موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب الحكمة الإلهامية

ينسب للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

وهو لإسحق الحكيم الرومي

وفيه مقدمة طويلة في الرد على الفلاسفة، خصوصًا منهم أرسطوطاليس وابن سينا، ثم في تكفير من قال بوحدة الوجود من الصوفية، أما باقي الكتاب فهو على أربعة فنون: فـ1ـي أحوال تعم الأجسام، فـ2ـي أحوال العناصر وما يتكون منها من الحيوانات والنباتات الخ، فـ3ـي حقائق الأفلاك وحقائق الكواكب وكيفياتها وخواصها، [فـ4ـي الالهيات]؛ ويبدو أنه من تأليف بعض الحكماء من موالي الروم، في عهد السلطان سليمان القانوني (926 هجري -974/1520 هجري -1566)، وقد اعتنق والده الإسلام

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


[3] فصل في بيان كيفية تكون الأشياء الحادثة في الجو والأشياء الحادثة في الأرض من العيون والزلازل

واعلم أنَّ أحوال هذا العالم تختلف باختلاف أحوال الشمس والقمر وسائر الكواكب، أم تأثير الشمس فظاهر؛ لأنه بسبب قربها وبعدها من سمت الرأس يحصل الفصول الأربعة ، وبسبب اختلاف الفصول الأربعة يختلف أحوال ما في هذا العالم من الحيوانات والنباتات والمعدنيات وغير ذلك مما يحدث تحت فلك القمر... فالتأثيرات الظاهرة والخفية للشمس والقمر وسائر الكواكب في عالم العناصر وكيفياتها وخواصها قد علمت بالوحي والإلهام والتَّجربة كما علمت كيفيات الأدوية وخواصها بالوحي والإلهام والتَّجربة .

فنقول: إنَّ الشمس وغيرها من الكواكب الحارة إذا أثرت بقواها الذاتية والعرضية في المياه وحللت وصعَّدتْ منها أجزاء مائية صغيرة مختلطة بأجزاء هوائية صغيرة ، بحيث لا يتميز في الحس شيء من أحد العنصرين ، سمي المتصاعد : بخاراً ، فلأجل صغر الأجزاء لا يقوى الحس على التَّمييز، فيرى كأنه شيء آخر مخالف للهواء والماء ، مع أنه في نفسه ليس إلا الماء والهواء والحرارة الكامنة فيهما ، وهي التي حصلت فيهما عن تأثير الشمس والكواكب المذكورة في المياه . وتلك الحرارة هي التي تصعِّد البخار . والشمس والكواكب المذكورة إذا أثرت بقواها المذكورة في الأراضي اليابسة ، وصعَّدت منها أجزاء نارية صغيرة مختلطة بأجزاء أرضية صغيرة ، بحيث لا يتميز في الحس شيءٌ من أحد العنصرين ، سمي المتصاعد : دخاناً . فالبخار الصاعد وإن كان في صميم الشتاء يتحلل في الهواء بحيث لا يتميز الأجزاء المائية عن الأجزاء الهوائية . وكذلك الدخان الصاعد يتحلل فيه بحيث ل يتميز  أجزاؤه النارية المخلوطة بالأجزاء الأرضية عن الأجزاء الهوائية .

