موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

الكون والزّمن بين الفلسفة والعلم الحديث (2)

نشر هذا المقال في العدد التاسع عشر من مجلة الإمارات الثقافية التي يصدرها مركز سلطان بن زايد.

تنزيل المقالة بصيغة pdf

ملاحظة: هذا المقال مؤلف من جزئين، فهذ الجزء الثاني يتحدث عن الزمن والجزء الأول الذي يتحدث عن الكون نُشر في العدد الثامن عشر من هذه المجلة.

الزّمن في العلم والفلسفة

إنّ جميع الناس يشعرون بالزّمن ولكنّ أكثرهم لا يتساءل عنه لأنه أصبح أمراً مألوفاً يتخلّل حياتنا كالماء والهواء. ولكن لكي نفهم طبيعة الزّمن يجبُ أن نُجيب على العديد من الأسئلة الأساسية مثل:

ما هي حقيقة الزّمن ؟

هل بالإمكان أن نوقف الزّمن ؟

هل بالإمكان أن نعكسه ؟

هل تدفُّق الزّمن عالمي أم إنّه يتعلّقُ بحالة المراقب ومكانه ؟

متى كانت بداية الزّمن، وهل له نهاية ؟

هذه الأسئلة والعديد من الأسئلة المماثلة الأخرى كانت موضوع الفلسفة والفيزياء وعلم الكون لعدّة قرون، دون إيجاد أجوبة مقنعة لها رغم وجود بعض التطوّر البطيء في ذلك.

إن السؤال عن ماهيّة الزّمن يشبه السؤال عن ماهيّة الحبّ؛ لأنه شيء يستطيع كل شخص أن يحسّ به ولكن لا أحد يمكنُه أن يعطي تعريفاً دقيقاً له، ولو أننا سألنا هذ السؤال لعدد من الناس فإننا سنحصل على نفس العدد من الأجوبة المختلفة. يقول القديس أوغسطين في اعترافاته إنّه يعرف الزّمن طالما أنّ لا أحداً يسأله عنه، وأما عندم يُسأل عنه فهو لا يعرف.

إنّ أيّ نظريّة فلسفية عن الزّمن يجبُ أن تكُون قادرة على الإجابة عن العديد من المسائل الأساسية حول الزّمن، بالإضافة إلى الأسئلة التي ذكرناها أعلاه، مثل:

 هل الزّمن موجودٌ بشكل موضوعي، أم هو فقط من تركيب الخيال؟

 ما هي العلاقة الفعلية بين اللحظات والأحداث ؟

 ما هي العلاقة بين الزّمن والعقل ؟

 ما هي العلاقة بين الزّمان والمكان ؟

 هل الزّمان مستمرٌّ أو منفصل ؟

 ما هي مركبّات الزّمن ؟

 هل بالإمكان أن يوجد الزّمن من غير أحداث ؟

 ما هو معنى كلمة "الآن" أو "اللحظة"؟

 لماذا يتجه الزّمن نحو الماضي فقط ؟

 ما هي حقيقة المستقبل ؟

إنّ مفهوم الزّمن يبرز عندما نسألُ عن الترتيب الزّمني للأشياء وأيضاً عن المدّة التي تستغرقها الأحداث، ولأن حياتنا مليئة بالأحداث من كُلّ الأنواع، لذا فإن الزّمن له بصمته في كُلّ نواحي الحياة كعملية الشيخوخة في علم الأحياء، وضبط الزّمن في علم الميكانيكا والآلات، واتجاه الزّمن والأنتروبيا في الديناميكا الحرارية، والزّمن الروحاني أو النفساني في علم النفس. لذلك، لكي نفهم حقيقة الزّمن، لا بدّ من استكشاف العديد من المجالات والعلوم مثل الفيزياء وعلم الأحياء وعلم النفس وعلم الكون وغيرها.

 

الزّمن في الحضارات القديمة

لم يكن موضوع الزّمن يحتلّ مركزاً كبيراً في الحضارات القديمة لأن الناس كانو يعدّون الكون تحت تأثير قوتين من الخير والشر تتناوبان عليه بشكل دوري، بخلاف رؤيتنا نحن عن الزّمن الذي عادة ما نراه تطوّراً خطيّاً في اتجاه واحد. ومع ذلك فإن القدماء حاولوا فهم ماهيّة الزّمن لحاجتهم إلى التنبّؤ بالأحداث المهمة الرئيسية مثل الفيضانات وزمن الحصاد، بالإضافة إلى اهتمامهم الفلسفي الذي ينبعث من الفضول وحبّ المعرفة.

