موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب الحكمة الإلهامية

ينسب للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

وهو لإسحق الحكيم الرومي

وفيه مقدمة طويلة في الرد على الفلاسفة، خصوصًا منهم أرسطوطاليس وابن سينا، ثم في تكفير من قال بوحدة الوجود من الصوفية، أما باقي الكتاب فهو على أربعة فنون: فـ1ـي أحوال تعم الأجسام، فـ2ـي أحوال العناصر وما يتكون منها من الحيوانات والنباتات الخ، فـ3ـي حقائق الأفلاك وحقائق الكواكب وكيفياتها وخواصها، [فـ4ـي الالهيات]؛ ويبدو أنه من تأليف بعض الحكماء من موالي الروم، في عهد السلطان سليمان القانوني (926 هجري -974/1520 هجري -1566)، وقد اعتنق والده الإسلام

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


[توحيد الوجود على مذهب الصوفية]

وقالت الصوفيةُ في حقيقة وجود الله: إنَّ الوجود واحد؛ فيريدون بذلك أنه ليس شيء موجوداً إلا وهو من وجود الله. فالأشياء الموجودة بالفعل والماضية والآتية كله وجود واحد، وحقيقة واحدة، وشيء واحد، وشخص واحد، وهو الله. وقالوا: وإنَّ التَّفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة، وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية، وأنَّ الحق المنزه هو الخلق المشبه. وأنَّ العالم صورته تعالى وهويته. فهذه "المسألة الوجودية" هي من محدثات بعض رؤساء الصوفية. ومن النَّاس من قال: بأن المحققين من الفلاسفة كانوا في "توحيد الوجود" على مذهب الصوفية. وهذا افتراء عليهم، لأنَّه لم يذهب أحد من الفلاسفة إلى ذلك، بل كلهم  كانوا في كل مسألة من مسائل كتبهم على خلاف ذلك. فمسألة "توحيد الوجود" لا تخلو: إمَّا أن تكون إيماناً أو كفراً. وكتب الصوفية مشحونة بمسائلِ توحيدِ الوجود. فإذاً يجب لكلِّ مؤمنٍ أَنْ يعرفَ مسألةَ توحيد الوجود، أهي إيمان أو كفر؟ فإنْ كانت إيماناً لا بدَّ له من أن يكونَ عليها، وإن كانت كفراً لا بدَّ له من أن يجتنبها. لأنَّ مَنْ لم يجتنب الكفر فليس بمؤمن. فلنقل ما قالَ الله تعالى في الإيمان والكفر، فمن آمن بالله واليوم الآخر يرضى بما قضى الله تعالى في كتابه في الإيمان والكفر وغير ذلك ويؤمن به، قالَ الله تعالى: ) شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ ( . وقالَ الله تعالى: ) قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينً قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ (. وقالَ الله تعالى: ) وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَ تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ( .وقالَ الله تعالى: ) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَ بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ( . وقالَ الله تعالى: ) أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (. وقالَ الله تعالى: ) الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ( .وقالَ الله تعالى: ) آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ (. وقالَ الله تعالى: ) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ( . وقالَ الله تعالى: ) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ( . وقالَ الله تعالى: ) لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ( . وقالَ الله تعالى: ) أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ ( . وقالَ الله تعالى: ) وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدً سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (. وقالَ الله تعالى: ) قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَ يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ (. وقالَ الله تعالى: ) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هو اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( .