موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب الحكمة الإلهامية

ينسب للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

وهو لإسحق الحكيم الرومي

وفيه مقدمة طويلة في الرد على الفلاسفة، خصوصًا منهم أرسطوطاليس وابن سينا، ثم في تكفير من قال بوحدة الوجود من الصوفية، أما باقي الكتاب فهو على أربعة فنون: فـ1ـي أحوال تعم الأجسام، فـ2ـي أحوال العناصر وما يتكون منها من الحيوانات والنباتات الخ، فـ3ـي حقائق الأفلاك وحقائق الكواكب وكيفياتها وخواصها، [فـ4ـي الالهيات]؛ ويبدو أنه من تأليف بعض الحكماء من موالي الروم، في عهد السلطان سليمان القانوني (926 هجري -974/1520 هجري -1566)، وقد اعتنق والده الإسلام

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


[7]> فصل في إثبات حدوث العالم بالبراهين الشَّرعية والعقلية :

واعلم أنَّ الله تعالى قد بيَّن في كتبه أنَّ كل موجود سواه حادث ، أحدثه بعد م لم يكن. وكان على ذلك البيان أنبياؤه كلهم عليهم السَّلام . وكذلك كان أصحابهم وأممهم كلهم أجمعون . قالَ الله تعالى: ) اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَما بَينَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ( . قال المفسرون : أراد في مقدار ستة أيام ؛ لأنَّ اليوم من لدن طلوع الشَّمس إلى غروبها ، فكيف يكون يوم ولا شمس ولا سماء ؟! وقال مجاهد : إنَّ ذلك رتب على الأيام : الأحد والاثنين والثَّلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة ، فتم الخلق في يوم الجمعة ، وفيه خلق آدم عليه السَّلام . روي عن أبي هريرة أنه قال : قالَ رسول الله r : << خير يوم طلعت فيه الشَّمس يوم الجمعة ، فيه خلق آدم ، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها. ولا تقوم السَّاعة إلا في يوم الجمعة >> وفي الحديث: << وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة  في آخر الخلق >> . وقالَ الله تعالى: ) قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ (  أي : الأحد والاثنين ) وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ( ، أي : تتخذون معه آلهة )ذلك( أي الذي فعل ما ذكر )رب العالمين(  ) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ (  أي : جبالاً ثوابت )من فوقها(  أي : من فوق الأرض ، ) وَبَارَكَ فِيهَ (  يعني بما خلق من الحيوانات في البر والبحر والنباتات والثمار والحبوب والبزور، وجعل بأمره في كلِّ واحدٍ مِنَ المذكورات ما أرادَ من توليد مثله ، وغير ذلك من القوى والأفعال . فإنما جعل ذلك بقوله: كن كذا وكذا وكذ ، وافعل كذا وكذا ؛ لأنَّ الله تعالى قال: ) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( ، ) وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا(  ، قالَ الحسن و مقاتل : << وقسَّم أرزاق العباد والبهائم في أربعة أيام أيْ في تتمة أربعة أيام يعني الثَّلاثاء والأربعاء ، وهما مع الأحد والاثنين أربعة سواء، نصب على المصدر على معنى استوت سواءً ، كما تقول : في أربعة أيام تماماً ، يعني في أربعة أيام بلياليه ؛ لأنَّ الأحد والاثنين والثَّلاثاء والأربعاء لا يكون بلا ليالٍ . ومَنْ خفض فعلى النعت لأيام ، ومن رفع فعلى معنى هن سواء للسائلين . قال السَّدي و قتادة : "سواء" : لا زيادة ولا نقصان ، جواباً لمن سأل : في كم خلقت الأرض والأقوات ؟ فيقال: في أربعة أيام تماماً ، ) ثم استوى إلى السماء ( ، أي عمد وقصد إلى خلقها، )وهي دخان( ، قال السَّدي: وكان ذلك الدخان من نَفَس الماء حين تنفس ، خلقها سماء واحدة، ثمَّ فتقها، فجعله سبعاً في يومين : الخميس والجمعة . وروي أنه كان عرشه قبل خلق السموات والأرض على الماء ، فأخرج من الماء دخاناً، فارتفع فوق الماء وعلا عليه ، فأيبس وسط الماء ، فجعله أرضاً واحدةً ، ثمَّ فتقه فجعلها أرضين . ثمَّ خلق السماء من الدخان المرتفع ، فقال لها وللأرض : ) اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً(  ، أيْ: افعلا ما آمركما طوعاً ، أي طبعاً ، وإلا ألجأتكما إلى ذلك حتى تفعلاه كرهاً ، أي على خلاف  طبعكما . فإنما قال ذلك إظهاراً لقدرته على تخليقه ؛ وذلك أنَّ الله تعالى جعل في كل واحدة من السموات والأرض ما أراد من القوى والأفعال، بقوله: ) اِئْتِيَ (  ، ومن تلك الأفعال:حركات الأفلاك ولوازمها ، وإنبات الأرض النباتات ، فأجابتا وأطاعتا وفعلتا ما أمرهما طوعاً . وذلك قوله: ) قَالَتَا أَتَيْنَ طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ ( ، أيْ: صنعهن، وأحكمهن، وفرغ من خلقهن في يومين. ) وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا ، فلمَّا جعل الله تعالى في كلَّ واحدة من السموات والأرض ما أراد من الأفعال ، جعل بالوحي في كل واحد من الملائكة الموكلين بالسموات ما أراد من الأفعال . فلذلك قال :) وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا ( . قال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: << خلق في كل سماء من الملائكة والبرد والثلوج وما لا يعلمه إلا الله >> . قال رسول الله r : << كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء ، وكتب في الذكر كل شيء ، ثم خلق السموات والأرض >> ، وقالَ رسول الله r : << كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة >> ، قالَ : << وعرشه على الماء >> . وقال رسول الله r : << إنَّ أول شيء خلقه الله القلم >> الحديث... ثمَّ خلق الملائكة قبل أن يخلق السموات والأرض. قال رسول الله r : << إن الله قرأ طه و يس قبل أن يخلق آدم بألفي عام، فلمَّا سمعت الملائكة القرآن قالوا: طوبى لأمة ينزل هذا عليه، وطوبى لأجوافٍ تحمل هذا، وطوبى لألسنٍ تكلم بهذ >> .

