موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب الحكمة الإلهامية

ينسب للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

وهو لإسحق الحكيم الرومي

وفيه مقدمة طويلة في الرد على الفلاسفة، خصوصًا منهم أرسطوطاليس وابن سينا، ثم في تكفير من قال بوحدة الوجود من الصوفية، أما باقي الكتاب فهو على أربعة فنون: فـ1ـي أحوال تعم الأجسام، فـ2ـي أحوال العناصر وما يتكون منها من الحيوانات والنباتات الخ، فـ3ـي حقائق الأفلاك وحقائق الكواكب وكيفياتها وخواصها، [فـ4ـي الالهيات]؛ ويبدو أنه من تأليف بعض الحكماء من موالي الروم، في عهد السلطان سليمان القانوني (926 هجري -974/1520 هجري -1566)، وقد اعتنق والده الإسلام

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


[6] فصل في أحوال الحيوان :

واعلم أنَّ الفلاسفة قالوا : إنَّ للحيوان نفوساً ثلاثاً : نفس حيوانية ، ونفس مدركة، ونفس طبيعية . وعرَّفوا الحيوان بأنه جسم نامٍ حساس متحرك حركة إرادية، وهو يشارك النبات في النفس النباتية، وهي التي سميت نفساً طبيعية ، وقوة طبيعية ، وموضعها في الحيوان الكبد . وتخدمها في أفعالها قوة غاذية وقوة منمية وقوة مولدة . أما الغاذية فهي التي بها تحيل النفس الطبيعية الجسم الغذائي الوارد على العضو إلى طبيعته ، وتجعله بدلاً عما يتحلل منه. وأما المنمية فهي التي بها تزيد النفس الطبيعية جسم الحيوان في أقطاره الثلاثة على نسبٍ يقتضيها نوعه . والنفس الطبيعية  يخدمها في تغذيتها وإنمائها قوىً أربع : قوة جاذبة، وقوة ماسكة ، وقوة هاضمة ، وقوة دافعة . أما الجاذبة فهي التي بها تجذب النفس الطبيعية الجسم الغذائي من موضع إلى موضع . وأما الماسكة: فهي التي بها تمسك الجسم الغذائي . وأما الهاضمة فهي التي بها تغير الجسم الغذائي وتنضجه وتحيله إلى طبيعة العضو ، وأما الدافعة فهي التي بها تدفع الفضل الغذائي .

