موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب بلغة الغواص في الأكوان إلى معدن الإخلاص في الإنسان

ينسب خطأً للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى، وصلواته وسلامه على سيدنا محمد وآله وصحبه.

 سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك، لا أحصى ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، فاشكر نفسك عني كما أنت أهله، ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال: 10]، ﴿إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ [المائدة: 118].

السلام عليكم، إخواني الملازمين لعهدي، وأولادي الأعزة علىّ وعندي، الذين منحهم الله له فيه خالص ودّي بحب الله، قدس الله أرواحكم، وطهر أشباحكم، وجعل له فيه إليه، غدوكم ورواحكم.

اعلموا أني إنما أردتكم لكم، لا لي، فلأجل ذلك لم أشغلكم بعلم الأقوال الحاصل لا بالأحوال؛ إذ لا يكاد ينجو منه أحد في هذا الزمان خصوصًا، لا تنحل به الأغلال، ولا تنفك به الأنكال، وصحبته مقصورة على مدة الإمهال، وربما ازداد متعلموه به اليوم شغلاً بالعلائق والآمال، بحكم العادة في الوقت وأهله، لا بحكم العلم وأصله، كل ذلك مني رغبة لكم بالعلم الذي لا يُتعلم من الطروس، ولا يُتلقن باللفظ المحسوس، الذي يصحب العالم في حياته وبعد وفاته، كما أشار إليه التنزيل بقوله سبحانه: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: 282]، وقوله سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت: 69]، وقوله: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾ [محمد: 17]، وقوله: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا﴾ [الطلاق: 2]، أي: من كل هم ومكروه في الدارين، ﴿وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [الطلاق: 3]، يريد في العالمين، فالرزق المحسوس للجسوم، والرزق المعنوي للأرواح العلوم، فهذا العلم طريق تعلمه التقوى، التي هي وصية الله لنا، ولمن قبلنا، كما قال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾ [النساء: 131].

جاء في التوراة: «يا بني إسرائيل لا تقولوا العلم في السماء من ينزل به، ولا في تخوم الأرض من يصعد به، ولا من وراء البحار، من يأتي به، العلم مجعول في قلوبكم، تأدبوا إليَّ بآداب الروحانيين، وتخلقوا بأخلاق النبيين، أظهر العلم  من قلوبكم حتى يغطيكم ويغمركم»، وفيها: «ابن آدم صمتك عن الباطل صوم، وكفك عن الشر صدقة، ويأسك من الخلق صلاة، وردك هوى نفسك جهاد، وحفظك لجوارحك عبادة».

ومصداق ذلك من التنزيل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ﴾ [المنافقون: 9]، وقوله تعالى: ﴿المَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾ [الكهف: 46]، وقوله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي﴾ [طه: 14]، وما ينحو منحى ذلك.ومن السنة قوله ﷺ: «إنما شعرت المشاعر وجُعلت المناسك لإقامة ذكر الله»، فذكر الله المشار إليه: الحضور الذي هو ضد الغفلة، لا ذكر اللسان؛ فهو ثمرة كل القلب، وبه تطمئن القلوب، وإذا اطمأنت القلوب؛ خوطبت بالرضى، وهو المطلوب ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً﴾ [الفجر: 28،27]، ﴿رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾ [البينة: 8]، فلأجل ذلك جعلت الإقبال عليكم غالب شُغلي، وآثرتكم بذلك على نفسي وأهلي، رجاء أن يكون أكثركم بمشيئة الله محط ناقتي ورحلي، لا لأجلكم ولا لأجلي، بل لما اقتضته أخوة الإيمان، والأسوة بالرسول الصادق خليل الله الرحمن، وإنسان الإنسان، الحبيب الذي كان خلقه القرآن، الموصوف في الكتاب الكريم بـ ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [التوبة: 128].