ثمَّ اعلم أنه قد اتفقت الفلاسفة كلهم على أنَّ ممكن الوجود هو الذي يستفيد الوجود من واجب الوجود ، وأنَّ واجب الوجود هو الذي يفيد الوجود لممكن الوجود ، ولا يتصور استفادة الوجود للمكن ، ولا إفادته للواجب إلا بكون وجوده في القوة . ثمَّ يصير إلى الفعل بإفادته ، وكل شيء كان في القوة ثم يصير إلى الفعل فهو حادث . فكلُّ ممكنِ الوجود فهو حادث. والعقل ببداهته  يحكم بأنَّ كون وجود الممكن ، وخصوصاً الوجود الجسماني ، وخصوصاً وجود الأفلاك والعناصر ليس بآنيّ الحصول ، بل هو زماني الحصول . وكل ما كان حصول وجوده زمانياً كان لحصول وجوده ابتداء وانتهاء زماني . فكان حصول وجوده محدوداً بالزمان ، وكل محدود بالزمان مسبوق بالزمان ، وكل مسبوق بالزمان فهو حادث . فكل ممكن الوجود فهو حادث .

وقد اتفقت الفلاسفة على أنَّ كون الجسم وحصوله وفساده إنما يكون بالحركة ، وتلك الحركة زمانية محدودة بالزمان ، وكل محدود بالزمان مسبوق بالزمان ، فحصول الجسم مسبوق بالزمان ، وكل مسبوق بالزمان فهو حادث ، فكل جسم حادث .