فهذه القوى الأربع هي كالخوادم للقوة الغاذية . وأما المولدة ، فسميت مصورة ، وهي أربعة أنواع : نوع يكون في قلب الحيوان ، وهو الذي يولّد منياً في الذكر والأنثى بواسطة الخصيتين . ونوع يولّد منياً في الذكر ، وفي الأنثى يولد منياً مع البيض ، ونوع يكون في مني الذكر والأنثى ، وهو نوعان : نوع يمزج مني الذكر مع مني الأنثى في الرحم ، ويمزّجهما مع دم الطمث ، أو غيره من الدم ، ثمَّ يغيرها ويجعلها علقة ، ثمَّ يغيرها ويجعلها مضغة ، ثمَّ يغير أجزاء المضغة ويجعل بعضها قلباً وبعضها دماغاً وبعضها كبداً وبعضها عظاماً وبعضها عروقاً وبعضها أعصاباً وبعضها لحماً وبعضها غير ذلك مما يكون في بدن الحيوان... ونوع آخر، يغير مني الذكر والأنثى في البيض ، بل يغير أجزاء البيض كلها ، فيجعل بعضها قلباً وبعضها دماغاً وبعضها كبداً وبعضه عظاماً وبعضها عروقاً وبعضها أعصاباً وبعضها لحماً وبعضها غير ذلك مما يكون في بدن الحيوان ... فإنْ كانتِ القوة المولدة التي في مني الذكر غالبةً على القوة المولدة التي في مني الأنثى كانت هي الفاعلة الأفعال المذكورة ، فيجعل الحيوان ذكراً ، وإنْ كانتِ القوة المولدة التي في مني الأنثى غالبة على القوة المولدة التي في مني الذكر كانت هي الفاعلة الأفعال المذكورة ، فيجعل الحيوان أنثى . والقول بأنَّ القوة المولدة تخدمها قوتان : قوة مغيرة ، وقوة مصورة ليس بشيء ؛ لأنَّ القوة المغيرة والمصورة ليستا غير المولدة ؛ لأنَّ فعل المولدة ليس إلا التَّغيير والتَّصوير. وذلك لأنَّ المولدة  التي في قلب الحيوان ، هي التي تغير الدم بواسطة الخصيتين ، وتجعله منياً . والمولدة التي في المني هي التي تغير أجزاء المضغة، فتجعل بعضها قلباً وبعضها دماغاً وبعضها كبداً وبعضها عظاماً وبعضها عروقاً وبعضها أعصاباً وبعضها لحماً وبعضها غير ذلك مما يكون في بدن الحيوان ... فالقوة التي يجعل هذه الأعضاء إنما تجعل كلَّ واحد منها على مقداره الطبيعي في الطول والعرض والعمق ، وعلى لونه الطبيعي . فإذاً أي شيء يفعله المغيرة والمصورة ، فإنم أسندت الأفعال المذكورة من التغذية والإنماء والتَّوليد إلى القوة الطبيعية التي في الكبد لأنها مع قواها إنما هي آلات القوة الطبيعية التي في القلب ، وهي مع آلاته إنما هي آلات القوة الحيوانية في فعلها الأفعال المذكورة. فمن جعل القوة الطبيعية التي في الكبد فاعلة تلك الأفعال ، كما كانت في النبات، فلا يفرق بين القوة المكملة للنبات وبين القوة المكملة للحيوان . فإنَّ القوة المكملة للنبات إنما هي القوة الطبيعية ، والقوة المكملة للحيوان إنما هي القوة الحيوانية . والقوة الطبيعية دون القوة الحيوانية في الكمال . فلو كانت القوة الطبيعية في بدن الحيوان فاعلة تلك الأفعال لَزِمَ أَنْ تكون هي مكملة لبدن الحيوان وقواه، وذلك باطل. لأنَّ القوة الخسيسية لا تكمل القوة التي فوقها ، بل لا تفعل أفعالها ، فضلاً عن أنْ تكملها .

وقد اتفقتِ الفلاسفة على أنَّ المكمل لكل شخص من أنواع الحيوانات والنباتات إنما هو صورته النوعية ، فالمراد بصورته النوعية المكملة له في الحيوان إنما هي قوته الحيوانية التي تختصُّ بنوعه ، وفي النبات هي القوة النباتية التي تختصُّ بنوعه . وأما النفس المدركة ، فهي التي سميت قوة مدركة ، وقوة نفسانية ، وهي مع قواها إنم هي آلات النفس الحيوانية في إدراكاتها و إفادتها البدن الحس والحركة الإرادية، وموضعها الدماغ ، وفيه قوة طبيعية ، وهي التي تحركه حركة انبساط ؛ وذلك لجذب الهواء  إليه لتعديل ما فيه من الروح ، وحركة انقباض؛ وذلك لدفع الفضل الدخان الحاصل من الهواء الداخل المسخن ، ولها قوى مدركة وقوى محركة : أما المدركة فمنها مدركة في الظاهر ، ومنها مدركة في الباطن. أما المدركة في الظاهر فهي الحواس الخمس الظاهرة : وهي حاسة السمع وحاسة البصر وحاسة الشم وحاسة الذوق وحاسة اللمس . أما حاسة السمع فهي قوة موضعها الغشاء العصبانية المفروشة على باطن الصماخ تدرك بها النفس الحيوانية الأصوات والحروف . والصوت : كيفية يحدث في الهواء من تموجه ، ولا نعني بتموج الهواء حركة انتقالية من هواء واحد بعينه يتموج ، ويتكيف بالصوت، ويصل إلى موضع قوة السمع ، بل نعني به أنَّ ما يجاور ذلك الهواء المتكيف بالصوت، يتموَّج ويتكيف بالصوت أيضاً ، وهكذا إلى أن يتموَّج ويتكيف به الهواء الراكد في الصِماخ ، فتدركه بذلك النفس الحيوانية .

