موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب حقائق عن التصوف

للشيخ عبد القادر عيسى الحسيني الشاذلي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


وحدة الوجود

المنصف إلا أن يحسن الظن بالمؤمنين، ويؤول كلامهم على معنى شرعي مستقيم (١).

وحدة الوجود:

اختلف علماء النظر في موقفهم من العارفين المحققين القائلين بوحدة الوجود، فمنهم من تسرع باتهامهم بالكفر والضلال، وفهم كلامهم على غير المراد. ومنهم من لم يتورط بالتهجم عليهم، فتثبت في الأمر ورجع إليهم ليعرف مرادهم. لأن هؤلاء العارفين مع توسعهم في هذه المسألة لم يبحثوا فيها بحثا يزيل إشكال علماء النظر، لأنهم تكلموا في ذلك ودوّنوا لأنفسهم وتلاميذهم لا لمن لم يشهد تلك الوحدة من غيرهم، لذلك احتاج الأمر للإيضاح لتطمئن به قلوب أهل التسليم من علماء النظر.

ومن العلماء الذين حققوا في هذه المسألة، وفهموا المراد منها السيد مصطفى كمال الشريف. حيث قال: (الوجود واحد، لأنه صفة ذاتية للحق سبحانه وتعالى، وهو واجب فلا يصح تعدده، والموجود هو الممكن، وهو العالم فصح تعدده باعتبار حقائقه. وقيامه إنما هو بذلك الوجود الواجب لذاته، فإذا زال بقي الوجود كما هو، فالموجود غير الوجود، فلا يصح أن يقال الوجود اثنان: وجود قديم ووجود حادث، إلا أن يراد بالوجود الثاني الموجود من إطلاق المصدر على المفعول، فعلى هذا لا يترتب شيء من المحاذير التي ذكرها أهل النظر على وحدة الوجود القائل بها أهل التحقيق .. إلى أن قال: الحسّ لا يرى إلا الهياكل أي الموجود، والروح لا تشهد إلا الوجود، وإذا شهدت الموجود فلا

__________

(١) انظر بحث تأويل كلام السادة الصوفية ص ٤١٥.

تشهده إلا ثانيا، على حدّ من قال: ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله قبله، وأراد بهذه الرؤية الشهود لا رؤية البصر، لأن الرؤية من خصائص البصر، والشهود من خصائص البصيرة، لذلك ورد: أشهد أن لا إله إلا الله، ولم يرد أرى؛ بل ولا يصح أن يقال: أرى) (١).

وهكذا شأن العلماء المنصفين، يغارون على الشريعة الغراء، ويتثبّتون في الأمور، دون أن يتسرعوا بتكفير أحد من المؤمنين، ويرجعون في فهم كل حقيقة إلى أهل الاختصاص بها.

ونظرا لأن مسألة وحدة الوجود أخذت حظا كبيرا من اهتمام بعض العلماء، وشغلت أذهان الكثير منهم، أردنا أن نزيد الموضوع إيضاحا وتبسيطا خدمة للشريعة وتنوير للأفهام فنقول:

إن الوجود نوعان: وجود قديم أزلي؛ وهو واجب، وهو الحق سبحانه وتعالى، قال تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الْحَقُّ} [الحج: ٦٢]. أي الثابت الوجود، المحقّق.

ووجود جائز عرضي ممكن، وهو وجود من عداه من المحدثات.

وإن القول بوحدة الوجود، وأن الوجود واحد هو الحق تعالى يحتمل معنيين: أحدهما حق، والثاني كفر، ولهذا فالقائلون بوحدة الوجود فريقان:

١ - الفريق الأول: أرادوا به اتحاد الحق بالخلق، وأنه لا شيء في هذ الوجود سوى الحق، وأن الكل هو، وأنه هو الكل، وأنه عين الأشياء، وفي كل شيء له آية تدل على أنه عينه .. فقوله هذا كفر وزندقة وأشد ضلالة من أباطيل اليهود والنصارى وعبدة الأوثان.

__________

(١) رسالة وحدة الوجود للعلامة مصطفى كمال الشريف ص ٢٧ - ٢٨.

وقد شدّد الصوفية النكير على قائله، وأفتوا بكفره، وحذّروا الناس من مجالسته. قال العارف بالله أبو بكر محمد بناني رحمه الله تعالى: (فاحذر يا أخي كلّ الحذر من الجلوس مع من يقول: ما ثمّ إلا الله، ويسترسل مع الهوى، فإن ذلك هو الزندقة المحضة، إذ العارف المحقق إذا صح قدمه في الشريعة، ورسخ في الحقيقة، وتفوّه بقوله: ما ثمّ إلا الله، لم يكن قصده من هذه العبارة إسقاط الشرائع وإهمال التكاليف، حاش لله أن يكون هذا قصده) (١).

