موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

تفسير فاتحة الكتاب والبسملة

تنسب إلى الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

وأمّا الإشارة إلى تحقيق نفس كلمة "اللّه":

 

 


قلنا: كلمة "اللّه" بنته على أربعة أحرف: ألف، ولامين، وهاء.

-حرفان منها متفقان في الجنسية متصلان.

-و حرفان منها مختلفان مفترقان.

-و المتفقان:

أحدهما: متحرك.

والثاني: ساكن.

-و المختلفان كذلك:

أولهما: متحرك.

والثاني: ساكن.

فمجموعها في الصورة والمعنى دال على الإشارة إلى صفتيه، ونعمتيه.

أما نعمتاه: فنعمة ظاهرة، ونعمة باطنة.

وأما صفتاه: فهما الظاهر، والباطن.

وهما مختلفان فيدل عليهما حرفان مختلفان: الألف، والهاء.

لأن الألف للإظهار والهاء للإضمار. كقولك لست يدل على النفي فإذا أدخلت الألف فيه، وتقول: ألست تدل على الإظهار، والإثبات. وإذا أدخلت الهاء في آخر الكلمة للإضمار كقولك داره فصاحب الدار مضمر وليس بظاهر.

فالألف إشارة إلى صفة الظاهر، والهاء إشارة إلى صفة الباطن.

والحرفان المتفقان، وهما اللامان تدلان على نعمتيه. فإنهما متفقان في الجنسية كما قال تعالى: وأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظٰاهِرَةً وبٰاطِنَةً (لقمان/ ٢٠ ) هذا في الصورة.

وأما في المعنى: إلا أي نعمة واحدة. إلا أي نعمتان. إلا أي نعمتاه.

فالتشديد فيه للتفخيم. فالإشارة في هذه اللفظة إلى أن للّه مع عباده نعمتين:

نعمة الظاهر، ونعمة الباطن.

فللنعمة الظاهرة معنيان:

أحدهما: نعمة إظهارك بالإيجاد بعد ما كنت مخفيا في عالم الأرواح، كما قال تعالى: ولَقَدْ خَلَقْنٰاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنٰاكُمْ (الأعراف/ ١١ ) أي: خلقناكم في عالم الأرواح.

الثاني: ثم صورناكم في عالم الأجساد.

و كذلك للنعمة الباطنة معنيان:

أحدهما: إتيانك في الوجود.

والثاني: نعمة إعطائك الروح الشريف.

فإن عظمة الألوهية، وعزة الوحدانية كانت مقتضية للتفرد بالوجود، ونفي الشرك مطلقا إلا أن الرحمة الواسعة مقتضية للإيجاد، فسبقت رحمته غضبه.

بإيجاد الخلق بالصفة الرحمانية التي هي عامة في حق جميع الموجودات بالإيجاد، وبإبقائها بالصفة الرحيمية. فالإشارة في تحقيق كلمة"اللّه"له أربعة أحرف، وبحيث كل حرف له نعمة فلو لم يكن النعمة للأربعة المناسبة للحروف ما كان للموجودات وجود أصلا.

أما مناسبة النعم الأربع مع الحروف الأربعة فهي ما بينّا أن النعمة نعمتان:

نعمة ظاهرة، ونعمة باطنة.

وللنعمة الظاهرة معنيان كما مر ذكرها، وبينّا أن الحروف على نوعين متفقان ومختلفان فاحد حروفهما متحرك والثاني ساكن. فالمتحرك من أحد حروفهما مناسب لنعمته الظاهرة. والثاني مناسب لنعمته الباطنة. والمتحرك من ثاني حروفهما مناسب لنعمته الظاهرة من المعنيين المذكورين والساكن مناسب لنعمته الباطنة من المعنيين ولو لم يكن بين ذاته تعالى وبين ذوات المكاشفين بصفات جماله وجلاله حجب الأنوار الرحمانية والرحيمية واسطة لأفنى فيه ذواتهم، وتلاشت أجسادهم. كما قال (عليه السلام) : (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه).

وهذا كما أن اللّه تعالى لما أراد بحكمته البالغة أن ينتفع أهل الأرض بنور الشمس وحرارتها وخواصها جعل بين الشمس، وبين الأرض فلك الزمهرير.

وهذا الهواء البارد يم البحر المحيط من الماء البارد واسطة حتى تندفع قوة الحرارة ببرودتها ولو لم يكن ذلك لاحترقت الأرض ومن عليها فلإفشاء هذا السر وكشف هذه الحقيقة على أسرار شاكري نعمائه جعل توقيع بسم اللّه الرحمن  الرحيم في صدر كتابه الكريم ليتحقق لهم أن الخلق بحجاب الاسم محجوبون عن اللّه. فلما عبروا بجذبات ألطافه عن حجاب الاسم ووصلوا إلى المسمى وهو "اللّه"تجلى لهم بالألوهية. وإذا أرادت سطوة التجلي أن تمحقهم بالكلية أدركتهم الصفة الرحمانية والرحيمية فتقيهم بلاؤه. والمحاء. فقد بان أن كلمة"اللّه "أعظم الأسماء من وجوه:

الأول: أن الأخبار تدل على هذا ولقد روي عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) أنه دخل المسجد فإذا رجل يصلي ويقول: (اللهم إني أسألك بأنك أنت اللّه الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد) قال:

فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) : دعا اللّه باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب)  ١ الحديث.

وما روى أبي بن كعب (رضي اللّه تعالى عنه) أن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال هو في  ٢ قوله تعالى: اَللّٰهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ اَلْحَيُّ اَلْقَيُّومُ (البقرة/  ٢۵۵ ) وفي قوله تعالى: الم ( ١ ) اَللّٰهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ اَلْحَيُّ اَلْقَيُّومُ ( ٢ ) (آل عمران/ ١ ، ٢ ) فالأخبار دالة على أن الاسم الأعظم مودع في الدعاء. فلما نظرنا ما وجدنا بالاسم المكرر في الآيتين. والدعاء الاسم "اللّه" فتحقق لنا أن الاسم الأعظم هو اللّه.

وأما الجواب عن قول من احتج بالآيتين على أن الاسم الأعظم قولنا هو الحي القيوم. وقال: لما حصر الرسول الأعظم في هاتين الآيتين علمنا أن ذلك هو الحي القيوم.

أما الحصر فلا نسلم لأنه أثبت وجود الاسم العظم في إحدى الآيتين ووحد فيها فلو كان هاهنا الحصر لكان أو للشك هاهنا ولو كان للشك لما وجد إلا في آية منها دون الأخرى كقولنا زيد في هذه الدار. وفي هذه فلا بدّ وأن يكون في دار واحدة. فلما وجد في الآيتين وما بقي عما سواهما علمنا انه يحتمل أن يوجد في موضع آخر كما وجدنا في الدعاء المروي والحديث.

والثاني: أن الاسم على نوعين: اسم ذات، واسم صفة.

فكما أن الذات أشرف من الصفة. فكذلك اسم الذات أشرف وأعظم من اسم الصفة.

وقد بينا أن هذا الاسم أعني الاسم "اللّه" اسم الذات وغيره من الأسماء أسماء الصفات فتعين أن يكون هو الاسم الأعظم.

والثالث: أن الصفات داخلة في الذات. والذات ليس بداخل في الصفات فأسماء الصفات تكون داخلة في اسم الذات، ولا يكون اسم الذات داخلا في أسماء الصفات. فعلمنا أن الاسم الأعظم هو اسم الذات لا أسماء الصفات. وهذا الاسم متعين لذات.

والرابع: أن من عزة هذا الاسم وعظمته لا يجمع، ولا يثنى، ولا يسقط منه الألف واللام عند النداء حتى لا تنفى حروف لفظه بخلاف جميع الأسماء، وهذا دليل واضح على أنه الاسم الأعظم.