والذي يدل على أنه لا بدَّ من وصول الهواء المتموّج إلى باطن الصماخ هو أنَّ المؤذن إذا كان على منارةٍ ، فإنَّ صوته يميل من جانب إلى جانب عند هبوب الرياح . ومَن اتخذ أنبوبة طويلة ووضع أحد طرفيها على فمه وطرفها الآخر على داخل أُذن الإنسان ، وتكلَّمَ فيه، فإنَّ ذلك الإنسان يسمع كلامه دون سائر الحاضرين . وإذا رأينا من البعيدِ إنساناً يضرب بالفأس على الخشبة ، رأينا الضَّربةَ قبل سماع الصوت . ثمَّ اعلم أنَّ الهواء إذا تموَّج على الوجه الذي عرفته فيما مرَّ حتى صادم المتموج منه جسماً يقاومه كجبل أو جدار، ويرده إلى خلف ،لم يبقَ في الهواء المصادم ذلك التموج الذي كان حاصلاً له ، بل يحصل فيه بسبب مصادمته ورجوعه تموجٌ شبيهٌ بالتَّموج الأول ؛ فهذا التموجُ الجديد الحاصل بالمصادمة والرجوع هو السبب للصدى الشبيه بالصوت الأول . فلا يوجد الصَّدى إلا بالجسم المقاوم العاكس . وقد يوجد الجسم المقاوم العاكس ولا يسمع الصَّدى ؛ وذلك لقرب المسافة بين الصوت وعاكسه ، فلا يسمع الصوت والصدى في زمانين متباينين ، بحيث يقوى الحاس إدراك تباينها، فلا يميز بينهما، فيحس بهما على أنهما صوت واحد ؛ كما في الحمامات وأمثالها من الأبنية الصقيلة . فلكون الأمر كذلك كان صوت المغني في الصحراء أضعف منه في البيوت، فليس السبب في هذا إلا أنَّ الصدى يقرن بالصوت في البيوت ، فيتقوى ويتضاعف صوته بالصدى المحسوس معه في زمان واحد ، بخلاف الصحراء إذ لا يوجد فيها الصَّدى . فكلَّما كان المقاوم العاكس أصلب وأصقل كان الصَّدى أقوى واثبت.

وأما حاسة البصر، فهي قوة موضعها ملتقى العصبتين المجوفتين الآتيتين إلى العينين ، تدرك بها النفس الحيوانية الضوء ولون الجسم وشكله ومقداره ووضعه ومكانه وخشونته وملاسته ورطوبته ويبوسته وسيلانه وعدم سيلانه وعدده والمسافة التي بين الرائي والمرئي . وإنما يحصل الإبصار بانطباع صورة المرئي في الملتقى المذكور. فاعلم أنَّ الهواء مظلم في نفسه إلا أنه قابل للإضاءة والإنارة ، وأنَّ النَّار مضيئة منيرة في نفسها. فإضاءة الهواء وإنارته إنما تكون من ضوء حادث عن الشمس أو القمر أو الكواكب أوالنَّار أو غير ذلك من أجسام صقيلة وغيرها... فالإنسان لا يرى شيئاً إلا إذا كان الهواء مضيئاً ، وبعض الحيوانات يرى الأشياء في الليلة الظلماء .

