موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب حقائق عن التصوف

للشيخ عبد القادر عيسى الحسيني الشاذلي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


الثانية الإرادة ** | ** الثالثة الصبابة ** | ** الرابعة الغرام ** | ** الخامسة الوداد ** | ** السادسة الشغف ** | ** السابعة العشق ** | ** الثامنة التتيم ** | ** التاسعة التعبد ** | ** العاشرة الخلة

الثانية الإرادة: وهي ميل القلب إلى محبوبه وطلبه له.

الثالثة الصبابة: وهي انصباب القلب إلى المحبوب بحيث لا يملكه صاحبه، كانصباب الماء في المنحدر.

الرابعة الغرام: وهو الحب اللازم للقلب لا يفارقه، بل يلازمه كملازمة الغريم لغريمه.

الخامسة الوداد: وهو صفو المحبة، وخالصها، ولبها.

السادسة الشغف: وهو وصول الحب إلى شغاف القلب. قال الإمام الجنيد رحمه الله تعالى: الشغف أن لا يرى المحب جفاء، بل يراه عدلا منه ووفاء.

وتعذيبكم عذب لديّ وجوركم عليّ بما يقضي الهوى لكم عدل

السابعة العشق: وهو الحب المفرط الذي يخاف على صاحبه منه.

الثامنة التتيّم: وهو التعبد والتذلل، يقال: تيّمه الحب أي ذلّله وعبّده.

التاسعة التعبد: وهو فرق التتيم، فإن العبد لم يبق له شيء من نفسه.

العاشرة الخلة: انفرد بها الخليلان إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسّلام، وهي المحبة التي تخللت روح المحب وقلبه، حتى لم يبق موضع لغير المحبوب (١).

وقد رأى الصوفية أن سر هذه الحياة يقوم على حرفين اثنين: الحاء والباء:

__________

(١) انظر كتاب مدارج السالكين ص ١٨.

وأحسن حالة الإنسان ضدق ... وأكمل وصفه حاء وباء

فالتكاليف تسهل وتلذّ إذا ما وجد الحب:

لولاك يا سرّ الوجود ... ما طاب عيشي ولا وجودي

ولا ترنّمت في صلاتي ... ولا ركوعي ولا سجودي

وإذا تمكن الحب من القلب أخرج هذه الدنيا الفانية من سويدائه، وعاش صاحبه حياة طيبة منعمة، لا يعرف الهمّ سبيله إليه.

مر بعض الصوفية على رجل يبكي على قبر، فسأله عن سبب بكائه فقال: إنّ لي حبيبا قد مات. فقال: لقد ظلمت نفسك بحبك لحبيب يموت، فلو أحببت حبيبا لا يموت لم تعذبت بفراقه.

وفي واقعنا أمثلة كثيرة عمن يسترخص موته عند يأسه من لقاء من يحبه، أو انقطاع أمله مما تعلق قلبه به من متاع زائل. فلانتحار، وحرق النفس والترامي على صخرة الموت .. أمور كلنا نسمعها عن محبين بائسين خاسرين، وقد قيل:

فإن شئت أن تحيا حياة هنيئة ... فلا تتخذ شيئا تخاف له فقدا

فأين هؤلاء من أحباب الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم الذين أحبوا الله، ورضوا به ربا، وبرسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم رسولا، وبالإسلام دينا!

فمنهم من أحب الموت، ورحب به ليلقى من ورائه أحبابه ... (غدا ألقى الأحبة، محمدا وصحبه) (١).

ومنهم من ضحى بنفسه ودمه في ساحات الجهاد، لينال رضوان الله

__________

(١) قال ذلك بلال رضي الله عنه عند احتضاره. ومرّ عزوه في صفحة ٢٩٣.

ويحظى بلقائه، ومنهم ومنهم .. وفرق كبير بين من يضحي بنفسه في سبيل الله تعالى، وبين من يضحي بنفسه لفقد شيء خسيس تافه:

أنت القتيل بأيّ من أحببته ... فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي

وأعلى وأغلى الثمرات التي يقطفها المحب، هو الحب المتبادل: {يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونَهُ} [المائدة: ٥٤]. والرضى المتبادل: {رَضِيَ الله عَنْهُمْ ورَضُو عَنْهُ} [البينة: ٨]. والذكر المتبادل: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: ١٥٢].

مر عيسى عليه السّلام على طائفة من العبّاد، قد وهنت أبدانهم، وتغيرت ألوانهم من العبادة؛ فقال لهم: من أنتم؟ فقالوا: نحن عباد الله تعالى. فقال: ولأي شيء تعبدتم؟ قالوا: خوّفنا الله من ناره، فخفنا منها. فقال: إن الله تعالى قد أمّنكم مما خفتم منه. ثم جاوزهم لآخرين أشد منهم عبادة، فقال: لأي شيء تعبدتم؟ قالوا: شوّقنا الله جنته وما أعد فيها لأوليائه، فنحن نرجوها بعبادتنا. فقال: إن الله أعطاكم ما رجوتم. ثم جاوزهم ومر بآخرين يتعبدون فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن المحبون لله عز وجل، لم نعبده خوفا من ناره، ولا شوقا إلى جنته، ولكن حبا له وتعظيما لجلاله؛ فقال أنتم أولياء الله حقا، وقد أمرت أن أقيم معكم، وأقام بين أظهرهم (١).

