعون مطلقاً أنَّ شخصاً غريباً يمكن أن يمرَّ من هذا المكان في مثل هذه الظروف! ثم دخل الشيخ رمضان متسللاً من بعض الشوارع الخلفية حتى وصل إلى مفرق الجسر الأبيض مقابل بيت شكري القوتلي وكان لا بدَّ من المرور عبر هذا الشارع وسط تراشق الرصاص الكثيف. فانتظر قليلاً حتى هدأ إطلاق الرصاص وحاول الدرك منعه من المرور ولكنَّه فرَّ راكضاً دون أن يلتفت إلى الخلف. وبمجرّد خروجه إلى وسط الشارع بدأ الجنود الفرنسيون إطلاق الرصاص عليه ولكن لم يصبه شيء بفضل الله عزَّ وجلَّ.

بعد ذلك مشى الشيخ رمضان خلال حارة الشالة حتى وصل إلى طاحونة الأحمر ومنها إلى مفرق عين الكرش بين البساتين وسط إطلاق نار كثيف حتى وصل إلى ساحة السبع بحرات حيث كانت الفرقة السنغالية التابعة للجيش الفرنسي ترابط هناك وكانت قوة الدرك مقابلها عند تربة الدحداح، وكان لا بدَّ أن يمرَّ من خلالهم!

وهنا توجه الشيخ رمضان بالدعاء إلى الله عزَّ وجلَّ، وقال: "يا ربِّ أنت تعلم سبب خروجي!" ثم ركض مسرعاً وقد انفلت طرف قميصه -الذي كان يحزمه تحت السروال- بفعل الهواء وصار يرفرف خلفه، فلما وصل إلى الطرف الآخر من الشارع وجد أن القميص قد اخترقته عدة رصاصات، وبفضل الله عزَّ وجلَّ ودعاء والدته التي كانت في أشدِّ القلق عليه لم يُصب بأيِّ أذىً.

فلما قطع هذه المنطقة الحرجة وصل إلى حارة الورد فقبض عليه الدرك خوفاً عليه من الفرنسيين، فقال لهم إنَّ بيته في هذه الحارة فأطلقوه، فتركهم ودخل بين الأزقة إلى أن وصل إلى سوق ساروجا وسلك طريق نزلة جوزة الحدباء، فتفاجأ بالجنود الفرنسيين يخرجون من سوق التبن ويطلقون عليه الرصاص ولكن الله حفظه وحماه ولم يصبه بمكروه. ثم قفل راجعاً إلى حارة الشالة فهجم عليه عدد من الجنود ووجهوا مسدساتهم نحوه وقبضوا عليه، وسألوه: "أين أنت ذاهب؟" فقال: "إلى بيت مظهر بيك العظم"، وكان من رجال الدولة، وهو يعرفه جيداً لأنه هو الذي يحضر له الطحين، وكان بيته يصل بين حارة الشالة وحارة البحصة -التي يقع فيها بيت الشيخ رمضان- وله مدخل على كل الحارتين. فأحضره الجنود إليه وهم لا يزالون يوجهون مسدساتهم نحوه، ولكنَّهم تركوه لما تعرَّف عليه مظهر بيك وأدخله إلى بيته.

ولكن، رغم كلِّ ذلك، ورغم أنَّ مظهر بيك حاول جاهداً أن يبقيه عنده، إلا أنّ الشيخ رمضان شرح له الأمر وأصرَّ أن يخرج من جديد من الطرف الآخر إلى حارة البحصة حتى يصل إلى البيت لتطمئنَّ أمُّه عليه ويطمئنَّ هو على صحتها.

حي البحصة القديم في أواخر القرن التاسع عشر

ولم يكد الشيخ رمضان يخرج من البيت حتى انهال عليه الرصاص، ولكنَّه دخل بسرعة بين الأزقة، وهناك أمسكه واحد من الدرك وسأله عن مقصده فأشار الشيخ رمضان إلى بيته الذي كان قريباً، وكانوا يسكنون فوق الطاحونة خلف جامع الطاووسية كما أشرنا أعلاه.

