موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب الحكمة الإلهامية

ينسب للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

وهو لإسحق الحكيم الرومي

وفيه مقدمة طويلة في الرد على الفلاسفة، خصوصًا منهم أرسطوطاليس وابن سينا، ثم في تكفير من قال بوحدة الوجود من الصوفية، أما باقي الكتاب فهو على أربعة فنون: فـ1ـي أحوال تعم الأجسام، فـ2ـي أحوال العناصر وما يتكون منها من الحيوانات والنباتات الخ، فـ3ـي حقائق الأفلاك وحقائق الكواكب وكيفياتها وخواصها، [فـ4ـي الالهيات]؛ ويبدو أنه من تأليف بعض الحكماء من موالي الروم، في عهد السلطان سليمان القانوني (926 هجري -974/1520 هجري -1566)، وقد اعتنق والده الإسلام

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


[نقد ابن سينا]

ثم ابن سينا قد وجد كتب أرسطوطاليس المصنفة في الحكمتين المذكورتين ، فصنف بمسائل تلك الكتب كتباً كثيرة في الحكمتين المذكورتين، ليظن أنه من الفلاسفة ؛ لكونه من المجانين الملاحدة . فأفسد من تلك المسائل الموافقة للحكمة الأفلاطونية . ومن جملة ما أفسد منها مسألة الزمان ، فقد جعل الزمان مقدار حركة الفلك ، وأسند ذلك إلى أرسطوطاليس، وقد افتراه . فإنه لم يقل ذلك ، ولم يذهب أحد من الفلاسفة اليونانيين إلى ذلك . بل قد اتفقوا على أنَّ الزمان ليس شيئاً موجوداً في الخارج ، بل في علم الله تعالى ، وفي العقل والخيال. فقد بيَّنْتُ حقيقةَ الزمان ، وأدلتها ، وبيَّنْتُ ما ذهب إليه الفلاسفة في بيانِ حقيقته في موضعه.

قال ابن سينا في كتابه المسمى بعيون الحكمة : << وهذه أول ما يتكون عن هذه الاسطقسات ، فإذا تركب الاسطقسات تركيباً أقرب إلى الاعتدال ، حدث النبات(...) ثمَّ يتولد الحيوان باعتدال أكثر، فيكون مزاجه مستحقاً لأن يكمل بنفس دراكة ، محركة بالاختيار >> . وقال ابن سينافي كتابه المسمى بالمبدأ والمعاد : << إنَّ الاسطقسات تمتزج فتكون منها الكائنات. وقد قلنا ما معنى الامتزاج في الطبيعيات. فأول الحوادث هي الآثار العلوية  والجمادات المعدنية . ثمَّ إذا وقع امتزاج أقرب إلى الاعتدال حدث النبات(...) وإذا امتزج العناصر امتزاجاً أكثر اعتدالاً ، تهيأت لقبول النفس الحيوانية >> . فهذه الكلمات المنقولة من ابن سيناتدل على أنَّ كل نبات أقرب إلى الاعتدال من المعدنيات كلِّها، وأنَّ كل حيوان أقرب إلى الاعتدال من النباتات كلِّها . فالكلمات المنقولة ومدلولاتها كلها باطلة مخالفة لما ذهب إليه الفلاسفة والأطباء كلهم. وقد كتب ابن سينافي كتبه ما ذهبوا إليه فقال بأن الياقوت والذهب معتدل، وأنَّ الفلفل الأسود حار يابس في الدرجة الرابعة، وأنَّ القرنفل حار يابس في الدرجة الثَّالثة. وجعل الاسفاناخ والحنطة واللوز الحلو أقرب إلى الاعتدال من لحم الحمل والضأن ، وغيرهم من الحيوانات . وعلى هذا كان الفلاسفة والأطباء كلهم في مراتب طبائع المذكورات. فمن كان له أدنى نصيب من العقل ، هل يمكن أن يوجد في أقواله مثل هذه المناقضات؟ وليس شأنه في أقواله إلا المناقضة ! بل قلَّما يوجد في أقواله قول غير مناقض! وذلك لعدم فهمه مسألة من مسائل الحكمة.

