موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب حقائق عن التصوف

للشيخ عبد القادر عيسى الحسيني الشاذلي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


الحركة في الذكر

الحركة في الذكر

الحركة في الذكر أمر مستحسن، لأنها تنشط الجسم لعبادة الذكر وهي جائزة شرعا بدليل ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده والحافظ المقدسي برجال الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه قال: (كانت الحبشة يرقصون بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويقولون بكلام لهم: محمد عبد صالح، فقال صلّى الله عليه وسلّم: ماذا يقولون؟ فقيل: إنهم يقولون: محمد عبد صالح، فلما رآهم في تلك الحالة لم ينكر عليهم، وأقرهم على ذلك، والمعلوم أن الأحكام الشرعية تؤخذ من قوله صلّى الله عليه وسلّم وفعله وتقريره، فلما أقرهم على فعلهم ولم ينكر عليهم تبين أن هذا جائز.

وفي الحديث دليل على صحة الجمع بين الاهتزاز المباح ومدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأن الاهتزاز بالذكر لا يسمى رقصا محرما، بل هو جائز لأنه ينشط الجسم للذكر، ويساعد على حضور القلب مع الله تعالى؛ إذا صحت النية. فالأمور بمقاصدها، وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى.

ولنستمع إلى الإمام علي رضي الله عنه كيف يصف أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، قال أبو أراكة: (صلّيت مع علي صلاة الفجر، فلما انفتل عن يمينه مكث كأنّ عليه كآبة، حتى إذا كانت الشمس على حائط المسجد قيد رمح صلى ركعتين، ثم قلب يده فقال: والله لقد رأيت أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم، فما أرى اليوم شيئا يشبههم، لقد كانوا يصبحون صفرا شعثا غبرا، بين أيديهم كأمثال ركب المعزى، قد باتوا لله سجد وقياما، يتلون كتاب الله يتراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا أصبحوا

فذكروا الله مادوا [أي تحركوا] كما يميد الشجر في يوم الريح، وهملت أعينهم حتى تنبلّ - والله - ثيابهم) (١).

ويهمنا من عبارة الإمام علي رضي الله عنه قوله: (مادوا كما يميد الشجر في يوم الريح)، فإنك تجده صريحا في الاهتزاز، ويبطل قول من يدّعي أنه بدعة محرمة، ويثبت إباحة الحركة في الذكر مطلقا.

وقد استدل الشيخ عبد الغني النابلسي رحمه الله بهذا الحديث في إحدى رسائله على ندب الاهتزاز بالذكر، وقال: هذا صريح بأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتحركون حركة شديدة في الذكر. على أن الرجل غير مؤاخذ حين يتحرك ويقوم ويقعد على أي نوع كان حيث إنه لم يأت بمعصية ولم يقصدها كما ذكرنا.

إلاّ أن هناك جماعة من الدخلاء على الصوفية - نسبوا أنفسهم إليهم وهم منهم براء - شوّهوا جمال حلقات الأذكار بما أدخلوا عليها من بدع ضالة، وأفعال منكرة، تحرمها الشريعة الغراء؛ كاستعمال آلات الطرب المحظورة، والاجتماع المقصود بالأحداث، والغناء الفاحش، فلم يعد وسيلة عملية لتطهير القلب من أدرانه، وصلته بالله تعالى، بل صار لتسلية النفوس الغافلة، وتحقيق الأغراض الدنيئة.

ومما يؤسف له أن بعض أدعياء العلم قد تهجموا على حلق الذكر ولم يميزوا بين هؤلاء الدخلاء المنحرفين وبين الذاكرين السالكين المخلصين الذي يزيدهم ذكر الله رسوخا في الإيمان، واستقامة في المعاملة، وسموّا في الخلق واطمئنانا في القلب.

__________

(١) البداية والنهاية في التاريخ للإمام الحافظ المفسر المؤرخ إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي المتوفى ٧٧٤ هـ. ج ٨/ص ٦. وأخرجه أيضا أبو نعيم في الحلية ج ١/ص ٧٦.

وهناك علماء منصفون قد ميّزوا بين الصوفية الصادقين السائرين على قدم الرسول الأعظم صلّى الله عليه وسلّم، وبين الدخلاء المارقين، وأوضحوا حكم الله في الذكر، وعلى رأسهم العلاّمة ابن عابدين في رسالته شفاء العليل ، فقد ندد بالدخلاء على الصوفية، واستعرض بدعهم ومنكراتهم في الذكر وحذر منهم، ومن الاجتماع بهم، ثم قال: (ولا كلام لنا مع الصّدّق من ساداتنا الصوفية المبرئين من كل خصلة ردية، فقد سئل إمام الطائفتين سيدنا الجنيد: إن أقواما يتواجدون ويتمايلون؟ فقال: دعوهم مع الله تعالى يفرحون، فإنهم قوم قطعت الطريق أكبادهم، ومزق النصب فؤادهم، وضاقوا ذرع فلا حرج عليهم إذا تنفسوا مداواة لحالهم، ولو ذقت مذاقهم عذرتهم ...