وقالت الفلاسفة: إنَّ البخار الصاعد إن كان في الهواء سخونةً تحلل . فإن لم يكنْ فيه سخونة ، فبلغ إلى الطبقة الزمهريرية التي إليها ينتهي شعاع الشمس بالانعكاس ، فإن لم يكنْ هناك برد قُوّي تكاثف ذلك البخار بسبب ذلك القدر من البرد ، واجتمع أو تقاطر. فالبخار المجتمع هو السحاب ، والمتقاطر هو المطر . وإن كان هناك برد قوي فأما أن يصل البرد إلى أجزاء السحاب قبل اجتماعها أو لا . فإن وصل تنـزل ثلجاً ؛ لأنَّ تلك الأجزاء الصغيرة انعقدت حينئذ وانضم بعضها إلى بعض فتهبط ثلجاً ، وإنْ لم يصل قبل اجتماعها بل بعده، وبعد صيرورتها قطرات كبائر، انجمدت ونزلت بَرَدَاً ، وصار لشدة الحركة مستديراً لانمحاق زواياه بتسخين الحركة الشديدة . وإن لم يبلغ ذلك البخار إلى الطبقة الزمهريرية : فإن كان غليظاً مشاهداً فإن يصبه برد عاقد انعقد سحاباً ماطرةً ، كما يشاهد ذلك في قلل الجبال. وإن لم يصبه بقي بخاراً ملتصقاً بالأرض إلى أن يتحلل بالتسخين ، فسمي ضباباً. وإن كان رقيقاً لا يشاهد لرقته ولطافته : فإما أن يتحلل أو ينـزل منه أجزاء مائية رشية غير منجمدة، وهي الطّل ، أو منجمدة وهي الصقيع . فإنما ينـزل البرد في الربيع والخريف دون الشتاء ؛ لأن الهواء الذي فيما دون الطبقة الزمهريرية يكون في الشتاء أبرد مما كان في الربيع والخريف ، فيصل ذلك البرد إلى أجزاء السحاب قبل اجتماعها ، فبسبب ذلك القدر من البرد ، تنعقد تلك الأجزاء ثلجاً ، ولا يوجد ذلك البَرَد هناك في الربيع والخريف ، فيصل أجزاء السحاب بعد اجتماعها وصيرورتها قطرات كبائر إلى برد الطبقة الزمهريرية دفعة فتنجمد بَرَدَاً إن كان هناك برد قوي .

فاعلم أنَّ السحابَ والمطر والثلج والبَرَدَ والضباب والطّل والصقيع لا يتكون كم قالوا ، فيدل  على عدم كون السحاب والمطر كما وصفوه وجود البرد العاقد في الطبقة الزمهريرية ، ووجود البخار فيها، ومع ذلك لا يتكون السحاب ولا المطر، ويتكون السحاب والمطر عند وجود ذلك البرد ، وعدم البخار في الطبقة الزمهريرية . ويدلُّ على صحة هذا تغير السماء في ساعةٍ واحدةٍ عشرَ مرات وأكثر. وذلك بأن تمطر تارة ، وأن تصحى أخرى . ولو كان المطر كما وصفوه لانقطع عقيب نزول البخار المنعقد مطراً ، فل يتصل المطر مقدار عشر ساعة ، بل ينقطع في أقل من ذلك ؛ لأنَّ المطر إذا نزل منع صعود البخار إلى الطبقة الزمهريرية. ويدل أيضاً على بطلان كون المطر والسحاب كم قالوا كون السماء عديم المطر والسحاب زماناً طويلاً مع وجود البرد العاقد في الطبقة الزمهريرية ، ثم تمطر مقدار نصف عشر ساعة ، فينقطع عقيبه بمقدار عشر عشر ساعة ، ثم تمطر خمسة أيام وأكثر متصلاً . ويدل على وجود البرد العاقد في الطبقة الزمهريرية في هذه الأيام كلها كون الهواء فيها على نهج واحد في برده . ويدل أيضاً على عدم كون السحاب والمطر كما وصفوه ، كون الهواء في حره وبرده على نهج واحد أياماً معدودة . فحينئذ يكون برودة الطبقة الزمهريرية وصعود البخار إليها على نهج واحد أيضاً. ومع ذلك قد يتكون في بعض تلك الأيام سحاب ، ولا يتكون مطر. وفي بعضها يتكون مطر ولا يتكون سحاب . وفي بعضها يتكون سحاب ومطر. وفي مثل تلك الأيام في حرها وبردها قد لا يتكون شيء من السَّحاب والمطر. نعم قد ينعقد البخار المتصاعد من البحار والمياه والأراضي الرطبة بسبب برد الهواء ، فيصير كالمطر. وقد تنعقد الأجزاء المائية الموجودة في الهواء الذي فوق قلل الجبال بسبب البرد فتصير كالمطر. ويدل على بطلان كون الثلج والبَرَد والضباب والطل والصقيع كما وصفوها ، كون الهواء على حالة واحدة في برده أياماً كثيرة . فحينئذٍ يكون صعود البخار على نهج واحد أيضاً، ومع ذلك قد يتكون في بعض تلك الأيام بعض الأشياء المذكورة ، وفي بعضها لا يتكون شيء منها، وقد يكون الهواء والبخار كما ذكر أياماً كثيرة، ومع ذلك لا يتكون شيء منها في تلك الأيام . فالكلمات المذكورة تدل على بطلان يكون الأشياء المذكورة كما وصفوها، فالحق في تكونها أن الأجزاء المائية موجودة في الهواء ، وهي التي حصلت فيه من أبخرة البحار والمياه والأراضي الرطبة ، كما وصفت فيما تقدم . فتلك الأجزاء المائية هي العلَّة المادية في تكون الأشياء المذكورة ، والعلة الفاعلية في تكونها هي الأوضاع الفلكية . فإذا وجد الوضع الفلكي الذي يقتضي تكون الشيء من المذكورات ، يتكون ذلك الشيء بحسب اقتضاء فعل ذلك الوضع تكوّنه في كثرته وقلته وشدته وضعفه ونفعه وضره .