وأما حاسة الشم فهي قوة موضعها الزائدتان في مقدم الدماغ ، الشَّبيهتان بحلمتي الثدي ، تدرك بها النفس الحيوانية الروائح الطيبة والخبيثة وما بينهما بواسطة الهواء المستنشق المتكيف برائحة ذي الرائحة . وذلك إما بأنْ يخالطه شيء من جرم ذي الرائحة ، أو بأنْ يجاوره .

وأما حاسة الذوق ، فهي قوة موضعها العصب الذي في اللسان ، تدرك بها النفس الحيوانية الطعوم .

وأما حاسة اللمس فهي قوة موضعها الجلد وغيره من الأعضاء ، سوى العظم والغضروف والرباط والغدد والشَّحم والسمين . وتلك القوة هي التي تدرك  بها النفس الحيوانية الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والملاسة والخشونة واللينة والصَّلابة والثَّقل والخفة وسائر ما يتوسط بين هذه ويتركب منها...

وأما القوى المدركة في الباطن ، فهي الحواس الخمس الباطنة ، وهي : الحس المشترك والخيال والوهم والحافظة والمتصرفة . أما الحس المشترك فهو قوة موضعها مقدم البطن المقدم من الدماغ ، تدرك بواسطتها النفس الحيوانية ما تدركه بالحواس الخمس الظاهرة ، وذلك أنها تدرك المبصرات بانطباع أمثلة صورها في الملتقى المذكور وفي الحس المشترك ، وتدرك غيرها من المسموعات والمشمومات والمذوقات والملموسات بحصول كيفياتها في باقي الحواس المذكورة ، وفي الحس المشترك . إلا أنَّ الملموساتِ التي تدرك بواسطة الأعصاب التي تنبت من مؤخر الدماغ ومن النخاع ، لا مدخل للحس المشترك فيما تدرك بها. ولأنَّ النفس الحيوانية إنما تدرك ما تدركه بالحواس الخمس الظاهرة ، بشركة تلك القوة ، سميت حساً مشتركاً. والدليل على وجود الحس المشترك ، أنَّ نرى القطرة النازلة خطاً مستقيماً ، والنقطة الدائرة بسرعة خطاً مستديراً . فكلُّ واحدٍ من هذين الخطين لا بدَّ أن يكون له وجود ، فإنَّ العدم الصرف لا يكون مشاهداً محسوساً ، لكنه ليس بموجود في الخارج ؛ لأن الموجود فيه إنما هو القطرة والنقطة ، فهو إذاً موجود في قوةٍ من قوى من أبصر ذلك ، وليس محله البصر؛ لأن البصر إنما تنطبع فيه صورة الشيء الموجود في الخارج المقابل له . فإذاً لا بدَّ من قوةٍ أخرى غير البصر ، فيها ينطبع الخط المستقيم و المستدير ؛ فهي التي سميت بالحس المشترك . فإنما تنطبع القطرة والنقطة فيها على شكل الخط المستقيم والمستدير ، لأنها تحصل فيها صورة تلك القطرة والنقطة عند كونها في مكان ، ثم قبل زوال تلك الصورة عنها ، تحصل فيها صورة كونها في مكان آخر يلي المكان الأول . ثم قبل زوال الصورة الثَّانية عنها تحصل فيها صورة  كونها في مكان آخر يلي المكان الثَّاني ، فيحصل فيها باتصال هذه الانطباعات المتتالية خط مستقيم ومستدير.

وأما الخيال فهو قوة موضعها مؤخر البطن المقدم من الدماغ ، بها تحفظ النفس الحيوانية صور المحسوسات وكيفياتها ، وبها تمثلها وتصورها في الحس المشترك بعد غيبتها عنها . فلذلك سميت مصورة ؛ وذلك أنَّ النفس الحيوانية إذا أرادت إدراكَ شيءٍ من المحفوظات في الخيال ، التفتت إلى الحس المشترك ، وإنْ كان الشيء المطلوب محفوظاً في الخيال حاضراً فيه، تجدْه حاضراً في الحس المشترك ، كما تجدْه عند كونه في إحدى القوى الظاهرة . وإنْ لم يكن محفوظاً حاضراً في الخيال ، بأنْ تنساه النفس الحيوانية ، التَّفتت إلى الخيال وتطلبه منه . فإنْ لم يكن الخلل الموجب للنسيان قوياً تذكره وتجده في الحس المشترك ، وذلك بأنْ تصوره وتمثله بالخيال في الحسِّ المشترك .

