إيجازُ البَيَانِ عَنْ سِيرَةِ فَضِيلةِ الشَّيْخِ رَمَضَانْ
حَيَاةٌ لا مَوْتَ فِيهَا وَمَوْتٌ لا حَيَاةَ فِيه
2- لقاؤه بسماحة الشيخ أحمد كفتارو:
![]() |
![]() |
2- لقاؤه بسماحة الشيخ أحمد كفتارو:
وعلى الرغم من انشغاله في عمله الشاق، واضطراره ترك العلم وأهل العلم في فترة مبكرة من حياته، إلا أن الشيخ رمضان كان يحاول جاهداً متابعة حلقات العلم التي كانت تُعقد في المساجد من قِبل علماء الشام من أمثال الشيخ سعيد الهرباوي العربيني، وكان إماماً في جوامع دمشق، والشيخ كامل الخرده جي من القيمرية، ومعظم هؤلاء العلماء كانوا من تلاميذ الشيخ بدر الدين الحسني الذي ذكرناه في الفصل الأول أعلاه.
ولكن المشايخ في دمشق في ذلك الوقت، كما هو الحال في أغلب الأحيان، لم يكونوا على قلب واحد، بل كان هناك الكثير من الخلافات التي تثور بينهم بسبب اختلاف آرائهم وتعصبهم لمذهب من المذاهب، وخاصة أن الاحتلال الفرنسي كان ينمِّي مثل هذه الفُرقة بين علماء المسلمين ليوقع بينهم. فلما رأى الشيخ رمضان ذلك، دعا الله سبحانه وتعالى قائلاً: "اللهم إنني أعرف أنك تحبني، وذلك لأنك لا تزال تُنعم عليَّ بكلِّ ما أحتاجه؛ اللهم دلني على شيخٍ تحبُّهُ أنت حتى يأخذ بيدي إلى صراطك المستقيم".
وظهر في تلك الفترة في أواخر الثلاثينيات أحد العلماء في جامع أبو النور في حي ركن الدين، وكان عالماً متميزاً في فكره الذي يدعو إلى التجديد والعودة إلى الأصول الإسلامية وتوحيد صفوف العلماء ونبذ التعصب المذهبي الذي بدأ يستشري في المجتمع بفعل تحريض الاستعمار الفرنسي وكيده. وفي البداية وجد هذا العالم صعوبات كثيرة ومقاومة من قبل الناس والعلماء بسبب أفكاره الجديدة، فانقسم الناس حوله بين مؤيِّد ومعارض، وخاصة أنه كان لا يزال شاباً في بداية مسيرته.
هذا العالم الشاب هو الشيخ أحمد كفتارو ابن الشيخ محمد أمين كفتارو النقشبندي الذي توفي سنة 1357هـ/1938م بعد أن أجاز ابنه بما أجازه به شيوخه وآلت إليه خلافة الطريقة النقشبندية كما ذكرنا في الفصل الأول.
سماحة الشيخ أحمد كفتارو |
|
قرَّر سماحة الشيخ أحمد، قدَّس الله سرَّه، متابعة مسيرة والده وحاول تشكيل جبهة من العلماء تتصدى للجهل الذي كان ينتشر في المجتمع الإسلامي، ولكن بعض الناس الذين اعتادوا لعدة عقود على نمط معين من الحياة لا يخلو من العادات السيِّئة التي عززتها الحكومات الواهية التي كانت تسيطر عليها فرنسة، هؤلاء الناس لم يستطيعوا في بداية الأمر استيعاب دعوات هذا العالم الشاب، فحاربوه وأثاروا حوله الكثير من الشائعات التي انتشرت في الشام انتشار النار في الهشيم.
كانت بعض هذه الإشاعات الكاذبة تتهم سماحة الشيخ، قدَّس الله روحه، بالدعوة للسفور وأنه كان يترك بناته يخرجن بملابس غير شرعية، في الوقت الذي لم يكن عنده بنات بالغات، وأشيع عنه أنه كان يأمر مريديه بتقبيل يده والقيام له، إلى غير ذلك من الدسائس التي كان يثيرها حوله بعض الخطباء والمشايخ الذين ينتمون لبعض الفئات الإسلامية.
