موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

الزمان المتجمد: النظرية النسبية عند الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

نشر هذا المقال في العدد الرابع والخمسين من مجلة الإمارات الثقافية التي يصدرها مركز سلطان بن زايد.

تنزيل المقالة بصيغة pdf

مقدمة:

هناك اختلاف حادٌّ ومبدئي بين أسس أهم نظريتين في الفيزياء الحديثة، وهم النظرية النسبية والنظرية الكمية، مع أنّ كلاهما قد أثبتت جدارتها مرات عديدة خلال القرن الماضي، خاصة بعد الاكتشافات الأخيرة فيما يتعلق بالأمواج الجاذبية الناتجة عن الثقوب السوداء والتي تم قياسها بالفعل سنة 2016 بعد أن تنبأت بها النظرية النسبية منذ أكثر من مئة سنة، وكذلك إثبات وجود جسيمات هيغز في مفاعلات سيرن سنة 2012 بعد عدة عقود من تنبؤ نظرية الحقول الكمية بها سنة 1964. على الرغم من هذه النجاحات الباهرة، فشلت كِلتا النظريتان في تفسير العديد من الظواهر، واختلفت الحسابات بينهما بشكل كبير جداً لا يمكن مصادقته مع الواقع بأيِّ حالٍ من الأحوال. ففي الوقت الذي عجزت فيه النظرية النسبية عن إيجاد صيغة مناسبة تفسِّر الجاذبية بشكل كمِّي، تتنبّأ النظرية الكمِّية بقيمة هائلة جدّاً لكثافة الفراغ (وهو م يُعرف بالطاقة السوداء) أكبر بكثير جدّاً مما تقول به النظرية النسبية (عن طريق م يُعرف بالثابت الكوني) والذي تم قياسه فعلياً سنة 1998. أحد الفيزيائيين وصف هذ الخلاف بأنه أسوأ تنبُّؤ في تاريخ الفيزياء النظرية [هوبسون وإيبستاسيو، 2006].

يعود السبب الرئيسي في هذا الخلاف إلى الاختلاف الجذري بين مبادئ هتين النظريتين، وهو أنَّ النسبية تعتمد بالأصل على أنَّ الزمان والمكان والمادة هي كميات متصلة، يمكن تقسيمها بشكل لا نهائي، بينما يعتمد ميكانيك الكم على أنَّ الطاقة تصدر دائماً على شكل كميات منفصلة. والمشكلة أنَّ هتين الصفتين هما صفتان متناقضتان تماماً ولا يمكن الجمع بينهما أبداً، فالأشياء في الطبيعة إمَّا أن تكون معدودة أو غير معدودة، أي إمَّا منفصلة أو متصلة، لا يوجد احتمالٌ آخر. هذا يعني أنَّ النظرية النسبية والنظرية الكمية، بشكلهما الحالي، لا يمكن أن تكونا صحيحتان بنفس الوقت، مع أنَّ أيَّ واحدةٍ منهما لوحدها لا تكفي أبداً لتفسير جميع الظواهر الفيزيائية؛ فهما متناقضتان ومتكاملتان في نفس الوقت، مثل وجهي العملة الواحدة، ل يمكن أن يجتمعان ولا يمكن أن يفترقان أبداً.

لقد حيَّر هذا التناقض الفلاسفة وعلماء الفيزياء وعلماء الكون في القرون الماضية، وعلى الرغم من نجاح النظريات الفيزيائية الحديثة في تفسير العديد من الظواهر وتقديم الكثير من الإنجازات التكنولوجية والتطبيقات العملية التي ساهمت بشكلٍ كبير في بناء الحضارة الحديثة، ولكَّنها فشلت بشكلٍ ذريعٍ في تفسير الحقائق الكونية، لأنَّ جميع الحلول التي أوجدتها هذه النظريات هي حلول تقريبية، كثيراً م تُقارب الحقيقة بشكل كبير، ولكنَّها لم تتفق معها مطلقاً.