وأما الوهم فهو قوة موضعها البطن الأوسط من الدماغ ، بها تدرك النفس الحيوانية المعاني والأحوال الجزئية والكلية القائمة بالمحسوسات . فإنَّ الشَّاة تدرك عداوة الذئب ، وصداقة ولدها، فإذا رأت الذئب ، تعرف بأنَّ ذلك الذئب ، من حيث أَنَّه ذلك الذئب مهروبٌ عنه، وذلك جزئي ، وتعرف بأنَّ الذئب من حيث أنه ذئبٌ مهروبٌ عنه، وذلك كلي . وعداوة الذئب ، وصداقة ولدها كلية . ولا يشك أحدٌ في أنَّ بعض الحيوانات من البهائم تدرك عداوة أعدائها المختلفة الأنواع ، وتلك العداوة كلية . فإذاً النفس الحيوانية تدرك المعاني والأحوال الكلية والجزئية القائمة بالمحسوسات .

وأما الحافظة فهي قوة موضعها البطن المؤخر من الدماغ ، بها يحفظ النفس الحيوانية المعاني المدركة بالوهم ، وسميت ذاكرة ؛ لأنَّ النفس الحيوانية به تذكر ما نسيته من المعاني المحفوظة بها ، وذلك بأنْ تمثله في الوهم . وكيفية ذلك  قد بينت في الخيال .

وأما المتصرفة فهي قوة في موضعها البطن الأوسط من الدماغ ، بها يتصرف النفس الحيوانية في الصور والمعاني بالتركيب والتَّفصيل ، فتركب الصورَ بعضها ببعض ، مثل أَنْ تتخيل أسداً ذا رأسين أو جناحين ، وتفصل بعضَها عن بعض، كما إذا تخيلت أسداً عديمَ الرأس أو الأرجل . وتركب المعاني بعضها ببعض ، مثل أَنْ تتخيل صداقَة الشَّاةِ مع موافقتها . وتركب بعض الصور ببعض المعاني ، مثل أَنْ تتخيلَ سوادَ الفيل مع عداوته ، وبياض الشَّاة مع صداقتها . والقول بأَنَّ المتصرفة ، إِن استخدمها الوهم ، سميت متخيلة ، وإن استخدمتها النفسُ الناطقةُ ، سميت مفكرةً ، باطل . لأنَّ الوهم آلة النفس الحيوانية في إدراكها المعاني القائمة بالمحسوسات ، وليس هو بذاته مدركاً ، بل هو آلة الإدراك . فكيف يستخدم المتصرفة؟ ولأنَّ المتصرفة آلة النفس الحيوانية في تصرفها في الصور والمعاني بالتركيب والتَّفصيل، فما كان آلة للنفس الحيوانية ، لا يكون آلة للنفس الناطقة ؛ لأنَّ مدركات النفس الحيوانية كم تنطبع في آلتها ،كذلك تنطبع فيها ، ولا يتصور أن تنطبعَ الأمثلة الجسمانية في النفس الناطقة كما تنطبع في الآلة الجسمانية . فإذاً كيف يتصور أن تستخدم النفس الناطقة المتصرفة ؟ والقول بأنَّ اختصاص القوى المذكورة بمواضعها المعينة إنما علم باختلالها ، بعروض الآفة لتلك المواضع ، باطل . لأنَّه لو كان الأمر كذلك لما أمكن معرفة كون الحس المشترك في مقدم البطن المقدم من الدماغ إلا بأَنْ يكون مرض يختص عروضه بذلك الموضع ، فيخل بالحس المشترك والحواس الظاهرة. ومع ذلك لا يظهر أثر ذلك المرض في وسط ذلك البطن ولا في آخره. فكان الخيال وباقي الحواس الباطنة سليمة ، وبأَنْ يكون لذلك المرض علامة يعرف بها أنَّ ذلك المرض في ذلك الموضع ، ولم يؤثر في غير ذلك الموضع . وهذا مما لا يوجد أصلاً . وكذلك الحكم في تحصيل معرفة مواضع باقي الحواس الباطنة ، فإذاً لا يمكن تحصيل معرفة مواضع الحواس المذكورة بما قالوه ، فإنما علم عددها ومواضعها بالوحي ، وبتعليم الأنبياء عليهم السَّلام .

