موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب الحكمة الإلهامية

ينسب للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

وهو لإسحق الحكيم الرومي

وفيه مقدمة طويلة في الرد على الفلاسفة، خصوصًا منهم أرسطوطاليس وابن سينا، ثم في تكفير من قال بوحدة الوجود من الصوفية، أما باقي الكتاب فهو على أربعة فنون: فـ1ـي أحوال تعم الأجسام، فـ2ـي أحوال العناصر وما يتكون منها من الحيوانات والنباتات الخ، فـ3ـي حقائق الأفلاك وحقائق الكواكب وكيفياتها وخواصها، [فـ4ـي الالهيات]؛ ويبدو أنه من تأليف بعض الحكماء من موالي الروم، في عهد السلطان سليمان القانوني (926 هجري -974/1520 هجري -1566)، وقد اعتنق والده الإسلام

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


[7] فصل في بيان الأمور التي لا توجد في غير الإنسان من الحيوانات

فاعلم أنَّ الله تعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم ، يعني في أحسن صورة ومزاج، وكرَّمه وفضَّله على سائر الحيوانات بالعقل والنطق والتمييز. وله نفس إنسانية ، وهي التي سميت نفساً ناطقةً وروحاً وقلبا ً. أما أنها  سميت نفساً ناطقة ؛ فلأنَّ أشهر أفعالها الخاصة بها النطق . وأما أنها سميت روحاً ، فلأن الله تعالى إنما خلقها بواسطة الروح ، الذي هو الملك الأعظم . فلذلك قالَ: ) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ( ، ويعني بتسويته : تكميل أعضائه وتحسين أمزجتها في بطن أمه . وأما أنها سميت قلباً في الكتب الإلهية ؛ فلأنها في أحوالها من الرقة والقساوة والصفاء والكدورة وغيره من الأخلاق الحسنة والسيئة تابعة للقلب الذي هو العضو الصنوبري . فقد علمت في الفصل المقدم أن النفس الحيوانية تدرك صور المحسوسات والأحوال القائمة بالمحسوسات . وعلمت أيضاً سائر القوى الموجودة في بدن الإنسان ، ولا شيء من أعضاء الإنسان ولا من القوى الحالّة فيه بمدرك الذوات المعقولة ، ولا شكَّ أنَّ الإنسان يدرك الذوات المعقولة . فإذاً الذي يدرك الذوات المعقولة في الإنسان شيء غير أعضائه وقواها . فإذاً ذلك الشيء لا بدَّ أنْ يكون جوهراً مجرداً عن المادة ، متعلقاً ببدن الإنسان ، وهو الذي سماه الفلاسفة : "نفساً ناطقة" . وهي جوهر ليس بجسم ولا جسماني، بل هو قدسي الذات ، يتعلق أولاً بالنفس الحيوانية والقلب، ثمَّ بسائر الأعضاء ؛ من شأنه أنْ يدركَ الذوات المعقولة والمحسوسة ، والأمور الكلية والجزئية المتعلقة بهما ، ويفعل الأفاعيل الفكرية والبدنية .

فالنفس الناطقة هي التي تدرك الذوات المعقولة والمعاني الكلية والجزئية المتعلقة بها بذاتها ، وذلك بأنْ تكون أمثلة تلك الذوات ، وأمثلة المعاني المتعلقة بها ، حاصلة في ذاتها ،حصولاً روحانياً عقلياً، لاحصولاً حلولياً جسمانياً . وتدرك صور المحسوسات والأحوال القائمة بالمحسوسات بواسطة إدراك النفس الحيوانية إياها . وقد جعل الله تعالى بينها وبين النفس الحيوانية علاقة ، بحيث يتأثر كل واحدة منهم بتأثر الأخرى ، فيتلذذ كل واحدة منهما بتلذذ الأخرى ، ويتألم كل واحدة منهما بتألم الأخرى .