٢ - الفريق الثاني: قالوا ببطلان وكفر ما ذكر؛ من أن الخالق عين المخلوق، وإنما أرادوا بوحدة الوجود وحدة الوجود القديم الأزلي، وهو الحق سبحانه، فهو لا شك واحد منزه عن التعدد. ولم يقصدوا بكلامهم الوجود العرضي المتعدد. وهو الكون الحادث، نظرا لأن وجوده مجازي، وفي أصله عدميّ لا يضر ولا ينفع. فالكون معدوم في نفسه، هالك فان في كل لحظة. قال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلّا وَجْهَهُ} [القصص: ٨٨]. وإنما يظهره الإيجاد، ويثبته الإمداد. الكائنات ثابتة بإثباته، وممحوة بأحدّية ذاته، وإنما يمسكه سر القيومية فيه.

وهؤلاء قسمان:

١ - قسم أخذ هذا الفهم بالاعتقاد والبرهان، ثم بالذوق والعيان، وغلب عليه الشهود، فاستغرق في لجج بحار التوحيد، ففني عن نفسه فضلا عن شهود غيره، مع استقامته على شرع الله تعالى وهذا قوله حق.

٢ - وقسم ظن أن ذلك علم لفظي، فتوغل في تلاوة عباراته، وتمسّك بظواهر إشاراته، وغاب في شهودها عن شهود الحق، فربما

__________

(١) مدارج السلوك إلى ملك الملوك للعارف الكبير محمد بناني المتوفى ١٢٨٤ هـ.

هانت الشريعة في عينيه، لما يلتذ به من حلاوة تلك الألفاظ، فيقع على أم رأسه، ويتكلم بما ظاهره أن الشريعة في جهة يختص بها أهل الغفلة، والحقيقة في جهة أخرى يختص بها أهل العرفان، ولعمري إن هذا لهو عين الزور والبهتان، وما ثمّ إل شريعة ومقام إحسان.

وعلى كلّ فالأولى بالصوفي في هذا الزمان أن يبتعد عن الألفاظ والتعابير التي فيها إيهام أو غموض أو اشتباه (١) لئلا يوقع الناس بسوء الظن به، أو تأويل كلامه على غير ما يقصده، ولأن كثيرا من الزنادقة والدخلاء على الصوفية قد تكلمو بمثل هذه العبارات الموهمة والألفاظ المتشابهة، ليظهروا ما يكنّونه في قلوبهم من عقائد فاسدة، وليصلوا بذلك إلى إباحة المحرمات، وليبرّروا ما يقعون فيه من المنكرات والفواحش، فاختلط الحق بالباطل، وأخذ المؤمن الصادق بجريرة الفاسق المنحرف.

لهذا سيّج الصوفية بواطنهم وظواهرهم بالشريعة الغرّاء، وأوصوا تلامذتهم بالتمسك بها قولا وعملا وحالا، فهي عندهم باب الدخول وسلم الوصول، ومن حاد عنها كان من الهالكين، وقد مر بك كلام الصوفية في التمسك بالشريعة فارجع إليه في هذا الكتاب (٢).

وختاما نقول: إن تلك النقول عن العلماء الأعلام، وعن الصوفية

__________

(١) انظر بحث بين الحقيقة والشريعة ص ٣٨١ من هذا الكتاب.

(٢) أما ما ثبت من كلام أعلام الصوفية مما فيه غموض أو اشتباه فمردّه أحد سببين:

أ - إما لأنهم التزموا اصطلاحات ورموزا وإشارات لا يفهمها غيرهم كما أشرن إلى ذلك في بحث التأويل.

ب - وإما لأنهم تكلموا بها في حالات الغلبة والشطح. ولذلك لا يجوز لمن لم يذق مذاقهم ولم يبلغ مراتبهم أن يقلدهم في هذه العبارات ويتشدق بها أمام الناس.

أنفسهم، تكشف للقارئ الكريم أن الصوفية مبرؤّون مما نسب إليهم من القول بالحلول والاتحاد، ووحدة الوجود، وأن كلامهم مؤوّل على وجه شرعي، وموافق لما عليه أهل السنة والجماعة، من العقيدة الصحيحة السليمة، وأنهم ما نالوا هذه المواهب العرفانية إلا بالتمسك بالكتاب والسنة، وأنهم حقيقة رجال السلف الصالح - رضي الله عنهم - الذين تمسكوا بهدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأفلحوا وتحققو بالاتباع الكامل له عليه الصلاة والسّلام، فنالوا الرضى من الله تعالى، وفازو بسعادة الدارين.

{وَمَنْ يُطِعِ الله والرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمْ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ واَلصِّدِّيقِينَ واَلشُّهَداءِ واَلصّالِحِينَ وحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقًا} [النساء: ٦٩].

***



  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!