لقد حاولت العديد من الأديان والفلسفات القديمة أن تُجيب عن بعض الأسئلة حول الزّمن حيث اعتبر بعض هذه الأديان والفلسفات الزّمن بدون بداية أو نهاية واعتبره آخرون أنّه مجرّد خيال وأنّ الوجود الحقيقي هو للحركة أو للأجسام فقط.

ومن حيث العُموم فقد ظهرت وجهتا نظرٍ رئيسيتان ومتعارضتان في فلسفة الزّمن؛ الأولى تبنّت النظرة العقلانية أو الواقعية لفهم العالَم الطبيعي، والثانية تبنّت المبدأ المثالي الذي يعتمد على الميتافيزيقيا. فيعتقد العقلانيون أنّ العقل هو القوّةُ الأساسية وهو قادرٌ على فهم كُلّ شيء في العالَم، بينما يعدّ المثاليون العالَم، بما فيه الزّمن، شيء فوق قابلية العقل ولا يمكننا فهم ماهيّته عن طريق الفكر وحده، بل هو على الحقيقة من اختراع العقل الذي يحتاجه حتى يرتّب فيه الأحداث.

 

الزّمن في الفلسفة الإغريقية

كانت الكلمة اليونانية كرونوس (chronos) تُستعمل للإشارة إلى الزّمن منذ عهد هوميروس، حيث كان (Chronos) إلها يونانيا يخاف من أبنائه أن يُسيطروا على مملكته، لذلك كان يأكلهم واحداً بعد الآخر، مثل الزّمن الذي يجلبُ الأشياء إلى الوجود ثم يرمي بها إلى الماضي.

كما هو الحال في الفلسفات القديمة عموماً فإنّنا يُمكنُ أن نفرّق بين وجهتي نظرٍ متعارضتين حول مفهوم الزّمن في الفلسفة الإغريقية؛ الأولى تبنّاها أفلاطون وأتباعه والثانية تبناها أرسطو وأتباعه. يعدّ أفلاطون الزّمن مخلوقاً مع العالَم، بينم يعتقدُ أرسطو بأنّ العالَم خُلق في الزّمن الذي كان موجوداَ بشكل لا نهائي في القدم. فيقول أفلاطون أن الزّمن جاء إلى الوجود سوية مع العالَم، حتى يمكن أن يفنى معه كما خُلق معه.ï؟½ في حين أن أرسطو كان يعتقد أن رؤية أفلاطون هذه تستدعي وجود نقطة من الزّمن كانت بدايةً للزمن وليس لها زمنٌ قبلها، الأمر الذي لم يتقبّله أرسطو حيث تبنّى فكرة ديموقريطس للزمن غير المخلُوق، فيقُولُ:

إذا كان الزّمن حركة أبديّة فيجبُ أيضاً أن تكُون الحركة أبديّة، لأن الزّمن هو عدد الحركة. والكُلّ يؤكدون خلود الزّمن، ما عدا أفلاطون. ولكنّ الزّمن لا يُمكنُ أن يكون له حدّ (بداية أو نهاية) لأن هذا الحدّ هو لحظة، وأيّ لحظة هي بداية لزمن مستقبل ونهاية لزمن ماضٍ (فلا بدّ من وجود لحظة قبلها).

وهكذا فإن الزّمن بالنسبة لأرسطو له وجود مستمر وهو يرتبطُ دائماً بالحركة، ول يمكن أن يكون له بداية.ï؟½ من جهة أخرى فإنّ أفلاطون يعدّ الزّمن كحركة الأفلاك الدائرية،ï؟½ بينما يقول أرسطو إنّ الزّمن ليس هو الحركة، بل هو عدّاد للحركة. فيربط أرسطو بشكل واضح بين الزّمن العقلي والحركة، ولكن المشكلة التي تظهرُ هنا هي أنّ الزّمن منتظم بينما بعض الحركات سريع وبعضها بطيء، ولذلك نقيس الحركة بالزّمن لأنه منتظم.ï؟½ فمن أجل التغلُّب على هذا الاعتراض، يعدّ أرسطو الحركات الدائرية المنتظمة للأفلاك السماوية كمرجع ويعدّ أنّ كُلّ الحركات الأخرى، وكذلك الزّمن، تقاس طبقاً لهذه الحركة.

ومن ناحية أخرى، يعدّ أرسطو أنّ الزّمن هو على الحقيقة خيالي لأنه يكون إمّ ماضياً أو مستقبلاً، وكلاهما غير موجود فعلياً؛ بينما الحاضر ليس زمناً بل هو حدّ في الزّمن، كالنقطة في الخط ليست هي الخط.

