موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب الحكمة الإلهامية

ينسب للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

وهو لإسحق الحكيم الرومي

وفيه مقدمة طويلة في الرد على الفلاسفة، خصوصًا منهم أرسطوطاليس وابن سينا، ثم في تكفير من قال بوحدة الوجود من الصوفية، أما باقي الكتاب فهو على أربعة فنون: فـ1ـي أحوال تعم الأجسام، فـ2ـي أحوال العناصر وما يتكون منها من الحيوانات والنباتات الخ، فـ3ـي حقائق الأفلاك وحقائق الكواكب وكيفياتها وخواصها، [فـ4ـي الالهيات]؛ ويبدو أنه من تأليف بعض الحكماء من موالي الروم، في عهد السلطان سليمان القانوني (926 هجري -974/1520 هجري -1566)، وقد اعتنق والده الإسلام

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


[9] فصل في إثبات صفات واجب الوجود

واعلم أنَّ صفاته ذاتية وفعلية ، أما الذاتية فهي التي كانت في وصف ذاته دون فعله، كالأحدية والصمدية والعظمة والكبرياء والحياة والقدرة والعلم والسمع والبصر وغيرها. وأما الفعلية فهي التي كانت في وصف ذاته وفعله : كالإحياء والإماتة ، وكالإنبات والإنماء ، والتَّصوير والصنع ، والإبداع والتَّخليق . أما أنَّ واجب الوجود حي ، فاعلم أنَّ الحياة نوعان: حياة الذوات  الجسمية ، وحياة الذوات القدسية . أما الذي يدل على حياة الذات الجسمية فحسها وحركتها ، وأما الذي يدل على حياة الذات القدسية فعلمها وإدراكها . فالذي يدل على حياة واجب الوجود : علمه وسمعه وبصره وكلامه وقدرته وإرادته وأفعاله. أما أنه عالم ، فيدل على ذلك إخباره أنبياءه عن أوصاف الأشخاص الماضية والآتية ، وعن أحوالهم وأفعالهم ، وإخباره عن ضمائر الأشخاص الكائنة في زمن الأنبياء عليهم السَّلام ، وعن أحوالهم وأفعالهم .