عندئذٍ تركه الدركي، وذهب الشيخ رمضان إلى البيت فقرع الباب فنزل والده والعصا بيده ففتح له، فلما رآه لم يصدق أنه لا يزال حيّاً. وصعد فضيلة الشيخ رمضان إلى والدته ليطمئن عليها ويطمئنها عليه بعد أن نجا من الموت المحتم بفضل الله عزَّ وجلَّ، فعانقته وقبَّلته وقالت له: "لو لم تأتِ كنتُ سأموت من الخوف!"، وأمَّنها الله عزَّ وجلَّ بإبنها بعد خوف كاد يقتلها، فالحمد لله على سلامتها وعلى حفظه للشيخ في صباه.

ثم في اليوم التالي بينما كانوا جالسين وقت الظهيرة يتناولون الغداء دخلت من الشباك شظية من قذيفة وسقطت قربه على مسافة صغيرة وكانت لا تزال حمراء كالجمر، فحفظه الله عزَّ وجلَّ بلطفه.

إنَّ ظروف الحياة الصعبة التي مرَّ بها الشيخ رمضان ديب في طفولته وشبابه، علمته كيفية الاستفادة من الوقت، فبالإضافة إلى عمله الشاق في الطاحونة مع أبيه، كان يمل أوقات فراغه بأعمال أخرى كانت تدر عليه ربحاً بسيطا يساعدهم على مواجهة تكاليف الحياة الباهظة في تلك الأوقات العصيبة، وعندما لم يكن يجد أي عمل كان يصنع من العلب الفارغة ألعاباً للأطفال ويعطيها للبائع فيبيعها له ويعطيه ثمنها.

وكان الشيخ رمضان يقيم مع أخيه الشيخ رجب في سقيفة فوق الطاحونة إلى أن توقفت الطاحونة في آخر الثلاثينيات بسبب المراقبة الشديدة من قبل الميرة،[86] فعملوا في صنع الحلاوة.

طاحونة سمسم لاستخراج الطحينة التي تستخدم في صنع الحلاوة

بعد ذلك عمل الشيخ رمضان في مجال الميكانيك في بداية الخمسينيات، فتعلَّم كيفية إصلاح المحرِّكات بأنواعها المختلفة.

وكما سنرى بمزيد من التفصيل في الفصل القادم، فقد عمل الشيخ رمضان في مجالات كثيرة تتراوح بين الكهرباء والميكانيك والبناء حتى لم يبق عمل إلا وعمل به، وكان يقوم بنفسه بعمل عدة رجال في الوقت نفسه دون أن يعرف الكلل أو الملل، ومتى بدأ مهمة لا يتركه حتى ينتهي منها، وكان كثيراً ما يصل الليل بالنهار، وكان يتقاضى في ذلك الوقت ليرة ذهبية وربع الليرة كلَّ يوم، وهو ما يعادل عشر غرامات من الذهب. وما أجمل هن عبارة الإعلامي الكبير الدكتور زهير الأيوبي، حيث قال واصفاً الشيخ رمضان: "هو باختصارٍ شديدٍ: رجال كثيرون في رجل واحد!".[87]

كان الشيخ رمضان كريماً سخيًّا ولا يدَّخر شيئاً لنفسه، بل كان يجود بما لديه لأهله وإخوانه، وكان يعيل والده وإخوته ولا يتركهم بحاجة لأي شيء.

الشيخ رمضان يعمل على المخرطة في السبعينيات

بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الظروف الصعبة في تلك الفترة، والتقلبات السياسية والعسكرية من كرٍّ وفرٍّ بين فرنسة والثوّار، وكان حينها الشيخ رمضان في أوج شبابه، كلُّ ذلك فرض عليه أن يتعلم الدفاع عن نفسه وعن الناس، وكانت بنيته القوية وشجاعته ومروءته الفطرية تساعده على مواجهة الصعاب، فكان لا يهاب أحداً ولا يعتدي على أحد، إل دفاعاً عن نفسه وأهله ونجدةً للضعيف ونصرةً للحق، متمثلاً شخصية الفاروق سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بشكل فطري، فكان لا يخرج إلا متسلحاً بمسدسين وقنابل حتى إن الدرك الذين كانو يعملون مع الجنود الفرنسيين كانوا يهابونه، ولقد أكسبته شجاعته ومروءته وعدله محبة الناس الذين كانوا كذلك يهابونه ويحسبون له ألف حساب.

 



 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!