في الحقيقة إنّ فكرة أفلاطون كانت صحيحة تماماً عندما اعتبر أن الزّمن مخلوقٌ مع العالَم وليس أبدياً، لكن أرسطو رفض ذلك لأنه لا يستطيعُ أن يتخيّل نقطة بداية للعالم أو للزّمن، وهو محقٌّ في ذلك. ولكن بعد نظريّة النسبية العامة سنة 1915، صار من الممكن تصوّر الزّمن المُحدّب بحيث يكون لا نهائياً ومحدوداً بنفس الوقت. وبذلك فقط يمكن أن ندمج بين وجهتي نظر أفلاطون وأرسطو المتعارضين.

 

الزّمن في الفلسفة الإسلامية

لقد تأثر الفلاسفة المسلمون بشكل عامّ بأسلافهم اليونانيين كثيراً، وحاولو تطبيق نظريّاتهم المختلفة عن الزّمن مع دمجها وتقويمها بما يتناسب مع القضاي المتعلقة بها من الآيات القرآنية والشواهد من الحديث النبوي الشريف. ولقد ظهر العديد من الفلاسفة المسلمين مثل الكندي والفارابي والرازي والغزالي وابن رشد وابن سينا الذين حلّلوا وانتقدوا أو قوّموا المفاهيم المختلفة للزمن في المدارس الفلسفية الإغريقية القديمة ممثّلة بأفلاطون وأرسطو وأفلوطين. فقام الغزالي مثلاً بانتقاد هذه المدارس الفلسفية وغيرها في كتابه "تهافت الفلاسفة" الذي ردّ عليه ابن رشد بشدة في كتابه "تهافت التهافت". ومن جهة أخرى فقد كان ابن سينا أحد أكثر الفلاسفة المسلمين المؤثرين الذين كان عندهُم العديد من وجهات النظر الأصلية حول الزّمن حيث كرّس له الفصول الطويلة في عدّة أعمال من كتبه الشهيرة كالنجاة والتنبيهات وغيرها.

بدأ ابن سينا بتلخيص مواقف الفلاسفة السابقين (من المسلمين وغيرهم) ثم انتقل إلى نقد هذه المواقف قبل أن يقدّم وجهة نظره هو.ï؟½ على الرغم من أنه كان مثل أرسطو يربط مباشرةً بين الزّمن والحركةِ، ولكنّ ابن سينا شدّد على أنّ الحركة لَيست هي كمية الزّمن محتجّاً على ذلك بأنّ المسافاتِ المختلفةِ يمكن أن تُقطع في نفس الزّمن، أو أنّ المسافات المتساوية يمكِن أن تُقطع في أزمان مختلفة، إمّا بسبب الاختلافِ في السرعةِ أو بسبب التوقّف على الطّريق، لكنّه في النهاية يُعرّف الزّمن بالحركةِ، مع أنّه يُضيف المسافة للتغلُّب على الصعوبةِ التي واجهها أرسطو بخصوص الدورية كما ذكرنا سابقاً. فيَقول ابن سينا إنّ الزّمن هو عددُ الحركةِ عندما يُفصل إلى قَبلَ وبَعد، ليس بمرور الزّمن لكن في المسافةِ، وإلا فإِنَّه يجب أن يكون دورياً.

من الناحية الأخرى، بالرغم من أن ابن سينا كان يشكّ في وجود الزّمن الطبيعي، فهو يعدّ أنّ الزّمن يوجد فقط في العقل بسبب الذاكرة والتوقّع، إلا أنه أيضاً يوضح أنّ الزّمن له وجود حقيقي ولكن غير مادي، أي ليس له جوهر مستقل، ولكنّه يوجد من خلال الحركة.

وبالنسبة لتركيب الزّمن، يقول ابن سينا أنه كمّيّة متّصلة، وذلك لأنه (مثل أرسطو) يعدّ الزّمن كمّيّة الحركة الدائرية المستمرّة، فهناك زمن منتظم ولكنن نقسمه بواسطة الوهم إلى لحظات أو آنات،ï؟½ وذلك بعكس بعض علماء الكلام من الأشاعرة الذين يعدّون الزّمن كمية منفصلة.

وكذلك تبنّى الكندي، وهو عالِم رياضيات وفيلسوف، فكرة أرسطو أن الزّمن هو عدد الحركة بالإضافة إلى مبادئه الفلسفية الأخرى بعد تقويمها على أساس المبدأ الإسلامي أنّ الله الواحد هو الذي خلق العالم؛ فصرّح الكندي أنّ العالَم المادّي لا يمكن أن يبقى إلى الأبد بسبب استحالة وجود أبدٍ فعلي، وكذلك لا بدّ من وجود لحظة بداية للعالَم وبالتالي لا بدّ من خالقٍ لهذا العالَم وهو الذي أوجده عن عدم.

