موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب بلغة الغواص في الأكوان إلى معدن الإخلاص في الإنسان

ينسب خطأً للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


فصل

اعلم أن الله سبحانه بلطيف حكمته، أوجد الوجود رتقًا ثم فتقه، كما قال سبحانه :﴿أو لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ [الأنبياء: 30]  فالرتق اتحاد الشيء وانجماعه، والفتق: هو افتراقه وامتيازه، فحالة الرتق؛ هي كون العالم بأسره عقلاً محضًا، وحالة الفتق؛ هي امتيازه عوالم، كما جاءت الأخبار الصحيحة حيث أخبر ﷺ: «إن أول ما خلق الله عز وجل درة بيضاء .... الحديث»، فتلك الدرة هي العقل الذي أخبر به ﷺ: «أول ما خلق الله العقل»، وذلك العقل هو نور رسول الله ﷺ الذي أُخبر عنه فيما رواه جابر  (رضي الله عنه)  قال: سألت رسول الله ﷺ عن أول شيء خلقه الله تعالى فقال: «هو نور نبيك يا جابر خلقه الله تعالى، ثم خلق فيه كل خير، وخلق بعده كل شيء، وحين خلقه أقامه قدامه في مقام القرب اثنى عشر ألف سنة، ثم جعله أربعة أقسام، فخلق العرش من قسم، والكرسي من قسم، وحملة العرش وخزنة الكرسى من قسم، وأقام القسم الرابع في مقام الحب اثنى عشر ألف سنة، ثم جعله أربعة أقسام، فخلق القلم من قسم، واللوح من قسم، والجنة من قسم، وأقام القسم الرابع في مقام الخوف اثنى عشر ألف سنة، ثم جعله أربعة أجزاء، فخلق الملائكة من جزء، وخلق الشمس من جزء، وخلق القمر والكواكب من جزء، وأقام الجزء الرابع في مقام الرجاء اثنى عشر ألف سنة، ثم جعله أربعة أجزاء، فخلق العقل من جزء، والعلم والحلم من جزء، والعصمة والتوفيق من جزء، وأقام الجزء الرابع في مقام الحياء اثنى عشر ألف سنة، ثم نظر الله  (سبحانه وتعالى)  إليه؛ فترشح النور عرقًا، فقطرت منه مائة ألف وعشرون ألف وأربعة ألاف قطرة من النور، فخلق الله سبحانه من كل قطرة روح نبي أو رسول، ثم تنفست أرواح الأنبياء، فخلق الله من أنفاسهم الأولياء، والشهداء، والصلحاء، والسعداء، والمطيعين إلى يوم القيامة، فالعرش والكرسي من نوري، والكروبيون من نوري، والروحانيون من الملائكة من نوري، والجنة وما فيها من النعيم من نوري، وملائكة السماوات السبع من نوري، والشمس والقمر والكواكب من نوري، والعقل من نوري، والعلم والحلم من نوري، والعصمة والتوفيق من نوري، وأرواح الرسل والأنبياء من نوري، والشهداء والسعداء والصالحون من نتائج نوري، ثم خلق الله اثنى عشر ألف حجاب، فأقام الله من نوري، وهو الجزء الرابع في كل حجاب ألف سنة، وهي مقامات العبودية والسكينة [والهيبة] والصدق واليقين، فغمر الله ذلك النور في كل حجاب ألف سنة، فلما خرج النور من الحجب زكاه الله في الأرض، فكان يضيء منها ما بين المشرق والمغرب كالسراج في الليل المظلم، ثم خلق الله آدم من الأرض فركب فيه من النور في جبينه، ثم انتقل منه إلى شيث، وكان ينتقل من طاهر إلى طيب، ومن طيب إلى طاهر إلى أن أوصله الله إلى صلب عبد الله بن عبد المطلب، ومنه إلى رحم أمي آمنة، ثم أخرجني إلى الدنيا، فجعلني سيد المرسلين، وخاتم النبيين، ورحمة للعالمين، وقائد الغر المحجلين، هكذا كان بدء خلق نبيك يا جابر» فقد تبين لك بهذا الحديث أنه ﷺ كل العالم وأن كل جزء