والخامس: أنه لو أسقط حرف كان الثاني اسما للّه فإنك إذا أسقطت الهمزة بقي: "للّه" وهو من صفات اللّه.

قال اللّه: ولِلّٰهِ اَلْأَسْمٰاءُ اَلْحُسْنىٰ ولِلّٰهِ مُلْكُ اَلسَّمٰاوٰاتِ واَلْأَرْضِ (آل عمران/ ١٨٩ ) . وإن أسقطت اللام الأولى بقي: "له". وهو أيضا من صفات اللّه تعالى: لَهُ مُلْكُ اَلسَّمٰاوٰاتِ واَلْأَرْضِ (البقرة/  ١٠٧ ) .

وإن أسقطت اللام الثانية بقي: "هو". وهو أيضا من صفات اللّه هُوَ اَللّٰهُ اَلْخٰالِقُ اَلْبٰارِئُ (الحشر/ ٢۴ ) فلما لم توجد هذه الخاصية في الأسماء غيره علمنا أنه الاسم الأعظم.

السادس: أن اللّه تعالى لما علم حبيبه (عليه الصلاة والسلام) اسمه عند ثبات وحدانيته، ونفي الألوهية عن غير ذاته قال: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاَّ اَللّٰهُ (محمد/  ١٩ ) ولو كان الاسم الأعظم. . . . . لعلم حبيبه مكان هذا خصوصا عند نفي الشركة عن ذاته جل جلاله.

السابع: أن لهذا الاسم خصوصية في الإيمان. فإن الإيمان بدونه لا يصح، كقولك: "لا إله إلا اللّه". ولو قلت بدل "اللّه" ههنا من أسماء الصفات لم يصح إسلامه. فظهر أنه أعظم الأسماء.

الثامن: أن النبي (عليه السلام) أمر القتال على قول هذا الاسم وقال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلاّ اللّه. فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلاّ بحقها وحسابهم على اللّه).

فكانت النجاة عن الدركات موقوفة عن هذا الاسم والفوز بالدرجات موقوفا على هذا الاسم. وصون النفس عن القتل والمال عن القريب والولد عن الأسر موقوفا على هذا الاسم فوجب أن يكون هذا الاسم الأعظم.

التاسع: أمر حبيبه (عليه الصلاة والسلام) عند الإعراض عن كل ما سوى اللّه والإقبال بالكلية إليه بملازمة ذكر هذا الاسم وقال تعالى: قُلِ اَللّٰهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (الأنعام/ ٩١ ) فدل على أن هذا الاسم أعظم الأسماء.

العاشر: إن اللّه العظيم لعظم هذا الاسم صانه عن تسمية غيره بهذا الاسم.

ومن عظم هذا الاسم أنه لم يتجاسر أحد من المنكرين. أي من أعداء الدين أن يتعلقوا بهذا الاسم ألهتهم به أي غيرها كما قال تعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (مريم/ ۶۵ ) أي هل تعلم شيئا له اسم اللّه سوى اللّه فلعزة هذا الاسم عند اللّه وكذا اللّه عليه ما انعم على احد بتسميته كما أن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) لعزة كنيته عنده هي عن التكني بكنيته قال (عليه السلام) : (سموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي)  ١ فهذا علمنا أنه أعظم الأسماء.

والحادي عشر: روي عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) أنه قال: (أحب الأسماء إلى اللّه عبد اللّه وعبد الرحمن). فاختصاص هذين الاسمين بالمحبة فلا شك أنه لاختصاص تسمية اللّه والرحمن كاختصاص هذين الاسمين بالذكر بالدعاء عن الأسماء كلها لقوله تعالى: قُلِ اُدْعُوا اَللّٰهَ أَوِ اُدْعُوا اَلرَّحْمٰنَ (الإسراء/ ١١٠ ) وذلك يدل على أنهما أشرف وأعظم من غيرهما ثم إن اسم اللّه أشرف من اسم الرحمن لأنه قدمه في الذكر أولا وثانيا فلأن اسم الرحمن يدل على كمال الرحمة واسم اللّه يدل على الألوهية والقهر والعظمة والعزة وغيرها من الصفات فيثبت بهذا أن اسم اللّه أعظم الأسماء وأحبها إلى اللّه تعالى.

والثاني عشر: أن اللّه تعالى أمر عباده بما (ألزمه) ذكر هذا الاسم وجعله سبب الفلاح كقوله تعالى: اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اَللّٰهَ قِيٰاماً وقُعُوداً وعَلىٰ جُنُوبِهِمْ (آل عمران/ ١٩١ ) .

وجعله مفتاح الجنة، وثمنها كما قال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) : (مفتاح الجنة: لا إله إلا اللّه) وقال: (ثمن الجنة لا إله إلا اللّه) بل جعله حقيقة مفتاح قلوب عباده المخلصين بأنوار الكمال وبه أزاح عن أسرار المحققين أستار الصفات الوجودية بتجلي صفات الجلال ليهتدي إلى شاطئ وادي أيمن الوصال كما أخبر النبي (عليه السلام) بقوله: (واللّه لو لا اللّه ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا) وقد تحقق للمتمسكين بالعروة الوثقى أنهم به نالوا ما أرادوا، ووجدوا ما طلبوا، وأعطوا ما سألوا، وأجابوا إذا دعوا فعرفوا أنه الاسم الأعظم.

والثالث عشر: أنه صح عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) أنه صرح فضيلة ذكر هذا الاسم على ذكر الأسماء كلها بقوله: (أفضل الذكر لا إله إلاّ اللّه، وأفضل الدعاء الحمد للّه)  ١ قلنا: لو كان اسم أعظم من اللّه لكان هذا الأفضل.

والرابع عشر: ما روي عن أبي سعيد الخدري (رضي اللّه عنه) عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال: قال موسى (عليه السلام) : (يا رب علمني شيئا أذكرك به؟

قال: يا موسى قل: لا إله إلا اللّه.

قال: لا إله إلا أنت أنا أريد شيئا تخصني به؟

قال: يا موسى لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري، والأرضين السبع وضعن في كفة، ولا إله إلاّ اللّه في كفة لما وزنت بهن لا إله إلاّ اللّه).

فهذا تصريح بأنه ليس بشيء غير اللّه أعز وأعظم من كلمة (اللّه).

والخامس عشر: أن هذا الاسم عند أكثر العلماء، وكبار الفقهاء لا يستقبل العقل إلى كيفية اشتقاقه، وثبت أيضا أن الحق لا سبيل للعقول إلى معرفته. وكان لهذا الاسم زيادة مناسبة مع كنية الحق من هذا الوجه، وسائر الأسماء ليس كذلك.

فوجب أن يكون هذا الاسم أعظم الأسماء. ولهذا افتتح كتابه الكريم والقرآن العظيم بهذا الاسم وجعله مبتدأ خطابه. وأثبت في صدر كتابه ليعلم أن ما أنزل في هذا الكتاب من أسماء الصفات والحمد والثناء وإظهار الآيات، وإثبات الحجج، وذكر الآلاء والأسماء، والأوامر والنواهي، والوعد والوعيد، والأخبار والآثار، والقصص والمواعظ، والعلم والحكم والإشارات، والألغاز، والألفاظ، والمعاني، والنكت، واللطائف، والأسرار، والدقائق والحقائق، والقرآن، والمتشابهات، والآيات الناسخات والمنسوخات، وغير ذلك من موجبات الرحمة والعقوبة، والهداية والضلالة. كله صادر عنه. كما أن سلطانا يبعث منشورا إلى ممالكه ومماليكه يكتب بأحب أسمائه إليه وأعظم إنعامه لديه في طغراء منشورة ليعلم أن جميع الأحكام الواردة في المنشورة صادرة عنه. فلما كان توقيع المنشور الإلهي باسم اللّه علمنا أنه أحب أسمائه إليه، وأعظمها قدرا. واكتفينا بهذا المقدار مع شرح فضائل هذا الاسم وإقامة البينات على شرفه وعظمته، أو هو تحرز قولا أقوله يتفرق فيه العقول والأوهام ولا تضبطه العلوم والأفهام كما قال تعالى: ومٰا قَدَرُوا اَللّٰهَ حَقَّ قَدْرِهِ (الأنعام/ ٩١ ) .