وأنت تعلم أنه لا يتصوَّر أَنْ يبني أحد بيتاً أو قصراً أو سفينةً مع أنه عديم العلم ، فبنى ذلك بلا علم وإدراك . فالذي أوجد السموات والأرض وما بينهما بعد ما لم تكنْ ، وصوَّرها وأحسن صورها ، وجعل في الحيوانات والنباتات من النقوش ما يتحير فيها ذوو العقول ، كيف يتصور أَنْ يكونَ عديم العلم ، وأَنْ يصدرَ عنه المذكورات بلا علمْ ؟ وأما أنه سميع ، فهو الذي يخبر عن أقوال الأمم الماضية والآتية ، ول يعلم الأصوات والأقوال والكلمات ، ولا تدرك إلا بالسمع ، فإذاً كيف يتصور أَنْ يكونَ عديم السمع ؟ وأما أنه بصير فهو الذي يخبر عن أشكال الأمم الماضية والآتية ، وعن ألوانها ، ولا يعلم الشكلَ واللونَ ، ولا يدرك إلا بالبصر، وهو الذي جعل السمع والبصر في الحيوانات، ويرجحهم لبعضها ، فجعل بعضها عديم السمع والبصر، وجعل قوة البصر في بعضها بحيث لا يمنعها عن الإبصار ظلمة الليلة الظلماء ، فكيف يتصوَّر أَنْ يكونَ عديم السمع والبصر ؟ ولا شك أنَّ السمع والبصر من صفات الكمال ، فالذي يفيد ذلك الكمال لغيره ، كيف يتصوَّر أَنْ يكونَ عديمَ ذلك الكمال؟ وأما أنَّ له شماً فهو الذي جعل في بعض الكلاب قوة الشم ، بحيث يتحير في إدراك كيفيتها كل ذوي العقول ، والشم من صفات الكمال،  فإذاً كيف يتصوَّر أَنْ لا يكونَ موصوفاً بالشم، ولا يدرك الشيء الروائح إلا بأَنْ يكونَ له قوة الشَّم ، أو موصوفاً بالشم ؟ قالَ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم : << والَّذي نَفْسِي بيدِهِ لخلوف فمِ الصَّائم أطيبُ عند الله من ريح المسك >> ، فإنما جعل الله تعالى في بعضِ الكلابِ قوة الشَّم كما ذكر، لينتبه به الغافلون على قدرة الله تعالى، وليزداد الذاكرون إيماناً . وأما أنه متكلم فهو الذي يكلم النَّاس وغيرهم من الحيوانات ، بأَنْ يكتبَ في قلوبهم حروفاً دالة على معاني كلامه ، بواسطة ملك الرؤيا ، فسمي هذ التَّكلم : وحياً وإلهاماً . قالَ الله تعالى: ) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي (  ، وقالَ الله تعالى: ) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ( ، وقد يكلِّم الله تعالى بعض النَّاسِ بأَنْ يرسلَ جبرائيل، ويكتبَ بواسطته في أسماعهم الجسمانية والروحانية ، وفي قلوبهم حروفاً دالة على معاني كلامه. وذلك لا يكونُ لأحد إلا بأَنْ يذهبَ عقله وإدراكه ، فيكون كالنائم وهو يقظان . فإنما قيل : في أسماعهم الجسمانية ، لأنهم يسمعون كلاماً بالصوت ككلام كائن عن تموج الهواء ، مسموع بالآذان ، وذلك إنما يكون بأَنْ يكتبَ جبرائيل في الحسِّ المشترك للمخاطبين المذكورين حروفاً كحروف مكتوبة فيه عن تموجِ الهواء بواسطة الآذان . فهذا التَّكلم يختصُّ بالأنبياء . فكما يكتب جبرائيل في الحس المشترك للمخاطبين المذكورين كلاماً ، كما وصف، كذلك يكتب ملك الرؤيا في الحس المشترك للنائم في رؤياه ، فيسمع كلاماً بالصوت كما يسمعه في يقظته من الأشخاص . وقد يكلِّم الله تعالى بعضَ النَّاس ، بأَنْ يجعلَ الهواء متموجاً ، كتموجه من كلمات النَّاس، فيسمع المخاطبُ كلامَ الله تعالى ، كما يسمع كلام النَّاس . فهكذ كلَّم الله موسى عليه السلام ،  فقال تعالى في حقِّ هذا التَّكلم : ) أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ ( ، فإنما قال هذا لأنَّه كلِّم المخاطب بغير واسطة جبرائيل أو غيره من الملائكة ، بل كلمه بذاته من غير رؤية المخاطب المتكلم ، فلذلك قالَ تعالى: ) أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ ( . وقالَ رسول الله r في حق موسى عليه السلام : << هو نجَّي الله >> . قال الله تعالى: ) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَ يَشَاء( . وأما أنه قادر مريد ، فيدل على ذلك إيجاده الأشياء ، وتقديم إيجاد بعضها على بعض .وليس وجود الممكن في وقت معين من قبل نفسه، بل من قبل مرجح لوجوده ، مؤثر فيه . فالمرجح لوجود الممكن في وقت معين دون وقت ، لا يكون إلا مريداً ؛ وكمال قدرة الشيء على الشيء ونقصانها إنما يستدل بحسب كمال تأثيره ونقصانه في مقدوره . وقدرة واجب الوجود هي التي بها أوجد العالم بعدما لم يكنْ ، وبها يوجد كل يوم ، بل كل ساعة ووقت، من الجواهر المعقولة والمحسوسة ما لا يعلم حسابه إلا هو. فمن كان كذلك لا يكون إلا قادراً على كلِّ م أراد .

فالفلاسفة يقولون بأنَّ واجبَ الوجود هو الموصوف بصفات الكمال كلّها، ويقولون بأنَّ الصفات المذكورة من الحياة والقدرة والعلم والسمع والبصر والكلام والإرادة من صفات الكمال . ويقرون بحقيقة الأدلة المذكورة الدالة على كون واجب الوجود موصوفاً بتلك الصفات . ومع ذلك يناقضون أنفسهم ، فينكرون كونه موصوفاً بها ، ويثبتونها على الممكنات، وذلك لجهلهم بصفات الذوات القدسية، فقد بيَّنتها في موضعها.