يعود سبب عجز العلماء في إيجاد نظرية شاملة تُفسِّر الحقائق الكونية إلى كونهم لا يزالون يبحثون عن الحلول على مستوى الطبيعة، في حين إنَّ الحقائق تكمن وراء الطبيعة، لأنها هي التي تُسيِّر الطبيعة بالشكل التي تسير عليه. وممّا لا شكَّ فيه أنّ الصوفية هم أكثر من استطاع الغوص وراء الطبيعة، إلى مستويات لا يمكن حتى التعبير عنها باللغة العادية، لذلك هم كثيراً ما يستخدمون الشعر والنثر الملغوز والإشارات التي يصعب تفسيرها إلا ربما بعد مطالعات عميقة لكتبهم وتراثهم المتناثر في الكتب والمخطوطات، والتي عادة لا تناقش موضوعاً محدَّداً من الموضوعات التي يهتم به عادةً الفلاسفة وعلماء الكون وعلماء الفيزياء، فلا بدَّ للباحث من الغوص إلى هذه الأعماق حتى يستطيع استخراج بعض الدرر واليواقيت والجواهر ليرى إن كان بإمكانه استثمارها وتطبيقها في هذه العلوم الطبيعية.

لقد تميَّز الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي في هذا الخصوص، وخاصة فيما يُعرف بوحدة الوجود، ولقد بيّنّا في مقالات وأبحاث سابقة كثيرة أنّ الكثير من عباراته تتضمّن إعجازاً علمياً كبيراً سبق فيها الكثير من الاكتشافات التي ما ظهرت إلا بعد سبر وتصوير أعماق الفضاء واستكشافه من خلال إرسال المركبات والمسابر وتحليل القياسات بأجهزة الحاسبات العملاقة. فهل يمكن أن تكون وحدة الوجود هي الحلُّ الذي يمكن أن يجمع بين نظرية النسبية ونظرية الكم، ويفسِّر الحقائق الكامنة وراء هذ التعدد الظاهري في الطبيعة؟

تُبيِّن الأبحاث أنَّ المفتاح السحري لحل التناقضات القائمة بين النظريات الفيزيائية يكمن في فهم الأبعاد المزدوجة للزمن، فعلى الرغم من تصريح الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي أنّ هناك حدٌّ أدنى للزمن، يُسمى "اليوم الفرد"، إلا أنَّه -أي الزمن- يتجلى في الطبيعة ككميّة متصلة يمكن تقسيمها -ظاهرياً- إلى ما لا نهاية. والغريب أنّ الشيخ الأكبر يصرِّح أيضاً أنَّ اليوم الفرد هو نفسه اليوم العادي الذي نقسمه إلى ساعات ودقائق وثوان، وحتى إلى أجزاء صغيرة جداً من الثانية!

بالإضافة إلى هذا، يقول الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي أنّ أيّام الأسبوع جميعها، بما فيها يوم السبت، تحدث في يوم السبت! إنّ مثل هذه العبارات التي تبدو متناقضة تماماً مع المنطق، كافية كي نرمي هذه الكتب جانباً أو نعتبرها نوعاً من التعبير الوجداني عن تجارب روحانية شخصية ليس لها علاقة بالواقع الفيزيائي المحسوس والذي نجحت النظريات المختلفة في تفسير جزء كبير منه وتطويعه في الاستخدامات العملية والتكنولوجية المبهرة.

لكنّ الشيخ محي الدين ابن العربي لا يأتي بهذه التفسيرات الغريبة من محض بنات أفكاره، بل يسوقها ضمن شرحه العميق للآيات الكثيرة في القرآن الكريم التي تتحدَّث مثلاً عن توالج الليل والنهار وسلخهما، وتتحدَّث عن أيّام نسبية تعادل ألف سنة وأيام أخرى تعادل خمسين ألف سنة، بالإضافة إلى آيات كثيرة تتحدث عن خلق السموات والأرض في ستة أيام، وخلق الأرض -وحدها- في يومين، وكذلك السماء. ولا نجد في جميع كتب التفسير أيَّ شرحٍ شافٍ لمثل هذه الآيات الكونية، مثل ما نجده عند الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي.