أي: لم يعرفوا كنه ذات اللّه تعالى حق معرفته. فكذلك لم يعرفوا اللّه. اسم (اللّه) حق معرفته. فأما لو سأل سائل فيما أخبرنا بأن الاسم الأعظم أنه من دعا اللّه به أجاب، وإذا سئل به أعطى. فنحن ندعو به ونسأل فلم نر أثر الإجابة في أكثر الأوقات؟

قلنا: الجواب عنه من وجهين:

 أحدهما: أن للدعاء آدابا وشرائط لا يستجاب الدعاء إلاّ بها، كما أن للصلاة أركانا لا يقبل إلاّ بها.

وأول شرائطه: أن يصلح باطنه باللقمة الحلال فإن النبي (عليه السلام) ذكر: (الرجل يطيل السفر أشعث أغبر ومطعمه حرام، ومشربه حرام ثم يمد يده إلى السماء يا رب، يا رب فأنى يستجاب له). وقد قيل: الدعاء مفتاح السماء وأسنانه لقمة الحلال.

وآخر شرائطه: أن يدعو بالإخلاص، وحضور القلب قال اللّه تعالى: فَادْعُوا اَللّٰهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ ولَوْ كَرِهَ اَلْكٰافِرُونَ ( ١۴ ) (غافر/ ١۴ ) فإن حركة الإنسان باللسان وصياحه من غير حضور القلب كولولة على الباب، وصوت الحارس على السطح. أمّا إذا كان القلب حاضرا في الحضرة كان له كالشفيع. ولا نطول الكلام في هذا فإنه ليس مكانه.

والوجه الثاني: أن الاسم وإن كان في نفسه معظما ولكن يؤول فائدة عظيمة إليك إذا قلت بالتعظيم. وتعظيمه يكون بقدر صفاء نيتك، وعلو همتك في الذكر عن تطهير قلبك من الحظوظ الدنياوية والأخروية فإنك لو ذكرته النفسانية والروحانية يقع الذكر تبعا لحظك. فالعظمة تكون للحظ لا الاسم فيهما تخلصت سريرتك عن لوث الحظوظ يصعد إلى المذكور كقوله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ واَلْعَمَلُ اَلصّٰالِحُ يَرْفَعُهُ (فاطر/ ١٠ ) .

والعمل الصالح أن تطهر ذكرك عن الحظوظ وتراقبه بالحقوق ليكون حظك من الذكر المذكور، ومن الاسم المسمى. وهو أعظم الحظوظ فيكون ذكرك أعظم الأذكار، والاسم المذكور لك أعظم الأسماء ففي هذه الحالة كل اسم دعوت اللّه به يكون الاسم الأعظم. والدعاء يكون مستجابا لأنه دعوته له وما طلبت منه إلا هو فوجدته، لأنه قال: اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ (غافر/ ۶٠ ) أي اطلبوني تجدوني. كما قال: (ألا من طلبني وجدني) فافهم الإشارة.

في الرحمن الرحيم قال أبو عبيدة هما صفتان له تعالى معناهما: ذو الرحمة.

ورحمة اللّه إرادته الخير والنعمة والإحسان.

قلت: اختلف العلماء في معنى الرحمة. فقال بعض المحققين:

الرحمة من صفات الذات، وهو إرادة إيصال الخير ودفع الشر. والإرادة صفة الذات وهو المختار عندي لأنه تعالى لم يكن موصوفا بهذه الصفة لما خلق الموجودات. فلما خلق الخلق علمنا أن رحمته صفة ذاته. لأن خلق الخلق إيصال خير الوجود إلى المخلوق، ودفع شر العدم عنه. فإن الوجود خير كله. والعدم شر كله.

وقال آخرون: صفات الفعل وهو نفس إيصال الخير ودفع الشر بدون إيصال الخير.

قلنا: وإيصال الخير بدون الإرادة المتقدمة في حق الباري سبحانه وتعالى محال. لأن إيصال الخير فعل والفعل مسبوق بالإرادة من الفاعل المختار ويثبت بهذا أن اللّه تعالى كان في الأزل هو الرحمن الرحيم.

وذكر أبو حامد الغزالي أن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال:  (تخلقوا بأخلاق اللّه).

وهذا يقتضي أن يكون للعبد من كل اسم من أسماء اللّه تعالى حظ يليق بها فأقوى حظ العبد من اسم الرحمن الرحيم أن يكون كثير الرحمة.

واعلم أن كل من كان من العبد أقرب كان بإيصال الرحمة والخير إليه أولى وأقرب الناس إليه نفسه. فوجب أن يرحم نفسه ثم يرحم غيره.

قال (عليه الصلاة والسلام) : (ابدأ بنفسك ثم بمن تعول).

فأمّا رحمته مع نفسه: فإما أن يكون في الأمور الروحانية، أو في الأمور الجسمانية.

أما في الأمور الروحانية: فاعلم أن للنفس قوتين نظرية، وعملية.

أمّا القوة النظرية: فإيصال الرحمة إليها بتزكيتها عن الجهل وتحليتها بالعلم الحقيقي، وهو معرفة اللّه كشفا وشهودا. معرفة عيانية لا برهانية (. . .) فافهم جيدا.

وأما القوة العملية: فصونها عن طرفي الإفراط والتفريط في الأخلاق، وإلزامها المواظبة على التوسط بين الطرفين بأوامر الشريعة ونواهيها على قانون الطريقة.

وأما في الأمور الجسمانية فقسمان:

الأمور المطلوبة بالذات، والمطلوبة بالعرض.

أما المطلوبة بالذات: فهي للذات الجسمانية وهي محصورة في المطعوم والمنكوح قد قال تعالى: وكُلُوا واِشْرَبُوا ولاٰ تُسْرِفُوا (الأعراف/ ٣١ ) فالرحمة على البدن هو الامتناع من الإسراف.

وأما المطلوبة بالعرض: فهو المال والرحمة فيه قوله تعالى: واَلَّذِينَ إِذٰا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا ولَمْ يَقْتُرُوا وكٰانَ بَيْنَ ذٰلِكَ قَوٰاماً ( ۶٧ ) (الفرقان/ ۶٧ ) فهذا معاقد كل أحد من الرحمة على نفسه. وأمّا رحمته على غيره: فاعلم أن كمال الإنسان في كمال العبودية، وكمال العبودية في رعاية حقوق الربوبية وإيصال الحظوظ إلى البرية ورفع الذرية كما قال (عليه السلام) : (التعظيم لأمر اللّه والشفقة على خلق اللّه).

وكان آخر وصيته (صلى اللّه عليه وسلم) في حياته: (الصلاة وما ملكت أيمانكم).

قال بعض المشايخ: مجامع الخيرات محصورة في أمرين: الصدق مع الحق، والخلق مع الخلق. ومما يؤكد أن هذه المرتبة أعظم المراتب أنه وصف رسوله (عليه السلام) بالرحمة فقال: ومٰا أَرْسَلْنٰاكَ إِلاّٰ رَحْمَةً لِلْعٰالَمِينَ ( ١٠٧ ) (الأنبياء/ ١٠٧ ) . وقال: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (التوبة/ ١٢٨ ) وقال تعالى فَبِمٰا رَحْمَةٍ مِنَ اَللّٰهِ لِنْتَ لَهُمْ (آل عمران/ ١۵٩ ) .