وهو الذي قد قال في كتابه المسمى بكتاب " الإشارات والتنبيهات ": << فالقوة المحركة للسماء غير متناهية ، وغير جسمانية ، فهي مفارقة عقلية >> . وقال في " المبدأ والمعاد " : << فقد بان وصحَّ أنَّ لهذه الحركة محركاً غير متناهي القوة، وأنه مباين الذات لكل جرم ، فإذاً المحرك هو غير النفس التي هي كمال الفلك ، وقابلة التغير، لأنها قوة جسمانية. وهذا المحرك لا يمكن أن يكون كمالاً في جسم ، ولا قوة في جسم >> . وقال ابن سينابعد ذلك بعشرة أسطر: << قد صحَّ أنَّ حركةَ الفلك إرادية حيوانية >> . وقال في الكتاب المذكور: << وذلك أنَّا قد بيَّنا أنَّ لكل فلك نفساً ، فهي كماله، وصورته ليست جوهراً مفارقاً ، وإلا لكانت عقلاً لا نفساً، وكانت لا تحرك البتة ، وكانت لا تحدث فيه من حركة الجرم حركة >> . إلى ههنا كلماته الباطلة. وليست في الحكمة مسألة تكون أسهل فهماً من مسألة الحركة الإرادية والقسرية . فإنه لو فهم معناها لما جعل المحرك للفلك تارة  مجردة عن المادة وتارة نفساً حالَّة في الفلك . ولما قال بالكلمات المذكورة : فمن يعلم مسألة الحركة الإرادية والقسرية ، يعلم ببداهة عقله أنه لا يمكن  يصدر المناقضة والكلمات المذكورة إلا عن مجنون أو سكران .

وقالَ ابن سينا في " المبدأ والمعاد ": << وأم حركة الأثير، أعني فلك النار، في فلك القمر، فليس لأنَّ فلك القمر ينقله مع نفسه البتة، ولا يدفعه . فإنَّ المستدير يتحرك مماساً لما فيه ، لا دافعاً له ؛ لأنَّ الدافع يجب أن يطلب نفوذاً في جرم المدفوع ليدفعه، والمستدير لا يمكنه هذا. ولكن سطح فلك القمر من داخل مكان طبيعي يشتاقه النار بالطبع. فكل جزء من أجزاء النار يشتاق منه شيئاً معيناً إليه ، يتحرك ويتعين له بالقرب، فهو بالشوق يلازمه. فإذا زال وهو ملازم له بالطبع ، زال معه. فتلك الحركة ليست قسرية ولا أيضاً طبيعية مطلقة؛ لأنها لا يكون عن طبيعة النار وحدها، بل عن طبيعتها وطبيعة مكانه >> . إلى ههنا كلماته الفاسدة. فمن يعلم الحركة الذاتية والعرضية والطبيعية والقسرية ، ويعلم حقيقةَ النَّارِ، هل يقول: فكل جزء من أجزاء النار يشتاق منه شيئاً معيناً إليه يتحرك ويتعين له بالقرب إلى آخره ... فمن يعلم أنَّ الحركة : إما ذاتية أو عرضية لا غير، فالذاتية : إما طبيعية أو قسرية أو إرادية لا غير، ويعلم حقائقَ هذه الحركات ، وحقيقة النار، يعلم أنَّ حركة النار التابعة لحركة فلك القمر عرضية ل غير. ويحكم ببداهةِ عقلهِ بأنَّ من قال : إنَّ حركة النَّار التَّابعة لحركة فلك القمر طبيعية ، لا يعلم حقيقة الحركة الطبيعية و العرضية ولا حقيقة النَّار.