فَكانَ ما كانَ مِمّا لَستُ أَذكُرُهُ

 

فَظُنَّ خَيرًا وَلا تَسأَل عَنِ الخَبَرِ

 وإن كثيرًا منكم لو أمده الله  (سبحانه وتعالى)  بالهداية للتسليم بلا تمييز، واحتمل المشقة في سجن إمرأة العزيز؛ لجاءه أمر الله بصدقها وإسلامها، وجاءت أباه الريح بأعلامها، وألقى البشير القميص على وجهه فارتد بصيرًا، بعد أن يصبح على مصره وأهله أميرًا، وقد كان أولًا أسيرًا، ولكن قَلَّ من لا يُطالِب أولًا بالدليل والعلامة، ومن يصبر على السير في ظلمات الإمامة، التي هي أنوار القيامة، وقال  (سبحانه وتعالى)  : «بَشِّرِ الْمَشَّائِينَ إِلَى الْمَسَاجِدِ فِي الظُّلَمِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»؛ فإن الصديقية النفيسة شأنها خطير، ومرتقاها عسير، قال  (سبحانه وتعالى) : «ما فضلكم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة ولكنه [بشيء] وقر في صدره» فالصديق من صدق لا بالمعجزة ولا بالبرهان، ومن كان تصديقه بالدليل، فهو مسلم ليس من أهل الإيمان ﴿قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾ [الحجرات: 14]، فهو سالك بنفسه لا بمصحوبه، وتابع لعلمه لا لمطلوبه، ولذلك قالت الطائفة y: من قال لأستاذه: لِمَ ؟ لا يفلح أبدًا؛ لأنه لم يخرج عن علمه، ولم يسر إلا على رسمه؛ ومن قال لمصحوبه : إلى أين ؟ حُرِِمَت صُحبته، والحرام هو الممنوع، أي انقطعت؛ إذ هو لا يمشي إلا بكشف الغطاء، ومن كان كذلك فهو قصير الخطأ، يحتاج لكل نفس علاجًا مستجدًا، وإظهار العلامة، كما قال ﷺ: «أَطْوَلَكُمْ شِبَعًا فِي الدُّنْيَا؛ أَطْوَلُكُمْ جُوعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، وذلك لأنه لم يبلغ رتبة الإيمان، ولا حصل على مشاهدة العيان، بل أبدًا يطالب بالدليل والبرهان، ولو سلك مؤمنًا لتحقق بإيمانه في مقام الإحسان، فجمع الله له بين الهجرة والنُصرة.

قالت أم أنس : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي. قَالَ: «اهْجُرِي الْمَعَاصِيَ فَإِنَّهَا أَفْضَلُ الْهِجْرَةِ، وَحَافِظِي عَلَى الْفَرَائِضِ فَإِنَّهَا أَفْضَلُ الْجِهَادِ، وَأَكْثِرِي مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، فَإِنَّكِ لا تَأْتِي اللَّهَ بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ كَثْرَة ذِكْرِهِ».

وقال سبحانه: ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ﴾ [محمد: 7]، وقال : ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾ [الصف: 4]، وليس كذلك أهل الإسلام بالدلائل والبرهان، فإنهم لم يحصلوا على الإيمان بالغيب ولا على الهجرة، لأنهم قد شهدوا بوجوب الفرار إلى الله تعالى؛ فإن فعلوه نجوا بلا ريب، وإلا فَيُخْشَى أن يحق عليهم القول والعياذ بالله.

