موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب حقائق عن التصوف

للشيخ عبد القادر عيسى الحسيني الشاذلي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


موقف الصوفية من الكرامات

ونعمائه قصور، وكلّ معارفهم وعلومهم في مقابلة عزته حيرة وجهل، رأيت في بعض الكتب أنه قرأ المقرئ في مجلس الأستاذ أبي علي الدقاق قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ والْعَمَلُ اَلصّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: ١٠].

فقال: علامة أن الحق رفع عملك أن لا يبقى عندك [أي عملك] فإن بقي عملك في نظرك فهو مدفوع، وإن لم يبق معك فهو مرفوع) (١).

وعلى هذا فإننا حين نرى أحدا من الناس يأتي بخوارق العادات لا نستطيع أن نحكم عليه بالولاية، ولا يمكن أن نعتبر عمله هذا كرامة حتى نرى سلوكه وتمسكه بشريعة الله. قال أبو يزيد رحمه الله تعالى: (لو أن رجلا بسط مصلاّه على الماء وتربّع في الهواء فلا تغترّوا به حتى تنظروا كيف تجدونه في الأمر والنهي) (٢).

موقف الصوفية من الكرامات:

إن بعض المنحرفين عن الصوفية يدّعي أن مقصد الصوفية من سيرهم هو الوصول إلى الكرامات (٣) وهم في هذا إنما يترجمون عما في نفوسهم من أمراض خبيثة وعلل دفينة؛ مع أننا نرى الصوفية يهتمون بتزكية النفس وتخليصها من صفاتها المذمومة كالرياء والنفاق، وتحليتها بالصفات العالية، أن يكون سيره معهم بعيدا عن العلل والغايات، وألا يبتغي إلا

__________

(١) تفسير الرازي ج ٥. ص ٦٩٢.

(٢) اللمع للطوسي ص ٤٠٠.

(٣) من بينهم عبد الرحمن الوكيل الذي دفعه الحقد الدفين والخلق الذميم إلى التهجم على السادة الصوفية وتزييف كلامهم والدس عليهم، فجمع الأشياء التي دسّت على الصوفية وجعلها في كتاب له.

وجه الله تعالى ورضاه. كما نراهم يستترون من الكرامة بعدا عن شبهة الرياء.

قال الشيخ أبو عبد الله القرشي رحمه الله تعالى: (من لم يكن كارها لظهور الآيات وخوارق العادات منه كراهية الخلق لظهور المعاصي فهو في حقه حجاب، وستره عليه رحمة، فإنّ من خرق عوائد نفسه لا يريد ظهور شيء من الآيات وخوارق العادات له، بل تكون نفسه عنده أقل وأحقر من ذلك، فإذا فني عن إراداته جملة فكان له تحقق في رؤية نفسه بعين الحقارة والذلة، حصلت له أهلية ورود الألطاف، والتحقق بمراتب الصديقين) (١).

وقال علي الخواص رحمه الله تعالى: (الكمّل يخافون من وقوع الكرامات على أيديهم، ويزدادون بها وجلا وخوفا لاحتمال أن تكون استدراجا) (٢).

ثم إن الصوفية يمنعون إظهار الكرامة إلا لغرض صحيح؛ كنصرة شريعة الله أمام الكافرين والمعاندين (٣) وكإبطال سحر الكافرين والضالين

__________

(١) نور التحقيق لحامد صقر ص ١٢٧.

(٢) اليواقيت والجواهر لعبد الوهاب الشعراني ج ٢ ص ١١٣.