يشير هذا الشاهد إلى أن الناس يتفاوتون باختلاف هممهم؛ فمنهم من يريد الدنيا؛ ومنهم من يريد الآخرة، ومنهم من يريد الله تعالى.

سمع بعض الصوفية قارئا يقرأ: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ اَلدُّنْيا ومِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران: ١٥٢]. فقال: وأين من يريد الله؟! ...

__________

(١) نور التحقيق ص ٨٤.

ولهذا قال الإمام علي رضي الله عنه: (إن قوما عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإن قوما عبدوا الله شكر فتلك عبادة الأحرار).

وقيل في وصف الذين أرادوا الله، وأحبوه دون غيره:

فما مقصودهم جنات عدن ... ولا الحور الحسان ولا الخيام

سوى نظر الجليل وذا مناهم ... وهذا مقصد القوم الكرام

(لله در أقوام إذا جن عليهم الليل سمعت لهم أنين الخائف .. وإذا أصبحو رأيت عليهم تغير ألوان ..

إذا ما الليل أقبل كابدوه ... ويسفر عنهم وهم ركوع

أطار الشوق نومهم فقاموا ... وأهل الأمن في الدنيا خشوع

أجسادهم تصبر على التعبد، وأقدامهم ليلها مقيمة على التهجد، لا يردّ لهم صوت ولا دعاء، تراهم في ليلهم سجدا ركعا، وقد ناداهم المنادي، وأطربهم الشادي:

يا رجال الليل جدّوا ... ربّ صوت لا يردّ

لا يقوم الليل إلا ... من له حزم وجدّ

لو أرادوا في ليلتهم ساعة أن يناموا أقلقهم الشوق إليه فقاموا، وجذبهم الوجد والغرام فهاموا، وأنشدهم مريد الحضرة عن لسان الحضرة وبثّهم، وحملهم على المناجاة وحثّهم:

حثّوا مطاياكم وجدّوا ... إن كان لي في القلوب وجد

قد آن أن تظهر الخبايا ... وتنشر الصحف فاستعدّوا

الفرش مشتاقة إليهم، والوسائد متأسفة عليهم، النوم قرّم إلى

عيونهم (١)، والراحة مرتاحة إلى جنوبهم. الليل عندهم أجلّ الأوقات في المراتب، ومسامرهم عند تهجدهم يرعى الكواكب. هجروا المنام في الظلام، وقلدوا بطول المقام، وناجوا ربهم بأطيب كلام، وأنسوا بقرب الملك العلاّم، لو احتجب عنهم في ليلهم لذابوا، ولو تغيّب عنهم لحظة لما طابوا .. يديمون التهجد إلى السحر ويتوقعون ثمر اليقظة والسهر ..

بلغنا أن الله تبارك وتعالى يتجلى للمحبين، فيقول لهم: من أنا؟ فيقولون: أنت مالك رقابنا، فيقول: أنتم أحبتي، أنتم أهل ولايتي وعنايتي هاوجهي فشاهدوه، ه كلامي فاسمعوه، ها كأسي فاشربوه: {وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَرابًا طَهُورًا} [الدهر: ٢١] .. إذا شربوا طابوا، وإذا طابوا طربوا، وإذا طربوا قاموا، وإذا قاموا هاموا.

لمّا حملت ريح الصبا قميص يوسف، لم يفضض ختامه إلا يعقوب .. ما عرفه أهل كنعان ومن عندهم خرج، ولا يهوذا وهو الحامل (٢).

والحب فطرة في النفس الزكية، تنزع بها إلى تفهم حقيقتها والشوق إلى التعرف على خالقها. ويزداد الحب كلما ازداد الإيمان، وبمقدار كمال النفس يكون الحب، وعلى قدر الحب تكون السعادة ويكون

__________

(١) قال في القاموس . القرم محركة: شدة شهوة اللحم، وكثر حتى قيل في الشوق إلى الحبيب. ج ٤. ص ١٦٣. وكأنه يقول: النوم مشتهى إلى عيونهم، إلا أن الشوق إلى الله تعالى أبعد النوم عن عيونهم.

(٢) كتاب نهر الذهب في أخبار من ذهب للشيخ كامل بن حسين الحلبي الشهير بالغزي ج ٢. ص ١٩١ و ١٩٢.

النعيم. وحب الله تعالى يسمو بالذوق الإنساني؛ إذ يحوّل صاحبه إلى لطيفة راضية مطمئنة.