وقالَ ابن سينا في " عيون الحكمة ": << أما المدركة فتعرض لها إذا انفعلت آلتها أن لا تدركَ أو تدركَ قليلاً أو تدركَ ل على ما ينبغي ، كما أنَّ البصر: إما أن لا يرى أو يرى رؤية ضعيفة أو يرى غير الموجود موجوداً أو على خلاف ما عليه الموجود بحسب انفعال الآلة. وتعرض له أنها لا تحس بالكيفية التي في آلتها ، إذ لا آلة لها إلى آلتها، وإنما تدرك بالآلة. وتعرض له أن لا تدرك فعلها؛ لأنه لا آلة لها إلى فعلها . وتعرض لها أن ل تدرك ذاتها لأنه لا آلة لها إلى ذاتها. ويعرض لها أنها إذا انفعلت عن محسوس قوي لم تحس بالضعيف إثره، لأنه إنما تدرك بانفعال آلة. وإذا اشتدَّ الانفعال ثبت الأثر، وإذا ثبت الأثر لم يتمَّ انتقاش غيره معه. ويعرض لها أنَّ البدن في كل شخص إذا أخذ يضعف بعد سن الوقوف ، أن يضعف جميعها في كل شخص ، فلا يكون شخص واحد يسلم فيه القوة الحساسة. فإذاً هذه كله بدنية >> .

وقال ابن سينا في ذلك الكتاب: << وكما أن للحس خزانة هي المصورة ، كذلك للوهم خزانة تسمى الحافظة والذاكرة، وعضو هذه الخزانة مؤخر الدماغ. وههنا قوة تفعل في الخيالات تركيباً وتفصيلاً، وتجمع بين بعضها وبعض ، وتفرق بين بعضها وبعض، وكذلك يجمع بينه وبين المعاني التي في الذكر وتفرق . وهذه القوة إذا استعملها العقل سميت مفكرة، وإذا استعملها الوهم سميت متخيلة . وعضوها الدودة التي في وسط الدماغ . فهذه هي القوى التي في باطن الحيوان ، أعني الحسَّ المشترك ، والخيال ، والوهم ، والحافظة ، والمتخيلة >> . إلى ههنا كلماته الفاسدة التي قد أفسدت مسائل القوى المدركة الظاهرة والباطنة المذكورة في كتب أرسطوطاليس .

