موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب الحكمة الإلهامية

ينسب للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

وهو لإسحق الحكيم الرومي

وفيه مقدمة طويلة في الرد على الفلاسفة، خصوصًا منهم أرسطوطاليس وابن سينا، ثم في تكفير من قال بوحدة الوجود من الصوفية، أما باقي الكتاب فهو على أربعة فنون: فـ1ـي أحوال تعم الأجسام، فـ2ـي أحوال العناصر وما يتكون منها من الحيوانات والنباتات الخ، فـ3ـي حقائق الأفلاك وحقائق الكواكب وكيفياتها وخواصها، [فـ4ـي الالهيات]؛ ويبدو أنه من تأليف بعض الحكماء من موالي الروم، في عهد السلطان سليمان القانوني (926 هجري -974/1520 هجري -1566)، وقد اعتنق والده الإسلام

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


[2] فصل في بيان حقيقة المزاج والكون والفساد:

واعلم أنَّ العناصر الأربعة إذا اجتمعت وتصغرّت أجزاؤه جداً بحيث يفعل كل جزء منها بصورته بتوسط كيفيته في مادة الجزء الآخر، ويكسر سورة كيفيته ، حصلت من ذلك صورة مركبة غير صور العناصر. وتلك الصورة لا تخلو عن كيفية متشابهة في أجزاء تلك الصورة ، يسميها الفلاسفة : "مزاجاً". وتلك الكيفية : إما مفردة أو مركبة ، أما المفردة: فهي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والاعتدال، وأما المركبة: فهي الحرارة مع الرطوبة ، والحرارة مع اليبوسة ، والبرودة مع الرطوبة ، والبرودة مع اليبوسة . فإنه إن كان فعل الحارين والباردين وانفعالهما في الممتزج بحيث يحصل من ذلك أمر متوسط بين كمية البرودة والحرارة ، وكذلك بين كمية الرطوبة واليبوسة ، سمي هذا المزاج :"معتدلاً مطلقاً". وإن كان يحصل الأمر المتوسط بين كمية البرودة والحرارة ، دون كمية الرطوبة واليبوسة ، سمي معتدلاً في الحرارة والبرودة ، خارجاً عن الاعتدال في الرطوبة واليبوسة، فسمي باسم الغالب من المتضادين . فإن كان الغالب الرطب فرطباً ، وإن كان الغالب اليابس فيابساً. وإن كان يحصل الأمر المتوسط بين كمية الرطوبة واليبوسة دون كمية الحرارة والبرودة ، سمي معتدلاً في الرطوبة واليبوسة ، خارجاً عن الاعتدال في الحرارة والبرودة، فسمي باسم الغالب من المتضادين . فإن كان الغالب الحار فحاراً ، وإن كان الغالب البارد فبارداً . وإن كان الفعل الحارين والباردين وانفعالهما في الممتزج ، بحيث يكون الغالب ذا كيفيتين ، سمي بهما. فذلك إما حار رطب ، وإما حار يابس ، وإما بارد رطب ، وإما بارد يابس .

فتكون الأمزجة تسعة: واحد منها معتدل، وثمانية منها خارجة عن الاعتدال. فالمزاج المعتدل إنما يحصل بأن يكون المقادير من الكيفيات المتضادة في الممتزج متساوية ، فيكون المزاج كيفية متوسطة بينها بالتَّحقيق . هذا ما أراده الفلاسفة والأطباء بالمزاج المعتدل . ويقولون : ما كان قريباً منه معتدلاً مجازاً لقربه منه ، ول يقولون غير هذين المذكورين معتدلاً ، لا حقيقة ولا مجازاً . فمن قال بأنَّ المعتدل الذي يستعمله الأطباء في مباحثهم هو مشتق لا من التعادل الذي هو التساوي في الكيفية ، بل من العدل في القسمة، وذلك بأن يكون في الممتزج من كميات العناصر وكيفياته القسط الذي ينبغي له في كونه على الوجه الأكمل في نوعه ، فقد افترى على أبقراط و جالينوس وأصحابهما وغيرهم من الأطباء اليونانيين ، ولا يعلم المزاج المعتدل وغيره ، بل ل يعلم ما يقول .