عندما بلغ الأمر للشيخ رمضان ذهب إلى الشيخ أحمد كفتارو، قدَّس الله سرَّه، ليتحقق من ذلك بنفسه؛ فلما استمع إلى كلامه وجده عالماً حكيماً متواضعاً متفانياً في عمله وقد نذر حياته لنصرة دين الإسلام، وتذكَّر الشيخ رمضان حين رأى سماحة الشيخ أحمد كيف كان يجلس في مدرسة سعادة الأبناء متجهاً إلى الجدار يحفظ ويُذاكر، في حين كان غيره من التلاميذ يلعبون ويمرحون في أوقات الإستراحة بين الدروس. فلما تحقق الشيخ رمضان بنفسه من عدم صحة ما كان يُثار حول سماحة الشيخ أحمد، قدس الله روحه، صار من أحبِّ الناس إليه.
وكذلك فقد وجد الشيخ أحمد كفتارو في شخصية الشيخ رمضان ديب استجابةً لدعائه الذي طالما كان يدعو الله به وهو أن يهيِّئَ الله له رجلاً قوياً شجاعاً مخلصاً يساعده على تصحيح مسار الإسلام في المجتمع الشامي، كما هيَّأَ الله عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه لسيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد وجد سماحة الشيخ أحمد، قدَّس الله سرَّه، منذ ذلك اللقاء الأول بالشيخ رمضان تشابهاً كبيراً بين شخصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه وشخصية هذا الإنسان الذي أتى إليه كعدوٍّ فانقلب إلى أفضل صديق له ليبدأ معه مسيرة شاقة استمرت عقوداً طويلة من البناء والتصحيح، فدعا الله له أن يجعله عُمَر هذ الزمان وقال له إنَّ الناس لن يعرفوا قدرك إلا بعد وفاتك بخمسين سنة.
بدأ الشيخ أحمد كلامه مع مريده الجديد بالحديث النبويِّ حيث يقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَتُنْقَضَنَّ عُرَى الإِسْلامِ عُرْوَةً عُرْوَةً، فَكُلَّمَا انْتَقَضَتْ عُرْوَةٌ تَشَبَّثَ النَّاسُ بِالَّتي تَلِيهَا، وَأَوَّلُهُنَّ نَقْضاً: الحُكْمُ، وَآخِرُهُنَّ الصَّلاةُ»،[88] وكان هذا الأمرُ واقعاً مشهوداً في المجتمع الإسلامي عموماً وفي دمشق وغيرها من البلاد الشامية، ولذلك نذر الشيخ أحمد كفتارو حياته لإعادة بناء ما يمكن بناؤه مم هُدم من الإسلام، ويشهد له التاريخ أنه نجح في ذلك نجاحاً منقطع النظير، ولا غرابة أن يدعوه العلماء بالشيخ المجدد؛ انطلاقاً من حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث يقول: «إِنَّ اللهَ يَبْعَثُ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مَائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لِأُمَّتي أَمْرَ دِينِهَا، يَنْفُونَ عَنْهُ انْتِحَالَ المُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الجَاهِلِينَ.»[89]
والشيخ أحمد هو ابن الشيخ محمد أمين كفتارو شيخ الطريقة النقشبندية الذي تكلمنا عنه آنفاً، وُلد سنة 1330هـ/1912م،[90] في حي الزينبية الواقع في ركن الدين، قرب جامع أبو النور، ودرس في مدرسة الصاحبة (وتسمى أيضاً مدرسة الحنابلة)[91] حتى الصف الخامس، ثم تفرّغ لدراسة العلم الشرعي في مدرسة سعادة الأبناء، وفيها رآه الشيخ رمضان لأوَّل مرة، ومنها انصرف إلى شيوخ الشام، وكان يتمتع بذاكرة قوية ونهم شديد في تلقي العلم؛ فحفظ الشعر والكثير من المتون الشرعية، وكان فصيحاً متمكناً من اللغة العربية، وقد خطب بالناس وهو لا يزال شاباً يافعاً.
ويذكر الشيخ أحمد، قدَّس الله سرَّه، نقلاً عن الشيخ عيد الدبسي أنه كان حاضراً عند الشيخ أمين الزملكاني وكان الشيخ أمين كفتارو عنده، فبشره الشيخ أمين الزملكاني بمولود، فقال له: فما أسميه؟ قال: أحمد، وسيكون له شأن عظيم. ثمَّ يضيف سماحته أنَّ الشيخ عيسى الكردي كذلك بشّر والده به قبل ولادته.[92]
سلك الشيخ أحمد كفتارو طريقة التزكية والتربية الروحية تحت كنف أبيه، وبعد دورات قاسية من المجاهدة والمصابرة، منحه والده الإجازة الكاملة بالإرشاد والتوجيه، وأجازه بكل م أجازه به شيوخه، وكان عمره إحدى وعشرين سنة. تزوج الشيخ أحمد في سنٍّ مبكرة حيث اختار له أبوه فتاة صالحة من آل الملي.