من العالم مظهر له من حيث اتحاده، وجزء منه بعضه وغيره من حيث امتيازه وانفراده، ونوره الذي هو العقل أصل العالم كما [مر] فإنه قد اندرجت السماوات والأرض والجنة والنار في هذا الحديث، إذ قد ذكر العرش والكرسي، ولا تستبعد ذلك لأجل ما دخل في ضمن ذلك من الأشياء السخيفة عندك كالنار والفجار والكفار، فإنك تعلم أن آدم مجموع البشر، بَرُهم وفَاجرهم، مؤمنهم وكافرهم، من حيث هم أجزاؤه، ورفيعهم ووضيعهم، وذكرهم وأنثاهم، وإنه من حيث شبحه بعد امتياز الذريه عنه بعضه، وإنما بقي الاسم عليه لبقاء الصورة على حالها الظاهر بعد افتراقهم عنها، وأنهم أجزاؤه وأبعاضه، وأغياره وليسوا بأغياره، وهو وليسوا بهو، ثم شرف كل شريف منهم شرف له، فهو في صورة أشرف منه في صورة أخرى كالرسل والأنبياء، فظهر لك بهذا أن الإنسان الصغير الذي هو آدم وذريته ثمرة العالم إذ بذره العقل، فهو عقل، إذ الثمرة هي البذر المتضمن للشجرة، والثمرة فشجرته أجزاء العالم بعد امتيازهم عنه من حيث الأشباح، ولذلك استجدوا أسماءًا أخر، وإنه أشرف من غيره ممن امتاز عنه من ذريته، فنزل عن صفته فلم يعد إليها لا ممن بقي على صفته إن كان، أو ممن نزل عنها فارتفع عليها، كما قيل في مدح سيدنا محمد ﷺ:

تخيَّرك اللهُ من آدمِ

 

فلا زلتَ مُنحدرًا ترتقي

وأن شرف كل شريف منهم شرف له، فهو في صورة أشرف منه في صورة أخرى كالرسل والأنبياء بالنسبة إلى الأولياء، والأولياء بالنسبة إلى من سوى الرسل والأنبياء، فإن كل واحد منهم هو مظهر لآدم هو جزءه وعينه من حيث الاتحاد، وبعضه وغيره من حيث الامتياز عن المجموع، فكذلك محمد ﷺ مجموع العالم من حيث أن العالم أجزاؤه، وهو مفترق ما بين حجاب ومحجوب، وفاضل ومفضول لما نذكره بعده، وهو بعض العالم من حيث امتيازه بصورته المحمدية، وأجزاء العالم أبعاضه وأغياره، وهو وليست هو، وهو في بعض العالم أشرف منه في بعض، فشرف كل شريف شرف له، وهو مبتدأ من حيث روحانيته التي هي العقل المحض الأول المعبر عنه بالقلم الأعلى في الحديث الآخر حيث قال  (سبحانه وتعالى) : «إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ» أشرف من غيره بما امتاز عنه فلم يبلغ درجته ولم يبق على وصفه. فصل: استبان لك أن الإنسان الصغير الذي هو آدم وذريته ثمرة العالم إذ بذره العقل فهو عقل إذ الثمرة هي البذر المتضمن للشجرة والثمرة، فشجرته أجزاء العالم، شهد بذلك الذوق والشهود والكتاب والسنة، فأما الذوق والشهود فموقوف على أهله، وأما السنة فما ذكرت لك آنفًا، وأما الكتاب فقوله سبحانه: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ [الجاثية: 13] وقوله: ﴿جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا[الأنعام: 97]، وقوله: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا﴾ [النبأ: 10،11]، إلى آي كثيرة تشهد بتصديق الحديث النبوي، وتصديق ما جاء في الإسرائليات «ابن آدم خلقت كل شيء لأجلك وخلقتك لأجلي»، فعدَّ تعالى أجزاء العالم، وأخبر أنها مجعولة للإنسان، ومن ذلك قوله سبحانه: ﴿خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطلاق: 12]، فلا جرم علمنا أن المخلوق من الأرض مثل السموات هو صورة الإنسان؛ لأنه لو كان المراد به