أما أنه افترى على المذكورين ، فلأنهم إنما عرَّفوا المزاج المعتدل بما قلناه . فقالوا: إنَّ الأمزجةَ تسعة : واحد منها معتدل ، وثمانية منها خارجة عن الاعتدال ؛ أربعة منها مفردة وأربعة مركبة ، كما بيَّناه . ولأنه لم يقلْ أحدٌ من الأطباء في حق شيء من الحيوانات والنباتات والمعدنيات ، أو في حق دواء مفرد أو مركب أو غذاءٍ مفرد أو مركب بأنه معتدل بالمعنى الذي أسنده إليهم، وإما أنه لا يعلم المعتدل ول غيره ، ولا يعلم ما يقول ، فلأنه بتعريفه المعتدل قد قال : بأنَّ كل شيء من الحيوانات والنباتات والمعدنيات ، إذا كان في امتزاجه من كميات العناصر وكيفياته القسط الذي ينبغي له في كونه على الوجه الأكمل في نوعه ، كان معتدلاً. فإذا قد قال بأنَّ الفلفل والقرنفل والزنجبيل إذا كانت في امتزاجها كما قيل كانت معتدلة ، ومع ذلك لا يقول بأنها معتدلة، بل يقول : إنها حارة . نعم  هي حارة ، بل كل واحد منها أكمل حرارة في نوعه ؛ لأنَّ الحرارة من كمالات الجسم وقواه . فكلما كان الجسم في امتزاجه على الوجه الأكمل ،كان كمالاته وقواه أكمل وأقوى . وقال أيضاً بأنَّ القثاء والقرع والبطيخ الهندي إذا كانت في امتزاجها كما قيل كانت معتدلة ، ومع ذلك لا يقول إنها معتدلة ، بل يقول إنها باردة. نعم هي باردة ، بل كل واحد منها أكمل برودة في نوعه ، لما قلناه . وهل يعلم المعتدل أو غيره ، أو يعلم ما يقول من يجمع هذه المناقضات في أقوالهم؟ فالقائل بذلك التعريف قال أيضاً بأنَّ المعتدل الحقيقي لا يجوز أن يوجد أصلاً ، فضلاً عن أن يكون مزاج إنسان أو عضو إنسان . ومن النَّاس من يريد أن يثبت هذا الباطل ، فاستدل بمقدمات باطلة فقال: لا يمكن وجود المعتدل الحقيقي في الخارج ، والدليل على امتناعه ، أنه لو كان له وجود ، فلا يخلو : إما أن يكون لذلك الممتزج ميل طبيعي إلى مكان ، أو لا. وكل واحد من القسمين باطل، أما الثَّاني: فظاهر لأنه يمتنع وجود جسم لا ميل فيه إلى مكان ، وأم الأول: فلأنه لو كان له ميل طبيعي إلى مكان ، فلا يخلو: إما أن يكون ذلك المكان مكان أحد بسائطه أو غيره ، والثَّاني باطل . إذ لا مكان للمركب غير مكان بسائطه، وإلا لزم الخلاء قبل حدوث المركب . وكذا الأول لأنه لو كان له ميل طبيعي إلى مكان أحد بسائطه لزم التَّرجح بلا مرجح لتساوي الميول فيه . فقوله بأنه لو كان له ميل طبيعي إلى مكان أحد بسائطه لزم الترجح بلا مرجّح لتساوي الميول فيه باطل . لأنَّ مقدار الأجزاء النارية إذا كان في الممتزج بحيث يغلب الكيفية النارية الكيفية المائية والأرضية ، بل كانت الكيفية النارية في غاية ما يمكن أن يكون في الممتزج ، وهي أن يكون في الدرجة الرابعة  لا تمنع الممتزج عن الميل إلى مكان الأرض ، بل يكون ميله الطبيعي إليه . فإذا كان الميل الطبيعي لهذا الممتزج إلى مكان الأرض ، مع أنَّ الأجزاء النارية كثيرة فيه ، بحيث يغلب كيفيتها برودة الماء والأرض بمراتب . فكيف لا يكون الميل الطبيعي إلى مكان الأرض للممتزج الذي يكون الأجزاء النارية قليلةً فيه ، بحيث لا يغلب كيفيتها برودة الماء والأرض ، بل يكون مساوية لبرودة أحدهما ؟ وكيف يلزم التَّرجح بلا مرجح ؟ وكيف يتساوى الميول فيه ؟ فلا يذهب إلى مثل هذه الأباطيل إلا مَنْ ليس له أدنى نصيب من التَّعقل .

