موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب حقائق عن التصوف

للشيخ عبد القادر عيسى الحسيني الشاذلي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


والخلاصة ** | ** أقسام الذكر ** | ** أ - ذكر السر والجهر

٣ - تمسكه بالعمل الصالح الذي لم يتصل به شيء من العلل، وهو التمسك بالشريعة المحمدية) (١).

والخلاصة:

إن جميع المربين والمرشدين الكاملين قد نصحوا السالكين في سيرهم إلى الله وأبانوا لهم أن الطريق العملي الموصل إلى الله تعالى وإلى رضوانه هو الإكثار من ذكر الله في جميع الحالات، وصحبة الذاكرين، لأن أنفاس الذاكرين تقطع شهوات النفس الأمّارة بالسوء.

***

أقسام الذكر

أ - ذكر السر والجهر:

إن ذكر الله تعالى مشروع سرا وجهرا، وقد رغّب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الذكر بنوعيه: السري والجهري، إلاّ أن علماء الشريعة الإسلامية قررو أفضلية الجهر بالذكر إذا خلا من الرياء، أو إيذاء مصلّ أو قارئ أو نائم، مستدلين ببعض الأحاديث النبوية الشريفة، منها:

١ - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:

يقول الله: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم (٢). والذكر في الملأ ل يكون إلا عن جهر.

__________

(١) تجريد شرح الأجرومية لابن عجيبة ص ٢٩.

(٢) أخرجه البخاري في صحيحه والترمذي والنسائي وابن ماجه.

٢ - عن زيد بن أسلم رضي الله عنه قال: قال ابن الأدرع رضي الله عنه: (انطلقت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم ليلة؛ فمر برجل في المسجد يرفع صوته، قلت: يا رسول الله عسى أن يكون هذا مرائيا؟ قال: لا، ولكنه أوّاه ) (١).

٣ - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم. قال ابن عباس: كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته) (٢).

٤ - عن السائب رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: جاءني جبريل قال: مر أصحابك يرفعوا أصواتهم بالتكبير (٣).

٥ - عن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: إنّا لعند النبي صلّى الله عليه وسلّم إذ قال:

ارفعوا أيديكم فقولوا: لا إله إلا الله، ففعلنا، فقال صلّى الله عليه وسلّم: اللهم إنّك بعثتني بهذه الكلمة وأمرتني بها ووعدتني عليها الجنة، إنك ل تخلف الميعاد، ثم قال: أبشروا فإن الله قد غفر لكم (٤).

وهناك أحاديث بلغت حدّ الكثرة، جمع منها العلامة الكبير جلال الدين السيوطي خمسة وعشرين حديثا في رسالة سماها نتيجة الفكر في الجهر بالذكر فقال: (الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين

__________

(١) رواه البيهقي. كما في الحاوي للفتاوي للسيوطي ج ١/ص ٣٩١.

(٢) أخرجه البخاري في صحيحه، والمعنى كنت أعلم انصرافهم بسماع الذكر، كم قال صاحب الفتح الحافظ ابن حجر العسقلاني في ج ٢/ص ٢٥٩.

(٣) رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وصححه السيوطي في كتابه الحاوي للفتاوي ج ١/ص ٣٨٩.

(٤) أخرجه الحاكم. كما في المصدر السابق ج ١/ص ٣٩١.

اصطفى، سألت أكرمك الله عما اعتاده السادة الصوفية من عقد حلق الذكر، والجهر به في المساجد، ورفع الصوت بالتهليل وهل ذلك مكروه، أو؛ لا؟

الجواب: إنه لا كراهة في شيء من ذلك، وقد وردت أحاديث تقتضي استحباب الجهر بالذكر، وأحاديث تقتضي استحباب الإسرار به، والجمع بينهما أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، وها أنا أبين ذلك فصلا فصلا.

ثم ذكر الأحاديث الدالة على ذلك بكاملها ثم قال: إذا تأملت ما أوردنا من الأحاديث، عرفت من مجموعها أنه لا كراهة البتة في الجهر بالذكر، بل فيه ما يدل على استحبابه؛ إما صريحا أو التزاما - كما أشرنا إليه -، وأما معارضته بحديث خير الذكر الخفي فهو نظير معارضة أحاديث الجهر بالقرآن بحديث المسر بالقرآن كالمسر بالصدقة ، وقد جمع النووي بينهما: بأن الإخفاء أفضل حيث خاف الرياء، أو تأذّى به مصلون أو نيام، والجهر أفضل في غير ذلك؛ لأن العمل فيه أكثر، ولأن فائدته تتعدى إلى السامعين، ولأنه يوقظ القارئ، ويجمع همه إلى الفكر، ويصرف سمعه إليه، ويطرد النوم، ويزيد في النشاط. وقال بعضهم: يستحب الجهر ببعض القراءة والإسرار ببعضها، لأن المسرّ قد يملّ فيأنس بالجهر، والجاهر قد يكلّ فيستريح بالإسرار. وكذلك نقول في الذكر على هذا التفصيل، وبه يحصل الجمع بين الأحاديث. فإن قلت: قال الله تعالى: {واُذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وخِيفَةً ودُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} [الأعراف: ٢٠٥]. قلت: الجواب على هذه الآية من ثلاثة أوجه:

الأول: إنها مكية كآية الإسراء: {ولا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ ولا تُخافِتْ بِها}

[الإسراء: ١١٠]. وقد نزلت حين كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يجهر بالقرآن، فيسمعه المشركون فيسبون القرآن ومن أنزله، فأمر بترك الجهر سدا للذريعة، كما نهي عن سب الأصنام لذلك في قوله تعالى: {ولا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله فَيَسُبُّوا الله عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: ١٠٨]. وقد زال هذا المعنى، وأشار إلى ذلك ابن كثير في تفسيره.