ألا ترى أنَّ الإنسان  إذا تفكر شيئاً من أحوال الآخرة ، وخاف الله لأجل ذلك ، يظهر أثر ذلك في بدنه من الحزن والغم والبكاء والقشعريرة وغير ذلك . وإذا تفكر شيئاً منها ففرح به يظهر أثر ذلك في بدنه من السرور والنشاط وغير ذلك . وأنَّ النفس الناطقة يلتذ بلذات البدن ، وتتألم بآلامه. فلذلك يبذل الإنسان ماله لإزالة آلام بدنه ، وتحصيل لذاته . ولذلك بعض الناس يرضى بضرر آخرته لتحصيل لذات بدنه ، وبعض الناس يصبر على آلام بدنه لتحصيل لذات آخرته .

أما أنَّ النفس الحيوانية لا تدرك الذوات المعقولة ، فلأنها إنما تدرك الأشياء بحصول أمثلتها في قواها . وكل ما يحصل في الجسم ، أو في قواه فهو جسم أو جسماني . ولا شيء من الذوات المعقولة ولا من أمثلتها بجسم أو جسماني . فإذاً لا يحصل شيء من الذوات المعقولة وأمثلتها في الجسم ، ولا في قواه . فإذاً النفس الحيوانية لا تدرك الذوات المعقولة ، والأحوال القائمة بها . وأما أن الإنسان يدرك الذوات المعقولة ، فلأنَّ المؤمن هو الذي يعلم بأنَّ وجوده تعالى ليس بجسم ول جسماني، وليس في مكان ، فإذا الإنسان يدرك الذوات المعقولة . وأما أنَّ النفس الناطقة تدرك الذوات المعقولة والمعاني المتعلقة بها بذاتها ، لا بآلة ، فلأنه ليس لها آلة سوى البدن.

وقد علمت أنَّ أمثلة الذوات المعقولة ، وأمثلة المعاني المتعلقة بها ، لا تحصل في الجسم ولا في قواه . فإذاً إنَّ النفس الناطقة إنما تدرك الذوات المعقولة والمعاني المتعلقة بها بذاتها لا بآلة. وأما أنها مجردة عن المادة ، ليست بجسم ولا جسماني ؛ فلأنها تدرك الذوات المعقولة والمعاني المتعلقة بها . وقد علمت أنَّ الذوات المعقولة وأمثلتها لا تحصل في جسم ولا في قواه ، فإذاً هي مجردة عن المادة ، ليست بجسم ولا جسماني، بل هي قدسية الذات . وأما أنها تدرك صور المحسوسات وذواته والمعاني المتعلقة بالمحسوسات بواسطة النفس الحيوانية ؛ فلأنَّ الإنسان يعمل أعمالاً بدنية وغير بدنية لله تعالى ، طلباً لثوابه تعالى ، والقاصد لتلك الأعمال والمريد بها ثواب الله تعالى إنما هو النفس الناطقة . فإذاً هي تدرك صور المحسوسات والمعاني المتعلقة بالمحسوسات بواسطة النفس الحيوانية . وأما أنها جوهر؛ فلأنه تدرك الذوات المعقولة، وكل موجود يدرك الذوات المعقولة فهو جوهر. فإذاً إنَّ النفس الناطقة جوهر، ولأنَّ كلَّ موجود سوى الله تعالى : إمَّا جوهر وإما عرض ، وإنه ليست بعرض ، فإذا هي جوهر.

أمَّا أنَّ كل موجود سوى الله تعالى : إمَّا جوهر أو عرض ، فلأن كل موجود : إم أَنْ يكونَ قائماً بذاته، حاملاً قابلاً لغيره ، أو لا يكون كذلك، بل يكون قائماً بغيره محمولاً مقبولاً لغيره. فالأول: جوهر، والثَّاني: عرض . وأما أنها ليست بعرض ؛ فلأنه تحصل فيها أمثلة الذوات المعقولة والمعاني المتعلقة بها ، وتزول عنها. وقد علمت أنَّ العرض هو المحمول والمقبول ، لا الحامل والقابل. وهي حادثة بعد كمال أعضاء الجنين وبدنه .