الأرضين لم يقل من الأرض؛ لأن من للتبعيض، وصورته موازية للسموات التي هي صورة روحها العقل، وقوله: ﴿يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ﴾ هو أرواحهن، قال سبحانه: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ [الإسراء: 85] وعلمنا أن الإنسان عين العالم فإنه مخلوق منه، وإنما امتاز عنه بهذا التأليف المخصوص كامتياز كوز من جمد الماء مليء ماءً، عن الماء باليبوسة العارضة له، وهو عين الماء، ولذلك كان وجوده أيضًا رتقًا ثم فتق بتمييزه. ولهذا التأليف الذي امتاز به كان سر الوجود وختمه، إذ بدايته العقل، وأعني بالختم الصورة الآدمية ما بقيت، وكانت مرآة الوجود؛ فكان بذلك الإنسان عرش الله، أعني بالإنسان – هاهنا - الوجود المطلق من حيث اعتبار الصورة الإنسانية فيه والإنسان الكامل، وإلى هذا التأليف ولأجله سجدت الأكوان للمتجلى؛ فإنه لو لم يوجد على هذه الصورة لم تتسع الأكوان للتجلي، إذ هو الأمانة المعروضة على السموات والأرض، وهو سر الخلافة ولذلك قال سبحانه أنه خلق هذا الخلق على هذه الصفة؛ ليعلم أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علمًا ، فدل بإخباره أنه خلق هذا الوجود؛ ليُعْلِم به على كمال وجود القدرة، وسعة الإحاطة العلمية على مطابقته في الكمال والسعة، والارتباط والمقابلة، ولو لم يكن الإنسان عين العالم لما كان يدرك [هذا العلم بالعالم] ، ولذلك خصه الله سبحانه بالسعة حيث [أخبر أنه لم تسعه سمواته ولا أرضه ووسعه قلب المؤمن من نوع الإنسان] ولما كان الأمر كذلك قال سبحانه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]، فالكاف بهذا الاعتبار أصلية وليست زائدة، والمثل المشبه هو الكون الذي ظاهره السموات والأرض والعرش والكرسى, وباطنه العقل الأول, والمثل المنزه هو الكون الثانى المخلوق على الصورة التي هي الكون الأول المذكور آنفًا؛ فالمثل المنزه هو الإنسان, ولذلك عبر عن نفسه سبحانه فيه بـ «كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِه ِ..... الحديث» فخص في السمع لا على الأذن، وعلى البصر لا على العين، وفي بعض الروايات «وجنانه الذي يعقل به» إشارة إلى الباطن، ثم قال: «ولسانه الذي ينطق به وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا» إشارة إلى الظاهر، وعبر عن نفسه سبحانه في الكون الأول الذي هو المثل المشبه بـ «كنت كنزًا مخفيًا».فإن أنصفت فهمت أن الإنسان هو الكون بأسره من حيث هو ثمرته، وهو سره من حيث انفراده عنه لأنه مرآة تجلى الحق بالعالم بظهور أسمائه وصفاته، فقوله سبحانه: «كنت كنزًا» يشير من حيث الجملة إلى الكون المطلق قبل وجود آدم فيه، ومن حيث الكون؛ أعني انفراده عن آدم إلى وجود بعض الكون دون بعض، إذ لا يتم التجلي التام الكامل بكل الأسماء جملة إلا بوجود آدم أعني نوع الإنسان؛ فإن ظهور الأسماء جملة تطلب ظهور آثارها جملة، وظهور آثارها جملة لا يتم ببعض الكوائن دون بعض؛ فإن الشيء حجاب لنفسه من حيث هي؛ هو كصداء المرآة يمنعها من تمام استجلائها نفسها فيها، أو كالمرآة نفسها لنفسها لا تتجلى لنفسها إلا على نوع من المقابلة التي هي [نوع] من البعد؛ فإن المرآة لو جعلها شخص على وجهه لم يتجل له بها وجهه تمامًا