وذلك لأنَّ رسطوطاليس قد جعل في كتبه القوى المدركة الظاهرة والباطنة آلات النفس الحيوانية في إدراكاتها ، فإنما سماها مدركة لكونها آلات الإدراكات ، كما يقال : << سيف قاطع ، وسكين قاطع >> . فقد بيَّنْتُ كيف تدرك النفس الحيوانية مدركاتها بالقوى المدركة المذكورة، وكيف تحفظها بها في موضعه . و ابن سيناقد جعل بكلماته المذكورة كلَّ واحدة من القوى المدركة الظاهرة والباطنة مدركة على حدة . وأراد بقوله  : أما المدركة فيعرض لها إذا انفعلت آلتها ، إلى قوله ... فإذاً هذه كلها بدنية ... أن يدل على أنَّ السمع والبصر وغيرهما من القوى المدركة الظاهرة بدنية جسمانية . ولا يعلم أنها مع كونها بدنية جسمانية هي آلات النفس الحيوانية في إدراكاتها . فلذلك جعل كل واحدة منها مدركة على حدة ، وهذه المعرفة موجودة في أنواع الحيوانات التي لها القوى المدركة الظاهرة والباطنة . فكل واحد من تلك الحيوانات يعرف بأن له سمعاً وبصراً وشماً ، وغير ذلك من القوى المدركة الظاهرة، ويعرف أنها آلاته في إدراكاته . فلذلك إذا أراد أن يسمع شيئاً يجعل أُذنيه جهة الصوت، وإذا أراد أن يبصر شيئاً يجعل عينه جهة الشيء الذي أراد إبصاره، وإذ أراد أن يشم شيئاً وضع أنفه في الشيء الذي أراد شمه . فإذاً ابن سيناكان أدنى إدراكاً لهذه القوى من الفرس والحمار. وقوله : وههن قوة تفعل في الخيالات تركيباً وتفصيلاً ، باطل من وجهين: أحدهما أنَّ هذه القوة هي القوة المتصرفة التي بها تتصرف النفسُ الحيوانيةُ في التركيب والتفصيل بين صورِ المحسوسات وبين المعاني القائمة بها. و ابن سيناقد جعلها متصرفة بذاتها. والثَّاني أنَّ هذه القوة عنده ليست مدركة صور المحسوسات ، ولا المعاني القائمة بها. ومع ذلك قد جعلها متصرفةً فيهما . فالقوة التي لا تدرك المذكورات كيف يمكن أن تتصرف فيهم ؟ وقوله : وهذه القوة إذا استعملها العقل سميت مفكرة، وَإذا استعملها الوهم سميت متخيلة ، باطل أيضاً. لأنَّ الوهم قوةٌ بها تدرك النفس الحيوانية المعاني القائمة بالمحسوسات . وهي آلتها ، لا أنها تدرك المعاني المذكورة بذاتها . فابن سيناقد جعلها مدركةً بذاتها، وجعلها مستعملة القوة المتصرفة . وبطلان استعمال العقل هذه القوة قد بينتُه في موضعه. وقوله: والحس المشترك غير الخيال ، وَقد جعل في هذا القول الحس المشترك قابلاً لصور المحسوسات ، والخيال حافظها ، غير قابلٍ لها . وليس الأمر كذلك ؛ لأنَّ الحسَّ المشترك هو قوة بها تدرك النفس الحيوانية صور المحسوسات ، لا أنها تدركه بذاتها. والخيال : قوة بها تحفظ النفس الحيوانية صور المحسوسات ، لا أنه تحفظها بذاتها. فالقائل بهذه الكلماتِ لا يخلو: إمَّا أن يجعل النفس الحيوانية غير مدركة، فإذاً لا يدرك الحيوان شيئاً من المحسوسات، ولا شيئاً من المعاني القائمة بها، فلا يسمع ولا يبصر ولا يدرك شيئاً من المشمومات والمذوقات والملموسات، ول يدرك الشَّاةُ عداوةَ الذئبِ. ولا يشك أحدٌ في بطلان هذه اللوازم وبطلان الملزوم . وإمَّا أن يجعلها مدركةً ثمَّ يقول تلك الكلمات، فمن فعل هذا فهو مبرسم يهذي.

و ابن سينا هو الذي قد جعل في " إشاراته " التي لم يشرْ بمسائلها إلى كفره وضلالته وإضلاله، وعدم فهمه مسألة من مسائل الحكمة، بل صرَّح بذلك كله :العالم قديماً. وَكذلك جعله في " المبد والمعاد " قديماً. وَكان يجادل المسلمين ليثبت ذلك الكفر. ويسمي القائلين بحدوث العالم : " مُعَطِّلـَة ". وقد جعل واجبَ الوجود عديمَ العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر وغير ذلك من صفات الكمال... وقال بوجود العقول العشرة، وجعل كل واحد منها أكمل من الله في إيجاد الأشياء المخلوقة. أمَّا كون العالم حادثاً، فقد بينتُه في موضعه بالبراهين العقلية الفلسفية القاطعة بألسنِ المعاندين و أعناقهم. وأمَّا كون واجب الوجود موصوفاً بصفاتِ الكمالِ كلِّها ، منـزهاً عن صفاتِ النقص كلِّها، فقد بيَّنْتُ ذلك في موضعه، وأثبتُ صفاتهِ الذاتية والفعلية بالبراهين العقليةِ والقوانين الفلسفيةِ.