أما الطبيب والفيلسوف الرّازي فيبدو أنّه قد تبنّى فكرة أفلاطون أن الزّمن هو الشكل الظاهر للوجود الأبدي، بالإضافة إلى فكرة أفلوطين أنّ الزّمن أبدي؛ وبذلك رفض وجهة نظر أرسطو أنّ الزّمن لا يوجد إلا في الخيال.

ومن جهة أخرى فقد ركّز الفيلسوف الفارابي على الخواص الغيبية للزمن حيث تبنّى وجهة نظر أرسطو أيضاً عندما قال إنّ الحركة الدائرية هي الحركة الوحيدة المستمرة وإنّ الزّمن يقاس بهذه الحركة، لكنّه، وبشكل مشابهٍ لابن سينا، قسم الأشياء إلى ثلاثة أقسام فيما يخص الوجود؛ فهناك وجودٌ واجبٌ وهو وجود الله سبحانه وتعالى، وعدمٌ واجبٌ وهو المحال الذي لا يقبل الوجود، أمّا العالَم فقد كان ممكن الوجود قبل وجوده الفعلي ثم ينقله الله تعالى بشكل مستمرٍّ من العدم النسبي إلى الوجود النسبي؛ فالعالَم بشكل دائم في حركة وانتقال بين التكوين والفساد، وأجزاء العالَم تتشكل وتتحلل مع مرور الزّمن وبشكل سريع لا ندركه، رغم أن العالَم ككلّ يبدو مستقرّاً في الوجود. وحسبَ هذه الرؤية فإنّنا نرى العالَم في حركة مستمرة في الزّمان والمكان وهو على الحقيقة في حركات كثيرة معقدة ومتداخلة، وذلك عندما ننظر إلى تفاصيل أجزائه، في حين أننا لو نظرنا إلى العالَم ككل فإننا نرى له وجوداً مستمراً ل يتعلق بالزّمان ولا بالمكان.

ولتوضيح هذه النقطة المهمة نعطي المثال التالي: لو أننا طلبنا من أحد التلاميذ أن يصف لنا الحالة العامّة لجبل، فإنه قد لا يشير بشكل مباشر للزمن لأن الجبل يبدو له ساكناً. لكننا لو طلبنا منه أن يفصّل لنا في دراسته حركة الجبل كجزء من الأرض التي تدور حول محورها وحول الشمس، وأيضاً حركة الذرّات في صخور الجبل وحركة الحشرات والحيوانات الأخرى التي تعيش هناك، بالإضافة إلى حركات الرياح، والماء ï؟½ الخ، فإننا سنجد أنه بحاجة إلى علم كبير بالرياضيات واختراع معادلات طويلة ومعقدة لوصف مثل هذه الحالة، وسوف يكون الزّمن من أهم المتغيرات التي سنجدها في هذه المعادلات الرياضية. وكذلك فالعالم من حيث مجموعه خارجٌ عن الزّمان ومن حيث أجزائه فهو في تغيّر مستمر.

 

الزّمن في الفلسفة الغربية

إن فكرة أرسطو للزمن الدائري، التي تعتبر العالم أبدياً، لم تكن مقبولةً من قبل أكثر علماء الدين من الأديان الثلاثة الإبراهيمية: الإسلام والمسيحية واليهودية، الذين يعدّون الزّمن خطّيّاً يبدأ بالخلق وينتهي بالقيامة. من أجل ذلك قام القديس أوغسطين، ولاحقاً توماس أكويناس، بالاعتراض على آراء أرسطو باعتبار أنّ التجربة الإنسانية في العالم هي رحلة ذات اتجاهٍ واحد من التكوين إلى القيامة، بغضّ النظر عن أيّ أدوار زمانية طبيعية، ولقد تبنى نيوتن هذه الرؤية لاحقاً في عام 1687 عندم مثّل الزّمن رياضياً باستعمال الخطّ بدلاً من الدائرة.