فالنفس الحيوانية إنما تدرك الأشياء بالحواس الظاهرة والباطنة ، بواسطة الروح النفساني الذي في بطون الدماغ ، وفي مواضع الحواس الظاهرة والباطنة . وإنما سميت القوة النفسانية والحواس الظاهرة والباطنة مدركة ؛ لأنها آلات النفس الحيوانية في إدراكه الأشياء . فَمَنْ جعل الحواس المذكورة مدركة بذواتها ، أو جعل القوة النفسانية مدركة بواسطتها ، فلا يعلم المدرك ولا المدرك ، فهو إما أنْ يجعل النفس الحيوانية غير مدركة ، فإذاً لا يدرك الحيوان شيئاً من المحسوسات ، والأشياء من الأحوال القائمة بها ، ولا يسمع ولا يبصر ولا يدرك شيئاً من المشمومات والمذوقات والملموسات ، ولا يدركُ الشَّاة عداوة الذئب ، ولا يشك أحدٌ في بطلان هذه اللوازم . وأما أَنْ يجعلها مدركة ، فإذاً قد جعل القوةَ النفسانيةَ مع الحواس المذكورة آلات الإدراك لها . ومع ذلك لا يعلم ما يقول ، بل هو أدنى إدراكاً من الحمار؛ لأنَّ الحمار يعرف أنَّ الحواسَ الظاهرة المذكورة آلاته في إدراكاته ، فلذلك إذا أراد أن يسمع شيئاً يجعل أذنيه جهة الصوت ، وإذا أراد أن يبصرَ شيئاً يجعل عينيه جهة الشيء الذي أراد إبصاره ، وإذا أراد أَنْ يشمَّ شيئاً يضع أنفه في الشيء الذي أراد شمه ، وكذلك يستعمل سائر حواسه .

فَمَنْ جعل كلَّ واحدة من القوى الظاهرة والباطنة مدركة على حدة ، فقد جعل في الإنسان نفوساً عشرة ، كل واحدة منها تدرك نفسها ، وتدرك ما كانت آلة الإدراك له ، مثلاً قد جعل القوة السامعة نفساً على حدة مدركة نفسها ، وما كانت آلة الإدراك له من المسموعات ؛ لأنَّ كل ما يدرك شيئاً  لا بدَّ مِنْ أن يدرك نفسه ، وكذلك جعل كل قوة من باقي العشرة . فإذاً قد جعل في الإنسان كل واحدة من القوى العشرة نفساً مدركة نفسها ، وما كانت آلة الإدراك له ، وجعلها غير مدركة غير ذلك . وهل في الإنسان نفس تدرك أنها سامعة وتدرك المسموعات ولاتدرك غير ذلك ؟ وهل في الإنسان نفس تدرك أنه باصرة ، وتدرك المبصرات ، ولا تدرك غير ذلك ؟ أفمن يذهب  مثل هذه الأقوال الباطلة ، هل يدرك مسألة من مسائل الحكمة ؟

والدليل من كتاب الله تعالى على أنَّ المدرك والحافظ لصور المحسوسات والأحوال القائمة بالمحسوسات هو القلب ، قوله تعالى: ) قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ(، وَقوله تعالى: ) أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَ يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (، وَقوله تعالى: ) وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً ( ، وَقوله تعالى: ) وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُو وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ( . فالقلب إنما يدركُ المحسوساتِ والمعاني والأحوال القائمة بها لكونه موضع النفس الحيوانية .