وقالت الفلاسفة: إنَّ الدخان إذا اختلط بالبخار ويتصاعدان معاً إلى الطبقة الزمهريرية ينعقد البخار سحاباً ، ويحتبس الدخان فيه ، ويطلب الصعود . فأما أن يطاوعه السحاب في حركته ، فحينئذ يتحرك إلى فوق ، وأم أن لا تطاوعه ، فحينئذ يتحرك إلى جانب من الجوانب. فأما أن يطاوعه في حركته أو لا تطاوعه ، فإن لم يطاوعه يطلب الخروج ، فيمزق السحاب تمزيقاً عنيفاً ، فيحدث منه الرعد . وكذلك إن لم تطاوعه في صعوده ، وكان الدُخانُ كثيراً ، كثير السخونة ، يطلب الخروج فيمزقه تمزيقاً عنيفاً فيحدث منه الرعد . فإن اشتعل الدُخانُ لشدة حركته يحدث منه البرق فقط ، إن كان لطيفاً، وإن كان فيه أجزاء أرضية غليظة دهنية كبريتية مجتمعة تشبثت بها النَّار فنـزلت تلك الأجزاء لغلظها مشتعلة فتحرق ما يلاقيها في مسافة حركتها من الأجسام ، وهي الصَّاعقة . فربما يحصل منها شيء كالنصل الصغير من الحديد  إن كانت فيها مادة قابلة لذلك.

فاعلم أنَّ قول الفلاسفة بأنَّ الرعد يتكون عن الدخان والبخار المتصاعدين معاً إلى الطبقة الزمهريرية باطل. ويدل على بطلان ذلك حدوث الرعد حين يمطر السماء . وقد ابتدأ ذلك المطر قبل ذلك الوقت بخمس ساعات أو أكثر! فأين البخار والدخان (...) المتصاعدان في ذلك الوقت حتى يحدث من ذلك الرعد ؟ فكيفية حدوث الرعد : أن الأجزاء المائية والنارية المخلوطة بالأجزاء الأرضية موجودة في الهواء ، وهي التي حصلت فيه من الأبخرة والأدخنة، كما وصفت فيما تقدم . فإذا وجد الوضع الفلكي الذي يقتضي حدوث الرعد ، يجمع الأجزاء النارية المذكورة ، ثم يحبس تلك الأجزاء بسحاب قد جعلها من أجزاء مائية ثم تحرك السحاب بتلك الأجزاء النارية المحبوسة : إما إلى فوق أو من جانبٍ إلى جانب، ثم يُمزّق السحاب بتلك الأجزاء النارية تمزيقاً عنيفاً، فيحدث من ذلك الرعد . فإن قلت فكيف يتصور أن تجمع الأجزاء النارية فيما بين المطر فيحدث منه الرعد ؟ فاعلم أنَّ في الهواء طبقات : فالطبقة التي يحدث فيها الرعد ، فوق طبقة المطر، ليس فيها مطر. ثمَّ اعلم أنَّ أجزاء المادة المذكورة للصاعقة موجودة في الهواء ، وهي العلة المادية لها ، والعلة الفاعلية لها هي الوضع الفلكي الذي يجمع تلك الأجزاء ويجعلها صاعقة . فحركتها وإحراقها وشدتها وضعفها وقلتها وكثرتها وضرره إنما يكون بحسب اقتضاء فعل ذلك الوضع . روي أنَّ اليهود قالوا لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: << أخبرن عن الرعد ما هو ؟ فقال: ملكٌ من الملائكة مُوكَّلٌ بالسحاب معه مخاريق من نار يسوقها بها حيث شاء الله . قالوا : فما هذا الصوت التي تسمع ؟  قالَ : زجره للسحاب حتى تنتهي حيث أمرت ، قالوا : صدقت >> .