الثاني: إن جماعة من المفسرين - منهم عبد الرحمن بن زيد بن أسلم شيخ مالك، وابن جرير - حملوا الآية على الذاكر حال قراءة القرآن، وأنه أمر له بالذكر على هذه الصفة تعظيما للقرآن أن ترفع عنه الأصوات، ويقويه اتصالها بقوله تعالى: {وإِذ قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وأَنْصِتُوا} [الأعراف: ٢٠٤]. قلت وكأنه لم أمر بالإنصات خشي من ذلك الإخلاد إلى البطالة، فنبه على أنه وإن كان مأمورا بالسكوت باللسان إلا أن تكليف الذكر بالقلب باق حتى لا يغفل عن ذكر الله، ولذا ختم الآية بقوله: {وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ} [الأعراف: ٢٠٥].

الثالث: ما ذكره الصوفية أن الأمر في الآية خاص بالنبي صلّى الله عليه وسلّم الكامل المكمل، وأما غيره - ممن هو محل الوساوس والخواطر الرديئة - فمأمور بالجهر، لأنه أشد تأثيرا في دفعها.

قلت: ويؤيده من الحديث ما أخرجه البزار عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من صلّى منكم بالليل فليجهر بقراءته فإن الملائكة تصلي بصلاته، وتسمع لقراءته، وإنّ مؤمني الجن الذين يكونون في الهواء، وجيرانه معه في مسكنه يصلون بصلاته، ويستمعون قراءته، وإنه ينطرد بجهره بقراءته عن داره وعن الدور التي حوله فسّاق الجن ومردة الشياطين .

فإن قلت: فقد قال تعالى: {اُدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ

الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: ٥٥]. وقد فسر الاعتداء بالجهر في الدعاء.

قلت: الجواب عنه من وجهين:

أحدهما: أن الراجح في تفسيره أنه تجاوز المأمور به، أو اختراع دعوة لا أصل لها في الشرع، ويؤيده ما أخرجه ابن ماجه، والحاكم في مستدركه وصححه عن أبي نعامة رضي الله عنه: (أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة. فقال: إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون بالدعاء ) فهذا تفسير صحابي، وهو أعلم بالمراد.

الثاني: على تقدير التسليم فالآية في الدعاء لا في الذكر، والدعاء بخصوصه؛ الأفضل فيه الإسرار، لأنه أقرب إلى الإجابة، ولذا قال تعالى: {إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا} [مريم: ٣]. ومن ثمّ استحب الإسرار بالاستعاذة في الصلاة اتفاق لأنها دعاء.

فإن قلت: فقد نقل عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه رأى قوما يهللون برفع الصوت في المسجد فقال: ما أراكم إلا مبتدعين حتى أخرجهم من المسجد. قلت: هذا الأثر عن ابن مسعود يحتاج إلى بيان سنده، ومن أخرجه من الأئمة الحفاظ في كتبهم، وعلى تقدير ثبوته فهو معارض بالأحاديث الكثيرة الثابتة المتقدمة، وهي مقدمة عليه عند التعارض، ثم رأيت ما يقتضي إنكار ذلك عن ابن مسعود، قال الإمام أحمد بن حنبل في كتاب الزهد: حدثنا حسين بن محمد حدثنا المسعودي عن عامر بن شقيق عن أبي وائل قال: هؤلاء الذين يزعمون أن عبد الله كان ينهى عن الذكر، ما جالست عبد الله مجلسا إل ذكر الله فيه. وأخرج أحمد في الزهد عن ثابت البناني قال: إن أهل ذكر الله ليجلسون إلى ذكر الله وإن

عليهم من الآثام أمثال الجبال، وإنهم ليقومون من ذكر الله تعالى ما عليهم منها شيء) (١).

وقال العلامة الكبير الشيخ محمود الألوسي في تفسيره عند قوله تعالى: {وإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ اَلسِّرَّ وأَخْفى} [طه: ٧]. وقيل: نهي عن الجهر بالذكر والدعاء، لقوله تعالى: {واُذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وخِيفَةً ودُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} [الأعراف: ٢٠٥].

وأنت تعلم أن القول: بأن الجهر بالذكر والدعاء منهي، لا ينبغي أن يكون على إطلاقه. والذي نصّ عليه الإمام النووي رضي الله عنه في فتاويه: أن الجهر بالذكر حيث لا محذور شرعا؛ مشروع مندوب إليه، بل هو أفضل من الإخفاء في مذهب الإمام الشافعي، وهو ظاهر مذهب الإمام أحمد، وإحدى الروايتين عن الإمام مالك بنقل الحافظ ابن حجر في فتح الباري. وهو قول القاضيخان في فتاويه في ترجمة مسائل كيفية القراءة، وقوله في باب غسل الميت: (ويكره رفع الصوت بالذكر) فالظاهر أنه لمن يمشي مع الجنازة كما هو مذهب الشافعية، لا مطلقا، وقال الألوسي أيضا: واختار بعض المحققين أن المراد دون الجهر البالغ أو الزائد على قدر الحاجة فيكون الجهر المعتدل، والجهر بقدر الحاجة داخلا في المأمور به؛ فقد صح ما يزيد على عشرين حديثا في أنه صلّى الله عليه وسلّم كثير ما كان يجهر بالذكر، وصح عن أبي الزبير رضي الله عنه أنه سمع عبد الله بن الزبير يقول: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا سلّم من صلاته يقول بصوته الأعلى: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد

__________

(١) الحاوي للفتاوي في الفقه وعلوم التفسير والحديث والأصول والنحو والإعراب وسائر الفنون للعلامة الكبير جلال الدين السيوطي المتوفى سنة ٩١١ هـ. ج ١/ص ٣٩٤.



  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!