فقد ذكرت الفلاسفة أدلةً في إثبات ذلك ، فليست بشيء ، بل هي من أباطيل السفهاء . ويكفيك دليلاً على حدوثها قوله تعالى: ) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي( . وأصول أدلة رؤساء الفلاسفة في الحكمة إنما هي كلماته تعالى . فالدليل من كتاب الله على وجود النفس الناطقة وكونها مجرَّدة عن المادة ، قوله تعالى: ) أُوْلَئِكَ* كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ ( ، ولا يكتب الإيمان في قلوب الحيوانات ، التي هي أجسام، لأنَّ الإيمان : هو الإقرار وَالتَّصديق بالله تعالى ، كما هو بصفاته وأسمائه ، وقبول أحكامه وشرائعه . وقد علمت أنَّ كلَّ ما يحصل في الجسم ، أو في قواه فهو جسم أو جسماني . وليس شيء من ذات الله تعالى وصفاته  بجسم أو جسماني . فإذاً لا يكتب شيئاً منها في القلوب المذكورة، بل لا يكتب شيء من صفات الجواهر العقلية والمعاني القائمة بها في جسم أو في قواه . فإذا كان الأمر كذلك فلا يكتب الإيمان والكفر إلا في القلوب التي هي جواهر مجردة عن المادة، يعني جواهر قدسية، وهي التي تكسب الحسنات والسيئات. ألا ترى أنَّ الله تعالى قالَ: ) لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ( . وممَّا يدل على وجود النفس الناطقة وكونها قدسية الذات قوله تعالى: ) وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ (  . قال جابر بن عبد الله : << نظر إليَّr فقال : مالي أراك مهتماً ؟ قلت: يا رسول الله قتل أبي وترك ديناً وعيال . فقال : ألا أخبرك م كلَّم الله أحداً قط إلا من وراء حجاب، وأنه كلَّم أباك كفاح ، فقال : يا عبدي سلني أعطيك . قال : أسألك أن تردني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية . فقال : إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يرجعون. قال: يا رب فأبلغ من ورائي ، فأنزل الله تعالى: ) وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ ( الآية... >> . فالذي يبقى بعد موت الإنسان حياً ويرزق ويثاب أو يعاقب ، والذي يكلمه الله كفاحاً ، ليس إلا جوهراً قدسياً متعلقاً بالبدن تعلق التَّدبير والتَّصرف ، فلذلك يثاب أو يعاقب بعد موت الإنسان ، وهو الذي سمَّي بروح الإنسان ، وبه يمتاز الإنسان عن سائر الحيوانات.

واعلم أنَّ للنفس الناطقة قوتين : إحداهما قوة علمية، وسميت قوة نظرية أيضاً، والأخرى قوة عملية . أما القوة العلمية فهي التي  تحصّل النفس الناطقة التَّصورات والتَّصديقات البديهية والكسبية ، وبها تحيط حقائق الموجودات المعقولة والمحسوسة . وأما القوة العملية فهي التي بها تميز بين ما ينبغي أن تفعل وبين ما لا ينبغي أن تفعل ، وما  يحسن ويقبح في الأمور الجزئية . وبها تحرك البدن إلى الأفعال الجزئية بالفكر والروّية على مقتضى آراء تخصُّها، فله في تحصيلها التَّصورات والتَّصديقات المذكورة . وإحاطتها حقائق الموجودات المعقولة والمحسوسة عند الفلاسفة أربع مراتب : المرتبة الأولى ، أن تكون النفس خالية عن جميع العلوم البديهية والكسبية ، فمتى كانت في هذه المرتبة سميت عقلاً بالقوة . والمرتبة الثَّانية أَنْ يحصل لها العلوم البديهية والعلوم المستفادة من الحواس والتَّجارب . فالنفس متى كانت في هذه المرتبة تسمى عقلاً بالملكة، وذلك لأنَّ حصول هذه العلوم البديهية يفيد النفس قدرة على أَنْ تتوسلَ بتركيبها إلى اكتساب العلوم النظرية . والمرتبة الثَّالثة أن يكتسب النفس العلوم النظرية ، إلا أنها لا يكون حاضرة حاصلة لها بالفعل ولكنها تكون بحيث متى شاءت أَنْ تستحضرها قدرت على ذلك . فمتى كانت في هذه المرتبة تسمى عقلاً بالفعل . والمرتبة الرابعة أَنْ تكون تلك المعارف والعلوم حاضرةً حاصلةً لها بالفعل، فمتى كانت في هذه المرتبة تسمى عقلاً مستفاداً . هذا منتهى نظر الفلاسفة في مراتب إدراك النفس الناطقة .