الخلق الجديد وازدواجية الزمان:

إنّ تخصيص يوم السبت بهذه الخاصيَّة له معنى عميقاً يستند إلى أنَّ الله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام، من يوم الأحد إلى يوم الجمعة، ثم استوى على العرش يوم السبت، فقالت اليهود إنَّ الله سبحانه وتعالى تعب فاستراح، فقال الله تعالى: ﴿ أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق: 15]﴾، أي أنّ الخلق الأوَّل الذي حدث في ستة أيام من يوم الأحد إلى يوم الجمعة، ليس هو الخلق الوحيد، بل الناس في "لَبْسٍ"، أي في حجاب، من خلق جديد يحدث في كلِّ آنٍ من يوم السبت الذي نحن فيه الآن، وهو يوم الأبد لأنَّ جميع الأيام مندرجة فيه، بما فيها يوم السبت نفسه!

تبدو هذه المسألة عصية على الفهم، ولا يمكن فهمها تماماً بهذه البساطة ما لم ندرس معنى توالج الليل والنهار وسلخ النهار منه، ولكن لتبسيط الأمر نشير إلى أنّ الزّمن هو في الحقيقة أمرٌ وهميٌ، وأنّه يعود في النهاية إلى الحركة أو الأحداث التي تحصل في الوجود، وبما أنّ الحركة تحدث في الزمان والمكان معاً؛ فإنَّ اليوم -كواحدة لقياس الحركة- يشير إلى المكان والزمان على حدٍّ سواء. فتكون الأيّام الستّة الأولى من الأسبوع هي في الحقيقة الجهات الستّ التي تشكّل نقطة واحدة في المكان ذو الأبعاد الثلاثة، ويكون يوم السبت هو جهة الزمان الذي يسير دائماً إلى الماضي لأنه ليس له نظير مثل أيَّام المكان، وبالتالي فإنَّ نقاط المكان التي تظهر تِباعا في لحظات الزمان تندرج جميعها في هذا اليوم الأبدي.

إنّ فهم هذا المعنى الدقيق والعميق للزمان والمكان هو المفتاح الذي سيحقق التوافق بين النظريات الفيزيائية المتناقضة، ويجمعها في نظرية واحدة هي في الحقيقة نفسها نظرية وحدة الوجود، التي تعني -من ضمن ما تعنيه- أنَّ الكثرة الظاهرة في الوجود الفيزيائي، والمنبسطة على زوايا المكان والمتتالية بين حنايا الزمان، تنبثق في كلِّ آن من جوهر واحدٍ هو الجوهر الفرد، وهو روح الوجود الواحد الذي لا يزال يتردَّد بين الوجود والعدم، وإنّما سميَّ روحاً لأنّه يروح على زوايا المكان المعتمة فتظهر جميع أشخاص الوجود من نوره الأبدي السرمدي، تماماً مثلما ينتشر الضوء في زوايا الغرفة المظلمة فينيرها وتظهر الأشياء التي كانت غائبة فيها، ولكنَّ الضوء المخلوق في هذا المثال الأخير يظهُر الأشياء التي في الوجود، بينما نور الروح الكلِّي يُظهر الأشياء إلى الوجود.

وبما أنّ الأيّام السبعة تستند إلى الصفات الإلهية الأمَّهات السبع، وهي: (الحياة والعلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر والكلام)، وهي الصفات اللازمة والكافية ليكون الله سبحانه وتعالى إلهاً خالقاً، لذلك خلق الله العالَم في هذه العملية على سبعة مراحل؛ في كلّ يوم يخلق صفة أو جهة حتى اكتملت الجهات الست للمكان، ثم يُظهرها للعيان كاملة يوم السبت، وهو معنى كونه سبحانه استوى على العرش، من اسمه الرحمن؛ إشارة إلى أنَّه ما خلق هذا الخلق إلا ابتداءً من رحمته، وليكون مصيرهم كذلك إلى رحمته. فبدأ سبحانه القرآن الكريم بقوله: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾، ثم قال: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾، فحمد نفسه لأنه لا موجود غيره يحمده، ثم قال تعالى بعد ذلك في سورة الفاتحة: ﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾، فوقع العالَمُ بين تكرار اسمه تعالى: الرحمن الرحيم، فكانت بدايته الرحمة ونهايته الرحمة، و﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾، لا إله غيره ولا موجود على الحقيقة سواه: فوجوده حقٌّ باقٍ أزلي سرمدي أبدي، ووجود العالَم موقوت بالزمان ومحدود بالمكان.