فاعلم أنَّ صفاته تعالى كثيرة ، لأنَّه هو واجب الوجود لذاته . فواجب الوجود لذاته هو الكامل في ذاته وصفاته الذي لا يعتريه نقص  في ذاته وصفاته ، فالكامل في ذاته وصفاته هو الموصوف بصفات الكمال كلها ، المنـزه عن صفاتِ النقص كلِّها . فوجود الأشياء كما يدلُّ على وجود واجب الوجود ، كذلك يدلُّ على كونه موصوفاً بصفات الكمال كلِّها ، وعلى كونه منزهاً عن صفات النقص كلِّها ؛ لأنَّه لو كانت صفة من صفات الكمال ، ولم يكن هو موصوفاً بها ، أو كان موصوفاً بصفة من صفات النقص، لكان ناقصاً، لا كاملاً . وكلُّ ناقص فهو ممكن الوجود . فكانَ واجبُ الوجود ممكنَ الوجود ، هذا خلف. فواجب الوجود موصوف بصفات الكمال كلِّها ، منـزهٌ عن صفات النقص كلِّها، فإن أردت معرفة صفاته على التَّفصيل فاطلبها من كتبِ الله المنـزلة ، ومن أخبار المبعوث بالرسالة.

ثمَّ اعلم أنَّ صفاته ليست غير ذاته ، لأنها لو كانت غير ذاته لكانت ذاته في وصفه مفتقرة إلى غيرها ، وكلُّ مفتقرٌ إلى الغير فهو ممكن ، فكانت ذاتُه ممكنة ، هذ خلف! ولأنَّ صفاته لو كانت غير ذاته لكانت مفتقرة إلى ذاته ، وكلُّ مفتقر إلى الغير فهو ممكن، فكانت صفاته ممكنة . وواجب الوجود ، واجب الوجود من جميع جهاته . فإذا كانَتْ صفاته ممكنةً ، يكون واجب الوجود ممكناً من جهة صفاته ، هذ خلف . فصفاتُ واجب الوجود ليست غير ذاته ، فإنما يمتاز كل صفة من صفاته عن ذاته وسائر صفاته بحسب المفهوم ، لا بحسب الوجود. وهذا كما كان في قولنا: زيد عالم قادر سميع بصير متكلم ، فإنما يمتاز كل واحد من هذه المحمولات عن موضوعها ، وعن كلِّ واحد منها، بحسب المفهوم، لا بحسب الوجود . فليس وجود العالم غير وجود السميع ، ول وجود السميع غير وجود القادر، ولا وجود المتكلم غير وجود البصير . وأما علم زيد وقدرته وسمعه وبصره  وكلامه، فوجود كل واحد من هذه الصفات غير وجود الموصوف بها . وذلك لأن زيداً إنما يعلم الأشياء بصورٍ متبانية متقررة في ذاته ، وإنم يقدر ويسمع ويبصر ويتكلم بآلاتٍ ، لا بانفراد ذاته .

أما علم النفس الناطقة ذاتها ، فإنما يكون بانفراد ذاتها ، لا بصورة حاصلة في ذاتها ، فلذلك لم يكنْ وجوده غير وجودها، فلا يمتاز عن ذاتها إلا بحسب المفهوم لا بحسب الوجود . فواجب الوجود ، كما يعلم ذاته بذاته ، لا بصورة حاصلة في ذاته، كذلك يعلم الأشياء كلها بذاته ، لا بصور متباينة متقررة في ذاته ، وكذلك يفعلها ويقدر عليها بانفراد ذاته ، لا بآلةٍ ولا بمشاركة غيره ، ولا بأَنْ يحدث في ذاته شيء ، وكذلك الأمر في سائر صفاته .