وأما مراتب القوة العملية ، عند الأنبياء وتوابعهم، فإنما يكون بحسب مراتب يقين النفس الناطقة بالله تعالى وصفاته ، فلها كمال وسعادة ونقصان وشقاوة . أما كمالُها فأدناه معرفة الله التي تقتضي خشيته التي تقتضي طاعته ، وأعلاه درجة معرفة الصِّديقين والعارفين، ليس فوقها درجة سوى درجة الأنبياء والمرسلين . فالمعرفة التي هي أدنى الكمال هي بداية طالب الحكمة وسالكها ، فلذلك قالَ رسول اللهr: << رأس الحكمة مخافة الله >> ، يعني : أصل الحكمة مخافة الله تعالى ، وتلك المعرفة هي يقينُ العبد بالله تعالى وصفاته ، بحيث يقتضي إعراضه عن الدنيا وإقباله إلى الله تعالى ، وإلى الآخرة ، وذلك اليقين وهو النور الذي أراده الله تعالى بقوله : ) أفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ( ، سئل رسول الله r عن هذا الشَّرح فقال : << نورٌ يقذفه الله في القلب ، فينفسح القلب ، فقيل له: وهل لذلك من علامة ؟ فقال: نعم ، التَّجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزول الموت >> . فقد علمتَ أنَّ غاية العمل المستفاد من الحكمة العملية تكميل العبد يقينه بالله تعالى وصفاته ، فللعبد في تحصيله العلم واليقين طريقان : أحدهما طريق الكسب ، والآخر طريق الكشف . أما التَّحصيل بطريق الكسب ، فهو أَنْ يحصل العبد معرفة حقائق الأشياء بواسطة الحواس الظاهرة والباطنة ، وترتيب الأمور المعلومة . وأما التَّحصيل بطريق الكشف ، فذلك إنما يكون بصقال القلب ، وصقال القلب إنما يكون باجتناب المعاصي ، والأعمال الصالحة. فكما أنَّ العمل الصالح يبيِّض القلب ويصقله ،كذلك العمل السيىء والذنب يسوِّد القلب ويقسيه . قال رسول الله r : << إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه ، فإن تاب واستغفر صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه >> ، فذلكم الران الذي ذكر الله تعالى: ) كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( . وقالَ رسول الله r : << الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر، ولا يزول أثر الذنب من قلب العبد إلا بتوبة أو غيرها من الحسنات >> . قالَ الله تعالى: ) إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ( . فلو عمل العبد حسنةً ولم تكن فيه سيئة لزاد لا محالة صقالُ قلبه . فإذا كانت فيه سيئة عاد قلبه بالحسنة إلى ماكان قبل السيئة ، ولم يزددْ بها صقالاً . ألا ترى أنَّ المرآة (...) تصدأ ثم تصقل بالمصقلة ليزول صدأوها ليست كالتي تصقل بالمصقلة ليزداد صقالها . فصقال قلب العبد إنما يكون بحسب إعراضه عن الدنيا وزينتها ، وإقباله إلى الله تعالى . فلذلك  إذا كمل صقال قلبه كمالاً بالغاً كانَ متبتلاً إلى الله تعالى تبتيلاً ، كما قالَ الله تعالى: ) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ( ، فإذ كانَ العبد كذلك يقذف الله تعالى في قلبه اليقين الذي ينتج معرفة  ملكوت السموات والأرض . فالذي يكتب بواسطة ذلك اليقين معرفة تلك الحقائق والعلوم والحكم في قلوب النَّاس هو الملك الموكل باللوح المحفوظ ، وهو الذي سمَّي بـ "ملك الرؤيا" . فكما يكتب المذكورات في قلوب النَّاس كذلك يكتب معرفة بعض الأشياء في قلوب غيرهم من أنواع الحيوانات . وتلك الأشياء هي التي ليس من شأن الحيوانات إدراكها إذا خليت وطبائعها، ولا يكتب ذلك الملك شيئاً من المذكورات في القلوب المذكورة إلا ما شاء الله وأمره . فالقول بأنَّ قلب العبد إذا كان مصقولاً صقالاً بالغاً كان يحاذي اللوح المحفوظ فينعكس منه العلوم والحكم إليه باطل ؛ لأنَّ ذلك مبني على مذهب القائل بأنَّ الله موجب بالذات ، لا فاعل مختار. وكذلك الملائكة موجبة بذواتها لا إرادة لها. فسنبيّن بطلان ذلك المذهب في موضعه إن شاء الله تعالى . ويدلُّ على بطلان حصول معرفة الشيء مما كانَ في اللوح المحفوظ بطريق الانعكاس رؤية الشقي من الرؤيا الصالحة ، ما لا يراها أتقى زمانه . فلو كانَ حصول معرفة الشيء مم كان في اللوح المحفوظ بصقال القلب وانعكاسه منه إلى القلب لما يرى الشَّقي شيئاً من الرؤيا الصالحة ، ولما حصل شيء مما كان في اللوح المحفوظ في قلب الشقي بلا تفكر وكسب . وقد يحصل معرفة بعض خواص الأشياء في قلوب الأشقياء بلا تجربة ولا سماع ، ويحصل معرفة بعض الأشياء بلا تفكر وكسب ، ولا يحصل شيء منها في قلوب الأولياء بل تجربة وكسب. ويدل أيضاً على بطلان حصول معرفة الشيء بطريق الانعكاس من اللوح المحفوظ حصول معرفة بعض خواص  النباتات في قلوب أنواع الحيوانات ، ولا يحصل شيء منها في قلوب الأتقياء بلا تجربة وسماع . فلو كان حصول معرفة تلك الخواص بطريق الانعكاس من اللوح المحفوظ لما حصل شيءٌ منها في قلوبِ الحيوانات ، ولحصلت في قلوب الأتقياء . فإذا كان قلب الشقي الذي هو النفس الناطقة لا يحاذي اللوح المحفوظ لعدم صقاله ، فكيف يحاذيه قلوب البهائم والطيور التي هي الأجسام ؟ فحصول المذكورات في القلوب المذكورة كما وصف يدل بالضَّرورة على وجود فاعل مختار مرجح عالم بما سيكون ، فهو الذي يقذف الأمور المذكورة في قلوب الأشخاص بواسطة الملك الموكل باللوح المحفوظ . )وهو الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض( ، وهو )خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل(. ثمَّ العبد المذكور يطير بذلك اليقين في عالم الأرواح والملائكة ،كما يطير بعقله في عالم الأجسام والشهادة . ألا ترى أنَّ رسول الله r قالَ : << الإحسان أن تعبدَ الله كأنك تراه >> ، فذلك العبد هو العالم بالله ، الزاهد العارف الصَّديق ، وهو الذي يعلم حقائق الأشياء بعلمه بالله تعالى، ويقينه به . فلذلك قال الله تعالى في حقه: << وبي يسمع ، وبي يبصر، وبي ينطق، وبي يبطش >> . وأما من دونه من الصلحاء ، فلا يعلم حقائق الأشياء بيقينه بالله تعالى، بل إنما يعلم الله تعالى بعلمه بحقائق الأشياء . فالمؤمن الصالح كلم زاد علمه بحقائق الأشياء زاد علمه بالله تعالى ويقينه به وقربه منه ، بخلاف المؤمن الفاسق . فإنه كلما زاد علمه بحقائق الأشياء زاد جهله بالله تعالى . بل كلما زاد علمه بأدلة وجود الله تعالى وبكتابه وسنة رسوله وسائر آياته زاد جهله بالله تعالى ، وبعده منه . ألا ترى أنَّ رسول الله r قالَ: << من ازداد علماً ولم يزددْ هدى لم يزددْ مِنَ الله إل بعداً >> . وقرب العبد من الله تعالى وبعده إنما يكون بحسب علمه ويقينه به ، فإِنْ قلْتَ : لِمَ كانَ الفاسق كلما زاد علمه زاد جهله بالله تعالى ، ونقص يقينه به ؟ قلت : يكون ذلك لأنَّه كلِّما زاد علمه زاد كبره وعجبه  وحسده وغيرها من الأخلاق السيئة ، وذلك لنقصان عقله . فقد علمت أنَّ سوء الخلق يفسد القلب والعمل والإيمان . وإن كمال إيمان العبد ونقصانه إنما يكون بحسب كمال حسن خلقه ونقصانه . وعلمت أيضاً أنَّ رسول الله r قالَ: << آفة العلم الخيلاء >> ، ول يعني بالعلم إلا العلم بالله واليقين به . فتحصيل العبد الصالح زيادة اليقين بالله تعالى ، ونقصانه ، إنما يكون بحسب كمال حسن خلقه ونقصانه . فهو في ذلك لا يخلو عن ثلاث  أحوال : إما أن يكون مجبولاً على محاسن الأخلاق كما قال رسول الله r : << ما جبل الله ولياً له إلا على السخاء وحسن الخلق >> ، فهو البالغ في التَّحصيل. وأما أن يكون مجبولاً على الأخلاق السيئة :كالبخل والجبن والكبر والحسد وغيرها من الأخلاق السيئة ... فهي إما أن تكون ضعيفة جداً فيقدر صاحبها على عمل خلاف مقتضاها ، ويعمل ذلك كالبخيل الذي يخالف نفسه ، فيظهر السخاء ، فلا يمتاز في فعل ذلك عن السخي . والمتكبر الذي يخالف نفسه فيتواضع . والحاسد الذي يخالف نفسه فلا يريد زوال النعمة عن محسوده ، بل يريد بقاءها . فصاحب هذه الأخلاق ، كما يقدر على عمل خلاف مقتضاها ، يقدر أيضاً على أَنْ يبدلها بالأخلاق الحسنة . وهذا دون الأول في التَّحصيل . وأما أن تكون تلك الأخلاق ضعيفة ، بحيث لا يقدر صاحبها بالمجاهدة والرياضة على أَنْ يبدلها بأضدادها ، بل يقدر على عمل خلاف مقتضاها فقط . ويعمل ذلك . وهذا دون الثَّاني في التَّحصيل . فلا يبلغ العبد درجة الصِّدِّيقين والعارفين إلا إذا كملت أخلاقه الحسنة، وبلغت غاية الكمال . فمن بلغ ذلك فهو الصَّدِّيق العارف الذي قال رسول الله r في حقه : << مَنْ أخلص لله أربعين صباحاً ظهرتْ ينابيعُ الحكمة من قلبِه على لسانه >> ، وقالَ: << مَنْ زهدَ في الدنيا أدخل الله الحكمة قلبه ، وأنطق بها لسانه، وعرَّفه داء الدني ودواءها، وأخرجه منها  إلى دار السَّلام .  فقد علمتَ أنَّ أدنى كمال النفس الناطقة معرفة الله التي تقتضي طاعته . فإذ وجد تلك المعرفة في نفس العبد كان عادلاً صالحاً ، فهو "الإنسان الكامل" السعيد . وإذا لم توجدْ تلك المعرفة في نفس العبد كان ظالماً فاسقاً، فهو الناقص الشقي . أم أنه هو الكامل، فلأنَّ الإنسان إنما يمتاز عن سائر الحيوانات بالنطق وَالعقل والتَّمييز، فالمراد بالنطق ليس الإخبار عن المعاني المتعلقة بالمحسوسات :كالأكل والشَّرب والعداوة والصَّداقة والمخالفة والموافقة والمجيء والفرار والطلب والرد ؛ لأنَّ ذلك موجود في كثير من أنواع الحيوانات . بل المراد بالنطق الذي به يمتاز عن سائر الحيوانات هو الإخبار على التَّفصيل عن أحواله وأحوال غيره، والإخبار عن الذوات المعقولة وأحوالها . فأجلى الذوات المعقولة وأحوالها ذات الله تعالى وصفاته ؛ لأنَّ وجود الأشياء وحدوثها دالة على ذلك . فلذلك مَنْ عاش بعد البلوغ مدةً طويلةً ولم يعرف الله تعالى ، لم يكن جهله معذورا ً. والمراد بالعقل والتَّمييز ليس الإدراك بالمأكول والمشروب والمجامعة والالتذاذ بذلك ، وَالتَّمييز بينها ؛ لأنَّ ذلك موجود في البهائم. بل المراد به ، الإدراك للذوات المعقولة وشرفها وفضلها على المحسوسات ، والإدراك للجميل والقبيح والخير والشَّر والنافع والضَّار والباقي والفاني ، والتَّمييز بينها ، واختيار الجميل على القبيح ، والشَّريف على الخسيس ، والخير على الشَّر، والنافع على الضار، والباقي على الفاني. فالإنسان إنم يمتاز عن سائر الحيوانات بوجود هذه الأمور فيه ، فإنْ لم توجدْ كان هو أخس من سائر الحيوانات ؛ لأنه ليس فيها عقل، وهو مع عقله ليس فيه أثر عقله وعلامته ، بل ليس فيه فعل يمتاز به عن سائر الحيوانات . فلذلك قالَ الله تعالى: ) أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ( . وأما أنه هو السعيد فلأنَّ سعادته ليست إلا قربه من الله تعالى ، والتلذذ به ، وذلك  إنما يكون بقدر كماله ، وكماله إنما يكون بقدر علمه بالله تعالى ويقينه به ؛ وبقدر علمه ويقينه به يكون تقواه . فلذلك قالَ الله تعالى: ) إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ( . وَقالَ رسول الله r : << أنّ أعلمكم بالله أخشاكم لله >> .