ولقد جرّد الصوفية الحب عن المطامع والشهوات، وأخلصوا الحب لله تعالى، فليس في حبهم علة، ولا لعشقهم دواء إلا رضى مولاهم، تقول رابعة العدوية رحمها الله تعالى:

كلّهم يعبدون من خوف نار ... ويرون النجاة حظا جزيلا

أو لكي يسكنوا الجنان فيحظوا ... بكؤوس ويشربوا السلبيلا

أو يقيموا بين القصور جميعا ... أنا لا أبتغي بحبّي بديلا

ومعنى ذلك أنها لا ترى الحياة إلا حبا في الله، ووقوفا عند أوامره ونواهيه، لأن المحب لمن يحب مطيع. ولبعض المحبين:

فليتك تحلو والحياة مريرة ... وليتك ترضى والأنام غضاب

وليت الذي بيني وبينك عامر ... وبيني وبين العالمين خراب

إذا صحّ منك الودّ فالكلّ هين ... وكلّ الذي فوق التراب تراب

ولقد عرف الصوفية طريق الحب فساروا فيه ..

قال الله تعالى في الحديث القدسي: وما تقرب عبدي بشيء أحبّ إليّ مم افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينّه، ولئن استعاذني لأعيذنّه (١).

__________

(١) رواه البخاري في صحيحه في كتاب الرقاق باب التواضع عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وهو أصل السلوك إلى الله تعالى، والوصول إلى معرفته.

سئل ذو النون المصري رحمه الله تعالى عن المحبة فقال: (أن تحب ما أحب الله، وتبغض ما أبغض الله، وتفعل الخير كله، وترفض كل ما يشغل عن الله، وأن لا تخاف في الله لومة لائم، مع العطف على المؤمنين، والغلظة على الكافرين، واتّباع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الدين) (١).

وقال أيضا: (من علامات المحب لله، متابعة حبيب الله في أخلاقه وأفعاله وأمره وسنته) (٢).

وقال السيد أحمد الرفاعي رحمه الله تعالى: (من أحب الله علّم نفسه التواضع، وقطع عنها علائق الدنيا، وآثر الله تعالى على جميع أحواله، واشتغل بذكره، ولم يترك لنفسه رغبة فيما سوى الله تعالى، وقام بعبادته .. ) (٣).

وقال محمد بن علي الترمذي الحكيم رحمه الله تعالى: (حقيقة محبته دوام الأنس بذكره) (٤).

وقال ابن الدباغ رحمه الله تعالى: (ولما كان مطلب ذوي العقول الكاملة والنفوس الفاضلة نيل السعادة القصوى التي معناها الحياة الدائمة في الملأ الأعلى، ومشاهدة أنوار حضرة قدس المولى، والتلذذ بمطالعة الجمال الإلهي الأسنى، ومعاينة مطالع النور القدس الأبهى. وهذه السعادة لا تحصل إلا لنفس زكية، قد سبقت لها في الأزل العناية الربانية، بتيسيرها لسلوك الطرق العلمية والعملية المفضيات بها إلى المحبة

__________

(١ - ٢) طبقات الصوفية للسلمي ص ١٨.

(٣) البرهان المؤيد للسيد أحمد الرفاعي ص ٥٩.

(٤) طبقات الصوفية ص ٢١٩.

الحقيقية، والشوق إلى الأنوار الإلهية؛ وبحصول هذه السعادة يحصل للنفوس العارفة من اللذة والابتهاج ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. فيجب على كل ذي لب المبادرة إلى تحصيل هذا الأمر الجليل، وورود هذا المورد السلسبيل الذي لم يصل إليه من الناس إلا القليل. فالعاشق يحنّ إلى هذا الموطن الجليل، وينجذب جملة إلى ظله الظليل ونسيمه العليل، وورود منهله العذب، فلا يشيم البرق إلا لأنه يأتي من ذلك الجناب الرفيع، ويخبر عن سر جماله البديع؛ فلهذا كان لمعان البروق يقطع بالشوق أفلاذ كبد المشوق) (١).

بمثل هذا الذوق وصل الصوفية إلى الاطمئنان والرضا في ظلال الحب الإلهي، ورأوا متعا روحية دونها متع الحياة وشهواتها. وحسبهم أنهم يسرّون مع الله، وينعمون بقربه، ويشعرون بفضله وجوده {رَضِيَ الله عَنْهُمْ ورَضُوا عَنْهُ} [البينة: ٨]. {يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونَهُ} [المائدة: ٥٤].

فاختارهم بعد ما أحبّهم ورضي عنهم، أولئك خلاصة خلقه، وخواص أحبابه، فقيل فيهم:

لله قوم أخلصوا في حبّه ... فاختارهم ورضي بهم خدّاما

قوم إذا جنّ الظلام عليهم ... أبصرت قوما سجدا وقياما

يتلذذون بذكره في ليلهم ... ويكابدون به النهار صياما

فسيغنمون عرائسا بعرائس ... ويبوّؤن من الجنان خياما

وتقرّ أعينهم بما أخفي لهم ... وسيسمعون من الجليل سلاما

***

__________

(١) مشارق أنوار القلوب لابن الدباغ المتوفى سنة ٦٩٦ هـ. ص ٣٦.



  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!