كما لاحظنا أعلاه، كان هناك نقاش طويل في الفلسفة الإغريقية حول موضوعية الزّمن؛ هل هو موجود مستقل أم أنه أداة عقلية فقط. وكذلك يقول أوغسطين معترفاً بالحيرة في ذلك إنّ الزّمن لا شيء في الحقيقة، لكنّه يوجد (في العقل) من جرّاء إدراك الإنسان للحقيقة. من الناحية الأخرى، قال هنري الغانتي (توفي 1293)،ï؟½ وكذلك جايلز الرومي (توفي 1316)،ï؟½ كلاهما قال بأنّ الزّمن يوجد في الواقع كشيء مستقل عن العقل ولكن العقل يقسمه إلى ماض وحاضر ومستقبل. ولكن إسحق نيوتن كما أشرنا اعتبر الزّمان (والمكان) كمية مستقلة موجودة سواء بوجود المادة أو بعدم وجودها، وهذه الرؤية انتقدها لايبنتز بشدة وقال بأنّ المكان لو كان مستقلاً عن الأشياء التي توجد فيه لكان منتظماً ومتجانساً، وبالتالي وصل إلى نفس النتيجة التي وصلت إليها نسبية آينشتاين غير أنه لم يقم أبداً بوضع ذلك في إطار نظريّة ومعادلات رياضية كما فعل الأخير.

كذلك رفض نيوتن ربط أرسطو بين الزّمن والحركة وقال بأنّ الزّمن موجود بشكل مستقل عن الحركة وكذلك موجود حتى قبل خلق الله للعالم؛ فالزّمان والمكان يحويان العالم بما فيه من أحداث وأجسام. بعد ذلك أصبحت هذه النظريّة تُعرف باسم النظريّة المطلقة للزمن، في حين تبنّى لايبنتز كما قلنا نظريّة الترابط بين العالم والزّمن وقال إنّ الزّمن لا يوجد بشكل مستقل عن الأحداث أبداً.

في القرن الثامن عشر، قال الفيلسوف كانْت إنّ تفكيرنا وعقلنا يعطي للزمن البنية الخطية الخاضعة للهندسة الإقليدية، ولكن هذا الرأي تغيّر مع ظهور الهندسة اللاإقليدية حيث يمكن تخيل الزّمان والمكان بشكل غير خطي.ï؟½ ويوضح كانْت في نقده للعقل والمنطق أن رؤيتنا الحالية للزمن تؤدي إلى تناقض منطقي سواء فيما إذا فرضن أن العالَم له بداية في الزّمن أو ليس له بداية في الزّمن؛ فلو فرضنا أنه ليس للعالم بداية في الزّمن فهذا يعني أنه في أيّ لحظة هناك عدد لا نهائي من الأحداث سبقت هذه اللحظة، وهذا لا يجوز! أما إذا فرضنا أن هناك بداية في الزّمن، فهذا يعني أن هناك أوقات فارغة لم يكن فيها الكون موجوداً، وهذا أيضا لا يجوز !ï؟½ ونشير هن إلى أنّ لايبنتز كذلك استخدم نفس هذه الحجّة لإثبات ارتباط العالم بالزّمن. وفي الحقيقة فإن هذه الحجة قديمة استخدمها أيضاً الفيلسوف المسلم الكندي كما رأين أعلاه.

وفي إطارٍ آخر، في مقالة مشهورة في مجلة "العقل" (MIND)، يحاول مك-تكارد (McTaggart) إثبات وهمية الزّمن حيث يقول إن هناك طريقتان لترتيب الأحداث؛ الأولى تعتمد على "المستقبل" و"الماضي" و"الحاضر"، والثانية تعتمد على "قبل" و"بعد". ثمّ يقول إنّ الطريقة الأولى تؤدي إلى تناقض لأن الحدث الذي هو ماضٍ في وقت ما قد كان حاضراً أو مستقبلاً في وقت آخر، بينما الطريقة الثانية تعدّ أدق تعبيراً لأن الحدث الذي هو قبل أو بعد حدث آخر هو دائما كذلك. فيخلص إلى النتيجة أنّ الطريقة الأولى التي تشير إلى الزّمن متناقضة بينما الطريقة الثانية التي لا تشير إلى الزّمن متماسكة في كل الأوقات.

من الناحية الأخرى، كما هو الحال في الفلسفات الأخرى التي درسناها أعلاه، كان هناك أيضاً نقاش وجدال واسع حول بنية الزّمان وهل هو كمية منفصلة أو كمية متصلة؛ فكان أكثر الفلاسفة الغربيين يعدّون الزّمن كمية متصلة، وخاصة بعد تقدم نظريّة نيوتن في الجاذبية وقدرتها على تفسير الكثير من الظواهر الكونية، ولكن بعد نجاح ميكانيكا الكمّ بدأت فكرة الزّمن الكمّي تنتعش من جديد على الرغم من أن نظريّة الكمّ نفسها لا تزال تعتبر الزّمن كمية متصلة وليست منفصلة.