وقالَ الله تعالى: ) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ( . وقالَ الله تعالى: ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ( . فقد علمْتَ من الآيات المذكورة أنَّ الدينَ عند الله الإسلام، وعلمْتَ أنَّ الإسلامَ هو دين المرسلين والنبيين وغيرهم من المؤمنين والمسلمين، قالr: << إنّا معاشر الأنبياء ديننا واحد >> . وَقالَ r: << بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمَّداً رسول الله ، وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان >> . وهل تدل الآيات المذكورة على أنَّ كلَّ شيءٍ من الموجودات هو عين وجوده تعالى وصورته وحقيقته ؟ وأنَّ الإيمان هو أن يؤمن العبد بذلك ؟ فمن لم يؤمنْ بذلك فهو كافر! أو تدل على أنَّ وجوده تعالى واحد، وهو الذي خلق ما سواه من الموجودات كلِّها، وهو خالقه وفاعلها وربها ومالكها . فمن يؤمن بذلك فهو مؤمن ، ومن لم يؤمن بذلك فهو كافر. وهل يدل الآياتُ المذكورة على أنَّ في دين إبراهيمَ أو موسى أو عيسى أو محمَّد صلَّى الله عليه وعليهم مَنْ جعل شيئاً من المخلوقات شريكاً بالله في وجوده تعالى أو في عبادته فهو مؤمن ؟ أو تدل على أنَّ مَنْ أشرك بالله شيئاً من المخلوقات في العبادة فهو مشرك  كافر؟ فإذ كان مَنْ أشرك بالله في العبادة شيئاً من المخلوقات مشركاً كافراً ، فالذي أشرك به شيئاً منها في وجوده أولى أن يكون مشركاً كافراً. قالَ الله تعالى: )إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ( ، وَهم الذين جعلوا الأصنام شريكاً بالله في العبادة .فإذاً الذين جعلو شيئاً من المخلوقات شريكاً بالله في وجوده هم أكفر وَأنجس من هؤلاء المشركين . فالذي لا يفرق بين وجود معبوده ووجود ما يخرج من دبره كيف لا يكون أكفر وَأنجس منهم ؟ وهم يقولون: إنم ) نعبدهم إلا ليقربونا إلى اللَّهِ زلفى(. وَيقولون: )هؤلاء شفعاؤنا عند اللّهِ(، ولا يقولون إنَّ الأصنام هم عين وجوده تعالى. وهل تدل الآيات المذكورة على أنَّ الله تعالى يشبه المخلوقات في ذاته و صفاته أو تدل على تنـزيهه وَعَلَى أنه لا يشبه ذاته وصفاته ذوات المخلوقين وصفاتهم . فإنه لو أشبه ذاته أو صفاته ذوات المخلوقين أوصفاتهم لكان حادثاً مخلوقاً، ل قديماً خالقاً. فكيف يتصور أن يشبه الواجب والخالق الممكن وَالمخلوق ؟ وكيف يتصور أن يكون الشيء الواحد قديماً وحادثاً ، موجوداً ومعدوماً، واجباً لذاته وممكناً لذاته ؟ وكيف يتصور أن يكون الواجب والممكن والخالق والمخلوق والفاعل والمفعول والمالك والمملوك والقديم والحادث والموجود والمعدوم شيئاً واحداً ووجوداً واحداً وحقيقةً واحدةً وشخصاً واحداً ؟! وليس أحد من المؤمنين ولا من أهل الكتاب ممن لا يعلم بأنَّ الإيمان بـ"توحيد الوجود" كفر. فمن يؤمن بذلك فهو أشدُّ كفراً من عبدة الأصنام! فمن كان له أدنى نصيب من العقل ، ولم يكن ممَّن أضله الله على علم يحكم ببداهةِ عقله بأنَّ الكلماتِ المتعلقة بتوحيد الوجود لا يمكن صدورها إلا عن مجنون أو سكران.

واعلم أنَّ الفلاسفة اليونانيين قد أخذوا الحكمة  في الابتداء من المصريين ومن أصحاب سليمان عليه السَّلام ، ومن كتبه ، ومن بعض الأنبياء الذين بعثوا بعده عليه السَّلام. وقد أخذوا علم الطب من كتبه عليه السَّلام . ومنها أخذوا طبائع الحيوانات والنباتات وَ المعدنيات وَ درجات طبائعها وقواها وخواصها. وقد علَّم الله سليمان عليه السَّلام حقائق الموجودات ، وذلك أنه علَّمه أحوال العناصر وحقيقة الزمان وأحواله، وعلَّمه الدوائر ومواضع الكواكب ، وطبائع الحيوانات والنباتات والمعدنيات وقواها وخواصها. وجعله غالباً في الحكمة على المصريين وعلى النَّاس أجمعين. هكذا قال الله تعالى في صحف سليمان عليه السَّلام .