ومدح الرسول (صلى اللّه عليه وسلم) أصحابه فبدأ بالذكر بوصف أبي بكر (رضي اللّه عنه) بالرحمة فقال: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر).

والقول في خصوصية الرحمن دون سائر أسماء الصفات من وجوه:

أولها: أنه أخص أسماء الصفات إلى الذات. لأن الأسماء على نوعين:

أسماء صفات اللطف، وأسماء صفات القهر.

وللرحمن خصوصية بالصفتين بأن يوجد منه اللطف والقهر كما يوجد من الذات.

ويوجد منه الإيجاد والإفناء كما يجيء. وهذا من خصائص الذات الإلهي دون سائر الصفات فثبت أنه أخص الأسماء.

وثانيها: أن له مناسبة مع الذات دون سائر الصفات، وهي أن اسم الذات، وهو كما لا يجوز على غيره فكذلك اسم الرحمن لا يجوز على غيره.

ولهذه المناسبة صار مخصوصا بالذكر في الدعاء مع ذكر اللّه، لقوله تعالى: قُلِ اُدْعُوا اَللّٰهَ أَوِ اُدْعُوا اَلرَّحْمٰنَ أَيًّا مٰا تَدْعُوا فَلَهُ اَلْأَسْمٰاءُ اَلْحُسْنىٰ (الإسراء/ ١١٠ )

وثالثها: أن الرحمن أقرب إلى اسم اللّه من سائر الأسماء.

يدل على هذا القرآن والحديث.

أمّا القرآن: فقوله تعالى: (بسم اللّه الرحمن الرحيم) ذكر بعد اسم اللّه اسمه الرحمن وقدّمه على سائر أسماء الصفات. فعلمنا أنه أقرب الأسماء.

وأمّا الفرق بين الرحمن والرحيم، وإن كانا اسمين مشتقين من الرحمة.

أن الرحمن: من صفة جلاله، والرحيم من صفة جماله. والفرق بينهما أن الجلال متوسط بين الذات الإلهي من شأنه القهر والعزة التي اقتضت الوحدة، ونفي شركة الوجود، وبين صفة الجمال التي من شأنها اللطف والرحمة التي اقتضت الإيجاد والإبقاء. فنسبة أحد طرفي الجلال إلى قهارته الذات فيه طرف من القهر وبنسبة أحد طرفيه إلى رحيمية الجمال فيه رحمة. فالرحمة فيه تقوت بقوة القهارية فصارت أقوى من رحيمية الجمال.

فاعلم أن المبالغة في الرحمة والقهر فيه صار مسبوقا ومغلوبا بلطف الرحمة.

فقوله تعالى: (سبقت رحمتي غضبي) وفي رواية: (غلبت رحمتي غضبي).

فالقهر المسبوق بالرحمة، والرحمة المتقوية بالقهر هو الرحمن المبالغ في الرحمة. فثبت أن الرحمن من صفة الجلال، والرحيم من صفة الجمال. ولهذا جاء الرحمن متوسطا بين اللّه والرحيم في (بسم اللّه الرحمن الرحيم) وإذا كان الرحمن متوسطا بين القهر الصرف وبين اللطف المحض فتارة بالقهر يقتضي الإفناء، وتارة باللطف يقتضي الإثبات كما أخبر اللّه تعالى عن صفة إفنائه بقوله: ويَوْمَ تَشَقَّقُ اَلسَّمٰاءُ بِالْغَمٰامِ ونُزِّلَ اَلْمَلاٰئِكَةُ تَنْزِيلاً ( ٢۵ ) اَلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ اَلْحَقُّ لِلرَّحْمٰنِ وكٰانَ يَوْماً عَلَى اَلْكٰافِرِينَ عَسِيراً ( ٢۶ ) (الفرقان/ ٢۵ ، ٢۶ ) وأخبر عن صفة إيجاده وإثباته بقوله: إِنَّ رَبَّكُمُ اَللّٰهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ واَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّٰامٍ ثُمَّ اِسْتَوىٰ عَلَى اَلْعَرْشِ (الأعراف/ ۵۴ ) وفيه طرف من هيبة الألوهية وهو مخصوص دون الرحيم.

الحمد للّه: شامل للثناء، والشكر، والمدح.

أمّا الثناء: بذكر بعض الصفات الحميدة. إذا قلت هذا الرجل كريم فقد أثبت عليه.

والشكر: يكون على النعمة من المنعم بأي معروف أولاك به قال تعالى:

لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ (إبراهيم/ ٧ ) أي في النعمة.

والمدح: أن يذكر الرجل بجميع ما فيه من الخصال الحميدة، وينفى عنه جميع الصفات النقيضة التي لم تكن فيه، وليس من شأن المخلوقين أن يحمدوا اللّه تعالى بهذه المعاني الثلاثة حقيقة إلاّ تقليدا، أو إعجازا.

أمّا الثناء: فلأن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) لمّا خوطب ليلة المعراج بأن أثنى على علم أن هذا ليس من شأن المخلوق فقال: (لا أحصي ثناء عليك).

واعلم أنه لا بد من امتثال الأمر وإظهار العبودية فقال: (أنت) فهذا ثناء بالتقليد لأنه ما أثنى عليه بثنائه الذي أثنى عليه اللّه به على نفسه في الأزل، ثناء يليق بذاته وصفاته الأزلية على التحقيق، ولم يبلغ علم مخلوق حادث كنه صفة من صفات اللّه تعالى الأزلية كما قال تعالى: ولاٰ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّٰ بِمٰا شٰاءَ (البقرة/ ٢۵۵ ) .

يعني عني عليه لمعرفة كنه صفة من صفاته لأن الثناء فرع المعرفة. فما أثنى أحد على اللّه تعالى تحقيقا إلا تقليدا. فافهم جيدا.

وأمّا الشكر: أيضا فلا يتحقق للإنسان شكر نعمة اللّه إلاّ برؤية العجز عن القيام بأدلة كما يحكي عن داود (عليه السلام) أنه قال: (إلهي كيف أشكرك على نعمتك؟ فأوحى اللّه تعالى إليه الآن شكرتني).

وذلك لن يوفق الشكر نعمة موجبة للشكر، فلا نهاية لنعمه كيف يدرك الشكر لحادث النعمة هي غير متناهية لقوله تعالى: وإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اَللّٰهِ لاٰ تُحْصُوهٰا (النحل/ ١٨ ) .

وأمّا المدح: فلا يمكن للإنسان أن يمدح الحق حقيقة أيضا لأن المدح يدل على معرفة كمال الذات والصفات حتى تذكره على ما هو به وذلك محال لقوله تعالى: ومٰا قَدَرُوا اَللّٰهَ حَقَّ قَدْرِهِ (الزمر/ ۶٧ ) . فلهذا حمد نفسه بالثناء والشكر والمدح، وقال: الحمد للّه: أي الإله أن يحمد ذاته الأزلي الأبدي فالحمد لا يصلح إلاّ له.

فهو محمود بحمده أزلا وأبدا. والحمد له إلى الحمد له إشارة إلى ثناء ذاته بالإلهية.

رب العالمين: إشارة إلى شكر إنعام الربوبية على مرتبة الرحمن الرحيم.

مالك يوم الدين: إشارة إلى مدح ذاته بجميع صفات لطفه وقهره، وجماله، وجلاله في ملكه وملكه بمالكيته في الدنيا والآخرة قبل خلقهما.

وفيه دلالة على انه ما أثنى وما شكر، وما مدح اللّه إلا اللّه. كما قال بعض المشايخ ما قال اللّه أحدا إلا اللّه فلما عجز الخلق عن الثناء والشكر والمدح للّه تعالى على ما هو به من صفات الكمال أمرهم أن يحمدوه على نفي صفات النقيصة عن ذات الألوهية فقال تعالى: وقُلِ اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ اَلَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ولَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي اَلْمُلْكِ ولَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ اَلذُّلِّ وكَبِّرْهُ تَكْبِيراً ( ١١١ ) (الإسراء/  ١١١ ) .