فتعريف رسول الله الرعد قد كان في الغاية القصوى في وصف الرعد ، فلكون إسناد الأفعال إلى نفوس أفلاك الكواكب أولى من إسنادها إلى الكواكب وأوضاعها ، أسند فعل الرعد إلى نفس الفلك دون كوكبه ووضعه . فإنما كان إسناد الأفعال إلى النفوس الفلكية أولى من إسنادها إلى الكواكب وأوضاعها ؛ لأنهما آلتا النفوس الفلكية في إحداث م أرادت كل واحدة منها. فالفلاسفة يسمون الملائكة الموكلين بالسموات نفوساً فلكية . فإنما أسند الأفعال إلى النفوس الفلكية والكواكب وأوضاعها ، والفاعل هو الله تعالى لا غير؛ لأنها أسباب ووسائط في حدوث الأشياء المذكورة .

فنسبة العناصر الأربعة إلى الله تعالى في فعله المذكورات وغيرها مما يتكون عن العناصر الأربعة ، كنسبة التراب والماء والهواء والنار إلى صانع الكوز في فعله الكوز . ونسبة النفوس الفلكية والكواكب وأوضاعها إلى الله تعالى في فعله ما يتكون من العناصر الأربعة مما يحدث تحت فلك القمر الى مركز الأرض ، كنسبة آلات صانع الكوز إليه في فعله الكوز . ولا شك في أنَّ الله تعالى ورسوله وشرعه يسندون الأفعال إلى الأسباب والوسائط . فلذلك قالَ الله تعالى: ) مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَ وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا (، وقالَ الله تعالى: ) وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى ( ، ولذلك يحكم الشَّرع بقتل القاتل لأجل قتله ؛ وذلك لكونه سبباً للقتل ، والقاتل هو الله تعالى لا غير . قالَ الله تعالى : ) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ ( . وإلى هذا ذهب أفلاطون وتوابعه ، فقالوا: إنَّ واجب الوجود هو الذي يفيد الوجود  للممكنات كله بذاته ، لا بمشاركة غيره ، ويدبر أمورها كلها بذاته لا بمشاركة غيره.