فإن قلتَ : كون الجسم وحصوله بالحركة إنما يكون في كون الأجسام المركبة وحصولها، لا في الأجسام البسيطة وحصولها . قلت : كون الجسم البسيط وحصوله لا يخلو: إما أن يكون بالحركة أو بالسكون . فإنَّ كان بالحركة فقد ثبت المطلوب ، وكذلك إن كان بالسكون . لأنَّ الفلاسفة قد اتفقت على أن السكون زماني محدود بالزمان ، كما أن الحركة زمانية محدود بالزمان . وواجب الوجود في إفادة الوجود لممكن الوجود القديم ، إما أن يكون تأثيره فيه في حال وجوده ، وفي ذلك إيجاد الموجود ، وهو محال ، وفي حال عدمه أو حدوثه ، وعلى التَّقديرين يكون حادثاً ، وقد فرضناه قديماً ، هذا خلف ! فإذاً إنَّ كلَّ ممكن الوجود فهو حادث .

فقد علمت بالبراهين المذكورة أن كل ممكن الوجود فهو حادث ، فاعلمْ أنَّ البراهين المذكورة مسلّمة عند الكل من الفلاسفة ، ومسلَّم عند الكل أيضاً بأنه لا يمكن أن يكون لوجود الشيء برهان ، ولامتناع وجوده برهان ، ولا لحدوث العالم برهان ، ولقدمه برهان . وكل قول يخالف البرهان فهو باطل عندهم . ومع ذلك قد ناقض بعضهم في ذلك كله أنفسهم ، فاستدلوا بكلماتٍ باطلةٍ شبيهة بأقوال المبرسمين  على قدم العالم . فأقوى أدلتهم الباطلة ، هو القول بأنَّ واجب الوجود موجب بالذات ، لا فاعل مختار، وذات واجب الوجود علَّة تامة موجبة وجود العقل ، والعقل علة تامة موجبة للفلك . والمعلول لا يتخلف عن علَّته التَّامة . فالموجب بالذات قديم ، ومعلوله قديم .

فاعلم أنَّ قولهم بأنَّ واجب الوجود موجب بالذات لا فاعل مختار، باطل؛ لأنَّه قد ثبت بالبراهين المذكورة حدوث العالم، فقد دلَّ ذلك بالضرورة على كون واجب الوجود فاعلاً مختاراً ، لا موجباً بالذات ؛ لأنَّه لو كان موجباً بالذات لكان العالم قديماً لا حادثاً .

وقد اتفقتِ الفلاسفة على أنَّ واجب الوجود هو الكامل في ذاته وصفاته ، الموصوف بصفات الكمال كلِّها ، وأنَّ ما سواه ممكن ناقص محتاج إليه في وجوده وكماله . وأنَّ كون الشيء فاعلاً مختاراً من صفات الكمال . ومع ذلك قد ناقضت الفلاسفة الذين قالو بقدم العالم أنفسهم في ذلك ، فأسندوا ذلك الكمال إلى الممكن الناقص المصنوع ، وأنكروا ذلك الكمال في حقِّ واجب الوجود الكامل الصانع الذي صنع ذلك الكمال في ممكن الوجود، فجعله ذا إرادة واختيار، وجعلوا ممكن الوجود الناقص المصنوع أكمل من واجب الوجود الكامل الصانع . فَمَنْ له أدنى نصيب من التَّعقل هل يقول مثل هذا ؟ ومَنْ يعقلُ مسألة من مسائل الحكمة هل يقول بأنَّ واجب الوجود كان مضطراً في فعله ،كالنَّار في إحراقها ، وكقوى النباتات في أفعالها ؟ وكان واجب الوجود في فعله دون الحيوانات في أفعالها ! وهو الذي جعل نفوس الحيوانات في قلوبه ، وجعل نفوسَها ذوات إرادات واختيارات ! وأنَّ العقل علَّة تامة موجبة الفلك ، فَمَنْ يعقل العلَّة التَّامة ويعلم القوانين الفلسفية ، هل يقول بأنَّ ذات العقل القدسية المجرَّدة عن المادة تكون علَّةً تامةً موجبة بذاتها مادة الفلك وصورته ؟ وهل يقول بأنَّ ذات العقل المجرَّدة عن المادة يكون علَّةً موجبةً بذاتها الجسم ، أوالأجسام المختلفة المقادير وأشكالها وأوضاعها  وقواها وكيفياتها وخواصها وأفعالها ؟