وقد علمت أنَّ صفاته ليست غير ذاته ، فذاته قديمة ، فصفاته كلها قديمة . أما أن ذاته قديمة ، فقد علمت فيما تقدم أنه هو ضروري الوجود، وواجب الوجود من جميع جهاته . فَمَنْ كانَ كذلك ، لا يكون إلا قديماً أزلياً ، باقياً أبدياً ذاته وصفاته . فقد علمت كل ذلك ، وعلمت أيضاً استحالة قيام الحوادث بذاته ، فعلمه بالأشياء إذاً وسمعه بالمسموعات ، وأبصاره بالمبصرات قديمٌ ، لا يحدث له علم ولا سمع ولا بصر بحدوث المعلوم والمسموع والمبصر. وكذلك إذا أراد أَنْ  أحداً ، فإنما يكلمه بكلامه الذي هو صفته الأزلية لا بكلام حادث ، فإنما الحادث أثر كلامه . وهو الحروف والكلمات الدالة على معاني كلامه الذي هو صفته . وكذلك إذا أراد أنْ يفعلَ شيئاً ، فإنما يريده ويفعله بإرادته القديمة وفعله القديم ، لا بإرادة حادثة ، ولا بفعل حادث ، ولا بأن يحدث في ذاته شيء . فإنما الحادث أثر فعلهِ ل فعلهُ .

وأنتَ تعلم أنَّ المغناطيس يجذب الحديد لا بانفراد ذاته ، بل بمشاركة قوة في ذاته، ومع ذلك يجذبه من غير أَنْ يحدثَ  في ذاته شيء : فإنما الحادث أثر قوته وجذبه وهو جذب الحديد ، وانجذابه الحاصلان خارج المغناطيس لاقوته وجذبه الذي في ذاته . فلو كان المغناطيس قديماً ، لكان قوته وجذبه قديماً أيضاً . فإذا كان المغناطيس يجذب الحديد بمشاركة قوة في ذاته ، من غير أَنْ يحدثَ في ذاته شيء ، فما ظنك بحال الفاعل بانفراد ذاته من غير مشاركة غيره ؟!

ثمَّ اعلم أنَّ واجب الوجود هو المؤثر في إرادات ذوي العقول وأفعالهم، وفي إرادات الحيوانات وأفعالها، وأفعال النباتات والمعدنيات، وأفعال الأفلاك والعناصر. وقد علمت بالبراهين العقلية أنَّ كلَّ ممكن الوجود، لإمكانه ، مفتقر في وجوده وبقائه وفنائه ، إلى واجب الوجود . ولا فرق بين الجواهر والأعراض في كونها ممكنة . وكل ما يوجد: إما جوهر أوعرض ل غير. فإذاً ، إنَّ واجب الوجود هو المؤثر في إرادات الحيوانات وأفعالها ، وأفعال غيرها من المذكورات . فالله تعالى بإرادته وفعله يخلق إرادات ذوي الإرادات و أفعالها، فلا يتصور أَنْ يوجد شيء من حركة ذرة إلا بإرادته وفعله ، فلذلك كانت إرادتها وفعلها مقارناً لإرادة الله تعالى وفعله.

كذلك لا يوجد شيء من أفعال الأفلاك والكواكب ، ولا شيء من أفعال العناصر وأفعال م يتكون منها : من الحيوانات والنباتات والمعدنيات إلا بإرادته وفعله . فأفعال قوى المذكورات كلها تابعة لإرادته وفعله ، فلا يوجد شيء من أفعالها إلا بإرادته وفعله ، وهو الذي يحرق بحرارة النَّار ما يشاء أَنْ يحرقه ، فلا تحرق النار شيئاً مما ل يريد الله أن تحرقه . فلذلك كان كثيراً من الأجسام اللينة القابلة للاحتراق من جهة موادها وكيفياتها ، ما لا تحرقه النَّار أبداً . وذلك لأنَّ الله تعالى قد جعل في تلك الأجسام قوة يدفع الله  بها إحراق النار. فإنما فعل ذلك ليدل على كمال قدرته ، وعلى أنه لا يوجد شيء في الدنيا إلا بإرادته وفعله ، وليدل على أنه فعَّال لما يريد . قالَ الإمام الأعظم أبو حنيفة رحمه الله في كتاب " الوصية ": << نقرُّ بأنَّ العبد مع أعماله وإقراره ومعرفته مخلوق ، فلما كان الفاعل مخلوقاً، فأفعاله أولى أنْ تكونَ مخلوقة >> ، فالإمام رحمه الله إنما قال: << فأفعاله أولى أَنْ تكونَ مخلوقة >> ، لأنَّ علَّةَ افتقار الأشياء في وجودها على الخالق هي إمكانها. وكلُّ ما يدخل في الوجود :جوهراً كان أو عرضاً فهو ممكن . فإذا كان العبد القائم بذاته ، لإمكانه ، يستفيد الوجود من الخالق ، فأفعاله القائمة به أولى أَنْ تستفيد الوجود من الخالق .