قال ﷺ: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ »، وقال سبحانه : ﴿لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًا وَعَدَ اللَّهُ الحُسْنَى﴾ [الحديد: 10]، وليس بعد المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، غير الذين خلطوا عملاً صالحًا وآخر سيئًا من أهل الإيمان؛ إلا أهل الضلال والخسران، أو أهل المضادة والكفران، أو السابقين لهم بإحسان، أولي الأيدي والأبصار، وهم قسمان: أحدهما: الأنبياء والرسل عليهم أفضل الصلاة وأتم السلام، وقد انسد ذلك الباب بلبنة التمام، عليه أتم الصلاة والسلام، والثاني: رجال الله الغرباء الجهنميون؛ عتقاؤه من النار، الذين يستضيء بنورهم أهل الغرفات في الجنات، يَعرِفون فَيَكْشفون ولا يُكْشَفون، أولئك قوم اعتنى الله بهم في الأزل؛ فأعطاهم معرفته قبل السلوك، وهم في بحور الجهالة على سفن البطالة، ثم هداهم إليه به، فساروا منه به، معه إليه، عنه عليه، له فيه، على بصيرة، على غير سيرة أكثر الخلق  ولا غيرية، إذ ليسوا بموقوفين على غير، فلا يرقى إليهم الضير و[لا ينوأ] منهم الخير، قد برؤا إلى الله سبحانه من كل صاحب غيره ولغيره، وتحصنوا به من نفعه وغيره، وغابوا به عما سواه، فهم متصورون بكل صورة، ومتسورون على كل سورة، وليس بكامل من لم يجتمع فيه؛ ما تفرق في الكُمل قبله ولا قبلينه، ولا يكمل بالله لله من يرى التكميل فعله، وبالجملة، فما ظنك بسالك بدايته المعرفة التي هي نهاية السالكين، وزبدة ثمرة نُسك الناسكين.

فلا جرم استخرتُ الله سبحانه في حثكم على التعلم والتعليم، رجاء أن يعود عليكم بركة العلم النافع بمشيئة الله تعالى، وأتحفتكم بهذه الهدية الملقبة في غيوب الأزل، بأمر من لم يزل، بـ «بلغة الغواص في الأكوان إلى معدن الإخلاص في معرفة الإنسان», و«التنبيه على القيامة التي هي النبوة والخلافة والإمامة»، و«التلويح بالختم الذي جاء به التصريح والكتم» لقوله عليه الصلاة والسلام: «ما أهدى المسلم لأخيه المسلم هدية أحسن من كلمة حكمة، سمعها فوعاها، وازداد بها هدى»، فليتأملها الواقف منكم عليها بلُبه، وليُقبل عليها بقلبه، فإنها لم تأته إلا غيرة منه له عليه، رحمانية إنسانية إحسانية، بلا أنا، ولا لي، ولا مني، ولا بي، بريئة من شوائب الأغراض النفسانية إن شاء الله، وهو حسبي ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير.

وقد اجتهدتُ في تسهيل العبارة، وطولت تقريبًا، وبالغت بالتصريح في [معاني] الإشارة ترغيبًا، رجاءً ينال المستحق بغيته، ويبلغ ضعيف الذهن أمنيته، إذ قد أُمِرنا بالسير على سير أضعفنا، وعلى الله قصد السبيل.

فأنت يا ذا الفصاحة إن كنت ذائقًا؛ تعلم من حيث شهودك ماذا تريد، وتفهم ما رمزناه لك فيما لذِي الإيمان قربناه وسهلناه، على من لم [يعثر] على غرائب الألفاظ، فعبر لنفسك حسب ما يوافقها، وإن كنت غير ذائق فحسبك المعنى، اشتغل به، ودع غيرك يرتزق معك من فتح الله سبحانه، وتزود في سفرك ما يَسره الله سبحانه لك، [واستطبته] من الإيمان، وحذف الإنكار والتسليم، لما تسمعه، والإصغاء بسمعك إلى ما يقرعه، مكسوًا بصفاء إيمانك؛ تجد شفاؤك، إن شاء الله تعالى.

وأنت يا ذا التردد، كرر قراءتها، واجتهد في تحسين الظن بالله سبحانه، والالتجاء إليه في أن يهديك؛ لما يعلم لك الخيرة فيه في دينك، وأكثر من التضرع إلى الله سبحانه، وعول بكليتك عليه، فإنك إن صَدَقْتَ بَلّغَك الله سبحانه ذلك.

