ثم اعلم أن معنى قول من قال: "إن الواحد لا يصدر منه إلا واحد"، فليس كما تخيله مخالفو أهل الحق، المطموسة بصائرهم عن الاستبصار بنور الشرع، والعقل السليم، حيث تحكموا في معرفة موجودات لا يصح إدراكها إلا بطريق الكشف، أو إخبار (النبيِّ) الصادق، عن الله، لا غير. لا بالفكر، كما زعموا فيما قالوه: إن الله واحد من كل وجه، أي: ليس له صفة البتة، فلا يصدر عنه إلا ما تعطيه الوحدانية، وهو واحد؛ ثم جعلوا ذلك الواحدَ معه أزلاً، ونفوا أن يكون الله خالقا له! ثم قالوا: وذلك الواحد الذي صدر عنه، هو ممكن، وهو ثلاثة باعتبارات مختلفة؛ وذلك أنه "عقل نفسه" و"عقل صانعه" و"عقل أنه ممكن"!

ومن عَمْيِ بصائرهم أنهم ما تفطنوا أن هذا يلزمهم (نفس الاستقراء) في حق الوجود المطلق، وهو إنه "عقل نفسه" و"عقل أنه واجب الوجود" و"عقل هذا للموجود المقيد"، وربما، إن بحثوا، يزيد لهم عقل رابع، وهو أنه عَقَل (كون) صانعه واجب، لأنه لا يلزم إذا عقل (كون) صانعه أنه ممكن، فأثبتوا مرتبة ثالثة، فيلزمهم الرابعة، لزوماً صحيحاً، ويكون الباري أيضاً يَعقل هذا ممكناً، فتكون أيضاً أربعة، فتوجد عنه أربعة أشياء: لكل واحد واحد، وهذا هذيان طويل لا تحصيل له.

(ولتصحيح هذا الاستقراء، الذي يبدأ من القول بأن الله سبحانه وتعالى واحد ليس له صفة، لا بدَّ من تحقيق معنى الصفات وكيفية نسبتها إلى الله، وهو ما سيقوم به الشيخ في بقية هذا الكتاب، كما أنَّه فصَّل ذلك أيضاً في كتاب الأزل، وفي مواضع كثيرة في الفتوحات المكية.)