ولما أمرنا بقول الحمد للّه فلا بدّ لنا أن نحمده بقدر استطاعتنا، وإن لم نقدر أن نحمده على ما هو به كما قال تعالى: فَاتَّقُوا اَللّٰهَ مَا اِسْتَطَعْتُمْ (التغابن/  ١۶ ) .

وقال النبي (عليه الصلاة والسلام) : (استقيموا ولن تحصوا)  ١ و كل يحمده على قدر معرفته له وشكره على ما أولاه من نعمه قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلىٰ شٰاكِلَتِهِ (الإسراء/ ٨۴ ) .

فيقول: الحمد شامل للثناء، والشكر، والمدح.

فالثناء للسان والشكر للأركان لقوله تعالى: اِعْمَلُوا آلَ دٰاوُدَ شُكْراً (سبأ/ ١٣ ) .

والمدح للجنان. فثناء اللسان يعصمك من سفه السلطان، ويسلمك من آفة الكفران، وشكر الأركان ينجيك من دركات النيران ويبلغك إلى درجات الجنان.

ومدح الجنان يقربك إلى الرحمن، ويشرفك بخلع العرفان.

فالحمد بمعنى الثناء على نوعين:

-ثناء الذات بالوحدانية والفردانية الأزلية الأبدية في الألوهية.

-و ثناء الصفات بأنها موصوفة بصفات الكمال منزهة عن النقصان والزوال.

والحمد بمعنى الشكر على نوعين: شكر الذات وشكر الصفات.

-فشكر الذات على نعمه وجوده.

-و شكر الصفات على بذل الوجود بجوده.

والحمد عقبى المدح على نوعين:

-مدح الذات بنفي الذوات في الوجود إلا ذاته.

-و مدح الصفات ببذل الأوصاف وإفنائها في صفاته لتكون باقيا بهويته لا بأنانيتك.

رب العالمين: فربوبيته بمعنى الخالقية، والمالكية، والسيدية عامة. وبمعنى التربية خاصة بحسب أنواع الموجودات متفاوتة.

-و مربي الأشباح: بأنواع نعمه.

-و مربي الأرواح: بأصناف كرمه.

-و مربي نفوس العباد: بأحكام الشريعة.

-و مربي قلوب المشتاقين: بآداب الطريقة.

-و مربي أسرار المحبين: بأنوار الحقيقة.

وهو مدبر كل أمر حكيم من الأزل إلى الأبد، وهو متمم نعمته الظاهرة والباطنة في الدنيا والعقبى على عباده المؤمنين كما قال تعالى: وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي (المائدة/ ٣ ) .

ومتم أنواره لأسراره الطالبين، كما قال تعالى: واَللّٰهُ مُتِمُّ نُورِهِ (الصف/  ٨ ) وهو المنعم على الموجودات بإنعام الإيجاد عامة ونعمة الهداية خاصة، وللرب اختصاص بإجابة الدعاء لأن اللّه تعالى أمر عباده بالدعاء ووعد عليه بالاستجابة بقوله تعالى: وقٰالَ رَبُّكُمُ اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ (غافر/60) .

ثم علمهم كيف يدعونه وبأي اسم يدعونه بقوله تعالى: اُدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وخُفْيَةً (الأعراف/ ۵۵ ) وذكر في مواضع كثيرة من القرآن بصيغة الدعاء كقوله: رَبَّنٰا آتِنٰا فِي اَلدُّنْيٰا حَسَنَةً (البقرة/201) رَبَّنٰا لاٰ تُزِغْ قُلُوبَنٰا (آل عمران/ ٨ ) وأمثاله كثيرة. وألهم أنبياءه ورسله (عليهم السلام) عند طلب الحاجة وإجابة الدعاء أن يدعوه بهذا الاسم. وألهم آدم (عليه السلام) كما قال تعالى: فَتَلَقّٰى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمٰاتٍ فَتٰابَ عَلَيْهِ (البقرة/37) قيل كانت هي قوله تعالى: قٰالاٰ رَبَّنٰا ظَلَمْنٰا أَنْفُسَنٰا (الأعراف/ ٢٣ ) الآية، فأجابه:

فَتٰابَ عَلَيْهِ وهَدىٰ (طه/ ١٢٢ ) .

-ثم دعاه نوح (عليه السلام) وقال رَبِّ لاٰ تَذَرْ عَلَى اَلْأَرْضِ مِنَ اَلْكٰافِرِينَ دَيّٰاراً (نوح/ ٢۶ ) .

 -ثم دعاه إبراهيم (عليه السلام وقال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ اَلْمَوْتىٰ (البقرة/ ٢۶٠ ) .

-ثم دعاه موسى (عليه السلام) وقال: رَبَّنَا اِطْمِسْ عَلىٰ أَمْوٰالِهِمْ (يونس/ ٨٨ ) .

-ثم دعاه يوسف (عليه السلام) وقال: *رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ اَلْمُلْكِ (يوسف/ ١٠١ ) .

-ثم دعاه سليمان (عليه السلام) وقال: رَبِّ اِغْفِرْ لِي وهَبْ لِي مُلْكاً (ص/ ٣۵ ) .

-ثم دعاه زكريا (عليه السلام) وقال: رَبِّ إِنِّي وَهَنَ اَلْعَظْمُ (مريم/ ۴ ) .

-ثم دعاه يحيي (عليه السلام) وقال: واِجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (مريم/ ۶ ) .

-ثم دعاه عيسى (عليه السلام) وقال: رَبَّنٰا أَنْزِلْ عَلَيْنٰا مٰائِدَةً مِنَ اَلسَّمٰاءِ (المائدة/ ١١۴ ) .

-ثم أمر اللّه تعالى حبيبه نبينا (عليه الصلاة والسلام) وعلّمه أن يدعوه به وقال تعالى له: وقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (طه/ ١١۴ ) .

-ثم ندب المؤمنين في مواضع من القرآن إلى قوله: (ربنا) وغير هذا من الأولياء، والأنبياء (عليهم السلام) دعوه بهذا الاسم فأجابهم بفضله وكرمه لعزة هذا الاسم وعظمته. فاللّه تعالى لما أكرم هذه الأمة، وأقامهم مقام المناجاة معه، وأمرهم بالدعاء وأوعدهم عليه بالإجابة منّ على حبيبه (عليه السلام) وأمته بالسبع المثاني بقوله تعالى: ولَقَدْ آتَيْنٰاكَ سَبْعاً مِنَ اَلْمَثٰانِي واَلْقُرْآنَ اَلْعَظِيمَ ( ٨٧ ) (الحجر/ ٨٧ ) وفيه إشارة شريفه، وفيه لطيفة: وهي أن اللّه تعالى منّ بفاتحة الكتاب كما منّ عليه بجميع القرآن. والسر فيه أن جميع حقائق القرآن وأصول معانيه مدرجة في الفاتحة كما ذكرنا. فجعل فاتحة الكتاب ديباجة مناجاة العبد مع الرب في الصلاة، وبدأ في افتتاحها بأسمائه الحسنى وصفاته العليا وقال: (بسم اللّه الرحمن الرحيم) ثم ثنى بحمد ذات الألوهية، وثلّث بنعت صفة الربوبية التي هي من خصوصية الإجابة حتى قدمت على الدعاء كما مر ذكره فقال: اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ ( ٢ ) (الفاتحة/ ٢ ) ثم أخذ بعد التحميد للّه تعالى بالثناء وقال: اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ ( ٣ ) مٰالِكِ يَوْمِ اَلدِّينِ (4) إِيّٰاكَ نَعْبُدُ وإِيّٰاكَ نَسْتَعِينُ ( ۵ ) (الفاتحة/ ٣ ، ۴ ، ۵ ) .