وقالت الفلاسفة: إنَّ السحاب إذا ثقلت لاستيلاء البرد عليها اندفعت إلى أسفل ، فيتموّج به الهواء ، فتحدث منه الريح . وإنَّ الأدخنة إذا تصاعدت ، فعند وصولها إلى الطبقة الزمهريرية: إما أن ينكسر حرها ببردها ، فحينئذ تثقل تلك الأدخنة وتنـزل ، فيتموّج الهواء بنـزولها، فتحدث الريح ، وإمَّا أن تبقى على حرارتها ، فحينئذ لا بد أن تتصاعد : فإمَّا أن تتحلل أجزاؤها النارية قبل وصولها إلى كرة النار، فحينئذ تثقل تلك الأدخنة ، وتنـزل، فيتموّج الهواء ، فتحدث الريح . ومن الرياح ريح سميت بالسموم ، وهي ريح حارة مفنية للأرواح ، قد يرى فيها شعل النيران لاختلاطها بأجزاء مشتعلة . وقد تحصل تلك الريح من بقية مادة الشهب، وقد تحصل بمرور الريح على أراضي غلبت عليها الحرارة الرديئة السميَّة، فتحصل منها في الريح حرارة سمية تفسد أرواح الحيوان وأعضاءه بالتعفين عند الإصابة . فكلمات الفلاسفة الواردة في كيفية حدوث الريح باطلة ، فيدل على بطلانها كون الآفاق مملوءة بالمطر خمسة أيام ولياليها ، وهبوب الريح والرياح في تلك الأيام ، فأين صعود البخار في تلك الأيام إلى الطبقة الزمهريرية وانعقاده سحاباً واندفاعها إلى أسفل ؟ وأين صعود الأدخنة ونزولها في تلك الأيام حتى يحدث الريح من ذلك ؟ وقد كان الهواء خمسة أيام في برده وحره كما كان في تلك الأيام ! ومع ذلك لا تمطر السماء ، ولا تهب الريح . وقد كان الهواء في خمسة أخرى كما كان في هذه الأيام . ومع ذلك لايخلو ساعة من هبوب الريح في هذه الأيام. ولا فرق بين هذه الأيام والتي قبلها في صعود الأبخرة والأدخنة وفي برد الطبقة الزمهريرية . وقد كان  تهب الريح في مقدار عشر ساعة ، تارة من المشرق وتارة من المغرب وتارة من الجنوب وتارة من الشمال . وفي باقي أعشار الساعة قد تهب الريح من جانب واحد، وقد ل تهب، وقد كانت تلك الساعة على حالة واحدة في حرها وبردها ، وكذلك الطبقة الزمهريرية في بردها . فمن كان له أدنى نصيب من العقل يحكم ببداهة عقله بأن هذه الكلمات تدل على بطلان ما قالت الفلاسفة في حدوث الريح . فكيفية حدوث الريح أنَّ الهواء هو العلة المادية لها ، والعلة الفاعلية لها هي الوضع الفلكي الذي يحرك الهواء من جانب إلى جانب ، فمتى وجد ذلك الوضع ، يحرك الهواء ، فيحدث الريح على حسب ما يقتضيه فعل ذلك الوضع : جانبها وحركتها وكثرتها وقلتها وشدتها وضعفها ونفعها وضرها.

وقالت الفلاسفة: إنَّ الدخان المتصاعد إذا بلغ إلى كرة النار اشتعل ناراً، فإن كان ذلك الدخان متصلاً بالأرض ينـزل اشتعاله بسريانه في أجزاء الدخان على الاتصال إلى الأرض، نزول اشتعال دخان السراج المنطفئ عند وصوله إلى شـعلة سراج آخر فوقه على الاتصال إلى السراج المنطفئ ، فيشتعل ثانياً . فسميت تلك النار حريقاً، لإحراقه الأجسام الكائنة في موضع نزولها. وإن كان غير متصل بالأرض ، وكان لطيفاً ، اشتعل ناراً شفافة ، ويتلهّب بسرعةٍ حتى يُرى كالمنطفئ ، فهو الشهاب . وإن كان غليظاً يبقى اشتعاله مدة طويلةً بقدر غلظه على صورة الكواكب ذوات الأذناب و الذوائب ، إلى أن يتلطف ويضمحل قليلاً قليلاً... وربما تبعت حركة الكواكب منها حركة النار الدائرة بحركة الفلك ، فيكون له شروق وغروب ، وإن كان أغلظ وأكثف من ذلك فلا يشتعل ، بل يحدث منه حمر أو سود.