ثم قال: (وبمثل ما ذكره الإمام الجنيد أجاب العلاّمة النحرير ابن كمال باشا لمّا استفتي عن ذلك حيث قال:

ما في التواجد إن حققت من حرج ولا التمايل إن أخلصت من باس

فقمت تسعى على رجل وحقّ لمن دعاه مولاه أن يسعى على الراس

الرخصة فيما ذكر من الأوضاع، عند الذكر والسماع للعارفين الصارفين أوقاتهم إلى أحسن الأعمال، السالكين المالكين لضبط أنفسهم عن قبائح الأحوال، فهم لا يستمعون إلا من الإله، ولا يشتاقون إلا له، إن ذكروه ناحوا، وإن شكروه باحوا، وإن وجدوه صاحوا، وإن شهدوه استراحوا، وإن سرحوا في حضرات قربه ساحوا، إذا غلب عليهم الوجد بغلباته، وشربوا من موارد إرادته، فمنهم من طرقته طوارق الهيبة فخرّ وذاب، ومنهم من برقت له بوارق اللطف فتحرك وطاب، ومنهم من طلع عليهم الحبّ من مطلع القرب فسكر وغاب، هذا ما عنّ لي في الجواب، والله أعلم بالصواب). ثم قال أيضا:

(ولا كلام لنا مع من اقتدى بهم، وذاق من مشربهم، ووجد من نفسه الشوق والهيام في ذات الملك العلام، بل كلامنا مع هؤلاء العوام الفسقة اللئام ... ) (١).

من هذا نرى أن ابن عابدين رحمه الله تعالى يبيح التواجد والحركة في الذكر، وأن الفتوى عنده الجواز، وأن النصوص المانعة التي ساقها في حاشيته المشهورة في الجزء الثالث تحمل على ما إذا كانت في حلق الذكر منكرات: من آلات اللهو والغناء، والضرب بالقضيب، والاجتماع مع المرد الحسان، وإنزال المعاني على أوصافهم، والتغزل بهم، وما إلى ذلك من المخالفات.

ولم يتمسك المانعون المستندون إلى كلام ابن عابدين برأيهم؛ إلا لعدم إطلاعهم على كلامه في مجموعة الرسائل حيث فرّق - كما مرّ - بين الدخلاء والصادقين، وأباح فيها التواجد للعارفين الواصلين، والمقتدين بهم من المقلدين، فراجع المصدرين يبن لك الحق.

ولا شك أن التواجد هو تكلف الوجد وإظهاره من غير أن يكون له وجد حقيقة، ولا حرج فيه إذا صحت النية كما قال العلامة ابن عابدين في حاشيته:

ما في التواجد إن حققت من حرج ... ولا التّمايل إن أخلصت من باس

فإذا كان التواجد جائزا شرعا ولا حرج فيه كما نص عليه الفقهاء، فالوجد من باب أولى. وما وجد الصوفية وتواجدهم إلا قبس مما كان عليه أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

__________

(١) مجموعة رسائل ابن عابدين - الرسالة السابعة - شفاء العليل وبل الغليل في حكم الوصية بالختمات والتهاليل للفقيه الكبير ابن عابدين ص ١٧٢ - ١٧٣.

وها هو مفتي السادة الشافعية بمكة المكرمة العلامة الكبير أحمد زيني دحلان رحمه الله يورد في كتابه المشهور في السيرة النبوية مشهدا من إحدى حالاتهم، ويعلق عليه فيقول: (وبعد فتح خيبر قدم من الحبشة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ومن معه من المسلمين وهم ستة عشر رجلا فتلقى النبي صلّى الله عليه وسلّم جعفر وقبّل جبهته وعانقه وقام له - وقد قام لصفوان بن أمية لما قدم عليه، ولعدي بن حاتم رضي الله عنهما - ثم قال صلّى الله عليه وسلّم: ما أدري بأيهما أفرح بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟ وقال صلّى الله عليه وسلّم لجعفر: أشبهت خلقي وخلقي ، فرقص رضي الله عنه من لذة هذا الخطاب، فلم ينكر عليه صلّى الله عليه وسلّم رقصه، وجعل ذلك أصلا لرقص الصوفية عند ما يجدون من لذة المواجيد في مجالس الذكر والسماع) (١).

وقال العلامة الألوسي في تفسيره عند قوله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ الله قِيامًا وقُعُودًا وعَلى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: ١٩١]: (وعليه فيحمل ما حكي عن ابن عمر رضي الله عنهما وعروة بن الزبير وجماعة رضي الله عنهم من أنهم خرجوا يوم العيد إلى المصلى، فجعلوا يذكرون الله تعالى، فقال بعضهم: أما قال الله تعالى: {يَذْكُرُونَ الله قِيامًا وقُعُودًا}؟ فقاموا يذكرون الله تعالى على أقدامهم، على أنّ مرادهم بذلك التبرك بنوع موافقة للآية في ضمن فرد من أفراد مدلولها) (٢).

__________

(١) السيرة النبوية والآثار المحمدية لزيني دحلان، على هامش السيرة الحلبية ج ٢/ص ٢٥٢. والحديث رواه البخاري في صحيحه في كتاب الصلح.

(٢) روح المعاني للعلامة محمود الألوسي ج ٤/ص ١٤٠.



  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!