وهكذا ففي اليوم الأوّل أعطى الله تعالى صفة السمع لأعيان العالَم فبدأ ذلك بخلق العقل الأوّل وهو الجوهر الفرد وهو بالنسبة إلى عالمنا وفضائنا عبارة عن نقطة هندسية ليس لها أبعاد، ثمّ في اليوم الثاني أعطى الله تعالى للعالم صفة الحياة، وبذلك بدأ خلقُ الملائكة من النور وهو بالنسبة لنا خط له بعد واحد. ثمّ في اليوم الثالث بدأ هذا الخلق يشهد خالقه بعين التعظيم ويحمده، بينما في اليوم الرابع أضاف الإرادة للخلق فخلق الجنّ من النار، وهي أمواج حرارية ذات بعدين أو أربع جهات، وفي اليوم الخامس أعطى الله تعالى القدرة للخلق، ثم أخيراً في يوم الجمعة وتحديداً في الساعات الثلاث الأخيرة منه، كما ورد في الأحاديث، خلق الله تعالى الإنسان من طين، وهو العالَم المادّي ذو الأبعاد الثلاثة أو الجهات الست، فكمل الخلق بخلق الإنسان (آدم) الذي يُعدّ بالنسبة إلى العالَم مثل الروح بالنسبة إلى الإنسان.

فمع هذه الأيّام الستّة من يوم الأحد إلى يوم الجمعة يخلق الله تعالى العالَم بالكامل كجوهر فرد، وهو أيضاً الإنسان الكامل بما فيه من سماوات وأرض، أو روح وجسم، ثمّ في اليوم السابع يُظهر الله صورة كاملة من هذا العالَم فيحفظها الإنسان في خياله، لأنها ستزول من الواقع بعد خلقها مباشرة، ثم يخلق الله تعالى صورة أخرى مثلها، ولكن بشكل يختلف قليلاً عن الصورة الأولى، فنُدرك بذلك الحركة والمكان وكذلك الزّمان، من خلال المقارنة بين الصور المتتالية.

في الحقيقة إنّ هذه العملية التي شرحناها للتوّ تغطّي بالنسبة للمراقب خلق نقطة واحدة من نقاط المكان الذي يوجد فيه المراقب الذي يُدرك هذا العالَم، فكلُّ نقطة يستغرق خلقها أسبوعاً كاملاً من هذه الأيّام الإلهية، ولكنّنا أشرنا من قبل أنّ ذلك يظهر بالنسبة لنا كلحظة واحدة لأنّنا لا نشهد العالَم سوى وقت ظهوره وليس أثناء خلقه، وهو معنى قوله تعالى في سورة الكهف: ﴿ مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ﴾، فما شهدنا خلقها ولكن شهدناها مخلوقة، ولذلك يبدو الوجود عندنا مستمراً، ولكنَّنا ﴿ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾، ولو أنَّ الله سبحانه وتعالى أشهدنا الخلق لشهدنا كيف يخلقه كلَّ لحظة في ستة أيّام وقد استوى سبحانه على العرش من اسمه الرحمن ﴿ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ﴾. فاليوم في الحقيقة يشمل العالَم كلّه ولكنّه في كلّ نقطة من نقاطه هو لحظة واحدة، ففي نفس الوقت يكون فجراً في مكان ما وظهراً في مكان آخر وليلاً في مكان ثالث، وهكذا. لذلك نحن لا نُدرك من العالَم سوى يوم السبت، وفي كلّ لحظة منه تحدث بقيّة الأيّام، كأبعادٍ مكانية، بما فيها السبت نفسه كلحظات زمانية.

إذن لو أنّنا تصوّرنا كلّ الكون في كافة أنحاء المكان وعبر كلّ الزّمان فهو الدّهر، وهو فقط سبعة أيّام يخلقه الله تعالى في ستّة أيّام، ثم يُظهره في اليوم السابع، ولكنّ الأيّام الستّة الأولى ليست شيئاً مرّ وانتهى بل هي عمليّة متضمّنة في كل لحظة من لحظات هذا اليوم السابع الذي استوى فيه الرحمن على العرش، وفي كلّ لحظة يخلق العالَم: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾. لكننا بما أنّنا نحن جزء من هذا العالَم كالنقاط فيه، وبسبب عملية إعادة الخلق، تمرّ علينا الأيّام كلّها، غير أنّنا نشهدها بشكل مختلف عن ترتيبها الأصلي بعد توالجها وسلخها من بعضها البعض كما شرحناه بالتفصيل في مكان آخر.