ثم أعقبها بسؤال جاء به العبد فقال: ولعبدي ما سأل.

ومن غاية اختصاص اسم الرب بإجابة الدعاء حتى أن إبليس بعدما لعن وطرد دعا اللّه تعالى بهذا الاسم وقال: قٰالَ أَنْظِرْنِي إِلىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ( ١۴ ) (الأعراف/  ١۴ ) فأجابه ربه لعظم هذا الاسم وقال: قٰالَ إِنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ ( ١۵ ) (الأعراف/  ١۵ ) ولكنه ما وفق لصرفه في تحصيل نعمه وكرمه بل كان في حقه استدراجا وكيدا كما قال تعالى: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاٰ يَعْلَمُونَ ( ١٨٢ ) وأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ( ١٨٣ ) (الأعراف/ ١٨٢ ، ١٨٣ ) فالمسكين إبليس لو كان من أهل الكرامة وفّق لقوله: رب أنظر لي بدل (أنظرني) ولإجابة اللّه تعالى: إنك من المنظورين. بدل قوله تعالى: إِنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ (الأعراف/15) .

ومن خصوصية هذا الاسم شمول صفات لأسمائها غيره من الأسماء بمقتضى اللغة منها ما يدل على المدح لذاته وهو السيد لقوله تعالى: اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ (يوسف/ ۴٢ ) أي عند سيدك. وكذلك المالك. قال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) لرجل:

(أربّ إبل أنت أم رب غنم؟

فقال: من كلّ آتاني اللّه، فأكثر وأطنب).

و منها: ما يدل على الخالقية لقوله تعالى إخبارا عن موسى (عليه السلام) في جواب فرعون حين سأل: ومٰا رَبُّ اَلْعٰالَمِينَ ( ٢٣ ) قٰالَ رَبُّ اَلسَّمٰاوٰاتِ واَلْأَرْضِ (الشعراء/ ٢٣ ، ٢۴ ) أي: خالق السموات والأرض. وفيه دلالة على أن العالمين هو السموات والأرض وما بينهما.

ومنها: ما يدل على كمال رحمته، ولطفه في حق العالمين جميعا عاما، وفي حق الإنسان خاصا، وفي حق الخواص خصوصا.

أمّا في حق العالمين: فيربيهم بأغذيتهم، وهو أنه رب ذرّات وجودهم بألبان ألطاف الربوبية، عند الميثاق، وقال: أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قٰالُوا بَلىٰ (الأعراف/ ١٧٢ ) .

وبرحمة ربوبيته خلقهم، وبلطف ربوبيته خالقهم، وبفضل ربوبيته أعلمهم، وبعناية ربوبيته أشهدهم حتى قالوا بلى. وجعل بحكمة تدبير ربوبيته إقرارهم بذر التوحيد.

وفي حق الخواص من الأنبياء والأولياء فبان شرف بذر توحيدهم في أرض قلوبهم بماء الشريعة، والأديان، ورياح الإيمان والإيقان، وأنوار شموس الإحسان والعرفان. وبمحمية الربوبية يتم نعمه عليهم نعمة مشاهدة جماله، ومكاشفة جلاله كما قال في حق نبينا (صلى اللّه عليه وسلم) : ويُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ويَهْدِيَكَ صِرٰاطاً مُسْتَقِيماً (الفتح/ ٢ ) ثم شرّف أمته ببركة متابعته بهذه التشريفات، وأنعم عليهم بهذه الكرامات والدرجات عند طلب الهداية إلى الصراط المستقيم في تقديم ذكره وثنائه برب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين. فائدة التكرار فيها من وجهين:

أحدهما: أن ذكرها في بسم اللّه هو مبتدأ الكتاب، ومفتتح الخطاب لتلك العباد بأنه هو الرحمن الرحيم بان دعاكم بالإلهية. أي: الطاعة والعبادة، وإنما دعاكم ليغفر لكم بالرحمانية والرحيمية لقوله تعالى: يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ (إبراهيم/ ١٠ ) .

وأما ذكرهما في الفاتحة عقب الحمد للّه رب العالمين الذي هو المدح لذاته. فالثناء عام الرحمن الرحيم. كما قال (عليه السلام) فيما رويناه: (يقول العبد: الحمد للّه، يقول اللّه: حمدني عبدي، ويقول العبد الرحمن الرحيم، يقول اللّه تعالى أثنى علي عبدي) الحديث  ١ . فثبت أنهما في الفاتحة للثناء، وذكرهما في البسملة من اللّه لاستمالة قلوب العباد على العبودية بالرحمة والغفران، وفي الفاتحة من العباد للثناء على اللّه تعالى بالجمال والجلال لديه والرضوان.

والثاني: ذكرهما في البسملة لتسكين الهيبة ورفع الدهشة من عظمة اسم اللّه تعالى على عباده كما كان حال موسى (عليه السلام) حين خاطبه بأني أنا اللّه كادت تزهق نفس موسى (عليه السلام) من هيبة استماع اسم اللّه فانبسط معه على بساط الرب لإزاحة الدهشة بقوله: ومٰا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يٰا مُوسىٰ ( ١٧ ) (طه/  ١٧ ) ولأنه يستأنس برحمانيته ورحيميته نفوس العباد إلى عبادة اللّه، وتطمئن قلوبهم بذكر اللّه تعالى كما قال تعالى: أَلاٰ بِذِكْرِ اَللّٰهِ تَطْمَئِنُّ اَلْقُلُوبُ (الرعد/ ٢٨ ) لتسعدوا بذلك بمناجاته ويستحقوا الحمد والثناء على ذاته وصفاته في الصلوات ويذكرونه بالدعوات ويرفعون إلى اللّه الحاجات ليهديهم إلى نيل الدرجات ورتب القربات مالك يوم الدين للإشارة فيه إن الدين في الحقيقة هو الإسلام يدل عليه قوله تعالى إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللّٰهِ اَلْإِسْلاٰمُ (آل عمران/ ١٩ ) والإسلام على نوعين: إسلام بالظاهر، وإسلام بالباطن.

فإسلام الظاهر: بإقرار اللسان، وعمل بالأركان لقوله تعالى: ولٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنٰا ولَمّٰا يَدْخُلِ اَلْإِيمٰانُ فِي قُلُوبِكُمْ (الحجرات/ ١۴ ) وقال (عليه السلام) في سؤال جبريل (عليه السلام) : (ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا) فهذا الإسلام جسداني.

فالجسداني ظلماني، ويعبر بالظلمة الليل.

وأما إسلام الباطن. فبانشراح القلب والصدر بنور اللّه تعالى لقوله تعالى: أَ فَمَنْ شَرَحَ اَللّٰهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلاٰمِ فَهُوَ عَلىٰ نُورٍ مِنْ رَبِّهِ (الزمر/ ٢٢ ) فهذا الإسلام الروحاني نوراني يعبر عن اليوم بالنور.

فالإسلام الجسداني يقتضي سلام الجسد لأوامر اللّه ونواهيه. والإسلام الروحاني يقتضي استسلام القلب والروح لأحكامه الأزلي وصفاته وقدره فمن كان موقوفا عند الإسلام الجسداني ولم يبلغ مرتبة الإسلام الروحاني فهو بعد في سير ليلة الدين متردد متحير فسرى ملوكا وملاكا كما كان حال الخليل (عليه السلام) في الليل فَلَمّٰا جَنَّ عَلَيْهِ اَللَّيْلُ رَأىٰ كَوْكَباً قٰالَ هٰذٰا رَبِّي (الأنعام/ ٧۶ )

ومن تنفس صبح عبادته، وطلعت شمس الإسلام الروحاني من وراء جبل نفسه عن مشوق القلب؛ حتى يبلغ وسط سماء روحه، فتنور ظاهره بنور الشريعة، وباطنه بنور الحقيقة فهو على نور من ربه، وأصبح في كنف الدين فيكون ورد وقته: أصبحنا وأصبح الملك للّه فيشاهد بعين اليقين بان كاشف بحق اليقين أن الملك للّه، ولا مالك إلا مالك يوم الدين فإذا تجلى له النهار وكشف سأل مالك جهارا يخاطبه وجاها ويناجيه شفاها إياك نعبد وإياك نستعين.