قال ابن سينا في " المبدأ والمعاد ": << إنَّ المعلول الأول واحد، وإنه عقل. ولأنَّ كون ما يكون عن الأول هو على سبيل لزومٍ ، إذ صح أنَّ واجب الوجود بذاته واجب الوجود من جميع جهاته . وفرغنا من بيانِ هذا الغرضِ قبل . فلا يجوز أن يكونَ أول الموجودات عنه ، وهي المبدعات ،كثيرة ل بالعدد ، ولا بالانقسام إلى مادةٍ وصورةٍ . لأنه هو على حكم ما في ذاته يكون لزوم ما يلزم عنه ؛ والجهة التي عنها يلزم منه هذا الشيء ليست الجهة التي يلزم عنها ل هذا الشيء بل غيره . فإن لزم منه عددان وشيئان ، يكون منهما شيء واحد مثل مادة وصورة ، فيلزمان على جهتين مختلفتين في ذاته (...) وقد بان لنا فيما سلف أنَّ العقولَ المفارقةَ كثيرةُ العدد ، فليست إذاً موجودة معاً عن الأول . بل يجب أن يكونَ أعلاها هو الموجود الأول عنه ، ثم يتلوه عقل وَعقل . وَلأنَّ تحت كلِّ عقل فلكاً بمادته وصورته التي هي النفس ، وعقلاً دونه . فتحت كل عقل ثلاثة أشياء في الوجود . فيجب أن يكون إمكان وجود هذه الثلاثة عن ذلك العقل الأول ، يلزم عنه في الإبداع ، لأجل التثليث المذكور فيه. والأفضل يتبع الأفضل من جهات كثرته ، فيكون إذاً العقل الأول ، يلزم عنه : بما يعقل الأول وجود عقل عنه ، وبما يعقل ذاته وجود صورة الفلك الأقصى وَكمالها ، وهي النفس ، وبما أنه ممكن الوجود في نفسِه يلزمه وجود جرمية الفلك الأقصى(...) وَكذلك الحال في عقل عقل ... وَفلك فلك ... حتى ينتهي إلى العقل الفعّال الذي يدبر أنفسن >> .

وقالَ ابن سينا في " إشاراته ": << الأول ليس فيه حيثيتان لوحدانيته ، فيلزم كما علمت أن لا يكونَ مبدأً إلا لواحدٍ بسيطٍ ، اللّهمَّ إلا بالتوسط . وكل جسم كما علمت مركَّب من الهيولى والصورة . فيتضح لك أن المبدأَ الأقربَ لوجوده اثنان عن الاثنين، أو عن مبدأٍ فيه حيثيتان ليصح أن يكونَ عنه اثنان معاً >> .