وهكذا فإنّنا نجد أنّ تفسير ابن العربي البديع والمعقّد هذا هو تفسير فريد لهذه الآيات التي تصف عمليّة الخلق وهو بذلك يُعطي معنى علمياً وفلسفياً مهمّاً للأسبوع كزمان ومكان، بشكل لم يُسبق إليه من قبل ولم يشرحه أحدٌ بعده حتى الآن، وهذ التفسير يوحّد بشكل عمليٍّ وبديعٍ بين الزّمان والمكان، وليس فقط كما فعلت النظريّة النسبية من غير أن تخرج عن مجال العلاقات الرياضية إلى التطبيق العملي لهذه الفكرة البديعة.

توحيد النظرية النسبية مع نظرية الكم:

إنَّ المتتبِّع للتاريخ القديم يجد بوضوح أنَّ جذور وحدة الوجود متفرِّعة في أغلب الحضارات القديمة التي ازدهرت في ما بين النهرين كالسومريين والبابليين، وكذلك الحضارات الشرقية، وربَّما يعود أصل جميع ذلك إلى النبيِّ إدريس الذي كثيراً م يشار إليه بهرمس، أو إينوخ، ويقول الشيخ محي الدين إنه هو قطب الأرواح، ويقول عنه الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا ﴾، يناسب مكانة علمه، فهو أوَّل من خطَّ بالقلم. وعندما فتح الإسكندر بابل أمر بترجمة علومهم وفلسفتهم وأرصادهم، ومنها نشأت الحضارة الإغريقية، ولكنَّ الفلاسفة اختلفوا في التأويل فتفرعت النظريات وتضاربت الأفكار.

لقد حاول بارمنديس الذي تبنى نظرية الوحدة أن يظهر للفلاسفة أن الكثرة أمرٌ وهمي، ولكنَّ آراء سقراط كانت أقرب إلى العقول فتبناها أكثر الفلاسفة. ثم جاء زينو، وهو أحد تلاميذ بارمنيدس، فقدّم تجارب نظرية أظهر فيها أن الحركة والكثرة لابدَّ أن تؤدِّي إلى التناقض، ولكن أرسطو استطاع كذلك دحض تجاربه هذه عن طريق تفسير الحركة بشكل رياضي تم تحويله لاحقاً إلى ما يُعرف الآن بالتحليل الرياضي وعلم النهايات الذي اشتهر فيه نيوتن ولايبنتز، والذي أدى على الحقيقة إلى النهضة العلمية الحديثة في الفيزياء والرياضيات والتكنولوجيا كما نوّهنا أعلاه.

على الرغم من هذا النجاح الظاهري الباهر، كما أشرنا أعلاه، إلا أن هذه النظريات تصادمت بشكل حادّ في أهم المسائل الدقيقة، بدايةً من القانون الثاني للحرارة الحركية، والذي يُشير إلى ضرورة وجود اتجاه واحد للزمن، ونهايةً بمشكلة الثابت الكوني الذي تم قياسه منذ عدة سنوات ووُجد أنه يختلف بشكل كبير جداً عمّا تتنبأ به النظرية الكمية، إضافة إلى أن النظرية النسبية لا تزال عاجزة تماماً عن إيجاد حل للجازبية الكمية. وهناك مشاكل أخرى كثير لا يسع المجال لذكرها هنا.

لقد أشرنا أعلاه إلى أنّ السبب الرئيسي وراء هذا الخلاف هو أنّ النسبية تعتمد على اعتبار الزمان والمكان كمية متصلة، بينما نظرية الكم تعتمد إلى حدٍّ ما على الكميات المنفصلة، وهذان الاتجاهان متناقضان في الأساس ولا يمكن أن يكونا صحيحان بنفس الوقت، بينما لم يتمكن أحدهما لوحده من تفسير جميع الظواهر، فنجح أحدهما في الحالات التي فشل فيها الآخر.

