موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب حقائق عن التصوف

للشيخ عبد القادر عيسى الحسيني الشاذلي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


التوبة

التوبة

التوبة: رجوع عما كان مذموما في الشرع إلى ما هو محمود فيه، وهي مبدأ طريق السالكين، ومفتاح سعادة المريدين، وشرط في صحة السير إلى الله تعالى.

وقد أمر الله تعالى المؤمنين بها في آيات كثيرة، وجعلها سببا للفلاح في الدنيا والآخرة.

قال تعالى: {وتُوبُوا إِلَى الله جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}

[النور: ٣١].

وقال تعالى: {اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: ٥٢].

وقال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى الله تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: ٨].

وكان الرسول المعصوم عليه الصلاة والسّلام كثيرا ما يجدد التوبة ويكرر الاستغفار تعليما للأمة وتشريعا: عن الأغر بن يسار المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه، فإني أتوب في اليوم مائة مرة (١).

قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: (التوبة واجبة من كل ذنب، فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى لا تتعلق بحق آدمي، فلها ثلاثة شروط:

__________

(١) رواه مسلم في صحيحه في كتاب الذكر.

أحدها: أن يقلع عن المعصية.

والثاني: أن يندم على فعلها.

والثالث: أن يعزم أن لا يعود إليها أبدا.

فإن فقد أحد الثلاثة لم تصح توبته. وإن كانت المعصية تتعلق بآدمي فشروطه أربعة: هذه الثلاثة، وأن يبرأ من حق صاحبها. فإن كانت مالا أو نحوه رده إليه، وإن كان [أي حق الآدمي] حدّ قذف ونحوه مكّنه منه أو طلب عفوه، وإن كانت غيبة استحلّه منها. ويجب أن يتوب من جميع الذنوب) (١).

ومن شروط التوبة ترك قرناء السوء، وهجر الأصحاب الفسقة الذين يحببون للمرء المعصية، وينفرونه من الطاعة، ثم الالتحاق بصحبة الصادقين الأخيار، كي تكون صحبتهم سياجا يردعه عن العودة إلى حياة المعاصي والمخالفات.

ولنا عبرة بالغة في الحديث الصحيح المشهور الذي روى لنا فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قصة قاتل المائة (٢) الذي أرشده أعلم أهل زمانه إلى أن الله يقبل توبته، واشترط عليه أن يترك البيئة الفاسدة التي كان لها الأثر الكبير في انحرافه وإجرامه، ثم أشار عليه أن يذهب إلى بيئة صالحة فيها أناس مؤمنون صالحون ليحبهم ويهتدي بهداهم.

والصوفي لا ينظر إلى صغر الذنب، بل ينظر إلى عظمة الرب، اقتداء بأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقد كان أنس بن مالك رضي الله عنه يقول:

(إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر إن كنا نعدّها

__________

(١) رياض الصالحين ص ١٠.

(٢) رواه مسلم في صحيحه كتاب التوبة وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الموبقات. قال أبو عبد الله: يعني بذلك المهلكات) (١).

ولا يقف الصوفي عند التوبة من المعصية، لأنها في رأيه توبة العوام، بل يتوب من كل شيء يشغل قلبه عن الله تعالى، وإلى هذا أشار الصوفي الكبير ذو النون المصري رضي الله عنه لما سئل عن التوبة فقال:

(توبة العوام من الذنوب، وتوبة الخواص من الغفلة) (٢).

ويقول عبد الله التميمي رضي الله عنه: (شتان بين تائب وتائب ...

فتائب يتوب من الذنوب والسيئات، وتائب يتوب من الزلل والغفلات، وتائب يتوب من رؤية الحسنات والطاعات) (٢).

واعلم أن الصوفي كلما صحح علمه بالله تعالى، وكثر عمله دقت توبته؛ فمن طهر قلبه من الآثام والأدناس وأشرقت عليه أنوار الإيناس لم يخف عليه ما يدخل قلبه من خفي الآفات، وما يعكر صفوه حين يهم بالزلات، فيتوب عند ذلك حياء من الله الذي يراه.

ويستتبع التوبة الإكثار من الاستغفار آناء الليل وأطراف النهار، وهذا يشعر الصوفي بالعبودية الحقة والتقصير في حق مولاه. فهو اعتراف منه بالعبودية وإقرار بالربوبية.

يقرأ الصوفي في كتاب الله قوله تعالى: {فَقُلْتُ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفّارًا (١٠) يُرْسِلِ اَلسَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْرارًا (١١) ويُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وبَنِينَ ويَجْعَلْ لَكُمْ جَنّاتٍ ويَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهارًا} [نوح: ١٠ - ١٢].

وقوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنّاتٍ وعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ م آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا

__________

(١) رواه البخاري في صحيحه في كتاب الرقاق عن أنس رضي الله عنه.

(٢) الرسالة القشيرية باب التوبة ص ٤٧.

قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلًا مِنَ اَللَّيْلِ م يَهْجَعُونَ (١٧) وبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}

[الذاريات: ١٥ - ١٨].

يقرأ الصوفي هذه الآيات وغيرها، فيذرف الدمع أسفا على ما قصر في حياته، وحسرة على ما فرط في جنب الله. ثم يلتفت إلى عيوبه فيصلحها وإلى تقصيراته فيتداركه وإلى نفسه فيزكيها، ثم يكثر من فعل الطاعات والحسنات عملا بقوله عليه الصلاة والسّلام: وأتبع السيئة الحسنة تمحها (١).

قال الشيخ أحمد زروق رحمه الله تعالى في قواعده: (تعتبر دعوى المدعي نتيجة دعواه، فإن ظهرت صحّت، وإلا فهو كذاب، فتوبة لا تتبعها تقوى باطلة، وتقوى لا تظهر بها استقامة مدخولة، واستقامة لا ورع فيها غير تامة، وورع لا ينتج زهدا قاصر، وزهد لا يشيد توكلا يابس، وتوكل لا تظهر ثمرته بالانقطاع إلى الله عن الكل واللّجأ إليه صورة لا حقيقة لها، فتظهر صحة التوبة عند اعتراض المحرّم، وكمال التقوى حيث ل مطّلع إلا الله، ووجود الاستقامة بالتحفظ على إقامة الورد في غير ابتداع، ووجود الورع في مواطن الشهوة عند الاشتباه فإن ترك فكذلك، وإلا فليس هنالك) (٢).

***

__________

(١) هذه فقرة من حديث عن أبي ذر ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن رواه الترمذي في كتاب البر وقال: حديث حسن صحيح.

(٢) قواعد التصوف للشيخ أحمد زروق ص ٧٤.



  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!