مع الملاصقة، فكذا رؤية الشيء نفسه بنفسه ليس كرؤيته نفسه بشيء آخر يكون غيره أو كأنه غيره من بعض الوجوه؛ فالكون بهذا الاعتبار مجردًا عن آدم، مرآة غير مجلوة وعدم جلائها هو احتجابها بذاتها فلا ترى نفسها إلا بعين الاتحاد لا بعين الامتياز فأوجد سبحانه آدم على صورة الكون غيبًا باطنًا وظاهرًا شهادة؛ فقابل بغيبه الغيب، وبشهادته الشهادة؛ ليتجلى فيه هذا التجلي بمجموع الأسماء؛ فلذلك قال «فبي عرفوني» فالياء ضمير الكون الأول، وليس الكون الأول غيرهم، إذ قد أخبر أنه ظاهرهم وباطنهم لا سيما وقد عم سبحانه في أول الحديث المروى عنه «لا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ» فعم باسم العبودية التي تشمل الكون الذي هو الخلق لقوله سبحانه: ﴿إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ [مريم: 93]، وقوله ﴿لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ﴾ [الأعراف: 206]، وقوله ﴿وَجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا [الزخرف: 19]، وقوله: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ [الإسراء: 44]؛ فلهذه الإحاطة قال: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: 11] ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ [الحديد: 4]، ﴿وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ﴾ [الأنعام: 3]، ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ﴾ [الواقعة: 85]، ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ﴾ [ق: 16]، فإن لم تكن ذائقًا فلا تحرم الإيمان، وإذا فهمت أن الإنسان الصغير من حيث هو ثمرة العالم الذي بذره العقل عقل مطوي مدسوس فيه عقول مقبوضة كما أشار إليه التنزيل بقوله:﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التين: 4]؛ فالإنسان هاهنا كل العالم الذي عبر عنه بالإنسان الكبير؛ فلذلك نقول: أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان من هذا العالم الذي هو الإنسان الذي العالم شجرته، والعقل الأول بذره وآدم وذريته ثمرته؛ فالذي هو في أحسن تقويم آدم من حيث هو كل العالم، والمردود أسفل سافلين الذرية التي غلبت عليها الشهوة، والمستثنى بـ ﴿إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [التين: 6] آدم من حيث صورته الإبداعية الأولى، ومن شاكله وقاربه وزاد عليه من ذريته، وكلا الذريتين عقول مقبوضة في آدم مطوية، بسطها الله سبحانه بالتنازل فآدم متضمن لجميع الذرية، تضمن النواة للنخل الكثير والتمر والنوى، لا يتناهى بحسب البسط والتربية، وما انبسط منها أيضًا متضمن لذلك، ثم فلاحه بعد البسط بتزكيته وخيبته بدسه كما قال سبحانه: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ [الشمس: 9،10] ولما كان الأمر كذلك تبين أن التزكية هي البلوغ إلى العقل والاتحاد به، إذ هذه النفوس البشرية عقول بالقوة مطوية حتى تخرج إلى الفعل وخروجها هو الأمانة التي حملها الإنسان؛ فإنها تسمى نفسًا من قبل ثم تصير عقلًا، وخروجها بالتزكية التي هي الطهارة، وتزكيتها وطهارتها بالأعمال الشرعية التي بها تستنير وتصفو وتشرق وتعود إلى أصلها، وتتحد بالعقل الأول وربما أنفت أن تكون كهو بعد