ولا يتصوَّر أن يكونَ الشيء علَّةً موجبة بذاتها وجود المعلول إلا بكون المعلول في حقيقته ووجوده شبيهاً بحقيقة علته ووجودها . فأين المشابهة بين الذات القدسية والوجود الروحاني ؟ وبين الذات الجسمية والوجود الجسماني ؟ وأين المشابهة بين الذات القدسية البسيطة ووجودها ، وبين ذوات الأجسام المختلفة الطبائع والقوى والكيفيات ووجودها ؟ فالذي جمع العناصر الأربعة المتضادة الكيفيات المختلفة الأحياز في موضع واحد قسراً ومزجها قسراً ، وخلق من مزجها كلَّ نوع من الحيوانات والنباتات ، وخصصَّ بكل واحد من أنواع المذكورات مزاجاً ورجحه  ، ويمزج العناصر الأربعة ، ويجعل من مزجها غذاءً موافقاً لمزاج كلِّ نوع من النباتات ، ويغذوه به ، والذي خلق الحنطةَ من مزج العناصر، ثمَّ جعلها دماً، وجعل الدم منياً ، والمني علقة ، والعلقة مضغة ، وهي كقطعة لحم متشابهة الأجزاء والكيفية، ومع ذلك قد جعلها أجساماً مختلفة القوى والكيفيات ، فجعل بعضَ أجزائها قلباً، وبعضَ أجزائه دماغاً ، وبعضَها كبداً ، وبعضَها معدة ، وبعضَها طحالاً ، وبعضَها عظاماً ، وبعضَها أعصابا ً، وبعضَها عروقاً ، وبعضَها غير هذه المذكورة من أعضاء الإنسان، وخصصَّ بكلِّ واحد منها مزاجاً، ورجَّحه له . والذي علَّم الإنسان ما أرادَ من القوى والخواص والكيفيات الموجودة في الأجسام بالوحي والإلهام والتَّجربة، وعلَّمه كتبه المنزلة ، وجعله بمعرفة هذه المذكورات حكيماً، فقال: ) وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيراً (  ، لا يتصوَّر أنْ يكونَ إلا فاعلاً مختاراً ، قادراً حكيماً ، مدبراً بالقدرة والاختيار .

وقد اتفقت الفلاسفة على أنَّ الأشياء الغير المتناهية لا تدخل في الوجود الخارجي؛ لأنَّ كل ما يدخل في الوجود الخارجي  لا بدَّ أن يكون متناهياً . وقد ثبت هذ بـ "برهان التطبيق" وغيره من البراهين . ولا يشك أحد في أنَّ الأشياء غير المتناهية الموجودة في الخارج جملة أفراد غير متناهية . فلو أخذنا من تلك الجملة جملة متناهية : فإمَّا أن يكون عدد أفراد الجملة الباقية أقلَّ من عدد أفراد الجملة الأولى أو ل يكون ، فإذا كان أقل فالأقل متناهٍ، والزائد على الأقل بقدر متناه يكون متناهياً . فالكل متناه . وإن لم يكن أقل يلزم أنْ يكونَ عدد أفراد بعض الجملة كعدد أفراد كله ، وأنْ يكونَ مقدار العدد مع غيره من الأعداد كهؤلاء مع غيره ، وذلك محال . فقد ثبت بهذا البرهان استحالة حصول الأشياء الغير المتناهية في الوجود الخارجي ، وهذ البرهان وما ثبت به مسلَّم عند الكلِّ من الفلاسفة . ومع ذلك قد ناقضت الفلاسفة الذين قالوا بقدم العالم أنفسهم . فقالوا بأنَّ النفوسَ الناطقة الموجودة ، وأنَّ الحيوانات والنباتات الداخلة في الوجود الخارجي ، وأنَّ غيرها من الحوادث الفلكية الداخلة في الوجود الخارجي غير متناهية .