من أجل ذلك لا يمكن أن تكون الحقيقة معتمدة على أحدهما دون الآخر، وبما أنه ل يمكن أن يكونا صحيحان معاً، إذن لابدَّ أن يكون هناك مبدأ ثالث مختلف عنهما وأعمق منهما، ثم يكونا حالتان خاصتان فيه. إنَّ وحدة الوجود هي الوحيدة التي يمكنها أن تحقق ذلك، وذلك لأنَّ الوحدة المطلقة أمرٌ مجرَّد وراء الطبيعة، أي: ميتافيزيقي، ومنه يمكن أن تصدر الطبيعة، أي الفيزياء، عن طريق التكاثر مع مرور الزمن.

لقد بسَّطنا المسألة هنا، ولكنها في الحقيقة على غاية كبيرة من التعقيد، وقد ضلَّ فيها الكثير من الفلاسفة عبر التاريخ، وهي التي أدّت إلى نظرية الفيض عند أفلاطون وأتباعه، لأنّ الواحد -على رأيهم- لا يصدر عنه إلا واحد، فأدّى ذلك إلى القول بالثالوث، فإذا صدرت الكثرة عن الواحد يجب أن يكون هذا الواحد مركَّباً في نفسه حتى تقابل جهاته هذه الكثرة.

لقد وجدنا أنَّ الحل الوحيد للخروج من هذا المأزق هو أن تصدر الكثرة بشكل متتالٍ، فلا يصدر في الوقت الواحد إلا واحد. هذا يعني أنَّ ما نراه في الوجود عندم نفتح أعيننا، كلَّ ذرة من ذرّات الوجود، ونقصد بالذرات هنا الجواهر الميتافيزيقية، أي النقاط الهندسية المجرّدة عن الأبعاد، كلُّ ذلك لابدَّ أن يصدر تباعاً، واحداً تلو الآخر!

الحقيقة أنني وأنا أتحدَّث عن ذلك لا أستطيع أن أتخيَّله، على الرغم من عملي عليه أكثر من عقدين، لكنَّ المفاجأة كانت عظيمة عندما حوّلتُ ذلك إلى حسابات وعلاقات رياضية، ليست معقدة كثيراً مثل تعقيد النظريات الفيزيائية نفسها، فكانت المفاجأة أنَّ جميع المشكلات التي أشرنا إليها أعلاه تساقطت أمام هذه الفكرة البسيطة.

سرعة الضوء كثابت كوني:

تعتمد النظرية النسبية في أساسها إلى أنّ سرعة الضوء ثابتة في جميع الاتجاهات ولا يمكن لأيِّ شيء في الطبيعة أن يتجاوز هذه السرعة الكونية، وهو الأمر الذي أثبتته التجربة الشهيرة التي قام بها مايكلسون ومورلي سنة 1887، ولكن لا أحد يستطيع حتى الآن تفسير ذلك، فهو أمر مثبت بالتجربة ولكن ليس له تفسير علمي، حتى الآن. وهن نجد أنّه حتى القارئ العادي غير المختص يستطيع أن يُدرك ببساطة أن فكرة الخلق المتسلسل التي ذكرناها للتوّ يمكنها تفسير سبب وجود هذا الحد الأعلى للسرعة، إذ ل يمكن لجزءٍ من أجزاءِ الوجود أن يتحرَّك بسرعة تفوق سرعة إيجاده. كذلك نجد بسهولة أنَّ هذه الفكرة تتضمَّن تلقائياً وجود اتجاه واحد للزمن، كما تنبّأ بذلك القانون الثاني للحرارة منذ حوالي قرنين من الزمان، وذلك بخلاف القوانين الأخرى التي تعتمد على انحفاظ الطاقة التي تسمح بوجود اتجاه سلبي للزمن.

مثال: مشكلة تكافؤ الكتلة والطاقة:

لقد أدَّى تطبيق نظرية الخلق المتسلسل (أو ازواجية الزمان؛ أي أن المكان نفسه بما يحويه من مادة يتم خلقه بشكل متسلسل في الزمان الداخلي، ثم يتطور في الزمان الخارجي المشهود) إلى حلّ جميع المشكلات الأساسية التي تواجهها نظريات الفيزياء الكمية والنسبية، بما في ذلك استنتاج العلاقة الشهيرة التي تصف التكافؤ بين الطاقة والكتلة، والتي تنسب إلى آينشتاين (E=mc2).