وقالَ ابن سينا في " إشاراته ": << فمن الضرورة إذاً أن يكونَ جوهرٌ عقلي ، يلزم عنه جوهرٌ عقلي وجرم سماوي . ومعلوم أنَّ الاثنين إنما  يلزمان من واحد ، من حيثيتين(...) ولا حيثيتي اختلاف هناك ، إلا ما كان لكل شيءٍ منها أنه بذاته إمكاني الوجود، وبالأول واجب الوجود، وأنه يعقل ذاته ويعقل الأول. فيكون بماله من عقله الأول الموجب لوجوده (...) مبدأ لشيء ، وبما له من حاله عنده مبدأ لشيء ، وبما له من ذاته مبدأ لشيءٍ آخر، ولأنه معلول فل مانع من أن يكون هو متقوّماً من مختلفات . وكيف لا وله ماهيةٌ إمكانيةٌ ووجود من غيره واجب ؟ ثم يجب أن يكونَ الأمر الصوري منه مبدأ للكائن الصوري . والأمر الأشبه بالمادة مبدأ للكائن المناسب للمادة . فيكون لما هو عاقل للأول الذي وجب عنه مبدأً لجوهرٍ عقلي، وبالآخر مبدأ لجوهر جسماني... >> . إلى ههنا كلماته الفاسدة المفسدة المضلة التي تكذّب بكتب الله المنـزلة وأنبيائه المرسلة ، وتضل المؤمنين  فتهلكهم . وتلك الكلمات الفاسدة هي من مخترعات أرسطوطاليس الباطلة التي بها وبأمثالها قد أفسد مسائل الحكمة الإلهية الأفلاطونية التي رأيته مكتوبةً في الكتب اليونانية. وتلك الكلمات الفاسدة عند الفلاسفة سوى أرسطوطاليس وأتباعه هي ككلمات المبرسمين . وأنا أُثبت ذلك فأقول : البراهين العقلية الدالة على بطلانها وعدم كونها كما قيل كثيرة : منها البراهين العقلية الدالة على حدوث العالم، فإنَّ كلَّ برهانٍ منها يدل على بطلان كل كلمة من تلك الكلمات، وكذلك البراهين العقلية التي تدل على وجود واجب الوجود ووجود الممكن تدل على بطلان كل كلمة من تلك الكلمات. لأنَّ تلك البراهين تدل على أنَّ واجب الوجود هو الذي يفيد الوجود لكلِّ ممكن الوجود . وممكن الوجود هو الذي يستفيد الوجود من واجب الوجود .

قالَ ابن سينا في " إشاراته ": << ما حقه في نفسه الإمكان فليس يصير موجوداً من ذاته، فإنه ليس وجوده من ذاته أولى من عدمه  من حيث هو ممكن . فإن صار أحدهما أولى فلحضور شيء أو غيبته . فوجود كل ممكن الوجود هو من غيره... >> . فهذه الكلمات هي من كلمات أرسطوطاليس .

فاعلم أنَّ الموجود لا يخلو: إما أن لا تكونَ حقيقته من حيث هي هي قابلة للعدم أو تكون، فالأول يسمى بواجب الوجود لذاته ، وبضروري الوجود ؛ لأنَّه هو الموجود الذي يمتنع عدمه امتناعاً ليس له من غيره ، بل من نفس ذاته ، وهو الله سبحانه وتعالى. والثَّاني: يسمى بممكن الوجود لذاته. فكل موجودٍ إما واجب الوجود لذاته ، وإما ممكن الوجود لذاته. وكل موجود يكون حقيقته من حيث هي هي قابلة للعدم فإنه يكون نسبة حقيقية إلى الوجود والعدم على السوية . وكل ما كان كذلك لا يترجح وجوده على عدمه إلا لمرجحٍ. فكلُّ ممكن الوجود يفتقر في وجوده إلى مؤثر مرجح وجوده على عدمه . فما دام يرجح بقاء وجوده على عدمه كان الممكن واجباً بالغير، وإن كان ممكناً بالذات. فإذا رجح عدمه على وجوده كان ممتنعاً بالغير، وإن كان ممكناً بالذات ، فقد علمت أنَّ الموجودَ لا يخلو: إما واجب الوجود لذاته، وإما ممكن الوجود لذاته . وعلمت أيضاً أنَّ الممكن الوجود هو الذي يفتقر في وجوده إلى مؤثر، وذلك المؤثر  لم يكن واجبَ الوجود ، بل كان ممكن الوجود ، كان الكلام فيه كما في الأول. لأنَّ كلَّ ممكن الوجود يفتقر في وجوده إلى مؤثر، فإمَّا أن ينتهي الاحتياجُ إلى واجبِ الوجود، أو يدورَ ، أو يتسلسلَ إلى غير النهاية. فالدور والتَّسلسل باطل . فإذاً قد ثبت بهذا البرهان أنَّ في الخارج موجوداً واجباً لذاته ، يستفيد منه كل ممكنٍ وجودهُ .