وقالَ الإمام رحمه الله في كتاب " الوصية ": << نقرّ بأنَّ الاستطاعة مع الفعل ، لا قبل الفعل، ولا بعد الفعل، لأنَّه لو كانَ قبل الفعل لكان العبد مستغنياً عن الله تعالى وقت الفعل، وهذا خلاف حكم النص ، لقوله تعالى: ) وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء( ،ولو كان بعد الفعل لكان من المحال، لأنه حصول الفعل بلا استطاعة ول طاقة. ولو كان الإنسان نفسه مؤثرة في إرادته وأفعاله ، لما قصد الكافر إلى الجهل بالله والكفر به ، بل لقصد إلى العلم والإيمان به ؛ وهو لا يرضى بالجهل والكفر بالله، ويحب أَنْ لا يحصل في قلبه إلا العلم بالله والإيمان به. فلمَّا قصد إلى العلم والإيمان به، وحصل في قلبه الجهل والكفر به ، ويزعم أنَّ ذلك علم وإيمان بالله ،علمنا أنَّ المؤثر في ذلك ليس نفسه، بل غيره >> .

فإنْ قلتَ : كان ذلك لنقصان عقله وجهله بالله ، والعقل هو المؤثر في إرادات العبد وأفعاله قلت: لو كان العقل هو المؤثر في إرادات العبد وأفعاله ، لما اختار الكافر المعاند الكفر على الإيمان ، وهو الذي يعلم بقبح الكفر وضرره في دنياه  وآخرته . وفائدة الإيمان في دنياه وآخرته ، ولو كان العقل هو المؤثر في إرادات العبد وأفعاله ، لما اختار الفاسق العصيان على الطاعة، ولما كفر الشَّيطان ، وقد كان أعقل الجن ، وكان مؤمناً، وكان يحب أَنْ لا يكفر. وقد علم بقبح الكفر وضرره في دنياه وآخرته ، وفائدة الإيمان في دنياه وآخرته ، ومع ذلك اختار الكفرَ على الإيمان . ولو كان العقل هو المؤثر في إرادات العبد وأفعاله ، لما كان الكافر في ساعةٍ واحدةٍ يبذل روحه لإبقاء كفره ، ثم في تلك السَّاعة يؤمن ويبذل روحه لإبقاء إيمانه ، ثمَّ بعد ذلك يكفر .

فقد ثبت بالكلمات المذكورة أنَّ واجب الوجود هو الفاعل على الحقيقة بإرادات الحيوانات وأفعالها ، وإرادات غيرها من ذوي العقول وأفعالهم ، كما قال الله تعالى: ) وما تشاؤون إلا أن يشاء الله( ، وقال الله تعالى : ) وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى (  ، وقالَ الله تعالى: ) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ( ، وقال  تعالى: ) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ( . والممكن لذاته هو الذي يفتقر في وجوده وبقائه وفنائه إلى المؤثر. وقد علمت ذلك بالبراهين العقلية . والممكن لذاته ممكن من جميع جهاته ، وكلُّ ممكن من جميع جهاته مفتقر إلى المؤثر من جميع جهاته . فلو كانَ الممكنُ مؤثراً في أفعاله ، لكان غنياً في أفعاله ، غير مفتقر إلى المؤثر، هذا خلف !

والغنى صفة مخصوصة بواجب الوجود ، كما أنَّ الافتقار صفة مخصوصة بالممكن . ولو كانَ الممكن غنياً في فعله عن المؤثر، لكان واجباً في فعله ، مؤثراً في إيجاد غيره ، ل ممكناً. والذي يفتقر في وجوده وبقاء وجوده إلى المؤثر، كيف يؤثر فيوجد غيره ؟ وشأن الممكن قبول الأثر والوجود ، لا التَّأثير والإيجاد ، وإنما التَّأثير والإيجاد  صفة الواجب ، لا صفة الممكن .