فاعلم أنَّ اللذة والألم نوعان : جسماني حسي ، وروحاني عقلي . فاللذة والألم معلوم لكل شخص ، وبأيِّ شيء عرفت كل واحد منهما يكون التَّعريف أخفى من المعرف . فإذاً يكون تعريفهما باطلاً ، كما يكون تعريف الحلاوة والمرارة باطل ، بل لا يتصور تعريفهم لمن لا يعرفهما ، لأنهما ذوقيتان . فَمَنْ لم يذقهما لا يمكن تعريفهما وتفهيمهما له . فإذا كان الأمر كذلك ينبغي لنا أن نبين الفرق بين اللذة والألم الجسمانيين ، وبين اللذة والألم الروحانيين . فاللذة الجسمانية هي التي يلتذ بها النفس الحيوانية بذاتها ، ويلتذ بها النفس الناطقة بواسطة التذاذ النفس الحيوانية بها . والألم الجسماني هو الذي يتألم به النفس الحيوانية بذاتها، ويتألم به النفس الناطقة بواسطة تألم النفس الحيوانية به . واللذة الروحانية هي التي يلتذ به النفس الناطقة بذاتها ، ويلتذ النفس الحيوانية بواسطة التذاذ النفس الناطقة بها ، والألم الروحاني هو الذي يتألم به النفس الناطقة بذاتها ، ويتألم النفس الحيوانية بواسطة تألم النفس الناطقة به. فلا يشك أحد في أنَّ كلَّ شخص من أفراد الإنسان يلتذ بنيل مطلوبه ، وإنَّ شدةَ اللذة وضعفه ، إنما يكون بحسب كمال المدرك ، وكمال المطلوب الملتذ به . فالله تعالى أكمل من كلِّ شيء . وغاية مطالب الإنسان الكامل تحصيل اليقين بذات الله تعالى وصفاته ، وتحصيل قربه . فإذاً لا شيء ألذ من ذلك .