فقد اتفقت الفلاسفة كلهم على حقيَّةِ هذه الكلمات ، بل بها وبأمثالها استدلوا على وجود واجب الوجود... وقالوا بأنَّ وجودَ الممكن بالضرورة يدلُّ على وجود الواجب ، لاستحالة وجود المعلول  بدون وجود علته .

و أرسطوطاليس هو أحد المتفقين والمستدلين,. ومع ذلك قد ناقض نفسَه فاخترع تلك الكلماتِ الفاسدة . وقوله بتركيب الجسم من الهيولى والصورة، وقوله بأن مفيد الوجود للممكن ثلاثة : واجب الوجود والعقل والطبيعة، فمن كان له أدنى نصيب من العقل ، ويعلم الكلماتِ المذكورة في حق واجب الوجود وممكن الوجود ، يحكم ببداهة عقله بأنَّ من يعلم البراهينَ العقليةَ الدالةَ على أن واجبَ الوجود هو المفيد الوجود لكل ممكن الوجود لا غير. وأنَّ الممكنَ إنما يستفيد الوجود من واجب الوجود . ثمَّ قال بكون الشيءُ من الممكنات مفيداً الوجودِ للممكن ، فهو مبرسم مجنون، وكذلك يحكم ببداهةِ عقله بأنَّ الكلماتِ التي تتعلق بكونِ الشيء من الممكنات مفيداً الوجود للممكن هي ككلمات المبرسمين.

وقول ابن سينا: << ل يصدر عن واحدٍ ، ولا عن جهةٍ واحدةٍ ، وحيثيةٍ واحدةٍ ، إلا واحدٍ >> باطل. وهو قد ناقض نفسَه في قوله هذا كما في سائر أقواله، لأنَّه يريد بقوله : ل يصدر عن واحد إلا واحد : الواحد البسيط ، والعقل الفعَّال بسيط عنده، وهو الذي قال بأنَّ له ثلاثَ جهات لا غير. ومع ذلك قد جعله فاعلاً ما يكون ويفسد في عالم العناصر. والبسيط أقوى من المركب عنده ، فلذلك جعل العقل الفعَّال فاعلاً ما ذكر. فإذا لم يصدرْ عن واحد بسيطٍ إلا واحد ، فأولى بالطريق أنْ لا يصدر عن واحد مركب إلا واحد ، وهذا باطل أيضاً . لأنَّ النَّارَ الواحدة ، بجهة حرارتها ، تحرق أشخاصاً كثيرة دفعة ، وواحداً بعد واحد . وهكذا تحرق الأشياء ما دامت باقيةً. وكذا المغناطيس يجذب بقوة جاذبة أشخاصاً كثيرة من الحديد دفعة ، وواحداً بعد واحد . وهكذا يجذب الحديد ما دام باقياً مع تلك القوة . وكذلك النفس النباتية لشجرة الرمان  بقوةٍ مولدةٍ تولد في كل سنةٍ أزهاراً كثيرةً مركبةً من أشياء مختلفة الحقائق والكيفيات والقوى ، ثمَّ تجعله أثماراً مركبة من أشياء مختلفة الحقائق والكيفيات والقوى . و ابن سيناقد جعل واجب الوجود في فعله دون النار والمغناطيس وغيره من المعدنيات والنباتات في أفعالها . فقد بيَّنْتُ أنَّ واجب الوجود هو الفاعل كل م كان ويكون من الموجودات ، وأفعالها، وأثبتُ ذلك بالبراهين العقلية في موضعه ، وبيَّنت كيف يصدر عن السموات والمعدنيات والنباتات والحيوانات أفعالها. وقول ابن سينا: إنَّ الأول بما يعقل ذاته يلزم عنه وجود عقل عنه . وقوله : فيكون إذاً العقل الأول يلزم عنه بما يعقل الأول وجود عقل عنه ، باطل . لأنَّه يلزم أن يكون تعقل العقل الأول بالواجب وتعقل الواجب بذاته مساوياً في الفعل ، وذلك محال . ولأنه قال: إنَّ العقل الأول قد استفاد وجوده من واجبِ الوجودِ ، فالذي يستفيد وجوده من غيره ،كيف يفيد الوجود لغيره؟! وقوله : وبما يعقل ذاته وجود صورة الفلك الأقصى وكمالها ، وهي النفس . وبما أنه ممكن الوجود في نفسه يلزمه وجود جرمية الفلك الأقصى ، باطل . لاستحالة كون وجود الجسم عن جوهر مجرد عن المادة بطريق الإيجاب بالذات واللزوم لعدم المناسبة والمشابهة بين الجوهر المجرد عن المادة وبين الجسم. فإذاً صدور الجسم عن واجب الوجود ، أو العقل ، بطريق الإيجاب بالذات واللزوم ، محالٌ !