فقد ثبت بالبراهين المذكورة أنَّ الفاعل على الحقيقة بأفعال الممكنات كلها ، هو واجب الوجود لا غير . فواجب الوجود إذا أوجد شيئاً ، فإنما يوجده بقوله : ) كُن ( ، قال الله تعالى: ) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( ، وعلى هذا كانت دلالة : التَّوراة والزبور والأنجيل . وليس المراد بقوله : << كن >> ، لفظ "كن" ، بل مدلول لفظ "كن" ، الذي هو كلامه ، الذي هو صفته ، التي ليست غير ذاته .

فقد علمت بالبراهين العقلية واجب الوجود وصفاته ، وعلمت أنه قديم ذاته وصفاته ، وأنه موصوف بصفات الكمال كلِّها ، منـزه عن صفات النقص كلِّها . وعلمت أيضاً استحالة قيام الحوادث بذاته . فإذاً لا يغلب وهمك عقلك فتناقض نفسك في البراهين المذكورة ، فتجهل شأن مَنْ هو أظهر الموجودات أفعالاً، واثبتها برهاناً ودليلاً، فترتاب في إدراكاته وأفعاله بصفاته المذكورة المثبتة بالبراهين العقلية . وهو الذي يخلق في كلِّ يوم ، بل في كل ساعة ووقت ، من النفوس الناطقة الإنسانية ، ما لا يعلم حسابه إلا هو. ولا يخلقها من مادةٍ سابقة ، ولا من شيء سابق ، بل إنما يخلقها بمجرد قوله : << كن >> ، وبقوله: << كن >> ، و ليكن ، خلق السموات والأرض وما بينهما ، وغير ذلك من الجواهر المجردة ، ولم يخلقْ شيئاً ولا يخلقه إلا بأحد القولين المذكورين .

وهو قادر على كل شيء . فالذي يخلق النفوس الناطقة ، كما ذكر ، كيف لا يكون قادراً على كل شيء ؟ والقدرة على كل شيء من صفات الكمال . وقد علمت بالبراهين العقلية أنه موصوف بصفات الكمال كلِّها . فالقول بأنه ل يقدر على إيجاد الممتنع باطل؛ لأنَّ الممتع ليس بشيء . فكيف يجوز أَنْ يقالَ بأنه لا يقدر على إيجاد ما ليس بشيء ، ولا يخلق شيئاً : جوهراً كان أو عرضاً ، مجرداً كان أو جسمانياً إلا على وفق علمه القديم، وإرادته القديمة ؟ فإذاً كيف يتصور أَنْ يحدث له علم و إرادة بحدوث المعلوم والمخلوق ؟ فإِنْ قلت : قد علمت قدم صفاته تعالى ، واستحالة قيام الحوادث بذاته تعالى بالبراهين العقلية، فلا أشكُّ في ذلك ، ول أشكُّ أيضاً في بطلان المسائل المخالفة لتلك البراهين ، إلا أني أريد أَنْ أعلم كيف يرى أشكال الأشياء  قبل وجودها ؟ و يسمع الأصوات والكلمات قبل وقوعها ؟

قلت : إنك لا تشك في أنَّ الإنسان قد يرى في المنام أشكالاً وألواناً ، ويسمع اصواتاً وكلمات، ولا شكل ولا لون ولا صوت ولا كلمات في الخارج ، ولم  رأى قبل ذلك شيئاً منها في الخارج ، ولم يخطرْ في خياله شيء منها، ولم يوجدْ شيء منها في الخارج . ثمَّ بعد ثلاثين سنة أو أكثر أو أقل ، يرى تلك الأشكال والألوان ويسمع تلك الأصوات والكلمات كما رآها وسمعها في المنام ، بل زيادة ولا نقصان . وذلك بأَنْ يكتبها ملك الرؤيا في المنام في الحسِّ المشترك ، فيدركها النفس الحيوانية بالحسِّ المشترك ، فيدركها النفس الناطقة بواسطة إدراك النفس الحيوانية إياها . فالذي يريك في المنام الأشكال والألوان قبل وجودها، ويسمعك الأصوات والكلمات قبل وقوعها ، تتعجب منه كيف يرى الأشكال والألوان قبل وجودها ؟ وكيف يسمع الأصوات والكلمات قبل وقوعها ؟