واعلم أني حين ابتدأت كتابي هذا قد كنت مبتلىً بالصداع وضعف الدماغ، بحيث لم أقدرْ على التَّفكر الدقيق والطويل. وقد كان هذا المرض لازماً لي منذ سنين. والحمد لله على وجوده وبقائه. فإن الله تعالى قد نعَّمني بذلك فزادني إيماناً ويقيناً، وثمراته من العلوم والحكم. وذلك أني قد كنت عاجزاً عن التَّفكر في مسائل الحكمتين المذكورتين لضعف دماغي! فقد كان الله تعالى يلقي في قلبي في أكثر أحوالي ما هو الصواب والحكمة في تلك المسائل بلا تأمل ولا تفكر. فعلمت أنَّ ذلك ليس من قبل نفسي ، فزادني إيماناً ويقيناً بعد يقين . فاقتديتُ بقوله: و) لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ ( ، فأكثرت شكري وحمدي له، فأسبغ عليَّ نعمة ظاهرةً وباطنة ،) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُون ( . فقد علمت بقوله تعالى: ) وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ( ، وبقوله: ) وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ( . إنَّ الحكمة هي العلم والعمل المقربان العبد إلى الله تعالى .أم العلم فهو نوعان : أحدهما المقرب بذاته ، لا بواسطة غيره، وهو العلم بذات الله وصفاته ، واليقين بذلك. ألا ترى أن الله تعالى قال: ) إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ(. وقالَ رسول الله r : << أنّ أعلمكم بالله أخشاكم >>. وقيل لرسول الله r : << الإيمان يزيد وينقص ؟ فقال: نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة وينقص حتى يدخل صاحبه النار >>، فزيادة إيمان العبد ونقصانه إنما يكون بحسب زيادة يقينه ونقصانه . والثَّاني المقرب بواسطة أنه يؤثر في القلب ويزكيه ويصقله، فيزيد يقين العبد بذات الله وصفاته. قالَ الله تعالى: ) وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (. وأما العمل فهو العمل الصالح قلبياً كان أو بدنياً فهو مؤثر في القلب ويزكيه ويصقله، فيزيد يقين العبد . كما أن العمل السيء يؤثر في القلب ويقسيه ويسوّده، فينقص يقينه. قالَ رسول الله r: << إنَّ المؤمن إذ أذنب كانت نكتةً سوداء في قلبه ، فإنْ تابَ واستغفر صقل قلبه ، وإن زاد زادت حتى تعلوَ قلبه >> . فذلكم الران الذي ذكره الله تعالى: ) كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( .وقالَ رسول الله r : << الإيمان عريان ولباسه التقوى وزينته الحياء وثمرته العلم >> . وقالَ رسول الله r : << من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم >> . فالعلم الذي هو ثمرة الإيمان، والعمل هو اليقين بذات الله وصفاته، وثمراتُ ذلك اليقين من العلوم والحكم. فقد جعل الله تعالى كتابي هذا كرامةً لأمة محمَّد r ، وآية من آياته . فلمَّا جعلني الله تعالى عازماً على ابتداء هذ الكتاب بتوفيقه، وأعانني ونصرني في كَتْبه، وألْـهَمَني ما هو الحق ، سميَّتُه: بـ" الحكمة الإلهامية ".