(٣) كما حدث مع الشيخ محي الدين بن عربي في قصته مع الفيلسوف، وهو يرويه لنا بقوله: (حضر عندنا سنة ست وثمانين وخمسمائة فيلسوف ينكر النبوة على الحد الذي يثبتها المسلمون، وينكر ما جاءت به الأنبياء من خرق العوائد وأن الحقائق لا تتبدل، وكان زمن البرد والشتاء وبين أيدينا منقل عظيم يشتعل نارا، فقال المنكر المكذب: إن العامة تقول: إن إبراهيم عليه السّلام ألقي في النار فلم تحرقه، والنار محرقة بطبعها الجسوم القابلة للاحتراق، وإنما كانت النار المذكورة في القرآن في قصة إبراهيم عبارة عن غضب نمرود وحنقه، فهي نار الغضب. فلما فرغ من قوله قال له بعض الحاضرين [أي الشيخ محي الدين نفسه]: فإن أريتك أنا =

أو الفسقة المشعوذين الذين يريدون أن يضلوا الناس عن دينهم ويشككوهم في عقائدهم وإيمانهم (١). أما إظهارها بدون سبب مشروع فهو مذموم، لما فيه من حظ النفس والمفاخرة والعجب.

قال الشيخ محي الدين رحمه الله تعالى: (ولا يخفى أن الكرامة عند أكابر الرجال معدودة من جملة رعونات النفس، إلا إن كانت لنصر دين أو جلب مصلحة، لأن الله تعالى هو الفاعل عندهم، لا هم، هذا مشهدهم، وليس وجه الخصوصية إلا وقوع ذلك الفعل الخارق على يدهم دون غيرهم؛ فإذا أحيا كبشا مثلا أو دجاجة فإنما ذلك بقدرة الله ل بقدرتهم، وإذا رجع الأمر إلى القدرة فلا تعجب) (٢).

__________

= صدق الله في ظاهر ما قاله في النار أنها لم تحرق إبراهيم، وأن الله جعلها عليه - كما قال - بردا وسلاما، وأنا أقوم لك في هذا المقام مقام إبراهيم في الذبّ عنه؟ فقال المنكر: هذا لا يكون، فقال له: أليست هذه النار المحرقة؟ قال: نعم. فقال: تراها في نفسك، ثم ألقى النار التي في المنقل في حجر المنكر، وبقيت على ثيابه مدة يقلبها المنكر بيده، فلما رآها لم تحرقه تعجب، ثم ردها إلى المنقل، ثم قال له: قرّب يدك أيضا منها، فقرّب يده فأحرقته. فقال له: هكذا كان الأمر، وهي مأمورة، تحرق بالأمر وتترك الإحراق كذلك، والله تعالى الفاعل لما يشاء. فأسلم ذلك المنكر واعترف). الباب الخامس والثمانون ومائة من الفتوحات المكية ج ٢. ص ٣٧١.

(١) ومن ذلك ما ذكره العلامة ابن حجر الهيثمي في الفتاوى الحديثية من أنّ صوفيا ناظر برهميا، والبراهمة قوم تظهر لهم خوارق لمزيد الرياضات، فطار البرهمي في الجو، فارتفعت إليه نعل الشيخ ولم تزل تضرب رأسه وتصفعه حتى وقع على الأرض منكوس على رأسه بين يدي الشيخ والناس ينظرون. انظر الفتاوى الحديثية لابن حجر ص ٢٢٢.

(٢) الباب الخامس والثمانون والمائة من الفتوحات المكية. كذا في اليواقيت والجواهر للشعراني ج ٢. ص ١١٧.

ثم إن الصوفية يعتبرون أن أعظم الكرامات هي الاستقامة على شرع الله تعالى.

قال أبو القاسم القشيري رحمه الله تعالى في رسالته: (واعلم أن من أجلّ الكرامات التي تكون للأولياء دوام التوفيق للطاعات، والحفظ من المعاصي والمخالفات) (١).

وذكر عند سهل بن عبد الله التستري رحمه الله تعالى الكرامات فقال: (وم الآيات وما الكرامات؟! أشياء تنقضي لوقتها، ولكن أكبر الكرامات أن تبدّل خلق مذموما من أخلاق نفسك بخلق محمود) (٢).

وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رحمه الله تعالى: (الكرامة الحقيقية إنما هي حصول الاستقامة، والوصول إلى كمالها. ومرجعها أمران: صحة الإيمان بالله عز وجل. واتباع ما جاء به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ظاهرا وباطنا؛ فالواجب على العبد أن لا يحرص إلاّ عليهما ولا تكون له همة إلا في الوصول إليهما. وأما الكرامة بمعنى خرق العادة فلا عبرة بها عند المحققين، إذ قد يرزق بها من لم تكتمل استقامته، وقد يرزق بها المستدرجون) وقال: (إنما هي كرامتان جامعتان محيطتان؛ كرامة الإيمان بمزيد الإيقان وشهود العيان، وكرامة العمل على الاقتداء والمتابعة ومجانبة الدعاوي والمخادعة، فمن أعطيهما ثم جعل يشتاق إلى غيرهما فهو عبد مفتر كذاب، ليس ذا حظ في العلم والعمل بالصواب؛ كمن أكرم بشهود الملك على نعت الرضا فجعل يشتاق إلى سياسة الدواب وخلع الرضا) (٣).

__________

(١) الرسالة القشيرية ص ١٦٠.

(٢) كتاب اللمع للطوسي ص ٤٠٠.

(٣) نور التحقيق ص ١٢٨.

وقال الشيخ محي الدين بن عربي رحمه الله تعالى: (واعلم أن الكرامة على قسمين: حسية ومعنوية، ولا تعرف العامة إلا الحسية؛ مثل الكلام على الخاطر، والإخبار بالمغيبات الماضية والكائنة والآتية، والأخذ من الكون، والمشي على الماء، واختراق الهواء، وطي الأرض، والاحتجاب عن الأبصار، وإجابة الدعاء في الحال، ونحو ذلك. فالعامة لا تعرف الكرامات إلا مثل هذا. وأما الكرامة المعنوية فلا يعرفها إل الخواص من عباد الله تعالى، والعامة لا تعرف ذلك وهي أن يحفظ على العبد آداب الشريعة، وأن يوفّق لفعل مكارم الأخلاق واجتناب سفاسفها، والمحافظة على أداء الواجبات مطلقا في أوقاتها والمسارعة إلى الخيرات، وإزالة الغل والحقد من صدره للناس والحسد وسوء الظن، وطهارة القلب من كل صفة مذمومة، وتحليته بالمراقبة مع الأنفاس، ومراعاة حقوق الله تعالى في نفسه وفي الأشياء، وتفقد آثار ربه في قلبه، ومراعاة أنفاسه في دخولها وخروجها، فيتلقاها بالأدب إذا وردت عليه ويخرجها وعليه حلة الحضور مع الله تعالى، فهذه كلها عندنا كرامات الأولياء المعنوية التي ل يدخلها مكر ولا استدراج) (١).

ثم إن السادة الصوفية لا يعتبرون ظهور الكرامات على يد الولي الصالح دليل على أفضليته على غيره. قال الإمام اليافعي رحمه الله تعالى: (لا يلزم أن يكون كلّ من له كرامة من الأولياء أفضل من كل من ليس له كرامة منهم، بل قد يكون بعض من ليس له كرامة منهم أفضل من بعض من له كرامة، لأن الكرامة قد تكون لتقوية يقين صاحبها، ودليلا

__________

(١) الباب الرابع والثمانون ومائة من الفتوحات المكية ج ٢. ص ٣٦٩.

على صدقه وعلى فضله لا على أفضليته، وإنما الأفضلية تكون بقوة اليقين، وكمال المعرفة بالله تعالى) (١).

كما أن الصوفية يعتبرون أن عدم ظهور الكرامة على يد الولي الصالح ليس دليلا على عدم ولايته.

قال الإمام القشيري رحمه الله تعالى في رسالته: (لو لم يكن للولي كرامة ظاهرة عليه في الدنيا، لم يقدح عدمها في كونه وليا) وقال شيخ الإسلام زكري الأنصاري في شرحه لرسالة القشيري عند هذا الكلام: (بل قد يكون أفضل ممّن ظهر له كرامات، لأن الأفضلية إنما هي بزيادة اليقين لا بظهور الكرامة) (٢).

***

__________

(١) كتاب نشر المحاسن الغالية لعبد الله اليافعي ص ١١٩.

(٢) الرسالة القشيرية ص ١٥٩.



  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!