ومعلوم بالاستقراء أنَّ الكمال محبوب لذاته ، وكلمَّا كان الشيء أكمل ،كان أولى بالمحبوبية ، والله تعالى أكمل من كلِّ شيء ، فكان أولى بالمحبوبية. فلذلك مَنْ لم يكن الله ورسوله أحبَّ  إليه مما سواهما كان ناقص العقل و الإيمان . قالَ رسول الله r : << ل يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهم >> الحديث ... وإدراك المحبوب من حيث هو محبوب ملتذ به . فلمَّا كانَ إدراك النفس الناطقة لله تعالى أكمل من إدراك القوة الجسمانية لمدركاتها ، وكانَ الله سبحانه وتعالى أكمل الموجودات ، وجب أنْ تكونَ اللذة الحاصلة من إدراكه أكمل من سائر اللذات. فكما أنَّ النفس الحيوانية تطلب بذاتها الطعام والشَّراب ، وتغتذي وتكمل بهما، وتلتذ بأكله وشربه ، كذلك النفس الناطقة تطلب بذاتها العلومَ البديهية والكسبية والكشفية ، وتغتذي وتكمل بها ، وتلتذ بتحصيلها . فلذلك قالَ رسول الله r : << لن يشبعَ المؤمن من خيرٍ يسمعه حتى يكون منتهاه الجنة >> ، فكما يلتذ الإنسان بأكل الأغذية الحلوة ، وكلما كان حلاوة الغذاء أقوى وأشد كان التَّذاذه بأكله أقوى وأشد ، كذلك يلتذ بتحصيل علوم حقائق الأشياء . ألا ترى أنَّ الذكي يلتذ ويفرح بتحصيل مجهوله منها ، والغبي يتألم ويغتم بعدم تحصيل ما يُحصّل منها الذكي ، وعدم إدراكه له .