فأقول: الحكمة هي معرفة النفس ذوات الأشياء وصفات وجودها ، ومعرفة ما لها وعليها من العمل لتعمل بما لها ، وتجتنب ما عليها . فيكمل بذلك يقينها بذات الله وصفاته ؛ فتكون بذلك اليقين قريبة من الله في الدنيا والآخرة، فترى فيهما فائدة قربها. وهي تنقسم إلى قسمين: حكمة نظرية  وحكمة عملية. أمَّا النظرية فهي ثلاثة أقسام: قسم يبحث فيه عن حقائق الأفلاك وعن حقائق الكواكب وكيفياتها وقواها ، وعن حقائق العناصر وحقائق ما يتكون منها من الحيوانات والنباتات والمعدنيات والأدخنة والبخارات ، وعن أحوال هذه المذكورات من القوى والكيفيات والحركة والسكون والكون والفساد . فَسُمِّيَ هذا القسم حكمةً طبيعيةً، وسمَّاه أرسطوطاليس :" فيسيق " يعني طبيعيات ، وقسم يُبْحَثُ فيه عن أوضاع الأفلاك والعناصر وعن هيأآتها ومقاديرها، وبراهين مقاديرها، وعن حركات الأفلاك ومقاديرها، وعن أحوال الأعداد وخواصها، فسمَّى هذا القسم : حكمةً رياضيةً ، وسماه أرسطوطاليس "ماثيماطيقا" يعني تعليميات. وقسم يُبْحَثُ فيه عن الكلية والجزئية، والعلة والمعلول، والماهية والوجود، والجواهر والأعراض، وواجب الوجود وممكن الوجود، وعن ذات الله تعالى وصفاته ، فَسُمِّيَ هذا القسم حكمة إلهية، أرسطوطاليس " مطاطا فيسيقي " يعني ما بعد الطبيعيات. فإنم سمَّى هذا الأقسام الثلاثة نظرية، لأنَّ غايتها العلم بالأشياء المذكورة فقط . ولأنَّ مسائلها ليست متعلقة بالعمل.

وأما الحكمة العملية فهي ثلاثة أقسام أيضاً: قسم يعرف منه حقائق الأخلاق الحسنة والسيئة وأسبابها وعلاماتها ، وتدبير إزالة الأخلاق السيئة وتحصيل الأخلاق الحسنة. وغاية هذا القسم حفظ الأخلاق الحسنة وتكميلها ، وإزالة الأخلاق السيئة وتبديله بالحسنة. وغاية هذا تكميل اليقين بذات الله تعالى وصفاته. ألا ترى أن رسول الله r قالَ: << أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً >> . فَسُمِّيَ هذا القسم حكمة خلقية ، وسمَّاه أرسطوطاليس :  " إيثيق " يعني خلقيات. وقسم يعرف منه تدبير البيت، يعني تدبير الوالد مع ولده ، والزوج مع زوجته، والمالك مع مملوكه، أمورهم ومصالحهم ليتعاونو عليها، ولا يظلم بعضهم بعضاً . فَسُمِّيَ هذا القسم حكمةً بيتيةً ، وسمَّاه أرسطوطاليس :"إيقونوميقا" يعني بيتيات. وقسم يُعْرَف منه تدبير المدينة والمملكة ، يعني تدبير الرؤساء المدينة والمملكة أمور أشخاصها ومصالحهم ليتعاونوا عليها ولا يظلم بعضهم بعضاً. وغاية هذا القسم حفظ المملكة من المظالم وعن العدّو، فَسُمِّيَ هذا القسم حكمة مدنيَّة ، وسمَّاه أرسطوطاليس: "بوليطيقا" يعني مدينات. فإنما سميت هذه الأقسام الثلاثة عملية لأنَّ غايتها العمل بما يعرف منها، ولأنَّ مسائله متعلقة بالعمل .

فإنّا إنما نبحث في كتابنا هذا عن قسمي الحكمة النظرية ، أعني : الطبيعيات، وما بعد الطبيعيات . وذلك الكتاب مرتبٌ على أربعةِ فنون:



  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!