ولا شكَّ أنَّ عدد الأدوار الماضية للكواكب السبعة السيارة في زمان محمَّد عليه السَّلام أكثر من عدد أدوار الماضية للكواكب المذكورة في زمان إبراهيمَ عليه السَّلام . فلو لم يكنْ عدد الأدوار الماضية للكواكب المذكورة في زمانِ إبراهيمَ عليه السلام أقل من عدد الأدوار الماضية في زمان محمَّد عليه السَّلام ، يلزم أَنْ يكون العدد الناقص كالزائد، وأنْ يكونَ الشيء مع غيره كهؤلاء مع غيره ، وذلك محال . فالأقل متناه، والزائد على الأقل بقدر متناه يكون متناهياً، فالكلُّ متناهٍ. فقد ثبت بهذا البرهان أنَّ عدد الأدوار الماضية للكواكب المذكورة متناه، وأنَّ لحركاتها ولحركات غيرها من الأفلاك بدايةً .

وإذا فرضنا الحوادث الماضية من اليوم إلى الأزل جملة ، ومن زمان الطوفان إلى الأزل جملة أخرى ، فلا شكَّ أنَّ الجملة الأولى  أزيّد من الثَّانية بما بين زمان الطوفان إلى هذا اليوم . فإذا طبقنا في الوهم الطرف المتناهي من الجملة الزائدة على الطرف المتناهي من الجملة الناقصة حتى يقابلَ كلَّ فرد من أفراد إحدى الجملتين بم يساويه في المرتبة من الجملة الأخرى ، فإنْ لم يقصرِ الجملة الناقصة عن الزائدة في الطرف الآخر، كان الشيءُ مع غيره كهؤلاء مع غيره، وهذا محال . وإنِ انقطعتِ الجملة الناقصة من ذلك الطرف كانت متناهيةً من جانب الأزل ، والزائد زائد عليها بمقدار متناه ، والزائد على المتناهي بمقدار متناه يكون متناهياً، فالكلُّ متناه في جانب الأزل . فقد ثبت بهذا البرهان أنَّ لحركاتِ الأفلاك وغيرِها من حوادثها بداية .

وقد كان أفلاطون من رؤساء الفلاسفة اليونانيين ، بل هو أكبرهم في الحكمة الطبيعية وما بعد الطبيعية ، وقد ذهب هو وتوابعه وغيرهم من كبار الفلاسفة إلى أنَّ العالم حادث. فقد قال أفلاطون : إنَّ العالم حادثٌ ، أحدثه الله تعالى بعد أَنْ لم يكنْ ، بإرادته واختياره ، وخلقه على أحسن الوجوه وأكملها ؛ لأنَّه خير محض ، فلذلك كان يحدثُ كل شيء ويخلقه ويدبر أمره بذاته . وقال : إنَّ أول ما خلقه الله تعالى من الأجسام هو العناصر الأربعة ، ثمَّ خلق منها السموات وما بين السماء والأرض ، وما كان داخل الماء والأرض . فإن قلت: فكيف ذهبت توابعه إلى أنَّ العالم حادث ، و أرسطوطاليس ذهب إلى خلاف ذلك ، وهو أحد توابعه ؟ فاعلم أنَّ أرسطوطاليس ليس من توابعه ، بل هو من تلامذته ، وهو الذي قد تعلَّم منه الحكمة عشرين سنة، ثمَّ خالفه ، فأفسد نصف حكمته، بل أكثر مسائلها . فقد بينت ما أفسده من مسائلها.



  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!