عندما توفي والده الشيخ محمد أمين كفتارو سنة 1357هـ/1938م، تولى الشيخ أحمد خلافة الطريقة النقشبندية فكان الخليفة الثامن والثلاثين في سلسلة رجالها،[93] وبدأ الشيخ أحمد نشاطه بالدعوة والتزكية من خلال الحلقات التي كان يديرها والده في جامع أبو النور.
وعلى الرغم من الصعوبات في البداية، لم يلبث الشيخ أحمد أن لمع نجمه وذاع صيته في دمشق وخاصة بين أوساط الشبان الذين كانوا يتوافدون إلى جامع أبو النور من دمشق وضواحيها، حتى اضطر لتوسيع مجال نشاطه إلى عدد من مساجد دمشق، ومنها جامع يلبغا، وجامع الأقصاب، وجامع الشيخ محي الدين، وجامع دنكز، وجامع السنجقدار، وجامع الأحمدية في سوق الحميدية.
ومنذ بداية شبابه سعى الشيخ أحمد كفتارو، قدَّس الله سرَّه، لدعم النهضة العلمية التي نشأت في دمشق كفعل معاكس للاستعمار الفرنسي، ففي سنة 1356هـ/1937م، شارك في "جمعية العلماء" التي أسسها محمد كامل القصاب[94] بهدف الدفاع عن الإسلام والاهتمام بشؤون المسلمين ومؤسساتهم الدينية، ورفع مستوى العلماء والمتعلمين، وجمع كلمتهم، والدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ بالحكمة والموعظة الحسنة. ولقد كانت هذه الجمعية النواة التي تأسست منها "رابطة العلماء" سنة 1363هـ/1944م والتي ترأسها آنذاك الشيخ أبو الخير الميداني،[95] ثم السيد مكي الكتاني.[96]
كان اللقاء الأول بين الشيخ أحمد كفتارو والشيخ رمضان ديب لقاءً سريعاً، وكانت الأمور تسير ببطء شديد خاصة في تلك المرحلة في نهاية الثلاثينيات وبداية الأربعينيات حيث كانت الثورة السورية في أوجها وكان الثوار لا يزالون يقاومون الاحتلال الفرنسي الذي كان يحكم سيطرته على جميع مجالات الحياة وكان الناس لا يستطيعون السير بحرية في الشوارع للقيام بأعمالهم اليومية والسعي وراء أرزاقهم، فضلاً عن متابعة حلقات العلم والدروس التي كانت تقام في المساجد.
ولكنّ سماحة الشيخ أحمد كفتارو، قدَّس الله سرَّه، لم يشأ أن يضيِّع فرصة هذا اللقاء الأول مع الشيخ رمضان من غير أن يُسدي إليه نصيحة غالية لا يزال الشيخ رمضان يتمتع بفوائده حتى اليوم، حيث قال له سماحة الشيخ أحمد: "كيف تدَّعي الرجولة والشجاعة وأنت لا تستطيع أن تغلب شيئاً صغيراً بحجم الإصبع!" وكان الشيخ رمضان، مثل بقية الشبان في ذلك العصر، قد اعتاد على التدخين وكان يدخن في اليوم الواحد ما يزيد عن علبتين، وكانت السيجارة عند الشبان رمزاً للرجولة والكبرياء. فكان لكلام الشيخ أحمد أثرٌ عظيمٌ في نفس الشيخ رمضان مما دعاه لإتلاف السجائر التي كانت معه أثناء عودته من هذا اللقاء، فكان يمسك السيجارة ويفتِّتها ويدوس عليها ويقول لنفسه: "لن أسمح لمثل هذا أن يهينني". وقد روى لنا الشيخ رمضان عن أحد أئمّة المساجد في ذلك الوقت وكان قد ابتُلي بالتدخين، فرأى في منامه وكأن ملكين كريمين جاءا إليه، فلما اقتربا منه استنكرا رائحة التبغ فأخذاه ووضعاه في جهاز للتنقية وعصراه به، حتى أصبح جسده نقياً من هذه الرائحة التي تستنكرها النفوس الزكية وتنفر منها الأرواح الطيبة. ومنذ ذلك الوقت توقف الشيخ رمضان عن التدخين بشكل قطعي ولم يعد إليه مطلقاً، وهذا هو أحد أسباب احتفاظه بصحة جيدة وبنية قوية وهو على مشارف عقده العاشر من العمر، أمدَّ الله لنا بعمره وبارك له في صحته وعافيته.
![]() |
![]() |