تمام الدورة، ودورها كالنواة مثلًا فإنها نواة بالفعل، وبالقوة نوى كثير ونخل كثير وتمر كثير يتضمن أمثالًا له كثيرة؛ فإذا بسطتها التربية صار ما كان بالقوة مطويًا بارزًا بالفعل وذلك تمام الدورة؛ ولذلك علق الشرع التكليف بوقت حلول الشهوة لأنه زمان بروزه إلى الفعل من القوة حيث قد بلغ إلى الحالة التي تأتي منه مثله ودسه بملازمة الأفعال الشهوانية الحيوانية والمحارم الشرعية التي تزيدها كثافة وتعلقًا بالمحسوسات وغلظة؛ فتأتي في القيامة على ما وصفها الله ورسوله من الإجرام وعظم الخلق حتى يكون ضرس الكافر أكبر من أحد وليس كذلك العقول الذكية فإنها تأتي على ما وصفها الله في التنزيل. والرسل به من اللطافة في النشأة الآخرة بحيث يمكنه التشكل والتلبس بالصور من غير خلع في سوق الجنة على ما جاء الحديث به بحسب شهواتها وتختص بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؛ فالتزكية تردها إلى أصلها كما قال سبحانه: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ .....﴾ الآية [الفجر: 27،28]، والدس يُنَكسها إلى أسفل سافلين إلى الأجرام الكثيفة السفلية، مصداق ذلك قوله سبحانه: ﴿َاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ [النحل: 78]؛ فقد أفهمتك أن نطفة هذا النوع عقل مدسوس يتضمن عقولًا كما قلناه فهو يرتقي بالنمو، وينبت في البطن، ثم ينتقل إلى الحيوانية، ثم فيها يخرج من بطن أمه لا يعلم شيئًا كما قال سبحانه آنفًا حتى يبلغ أول المراتب الإنسانية، وهو زمان التكليف فنفسه حينئذٍ أمارة كنفس الطفل لا تترك شهواتها وإن عَلِمَت أنها تضرها، وبالتزكية تصير لوامة تلوم نفسها على تورطها في شهواتها، يجد الإنسان ذلك من نفسه من صغره إلى كبره؛ فإذا زكت وصفت اطمأنت إلى الله سبحانه فسُميت مطمئنة، وأهل هذا الوصف يتفاوتون فأعلى وأدنى؛ فاستبان لك أن حقيقة العالم في الأصل واحدة أولها العقل وآخرها الإنسان، وإن الإنسان إنسان، الإنسان قد جمع فيه أسرار العالم، إذ البذر هو متضمن الشجرة والثمرة، وإن بقاء العالم ببقائه، وإن معنى الخلافة فيه بمقابلة الإنسان الكامل الذي هو كل العالم بقوة مغناطيسيته صورة ومعنى، إذ قد جعل سبحانه بين قواه المزاجية وبين الأرواح العلية مناسبة يحصل بسببها انفعالات شبيهة بالاستحالات، من اللطافة إلى الكثافة، ومن الكثافة إلى اللطافة، كما يستحيل الماء هواء والهواء نارًا، والجسوم بالتحليل والتقطير ماء ويستحجر الماء فينعقد؛ فجعل الحق سبحانه اللطيف منه مقابلًا للطيف، والكثيف مقابلًا للكثيف، وجعله البداية والختم، ومحل الإفشاء والكتم، وجعل قوة باطنه سببًا لضعف ظاهره وبالعكس، وما يقربه من الباطن حياة وما يلحقه بالظاهر موتًا، فسُمي لذلك العلم حياة والجهل موتًا فقال: ﴿أو مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ [الأنعام: 122]، وقال في المشركين: ﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ [النحل: 21]، وجعل السعادة في استواء الظاهر والباطن؛ لأن بذلك انضباط العالم وبقاء استمداد بعضه من بعض، وإمداد بعضه بعضًا، إذ الأمر كما أفهمتك بطون من ظهور، وظهور من بطون إلى الوقت المعلوم.

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!