(إياك نعبد) : الكلام فيه على ثلاثة أوجه:

أولها على الخطاب لأنه ما رجع من الغيبة إلى الخطاب، وإنما رجع إلى الخطاب من الغيبة، لأنه ليس بين المملوك ومالكه إلا حجاب ملك النفس المملوك فإذا عبر عن حجاب ملك النفس وصل إلى مشاهدة مالك النفس كما نقل عن أبي يزيد (رضي اللّه عنه) أنه في بعض مكاشفاته قال: إلهي كيف أجد السبيل إليك؟

قال له ربه: دع نفسك وتعالى.

فللنفس أربع صفات حجاب أخر؛ وهي: الأمّارة، واللوامة، والملهمة، والمطمئنة.

فأمر العبد المملوك بأن يذكر مالك أمره بأربع صفات:

بالصفة الإلهية، والربوبية، والرحمانية، والرحيمية.

فيعبر عن تقدم مدح الإلهية وشكر الربوبية، وثناء الرحمانية. وتجيد الرحيمية وقوة جذبات هذه الصفات الأربع عن حجب مالك الصفات الأربع للنفس فيخلص عن ظلمات ليلة نفسه بطلوع صبح صادق يوم الدين يَوْمَ لاٰ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً واَلْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلّٰهِ ( ١٩ ) (الانفطار/ ١٩ ) فيبقى العبد عبدا مملوكا، لاٰ يَقْدِرُ عَلىٰ شَيْءٍ وهُوَ كَلٌّ عَلىٰ مَوْلاٰهُ (النحل/ ٧۶ ) فيرحمه مالكه ويذكره لسبب كرمه على قضية وعدة فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ (البقرة/ ١۵٢ ) ويناديه ويخاطب نفسه يٰا أَيَّتُهَا اَلنَّفْسُ اَلْمُطْمَئِنَّةُ ( ٢٧ ) (الفجر/ ٢٧ ) ثم يجذبه عن غيبة نفسه إلى شهود مالكية ربه بجذبة: اِرْجِعِي إِلىٰ رَبِّكِ (الفجر/28) فيشاهد جمال مالكه ويناديه نداء عبد خاضع خاشع ذليل عاجز كما قرأ بعضهم: (مالك يوم الدين) نصبا على النداء. (إياك نعبد) : وبأنها في معنى نعبد وتحقيقه أي نوحد ونخلص ونطيع ونخضع وقيل العبادة سياسة للنفس على حمل المشاق في الطاعة وأصلها الخضوع والانقياد والطاعة والذل. يقال: طريق معبد إذا كان مطليا بالقطران، وسمي العبد عبدا لذلته وانقياده لمولاه. قلت: هذه العبادة على ما قال ليس بحد تام لأن للملائكة عبادة وليس عبادتهم سياسة للنفس. على حمل المشاق في الطاعة والعبادة الحقيقية خلوص النفس عن رق كل حظ من الحظوظ الدنياوية والأخروية ليعبدوا اللّه بالحق لا للحظ لقوله تعالى: ومٰا أُمِرُوا إِلاّٰ لِيَعْبُدُوا اَللّٰهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ (البينة/ ۵ ) وثالثها: في خصوصية قوله تعالى: (نعبد) . ذكر بذلك الجمع وذلك لأن للإنسان نفس، وقلب، وروح، وسر.

فالنفس: دنياوية تعبد هواها الدنياوية لقوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اِتَّخَذَ إِلٰهَهُ هَوٰاهُ (الجاثية/ ٢٣ ) .

والقلب: أخروي تعبد الجنة لقوله تعالى: ونَهَى اَلنَّفْسَ عَنِ اَلْهَوىٰ( ۴٠ ) فَإِنَّ اَلْجَنَّةَ هِيَ اَلْمَأْوىٰ ( ۴١ ) (النازعات/ ۴٠ ، ۴١ ) .

والروح: قربى تعبد القربة والعندية لقوله تعالى: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ( ۵۵ ) (القمر/ ۵۵ ) .

والسر: حضرتي تعبد الحق لقوله تعالى على لسان نبيه (عليه الصلاة والسلام) : (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل) فيقرب العبد بنصفه إلى حضرة كماله بالحمد والثناء والشكر على صفات جماله وجلاله ويقرب الرب بمقتضى كرمه وإنعامه كما قال: (من تقرب إلىّ شبرا تقربت إليه ذراعا).

بنصفه إلى خلاص عبده من رق عبودية الأغيار بإخراجه عن ظلمات بعضها فوق بعض من هوى النفس ومواد القلب وتعلق الروح بغير الحق إلى نور وحدانيته، وشهود فردانيته، وأشرقت الأرض: النفس والسموات: سموات القلب، و عرش الروح، وكرسي السر بنور ربها فآمنوا كلهم أجمعون باللّه الذي خلقهم وهو مالكهم وكفروا بطواغيتهم التي يعبدونها واستمسكوا بالعروة الوثقى وجعلوا كلهم عبادة واحدة، وقالوا إياك نعبد وإياك نستعين، نستوقف ونطلب منك المعونة على عبادتك وعلى أمورنا كلها.

قال أبو بكر الصديق (رضي اللّه تعالى عنه) : مع إياك نعبد وإياك نستعين، لأنك خلقتنا وهديتنا. قلت: (إياك نعبد) ، لأنك المعبود، و(إياك نستعين) لأنك المقصود.

وإيصال (إياك) لأنك المطلوب (نستعين) لأنك المحبوب.

(إياك نعبد) يا مالك، و(إياك نستعين) لأن ما سواك هالك.

(إياك نعبد) على نعمتك، و(إياك نستعين) على معرفتك.

(إياك نعبد) لأنك قلت لنا: عبادي، و(إياك نستعين) لأنك لنا إليك هادي.

(اهدنا الصراط المستقيم) . الهداية على ثلاثة أوجه:

هداية العام، وهداية الخاص، وهداية للأخص.

أمّا هداية العام: فإنه تعالى يهدي جميع الحيوانات إلى طلب منافعها ودفع مضارها لقوله تعالى: قٰالَ رَبُّنَا اَلَّذِي أَعْطىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدىٰ ( ۵٠ ) (طه/ ۵٠ ) وقال: أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ ( ٨ ) ولِسٰاناً وشَفَتَيْنِ (9) وهَدَيْنٰاهُ اَلنَّجْدَيْنِ (10)  ١ (البلد/ ٨ ، ٩ ، ١٠ ) .

هداية الخاص: فهو هداية المؤمنين إلى الجنة قوله تعالى: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمٰانِهِمْ (يونس/ ٩ ) .

وأما هداية الأخص: فهي هداية الحقيقة من اللّه قوله تعالى: وقٰالَ إِنِّي ذٰاهِبٌ إِلىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ ( ٩٩ ) (الصافات/ ٩٩ ) وقال: اَللّٰهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشٰاءُ (الشورى/ ١٣ ) هذه الهداية إلى اللّه وقال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) : (عرفت ربي بربي ولو لا فضل ربي ما عرفت ربي) و في قوله تعالى: ووَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدىٰ ( ٧ ) (الضحى/ ٧ ) .