وأنت يا ذا العناد والمكابرة، والمضادة والمفاخرة؛ فارفضها ليس الكلام معك، ﴿مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ المُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًا مُّرْشِدًا﴾ [الكهف: 17]، و﴿مَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا﴾ [الأنعام: 125]، واعلم أنك عندي معذور؛ فإن الكليم الذي هو أكمل رُسِل وقته، التمس من الله سبحانه أن يجعل له إلى الخضر سبيلاً، بعد أن شهد الله له أنه آتاه علمًا من لدنه، ليس من علم موسى، ثم اشترط عليه الخضر ألا يسأله عن شيء؛ حتى يُحدث له منه ذكرًا، بعد أن أخبره أنه لا يستطيع معه صبرًا، والله سبحانه لسان الجميع لا محالة، ثم لم يستطع موسى صبرًا حين رأى ما يخالف شريعته، وعلمه الذي قد تغذى به من الحق، ومعرفته بالحق؛ فعاتبه حالتئذ، وكان من أمرهما ما أخبر الله. فكيف بك يا ذا الظن والتخمين؛ تسمع كلامًا مما هو في ظنك مثلك، إن لم يكن دونك في فهمك، لم يأتك بعصمته كتاب ولا سنة، ولا له عندك يد ولا له عليك منة، فلست بمعول على إنكارك ولا إقرارك، علمًا بأن الفساد في القوابل المحتجبة بسوء أفهامها؛ فإنه لم يتبع الرسل إلا من كان منهم، ﴿وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ﴾ [هود: 36]، هذا التنزيل العزيز الذي ﴿لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت: 42]، ضَلَّ به كثير، واهتدى به كثير، مع أنه لا ريب فيه، وإنما الريب في أفهامهم منه، فإن كنتم في ريب مما نزلناه على عبدنا، فحجبتهم أفهامهم، كما ترى المطر ينزل من السماء عامًا فيصيبه عامًا؛ إلا من احتجب بكنّ أو حائل، ولست بمتكلف عجرفة؛ فإن ذلك مذموم شرعًا، قال ﷺ: «أَنَا والأَتْقِيَاء مِنَ َأُمَّتِي بُرَآءُ مِنْ التَّكَلُّفِ»، ولا ما لا تدعو الحاجة إليه من الملاطفة، أقبل  (سبحانه وتعالى)  على كبراء المشركين استجلابًا لقلوبهم إلى دين الله؛ فعوتب بقول الله سبحانه: ﴿أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى﴾ [عبس: 5]، وقال  (سبحانه وتعالى) : «أدبني ربي فأحسن تأديبي». فالرسل مبشرون ومنذرون، والورثة مبصرون ومخبرون، والله سبحانه المضل الهادي، قال سبحانه : ﴿وَمَا نُرْسِلُ المُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ﴾ [الأنعام: 48]، ﴿وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ﴾ [البقرة: 213]، ولا شك أنه سبحانه ما يشاء إلا ما علم من أحوالهم واستعدادهم، عَلِم ذلك مَنْ عَلِمه، وجَهِله مَنْ جَهِله، إيه لا يُشَك أنه قد ضعفت أفهام العامة اليوم؛ حتى صار من ينتمي إلى الخاصة، يطلق على ما يفهمه من حقائق التنزيل أنه رمز؛ فأطلقناه اعتبارًا لعُرفهم، تأديبًا إلهيًا؛ إذ قد اعتبر سبحانه عُرف المخاطبين في خطابهم إياه في غير ما موضع، وليس ذلك رمزًا في حقيقة الأمر، وهيهات: فإن الرسل عليهم الصلاة والسلام لم يدعوا شيئًا يُقرب الخلق إلى بارئهم إلا ذكروه لهم، ولو كان الأمر على ما زعم هؤلاء؛ لكان فيه تكليف ما لا يُطاق، بيد أن الأهواء افترقت بعد الرسل، فذهبت الفهوم نحو مذاهب الأهواء؛ لأن الشياطين تكون بوجودهم مغلولة كما بينته لك إن فهمت. فلما تكلم الصحابة y بما سمعوه وفهموه، ووعوه وشهدوه، وعلموه، فَهِمَ عنهم كلٌ بقدر وسعه، وأخذ كلٌ يتصرف فيما فَهِم بعقله، ويُخبر بمفهومه، وربما تصرف في عبارة الراوي وغيرها، وربما ساق ما فَهِم بغير عبارة الراوي، فجاء بمفهومه المخالف للراوي، وهو يرى أنه مراد الراوي، فلم يكد يفهم الآن من الكتاب والسنة لذلك؛ إلا ما يسبق إلى الأفهام الضعيفة، ولأجل ذلك امتنع أكثر الصحابة عن إظهار ما سمعوه ووعوه، وما علموه وشهدوه، وفهموه إلا على قدر ما يَصلح بحال السامع لقوله ﷺ: «لا تعطوا الحكمة غير أهلها فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم»، حتى قال أبو هريرة  (رضي الله عنه)  : لو بثثت فيكم ما أعلمه لقطع مني هذا البلعوم.

