موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب حقائق عن التصوف

للشيخ عبد القادر عيسى الحسيني الشاذلي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


مشروعية الزهد

الزهد وسيلة للوصول إلى الله تعالى، وشرطا لنيل حبه ورضاه، وليس غاية مقصودة لذاتها.

مشروعية الزهد:

نفى بعضهم وجود الزهد في الإسلام نفيا قاطعا، واعتبر الزهد بدعة دخيلة على الدين، تسربت إليه عن طريق الرهبنة النصرانية أو النسك الأعجمي، ولا شك أن موقفهم هذا تسرّع في الحكم مع جهل بحقيقة الإسلام. فلو رجع هؤلاء المنكرون إلى أحاديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لوجدوا أنه عليه الصلاة والسّلام يدعو إلى الزهد صراحة، ويعتبر الزهد وسيلة لنيل محبة الله تعالى. فقد روى سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله دلّني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس قال له: ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيم في أيدي الناس يحبوك (١).

ثم إن كل مسلم حين يتصفح كتاب الله تعالى، يجد كثيرا من الآيات الكريمة تصغّر من شأن الدنيا وتبين حقارتها وسرعة زوالها، وانقضاء نعيمها، وأنها دار الغرور، وفتنة الغافلين؛ ومقصود الحق من ذلك أن يزهّد الناس فيها بإخراج حبها من قلوبهم حتى لا تشغلهم عما خلقوا له من معرفة الله تعالى وإقامة دينه. قال الله تعالى: {يا أَيُّهَا اَلنّاسُ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ اَلدُّنْيا ولا يَغُرَّنَّكُمْ بِالله الْغَرُورُ} [الروم: ٦٠].

وقال أيضا: {وما هذِهِ الْحَياةُ اَلدُّنْيا إِلّا لَهْوٌ ولَعِبٌ وإِنَّ اَلدّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: ٦٤].

__________

(١) رواه ابن ماجه في كتاب الزهد.

وقال تعالى: {الْمالُ والْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ اَلدُّنْي والْباقِياتُ اَلصّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوابًا وخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف: ٤٦].

وهكذا سائر الآيات الكريمة التي تضرب على هذا الوتر وترمي إلى هذا الهدف العظيم.

وإذا استعرضنا سيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نجده كثيرا ما يوجه أصحابه إلى العزوف عن الدنيا والزهد في زخارفها، وذلك بتصغير شأنها وتحقير مفاتنها. كل ذلك كي لا تشغلهم عن المهمة العظمى التي خلقوا من أجلها، ولا تقطعهم عن الرسالة المقدسة التي يحملونها.

فتارة يبين أن الله تعالى جعل الدنيا زينة لنا ابتلاء واختبارا لينظر هل نتصرف فيها على نحو ما يرضيه أم لا؟ فيقول عليه الصلاة والسّلام: إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله تعالى مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقو النساء (١). وتارة ينبه الرسول عليه الصلاة والسّلام أصحابه إلى أن الدنيا ظل زائل ومتعة عابرة، حتى لا يركنوا إليها فتقطعهم عن الله تعالى. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك (٢).

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: نام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على حصير

__________

(١) أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وتمام الحديث فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء .

(٢) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الرقاق.

فقام وقد أثّر في جنبه، فقلنا يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء. فقال: م لي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب، استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها (١). وتارة يشير الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى حقارة شأنها في نظر الحق سبحانه فيقول: لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافرا منها شربة ماء (٢).

وهكذا سار الرسول عليه الصلاة والسّلام هو وخلفاؤه وأصحابه الكرام على هذ المنهج الكريم، فعزفت نفوسهم عن الدنيا، وزهدت قلوبهم فيها.

مرت بهم فترات من الفقر والشدائد والمحن فما ازدادوا إلا صبرا وتسليم ورضاء بحكم الله تعالى، ثم جاءتهم الدنيا صاغرة، وألقت بين أيديهم خزائنه ومقاليدها فاتخذوها سلّما للآخرة ووسيلة إلى رضوان الله تعالى، دون أن تشغل قلوبهم عن الله تعالى وطاعته، أو توقعهم في الترف والبطر، أو الكبر والغرور، أو الشح والبخل. فقد خرج أبو بكر رضي الله عنه عن ماله كله في سبيل الله، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما تركت لأهلك؟ قال: تركت الله ورسوله (٣).

وأما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فهو صاحب اليد الطولى في هذا المضمار، وببذله وزهده تضرب الأمثال.

وأما عثمان رضي الله عنه فهو الذي جهز جيش العسرة، وأنفق عليه

__________

(١) أخرجه الترمذي في كتاب الزهد، وقال: حديث صحيح.

(٢) رواه الترمذي في كتاب الزهد عن سهل بن سعد الساعدي. وقال: حديث حسن صحيح.

(٣) رواه أبو داود في كتاب الزكاة والترمذي في كتاب المناقب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقال: حديث حسن صحيح.

من ماله، غير مكترث بعظم هذه النفقات بجانب رضاء الله، ولبالغ تضحيته وإيثاره وعزوفه عن الدنيا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حقه: ما ضرّ عثمان ما عمل بعد اليوم (١).

وكتب السيرة طافحة بأخبار زهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم وزهد أصحابه الكرام رضوان الله عليهم. ويضيق المجال عن التفصيل، ونكتفي بذكر النبذ اليسيرة التالية:

عن نافع قال: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول: (والله ما شمل النبي صلّى الله عليه وسلّم في بيته ولا خارج بيته ثلاثة أثواب، ولا شمل أبا بكر في بيته ثلاثة أثواب، غير أني كنت أرى كساهم إذا أحرموا، كان لكل واحد منهم مئزر ومشمل لعلها كله بثمن درع أحدكم، والله لقد رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم يرقع ثوبه، ورأيت أب بكر تخلل بالعباءة، ورأيت عمر يرقع جبته برقاع من أدم وهو أمير المؤمنين، وإني لأعرف في وقتي هذا من يجيز المائة، ولو شئت لقلت ألفا (٢).

وقالت حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما لعمر: (يا أمير المؤمنين لو لبست ثوبا هو ألين من ثوبك، وأكلت طعاما هو ألين من طعامك، وقد وسّع الله من الرزق وأكثر من الخير، فقال: إني سأخصمك إلى نفسك، ألا تذكرين ما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلقى من شدة العيش؟ فما زال يذكّرها حتى أبكاها، فقال لها: أما والله لئن استطعت لأشاركهما في مثل عيشهما الشديد لعلّي أدرك معهما عيشهما الرخي) (٣).

__________

(١) رواه الترمذي في كتاب المناقب عن كثير مولى عبد الرحمن بن سمرة.

(٢) تاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص ١٠٢.

(٣) تاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص ١٠٤.



  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!