فاعلم أنَّ قول الفلاسفة في حدوث الحريق والشهاب باطل؛ لأنَّ العقل ببداهته  يحكم بأن صعود الدخان إلى فوق كالخط المستقيم عند هبوب الريح محال . وكذلك صعوده مورّباً كالسهم المرمي . وإن لم يكن في ذلك الوقت ريح محال . فكيف إذا كانت فيه ريح؟ فالعلة المادية للحريق والشهاب والكواكب ذوات الأذناب ، وما يحدث من حمر أو سود ، هي الأجزاء النارية المخلوطة بالأجزاء الأرضية الكبريتية الموجودة في الهواء . والعلة الفاعلية لها هي الأوضاع الفلكية . فمتى وجد الوضع الفلكي الذي يقتضي تكون شيء من المذكورات يحدث ذلك الشيء على حسب ما يقتضيه فعل ذلك الوضع : حدوثه ووضعه ومكانه وعظمه وصغره وبقاؤه وتحلله . فالأشياء التي تحرك الكواكب ذوات الأذناب من المشرق إلى المغرب ، أو بالعكس ، أو من الشمال إلى الجنوب ، أو بالعكس ، أو تمسكها في مواضعها ، أو ترمي الحريق والشهاب ، وتفعل غير ذلك مما ذكر ... هي الكواكب بقواه الذاتية والعرضية. وقالت الفلاسفة في حدوث القوس التي ترى في الجو ، وهي التي سميت في التورية بـ "قوس الله" ، إذا حدثت في مقابلة الشمس حين كانت قريبةً من الأفق أجزاء رشية صافية صقيلة مستديرة غير متصلة ، وكان وراءَها جسم كثيف كجبل أو سحاب مظلم، ونظرنا إلى تلك الأجزاء وكانت الشمس في خلاف جهة النظر ، انعكس شعاع البصر منها إلى الشمس، لكونها صقيلة كالمرآة ، فأدت ضوء الشمس دون الشكل، لكونها صغيرة، فترى القوس المذكورة . وإنما يشترط في حدوثها أن يكون وراء تلك الأجزاء جسم كثيف لتصير مراي كالبلور، فإنها إذا استترت من الجانب الآخر بكثيف صارت مرايا، وإذا لم تستتر ،لم تصِرْ مرايا. وقالوا في حدوث هالة القمر، إذا حصلت في الجو أجزاء رشية رطبة صقيلة مستديرة غير متصلة ، وأحاطت بغيم رقيق لطيف لا يحجب ما وراءه عن الأبصار ، فينعكس منها شعاع البصر إذا وقع عليها  إلى القمر، فيؤدي كل واحد منها ضوء القمر دون شكله ، فترى دائرة مضيئة ، وهي هالة القمر.

فاعلم أنَّ أشكال القوس والهالة وغيرهما مما يرى في الجو بسبب الأجزاء الرشية، وأنَّ ألوانها ليس شيء منها موجوداً في الخارج ، بل في الحس والخيال . وهذا كما ترى دائرة حول الشمعة في الحمام، بسبب رطوبة هواء الحمام ، وليس شكل تلك الدائرة ول لونها موجوداً في حول الشمعة . وكذلك ترى عند الانتباه من النوم دائرة حول السراج بسبب رطوبة حاصلة في العين من الأبخرة . وكذلك ترى خيالات بعلة في طبقات العين ، أو رطوباتها أو بسبب الأبخرة الحاصلة فيها ، وليس شيء مما يرى من تلك الخيالات موجوداً في الخارج، بل في الحس والخيال.

وقالت الفلاسفة: إنَّ الأبخرة المتكونة تحت الأرض إذا كثرت وقويت ومالت إلى جانب، وأصابه من برد الأرض ما يعقدها مياهاً مختلطة بأجزاء بخارية ، فربما تجد تلك المياه منافذ من الأرض ، فتخرج منها، وربما انشقت الأرض عنها لكثرتها وقوتها وقوة الأبخرة التي معها. فإنْ كان لتلك المياه مدد بحيث كلما ينبع منها شيء حدث عقيبه منها شيء مثله ، وكان هكذا على الاتصال ، فهي العين الجارية . وإلا لاجتمع الخارج منها في موضع من الأرض ، غير زائد في القدر، لانقطاع المدد عنه، وهو العين الراكدة . وقالوا : ما يتكون تحت الأرض من بخار أو دخان أو ريح كثيرة المقدار، ويتحرك طالباً للخروج، ولا يجد منفذاً ، يخرج منه : إما لاستصحاف ظاهر الأرض ، وإما لغلظ المحتبس فيها وضيق مسام الأرض ، كأن يحرك قطعة من الأرض تحريكاً ربما يؤدي إلى انشقاق الأرض . فيسمع صوتٌ هائلٌ من انشقاقها ، وربما يظهر من موضع الانشقاق نارٌ محرقةٌ ، أو مياه مختلطة بأجزاء حمائية . فاعلم أنَّ العلة  الفاعلية لحركة الأبخرة داخل الأرض ، وانعقادها مياهاً ، وحدوث العيون منه ، وحركة الأبخرة والأدخنة والرياح ، وحدوث الزلازل منها ، هي الكواكب بقواه الذاتية والعرضية.



  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!