والقول بأنَّ المعتدل الحقيقي لا يوجد في الخارج ، إذ أجزاؤه متساوية في الميل إلى أحيازها، متفاوتة ، لا يقسر بعضها بعضاً على الاجتماع . فيحصل الافتراق قبل حصول الفعل والانفعال باطل أيضاً ؛ لأنَّ القاسر إنما هو الفاعل الخارجي، وهو الذي يقسرها ويفرقها عن إحيازها ويجمعها إلى حيز واحد ، ثم يمزجها ويجعلها شيئاً من المركبات ، وليست من قبل أنفسها المفارقة عن إحيازها ، ولا الاجتماع مع أضدادها ، ولا الامتزاج بها . بل إنما هي مواد قابلة للاجتماع والامتزاج لا غير . وقد ثبت كون المعتدل الحقيقي موجوداً في الخارج بالتَّجربة ، كما ثبت وجود الحار والبارد والرطب واليابس من المركبات .

وإلى هذا ذهب الفلاسفة اليونانيون كلهم والأطباء ، فالقائل بأن المعتدل الحقيقي ل يوجد، قال أيضاً بأنَّ مزاجَ الإنسان أعدل مزاج يمكن أن يكون في هذا العالم . فهذ باطل أيضاً ، فإنَّ لحم الإنسان ودمه وروحه وقلبه وكبده حارةٌ ، فبأي شيء يكون مزاجه معتدلاً ؟ بل مزاجه حار رطب ، وبه يكون الإنسان حيّاً . فكيف لا يكون كذلك ومادة روحه وبدنه إنما هي الدم ؟ وإلى هذا ذهب الفلاسفة اليونانيون كلهم ، وكذلك الأطباء اليونانيون كلهم . فقالوا : مزاج الإنسان هو أحسن الأمزجة  الكائنة في عالم العناصر . كما قالَ الله تعالى: ) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ( ، يعني في أحسن تركيب ومزاج وصورة . فالقائل بأنَّ مزاج الإنسان أعدل قد زعم أنَّ كل ما كان مزاجه أقرب إلى الاعتدال الحقيقي كان أكمل ، وهذا باطل أيضاً ، لأنه يلزم أن يكون كل حيواناً : برياً كان أو بحرياً ، إذا كان حرارته أقل من حرارة الإنسان أكمل منه . وأن يكون المرأة أكمل من الرجل ، وأن يكون جلد الإنسان أكمل من قلبه . وليس الأمر كذلك ، بل الإنسان هو أكمل الحيوانات . فلذلك جعلت النفس الناطقة متعلقة به ، والرجل أكمل من المرأة ؛ لأنَّ مزاجه أحر من مزاجها . فلذلك كان أبدان الرجال وأعضاؤهم وأطراف أعضائهم أكبر وأقوى من أبدان النساء وأعضائهن وأطراف أعضائهن . ولذلك كان العقل والتَّمييز والشَّجاعة والسخاء في الرجال أكثر مما كان منها في النساء . وقلب الإنسان أكمل من جلده ، فلذلك كانت القوة الحيوانية حالّة فيه ، ولذلك كان تعلق النفس الناطقة أولاً به ، فكلما كان مزاج الإنسان أحر كان أكمل، (...) لأن ذلك إنما يكون بحسب كثرة روحه وزيادة سخونتها الطبيعية . وقد علمت أنَّ الحرارة والبرودة من كمالات الجسم وقواه ، فكلما كان الجسم في امتزاجه على الوجه الأكمل كان كمالاته وقواه أكمل وأقوى . فإنَّ لكل واحدة من الحرارة والبرودة لكل نوع من الأجسام حداً في طرفيّ الزيادة والنقصان . فإذا كان الجسم الحار والبارد في امتزاجه في غاية الكمال ، يكون حرارته وبرودته في حدِّ طرف الزيادة ، فبحسب نقصانه في امتزاجه يكون نقصانه في حرارته أو برودته حتى إلى أن ينتهي إلى حد طرف النقصان . فإذا كان القول بأن أعدل الأمزجة مزاج الإنسان باطلاً ، كانت الوجوه الثمانية المبنية عليه من الاعتبارات بحسب مزاج النوع والصنف  والشَّخص والعضو باطلة أيضاً . والكلمات المتعلقة بها كلها باطلة أيضاً . فالقائل بأنَّ أعدل الأمزجة مزاج الإنسان ، قال أيضاً بأنَّ أعدل أصناف الإنسان سكان خط الاستواء ، ثم سكان الإقليم الرابع ، وهذا باطل أيضاً . لأن أعدل أصناف الإنسان عند القائل به هو أحسن أصناف الإنسان ، وليس أحسن أصناف الإنسان سكان خط الاستواء ، ول سكان الإقليم الرابع . لأنَّ سكان الإقليم الثَّاني والثَّالث هم أحسن أصناف الإنسان . لأنَّ الأنبياء وأصحابهم خلقو من تربتهم ، وكان نشوؤهم ونماؤهم فيهما . والقول بأنَّ الشبَّان أعدل باطل أيضاً ، لأنهم أحر لا أعدل .