يرجع تاريخ هذه العلاقة الشهيرة إلى لايبنتز الذي وجد أنَّ الطاقة النشطة التي يحويها الوسط تنتاسب مع مجموع كتلات أجزائه ومربع سرعة كلٍّ منها. ولقد ساهم الكثير من العلماء عبر التاريخ (مثل نيوتن وبوانكاريه ودوبيرتو وآينشتاين) في توضيح هذه العلاقة، ولكن لم يستطع أحدٌ أن يستنتجها بشكل رياضي مباشر، لأنها تبدو في ظاهره متناقضة مع القوانين الفيزيائية، حيث تستدعي حركة بلا زمن. عندما تقدم آينشتاين بالنظرية النسبية وجد أنَّ هذه العلاقة تؤدي إلى أنَّ الكتلة يجب أن تتزايد مع تزايد السرعة عندما نقترب من السرعات الكبيرة، وبالتالي هي تشبه في سلوكها السلوك النسبي للزمن والمسافة، فقام آينشتاين بمحاولة استنتاج هذه العلاقة سنة 1905 عن طريق إجراء تجربة افتراضية، ولكن تبيَّن فيما بعد أنَّ هذا الاستنتاج لم يكن صحيحاً أبداً، وهو في أفضل الأحوال استنتاج تقريبي. وبعد بضعة عقود أصبحت هذه العلاقة من أهم العلاقات التي تنظِّم استخراج الطاقة النووية، وأصبحت تسمى بعلاقة آينشتاين مع أنه توفي سنة 1955 ولم يستطع أبداً أن يتوصل إلى طريقة استنتاجها، وكذلك فشل الكثير من العلماء غيره في إيجاد أي إثبات رياضي مباشر لهذه العلاقة حتى الآن [American Journal of Physics, 79 (6): 591ï؟½600]، حيث إنَّ المشكلة كانت دائماً أنّ تحول الكتلة إلى طاقة لابدَّ أن يحدث بشكل آني، أي أنَّ الزمن يكون صفراً، وهو الأمر الذي يؤدي إلى تناقض مباشر لأنه لا يمكن أن يتحرَّك شيء دون زمن.

ومن هنا فإنَّ ازدواجية الزمان قد حلَّت هذه المشكلة بشكل بسيط جداً، لأنّه تعني أنَّه في كلِّ لحظة من الزمن الخارجي هناك مستوى آخر من الزمن يتم فيه تشكيل المكان والكون بشكل متسلسل كما أسلفنا، وهو ما عبَّر عنه الشيخ محي الدين بقوله أنَّ الزمان هو مكان متجمِّد والمكان هو زمان سائل.

والشكل التالي يوضح استنتاج معادلة التكافؤ بين الطاقة والكتلة من نفس المعادلات التقليدية التي تُستخدم عادة لاستنتاج الطاقة الحركية، ولكن في الحالات العادية عندما يحصل التغير في السرعة في الزمن الخارجي نحصل على معادلة الطاقة الحركية العادية، وهي التي تتضمن النصف الذي ينتج من التكامل عبر الزمن، وأما في الحالة الثانية عندما يكون التغير في الزمن الداخلي فيحصل التغير بشكل آني في الزمن الخارجي، وبما أنّ الوجود في الزمن الداخلي هو وجود ميتافيزيقي فليست هناك مشكلة في الحركة الآنية لأنّ كلَّ جزء من مكوناته ليس له كتله، والكتلة تتكون من ترابط هذه الأجزاء الذي يظهر فقط على المستوى الخارجي للزمن.

وبهذا الشكل ستكون النظرية النسبية مكتملة لأنها تعتمد الآن على الطبيعية الكمية للزمان والمكان، مما يعني توحُّد النظرية النسبية مع النظرية الكمِّية. ويمكننا أن نجد بمزيد من التحليل أنَّ هذا التوحُّد يمكن أن يحل الكثير من المشاكل العالقة في نظريات الفيزياء والكون، ولكن لا يسع المجال هنا لذكر المزيد من التفصيل.