وقال ابن عباس – رضى الله عنهما – في قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ﴾ [الطلاق: 12]: لو ذكرت تفسيره لرجمتموني بالحجارة.

وقال أمير المؤمنين على بن أبي طالب  (رضي الله عنه)  وقد أومى إلى صدره: (هاه كم هنا علوم، لو وجدت لها حملة)، وفي رواية:إن هاهنا لعلمًا جمًا، لو أصبت له حملة، بلى قد أصبتُ [لَقِنًا] غير مأمون عليه, مستعملًا آلة الدين للدنيا, مستظهرًا بنعم الله على عباده, بحججه على أوليائه, أو مِنْقَادًا لحملة الحق، لا بصيرة له في [بجنانه] ، بل يقدح الشك في قلبه لأول عارض من شُبهة، لا أحب ذا ولا ذاك، أو منهومًا باللذة، سلس [الانقياد] بالشهوة، أو مغرمًا بالجمع والادخار، ليسوا من دعاة الدين في شيء، أقرب شبهًا بالأنعام السائمة، كذلك يموت العلم بموت حامليه، اللهم بل لا تخلو الأرض من قائم لله بحجته؛ إما ظاهرًا مشهورًا، وإما خافيًا مغمورًا، لئلا تبطل حجج الله وبيناته، فأين أولئك؟ أولئك الأقلون عددًا، الأجلون عند الله قدرًا، بهم يحفظ الله حججه وبيناته؛ حتى يودعوها في نظائرهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم عليم العلم على حقيقة البصيرة، فباشروا روح اليقين، واستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدنيا بأبدان؛ أرواحها معلقة بالمحل الأعلى، أولئك خلفاء الله في أرضه، والدعاة إلى دينه، آه آه شوقًا إلى رؤيتهم). ومثل ذلك اشتهر عن على بن الحسين  (رضي الله عنه) :

إِنّي لَأَكتُم مِن عِلمي جَواهِرَهُ      
وَقَد تَقَدَّمَ في هَذا أَبو حَسَنٍ      
يا رُبَّ جَوهَرِ عِلمٍ لَو أَبوحُ بِهِ      
وَلَاِسَتَحَلَّ رِجالٌ مُسلِمونَ دَمي      

 

كي لا يَرى العِلمُ ذي جَهلٍ فَيَفتَتِنا
إِلى الحُسَينِ وَوَصّى قَلبَهُ الحَسنا
لِقيلَ لي أَنتَ مِمَّن يَعبدُ الوَثَنا
يَرَونَ أَقبَحَ ما يَأتونَهُ حَسَنا

هذا في زمانهم، فما ظنك في هذا العصر الذي لم يكد يبق فيه من الدين إلا رسمه، ولا من العلم [إلا] اسمه، فإذا كان أولئك الذين اهتدى بهم من اهتدى، وضلَّ بهم من ضلَّ، فمن أين يبقى أحد يفهم التنزيل العزيز والسنة؛ إلا بتأييد إلهي، واختصاص رباني، فانظر بإنصاف هداك الله فيما ذكرته لك، لعلك تستعين به إن شاء الله على التوقف عن الإنكار، وإقامة عذر المنكر فيما لم يفهمه إن فهمت، وعلى الله قصد السبيل



  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!