ثمَّ اعلم أنه لم يذهب أحد من الفلاسفة إلى أنَّ واحداً من العناصر يستحيل إلى آخر سوى أرسطوطاليس وأتباعه . وذلك لأنَّ استحالة العنصر إلى آخر ، مبني على تركيب الجسم من الهيولى والصورة ، وكون هيولى العناصر الأربعة واحدة . ولم يذهب أحد من الفلاسفة إلى ذلك سوى أرسطوطاليس وأتباعه .

وقد علمت بطلان كون الجسم مركباً من الهيولى والصورة ، فاللازم باطل، والملزوم كذلك. فلو كان استحالة عنصر إلى عنصر آخر ممكناً ، وكان الهواء يستحيل إلى النار، للطافته وسخونته المكتسبة ، لاستحال الهواء الملاقي كرة النار إلى النار، إلى أن ينتهي الى الطبقة الزمهريرية . ولا هواء ألطف من ذلك ، ولا نار أحر مما في كرة النار. فلما ثبت بطلان اللازم فقد ثبت بطلان الملزوم . ولو كان الهواء يستحيل إلى الماء لبردٍ يصيبه لاستحال الهواء الذي يلاقي الأراضي الجمدية في صميم الشَّتاء إلى الماء . فلما لم يكن الأمر كذلك ، فقد ثبت بطلان استحالة الهواء إلى الماء .

ثمَّ اعلم أنَّ الكون هو حدوث صورة في مادة ، والفساد زوالها عنها، وحدوث  صورة مما تحدث في تكوّن الحيوانات والنباتات  والمعدنيات يستلزم فساد صورة أخرى . غير أنَّ صور العناصر لا تفسد في نفس الأمر، وإن كانت فاسدة عند الحس . فلو لم تكن صور العناصر محفوظة في المركب لما انحلَّت أجسام الحيوانات والنباتات إذ فسدت وفنيت إلى جسم ناري دخاني ، وإلى جسم هوائي ، وجسم مائي ، وجسم أرضي. وإذا وضع شيء من تلك الأجسام في القرع والأنبيق وسلّطت عليه النار لانفصل عن ذلك الجسم جسم ناري دخاني، وجسم هوائي، وجسم مائي ، ويبقى في أسفل القرع جسم رمادي أرضي .

ثم اعلم أنَّ العناصر الأربعة إذا خليت وطبائعها لا تقتضي الاجتماع ولا الامتزاج، ولا تكَّون شيء منها من الحيوانات والنباتات والمعدنيات وغير ذلك... لكنها مواد قابلة لتكونها وأسباب مادية لها. كما أنَّ النفوس الفلكية أسباب فاعلة إياها بتوسط كيفيات الكواكب وخواصها ، وكيفيات مواضعها وخواصها ، وكيفيات امتزاج بعضها بالبعض وخواصه . فالامتزاجات الكائنة بين السماء والأرض ، وداخل الأرض ، تابعة للامتزاجات النجومية . فواجب الوجود هو مسبب الأسباب المادية والفاعلة ، ومدَّبر أمورها .كما قالَ الله تعالى: ) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ( . وقد جعل الله تعالى ملائكة السماوات ، الذين هم النفوس الفلكية ، موكلين بالسموات وبالكائنات : من الحيوانات والنباتات والمعدنيات وغير ذلك مما يحدث تحت فلك القمر إلى مركز الأرض ... ومع ذلك قد قالَ سبحانه وتعالى: ) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ( . وهذ لأنَّ كل شيء في فعله مفتقر إليه تعالى ومسخر بإرادته وفعله . فلذلك قالَ تعالى: ) وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ( . وقالَ تعالى: ) وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى(.  وقالَ تعالى: ) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (.

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!