وكلمَّا كان حقيقة الشيء أكمل وأشرف كان التذاذُهُ بتحصيل علمها أقوى وأشد ، ول شيءَ في الكمال والجلال والجمال والشَّرف مثلُ ذات الله تعالى وصفاته . فإذاً معرفة عظمته وقدرته وجماله وجلاله وحسن تدبيره في خلقه أقوى اللذات في الدنيا . فكيف لا يكون كذلك؟ فإنَّ النفس الناطقة إنما تلتذ باللذات الجسمانية بالعرض لكونها بواسطة البدن، فلذلك لم تكنْ مطلوبةً بذاتها ، ولا لأجل ذاتها . وتلتذ باللذات الروحانية بالذات، وهي مطلوبة بذاتها، ولأجل ذاتها. فكما يلتذ الإنسان بتحصيل علوم حقائق الأشياء كذلك يلتذ بإظهاره وإفادتها لآخر . ألا ترى أنَّ الكاتب الحاذق في الكتابة يلتذ بإظهار كتابته ؟ وأنَّ القارئ الكامل  في القراءة يلتذ بإظهار قراءته ، وأنَّ العادل يلتذ بإظهار عدالته ، وأنَّ السَّخي يلتذ بإظهار سخائه ، بل يلتذ بإظهارها وإفادتها لآخر أكثر مما يلتذ بتحصيلها ؛ لأنَّه بإفادتها لآخر يتأكد كماله وحفظه ، ويزداد في ذلك لذتان وفرحتان : لذة وفرحة لتكميل نفسه ، ولذة وفرحة لتكميل مخاطبه .