فإن قلت : الأشكال والألوان التي رآها النائم المذكور في رؤياه ليست عين الأشكال والألوان التي رآها في يقظته ، بل هي أمثلتها ، والأصوات والكلمات التي سمعها في رؤياه ليست عين الأصوات والكلمات التي سمعها في يقظته ، بل أمثلتها .

قلت: نعم ! فالذي يريك في نومك  أمثلة الألوان والأشكال المذكورة، بلا لون ولا شكل في الخارج ، ويسمعك أمثلة الأصوات والكلمات المذكورة بلا صوت ولا كلام في الخارج ، والذي يريك أشكال الأشخاص الكائنة في المشرق في يقظتك وأنت في المغرب ، وألوانهم وأوضاعهم وصورهم وثيابهم... وألوان ثيابهم ، وذلك لا يخلو: إما أَنْ يكونَ م يريك من المذكورات عينها أو أمثلتها ، والذي يسمعك أقوالهم وكلماتهم ، وذلك ل يخلو: إما أَنْ يكونَ ما سمعت منها عينها أو أمثلتها ، تتعجب منه كيف يرى الأشكال والألوان قبل وجودها ؟ وكيف يسمع الأصوات والكلمات قبل وقوعها ؟ وأنت تعلم أنَّه من شرائطِ إبصار الحيوانات الضوء، ومع ذلك قد كانَ مِنَ الحيوانات ما يرى الأشياءَ في الليلة الظلماء . وهل تعلم كيف يراها ذلك الحيوان في تلك الليلةِ ؟ وأنت تعلم أنَّ المغناطيس يجذب الحديد، وهل تعلم كيف يجذبه ولا تعلم من كيفية ذلك غير أنه يجذبه بخاصيَّةٍ فيه؟ وكذلك لا تعلم كيفية شيء مما يفعله الحيوانات والنباتات والكواكب والمعدنيات بخواصها ، غير أنه يفعله كل واحد من المذكورات بخاصية فيه ، يعني بقوة فيه فتقنع بتلك المعرفة ، ولا تقنع في إبصار واجب الوجود الأشكال والألوان قبل وجودها ، بمعرفة أنَّ له صفة الإبصار يدرك بها المذكورات قبل وجودها . ولا تقنع في سمعه المسموعات قبل وقوعها ، بمعرفة أنَّ له صفةَ السمع يدرك بها المسموعات قبل وقوعها ؟ وأنت لا تعلم كيفية فعل الواحد المخلوق الذي صدر عنه بخاصيةٍ فيه ، وتريد أَنْ تعلمَ شأن إدراكات واجب الوجود وأفعاله ؟ وهو الذي خلق السموات والأرض وم بينهما بقوله: << كن وليكن >> ، وتريد أَنْ تعلم ما لا يعلمه الأنبياء والمرسلون ، صلَّى الله عليهم أجمعين ، ولا يعلم الأنبياء والمرسلون من معاني الآيات المتشابهات من كتب الله المنزلة إل ما علَّمهم الله تعالى منها. ولا يعلم الإنسان إلا ما علَّمه الله تعالى ، ولا يعلم إلا ما جعل الله تعالى من شأنه أَنْ يعلمه . ولم يجعلْ من شأنه أَنْ يدركَ كيفية م تفعل المخلوقات بخواصها ، فكيف يدركُ ما كان وراء ذلك ؟

فقد تمت الحكمة الإلهامية بتوفيق الله تعالى وعونه ونصرته . والحمد لله رب العالمين، والصَّلاة على محمَّد سيد الأنبياء والمرسلين ، وعلى آلهِ وأصحابهِ أكرم الصَّلحاء والمتقين.

تم في أوائل محرم الحرام سنة 946.



  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!