إشارة إلى هذا المعنى، أي: كنت ضالا عنى في تيه وجودك، وطلبتك لوجودى، ووجدتك بفضلي، وهديتك بجذبات عنايتي ونور هدايتي إلىّ، وجعلتك نورا، وأنزلت إليك نورا، فأهدي لك من نشاء من عبادي؛ ممن تبعك وطلب رضاك نوّرت فيهم من ظلمات وجوده البشرى إلى نور الروحاني ويهديهم إلى صراط مستقيم كما قال تعالى: قَدْ جٰاءَكُمْ مِنَ اَللّٰهِ نُورٌ وكِتٰابٌ مُبِينٌ ( ١۵ ) يَهْدِي بِهِ اَللّٰهُ (المائدة/ ١۵ ، ١۶ ) .

واعلم أن الصراط المستقيم هو الدين القويم وما يدل عليه القرآن العظيم وهو خلق سيد المرسلين (صلوات اللّه وسلامه عليه) كما قال تعالى: وإِنَّكَ لَعَلىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ( ۴ ) (القلم/ ۴ ) ثم قال: وأَنَّ هٰذٰا صِرٰاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ (الأنعام/ ١۵٣ ) .

وهو على نوعين صراط مستقيم إلى الجنة لقوله تعالى:

واَللّٰهُ يَدْعُوا إِلىٰ دٰارِ اَلسَّلاٰمِ ويَهْدِي مَنْ يَشٰاءُ إِلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( ٢۵ ) (يونس/ ٢۵ ) .

أي إلى الجنة فهذا لأصحاب اليمين لقوله تعالى: وأَصْحٰابُ اَلْيَمِينِ مٰا أَصْحٰابُ اَلْيَمِينِ ( ٢٧ ) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وطَلْحٍ مَنْضُودٍ ( ٢٩ ) وظِلٍّ مَمْدُودٍ ( ٣٠ ) (الواقعة/ ٢٧ ، ٢٨ ، ٢٩ ، ٣٠ ) .

والثاني إلى صراط مستقيم إلى اللّه تعالى لقوله تعالى: وإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ (الشورى/ ۵٢ ) صراط اللّه الذي هو للسابقين لقوله تعالى: واَلسّٰابِقُونَ اَلسّٰابِقُونَ ( ١٠ ) أُولٰئِكَ اَلْمُقَرَّبُونَ ( ١١ ) (الواقعة/ ١٠ ، ١١ ) وفى الآية إشارة إلى أن من هدى إلى صراط مستقيم فهو من السابقين المقربين. وإن كان ما يكون، وهو سابق على أصحاب اليمين بما يكون للمقربين من شهود الجمال وكشف الجلال وهذه المرتبة خاصة لسيد المرسلين وخاتم النبيين ومتابعته لقوله تعالى: قُلْ هٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اَللّٰهِ عَلىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا ومَنِ اِتَّبَعَنِي (يوسف/  ١٠٨ ) غَيْرِ اَلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ولاَ اَلضّٰالِّينَ (الفاتحة/7) قال الراشدي: غير المغضوب عليهم بالمخالفة والعصيان ولا الضالين حل الدين والإيمان وقال التستري غير المغضوب عليهم (-)  ١ مثل اليهود ولعنهم بالطرد حتى لم يهتدوا إلى الشرع والتحقيق، ووقعوا عن الصراط المستقيم، عن المرتبة الإنسانية التي خلق منها الإنسان في أحسن تقويم ومسخوا قردة وخنازير صورة ومعنى وأيضا غير المغضوب عليهم بالخذلان ولا الضالين بالنسيان لما وقعوا عن صراط مستقيم التوحيد الذين أنعمت عليهم الإشارة فيه إلى طريق من أنعمت عليهم بنعمة كشف الحقيقة وتكرار الصراط إشارة إلى الصراط الحقيقي صراط أن من العبد إلى الرب وصراط من الرب إلى العبد فالذي من العبد إلى الرب طريق محفوف كم قطع فيه القوافل وانقطع فيه الرواحل ونادى منادي العزة لأهل العزة الطلب برد والسبيل سد قوله تعالى حكاية عن قطع هذا الطريق ومقطع هذا الفريق لأقعدن لهم صراطك المستقيم والذي من الرب إلى العبد فطريق أمين وبالأمان كأين قد سلم فيه قوافله وبالنعم محفوفة منازله وسيرون فيه سيارته وتقارن بالسلاسل قارن مع الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين أنعم اللّه على أسرهم بأنوار العناية وعلى أرواحهم بأسرار الهداية وعلى قلوبهم بآثار الولاية وعلى نفوسهم في قمع الهوى وفهم الطبع وحفظ الشرع بالتوفيق والرعاية وعن مكايد الشيطان بالمراقبة والكلاءة صراط الذين أنعمت عليهم بالنعمة الظاهرة والباطنة كما قال تعالى: وأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظٰاهِرَةً وبٰاطِنَةً (لقمان/ ٢٠ ) .

أما النعمة الظاهرة فنعمة الأنبياء، وإرسال الكتب، وأحكام التشريع، وتوفيق قبول دعوة الرسل، وإجابة الحق، وإتباع السنة، واجتناب البدعة، وانقياد النفس لأوامر الشرع ونواهيه، والإتيان على قدم الصدق فالزم العبودية.

وأما النعمة الباطنة فإن اللّه تعالى أنعم على أرواحهم في بداية الفطرة بإجابة رشاش نوره لقوله (عليه السلام) : (إن اللّه تعالى خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه ذلك النور فقد اهتدى، ومن أخطأه فقد ضل وغوى).

وكان فتح باب صراط اللّه إلى العبد من رشاش ذلك النور، وأول الغيث رش ثم ينسكب فالمؤمنون ينظرون بذلك النور المرشوش إلى مشاهدة الغيب، وينظرون الغيب ويستغشون صِرٰاطَ اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ اَلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ولاَ اَلضّٰالِّينَ ( ٧ ) بجذبات ألطافك وفتحت عليهم أبواب فضلك ليهتدوا بك إليك فأصابوا بما أصابهم بلى منك.

غَيْرِ اَلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ولاَ اَلضّٰالِّينَ الذين أخطأهم ذلك النور بأن رش عليهم من نوره فضلوا في تيه هوى النفس وتاهوا في ظلمات الطبع والتقليد فغضب عليهم مثل اليهود ولعنهم بالطرد حتى لم يهتدوا إلى الشرع والتحقيق ووقعوا على الصراط المستقيم عن المرتبة الإنسانية التي خلق فيها الإنسان في أحسن تقويم ومسخوا قردة وخنازير صورة ومعنى.

وأيضا غير المغضوب عليهم بالخذلان. ولا الضالين بالنسيان لما وقفوا الصراط المستقيم في بئر البشرية نسوا الألطاف للربوبية وضلوا عن الصراط المستقيم للتوحيد فأخذهم الشيطان بشبكة الشرك النصارى فأخذوا الهوى الهاء والدنيا البقاء وقالوا بثالث ثلاثة: نَسُوا اَللّٰهَ فَنَسِيَهُمْ (التوبة/ ۶٧ ) وأيضا غَيْرِ اَلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ولاَ اَلضّٰالِّينَ بالغيبة بعد الحضور والمحنة بعد السرور والظلمة بعد النور نعوذ باللّه من الحور بعد الكور والفسق والفجور.

غَيْرِ اَلْمَغْضُوبِ: بالرجوع عن الصراط المستقيم فنودوا: (فاهدوهم إلى صراط الجحيم) (الصافات/ ٢٣ ) .

ولاَ اَلضّٰالِّينَ: عن كرم الكريم ورحمة الرحيم بالإعراض عن الدين القويم المحرومين من القلب السليم، وجنات النعيم باستحقاق العذاب الأليم.

غَيْرِ اَلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ بالاحتباس في المنازل والانقطاع عن القوافل.

ولاَ اَلضّٰالِّينَ بالصدود عن المقصود.



 

 

البحث في نص الكتاب


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!