فقد علمْتَ أنَّ حبَّ أدنى الصلحاء لله تعالى أنْ يكونَ الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وعلمْتَ أيضاً أنَّ إدراك المحبوب من حيث هو محبوب ملتذ به ، وكل من كان إدراكه بالمحبوب من حيث هو محبوب أكمل كان التذاذه به أكمل . وإذا كانَ حبُّ عامة الصَّالحين ،كما ذكر فما ظنك بحب الزاهد العارف الذي لا يطمئن قلبه إلا بذكر الله تعالى؟ كما قالَ: ) الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ( ، وهو الذي قد رزقه الله تعالى اليقين الذي به يشاهد عظمته وقدرته وجماله وجلاله وحسن تدبيره في خلقه ، فيتنعم بتلك المشاهدة ويلتذ بها . وما ظنك بالتذاذه وهو الذي قال الله تعالى في حقه : << ما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فكنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينه ، وإن استعاذني لأعيذنه >> ... ثم اعلم أنَّ مَنْ يزعم أنَّه يعلم أوصافَ لذات الآخرة الروحانية والجسمانية وآلامها ، فقد غره الشَّيطان ؛ لأنَّ أوصافَ لذات الآخرة وآلامها كانت من المتشابهات . ولا يعلم المتشابه إلا الله . فلذلك قالَ: ) وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ ( . ولذلك قال رسول الله r، قال الله تعالى : << أعددْتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر >> . واقرأوا إن شئتم : ) فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ ( ، ولا فرقَ بين أوصاف آلام الآخرة ولذاتها  في كونها من المتشابهات . فإذاً لا يعلم أحد أوصاف آلام الآخرة ولذاتها سوى الله تعالى.

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!