وأما القوى المحركة فهي التي بها تحرك النفسَ الحيوانية أعضاء الحيوان ، وَهي قوتان: قوة باعثة على الحركة ، وقوة فاعلة للحركة . أما الباعثة فسميت شوقية ونزوعية ، وهي التي تحمل القوة الفاعلة على تحريك الأعضاء ، إذا حصل في الوهم معنى الشيء المطلوب أو المهروب عنه . فهي إِنْ حملتها على التَّحريك طلباً لتحصيل الشيء ، سواء كانَ ذلك الشيء نافعاً للنفس الحيوانية أو ضاراً ، سميت قوة شهوانية ، وإنْ حملتها على التَّحريك طلباً لدفع الشيء ، سواء كان ذلك الشيء نافعاً لها أو ضاراً ، سميت قوة غضبية . وأما القوة الفاعلة فهي التي تشنج  العضل ، فينجذب الوتر، فتحصل الحركة الانقباضية ، أو ترخي العضل فيمتد الوتر، فيحصل الحركة الانبساطية . وموضع هذه القوى المذكورة إنما هو القلب. فإنما نسبت إلى القوة النفسانية ؛ لأنه مع الدماغ والنخاع والأعصاب النابتة منهما إنما هي آلات النفس الحيوانية في فعله أفعال القوى المذكورة .

وأما النفس الحيوانية ، فهي التي سميت قوة حيوانية ، وهي قوة ذات شعور وحركة إرادية، وهي التي تفيد البدن الحياة والحس والحركة الإرادية ، وموضعها القلب . وفيه قوة طبيعية أيضاً يفعل بها القلب أفعالاً وحركات طبيعية : من التَّغذية والإنماء والتَّوليد والحركة الانبساطية والانقباضية وغيرها من الحركات الطبيعية . أما كون القلب ذا شعور، فلأنه قد اتفق الفلاسفة والأطباء على أنَّ معروض الانفعالات النفسانية إنما هو القلب، وحركة القلب عند شدة الغضب والفرح والخجل والهم بالشيء يدركها كل شخص بنفسه ، ويدركها أيضاً إذا وضع يده على موضع القلب . وحركة القلب بسبب كل واحد من هذه الأمور إنما يكون بحصول مثال معنى الشيء الموجب لذلك الأمر في الوهم . وحركة القلب وانفعاله لأجل ذلك لا يكون بلا شعور . وانفعال القلب وفرحه بسبب حصول مثال معنى الشيء الموجب للفرح في الوهم ، وميل القلب إلى وصول ذلك الشيء ، وتحريك الروح الحيواني إلى خارج البدن، لأجل ذلك لا يكون بلا شعور. وكذلك انفعال القلب وغضبه بسبب حصول مثال معنى الشيء الموجب للغضب في الوهم ، وطلب القلب دفع ذلك الشيء وشدة حركته واضطرابه لأجل ذلك ، وتحريك الروح إلى الخارج بسبب ذلك ، حتى ربم يخرج الروح كله من القلب إلى الخارج دفعة فيموت الإنسان كما يموت عند شدة الفرح بسبب خروجه  قليلاً قليلاً ، لا يكون بلا شعور .

فقد ثبت بهذه الكلمات أنَّ القلب مدرك ، والوهم آلة الإدراك له ، ولا يجوز أنْ يكون فاعل الحركة الإرادية غير القلب ، وغير المدرك ؛ لأنَّ الحركات الإرادية الصادرة عن الحيوان تابعة لإدراكات قلبه ، ولأنَّ فاعل الحركة الإرادية هو الذي يقصد إلى أنْ يفعل فعلاً معيناً. والقاصد إلى فعل معينٍ لابدَّ أن يكون مدركاً ذلك الفعل ؛ لأنَّ القصد الى الفعلَ بدون الإدراك محال . فإذاً قد ثبت أنَّ المدرك والمحرك إنما هو القلب . وكون القلب مدركاً ومحركاً ليس من جهة أنه جسم مركب من لحم صلب والعصب والغضروف والشَّرايين وغير ذلك ، بل من جهة أنه موضع النفس الحيوانية ، فبإدراكها وتحريكها يدرك القلب وَيحرك . وَحركة القلب بسبب الانفعالات النفسانية طبيعية ، كحركة الانبساط والانقباض للقلب والشَّرايين والدماغ. فالقوة الحيوانية هي أصل القوى الموجودة في الحيوان ، ورئيستها ومدبرة أمورها . فلذلك كان موضعها رئيس الأعضاء كلها ، فكانت الأعضاء خادمة له، وهي التي تجذب الدم الخالص من الكبد إلى القلب ، وتنضجه في بطينه وتلطفه ، وتجعله بخاراً. وذلك البخار هو الروح الحيواني. وتوصله بواسطة الشرايين إلى الأعضاء القابلة للحياة، وتحييها به وتوصله إلى الدماغ ، وبه وبالدماغ وآلاته تفعل أفعال القوة النفسانية وتوصله إلى الكبد، وبه وبالكبد وآلاتها تفعل أفعال القوة الطبيعية. فالروح الحيواني إذا كان في الدماغ سمي روحاً نفسانياً ، وإذا كان في الكبد سمي روحاً طبيعياً . فالقول بأنَّ الروح الحيواني إذا حصل في الدماغ ينضجه الدماغ ويغيِّره، ويغيِّر مزاجه، وبعد ذلك سمي روحاً نفسانياً. وإذا حصل في الكبد تنضجه الكبد وتغيره وتغير  مزاجه ، وبعد ذلك سمي روحاً طبيعياً ، باطل . لأنَّ حياة الدماغ والحس والحركة الكائنين بالدماغ والأعصاب إنما يكون بالروح الحيواني . لأنَّ الحياة والحس والحركة الإرادية تختصُّ بالقوة الحيوانية والروح الحيواني. فإذ تغيَّر الروح الحاصل في الدماغ ، وتغيَّر مزاجه ، تغيَّر قوته وفعله ، ولا يبقى في الدماغ حياة ، ولا يكون هو والأعصاب آلة الحس والحركة الإرادية . وكذلك لو تغيَّر الروح الحيواني الحاصل في الكبد ، وتغير مزاجه ، تغير قوته وفعله، ولم يبق في الكبد حياة ، ولا يصدرُ عنها فعل من الأفعال الصادرة بواسطته . فالنفس الحيوانية هي التي متى وجد فعلها في العضو فقد وجد فعل القوة النفسانية والطبيعية فيه ، إلا إذا كان في موضعيهما أو آلاتهما خلل . ولا يوجد فعلهما في العضو بدون فعلها، بل لا يوجد قوة ولا فعل بدون فعلها . وقد يوجد فعلها بدون فعلهما ، كما وجد في العضو المفلوج الخدر الذي ذبل ، فإذا زال السبب الموجب لهذه الأمراض فقد عاد فعلهما فيه ، وأما إذا زال فعلها عن العضو وعدم منه ، مات العضو، ولا يعود فعلها إليه أبداً.

فاعلم أنَّ الحواس المذكورة لا توجد في جميع الحيوانات، بل كان من الحيوانات ما ليس فيها عين ولا أذن ، فضلاً عن أنْ يكون فيها الحواس الباطنة ، إلا أنه لا يوجد حيوان بدون حس اللمس والحركة ؛ لأنهما لازمان له.



  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!