و ابن سينا هو الذي قد قال : ثم يجب أن يكونَ الأمر الصوري منه مبدأ للكائن الصوري، والأمر الأشبه بالمادة مبدأ للكائن المناسب للمادة ؛ فيكون لما هو عاقل للأول الذي وجب عنه مبدأٌ لجوهر عقلي، وبالآخر مبد لجوهر جسماني. وهل يمكن أن يصدرَ هذا القول عمَّن تصور  الجوهر المجرد عن المادة وعلمه وإمكانه فإن يقول بأنَّ علم المجرد وإمكانه كان مناسباً ومشابهاً للجسم ؟ ولو صدر عن علم العقل بذاته وبكونه ممكناً الفلك الأقصى، فبأيِّ جهةٍ رجح مقدار عِظمه ؟ وبأيِّ جهةٍ رجح سرعة حركته ؟ وبأيِّ جهةٍ رجح حركته من المشرق إلى المغرب ؟ وبأيِّ جهةٍ رجح كونه فوق غيره من الأفلاك ؟ وبأيِّ جهةٍ رجح أن لا يكون في مكان ،كما كان كل واحد من الأجسام سواه في مكان ؟ وبأيِّ جهةٍ رجح كون الفلك الصادر عن العقل الثَّاني تحت الفلك الأقصى ؟ وبأيِّ جهةٍ رجح بطء حركته ، وحركته من المغرب إلى المشرق ؟ وأين الجهات التي صدرت عنها الكواكب الثَّابتة التي لا يعلم حسابها إلا الله ؟ وأين الجهات التي بها رجحت مقادير الكواكب المذكورة وألوانها وقواها ؟ وقوله :حتى ينتهي إلى العقل الفعَّال الذي يدبر أنفسنا ، باطل . لأنَّ الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ، هو واجب الوجود ، كما ذهب إليه أفلاطون وأمثاله من الفلاسفة ، لا العقل الفعَّال الذي ليس بموجود !

و ابن سينا قد قال بأنَّ في كل عقل ثلاث جهات فقط ، وقال بأنه لا يصدر عن جهة واحدة إلا واحد ، فإذاً أين الجهات التي بها يدبر العقل الفعَّال أمر ما يكون ويفسد في عالم العناصر؟ ولو كان وجود العقول كما قيل لزم أن يكونَ في العقل العاشر ثلاث جهات كما في العقل التاسع وغيره من العقول، وأن يقتضي العقل العاشر وجود عقل آخر وفلك . وكذلك هذا العقل وجود عقل آخر وفلك ، وأن يكون هكذا إلى غير النهاية ... فيلزم أن يكون العقول والأفلاك غير متناهية، وأن تكون موجودة بالفعل . فاللازم محال ، فوجود العقول ، كما قيل ، محال .

وأم ابن سينا صرَّح بمسائل " إشاراته "  لم يفهمْ مسألةً من مسائلِ الحكمة، فلأنه ليست في تلك المسائل مسألةٌ  موافقة بأصلها وفرعها للحكمة الأفلاطونية التي قد أخذها من بعض أنبياء بني إسرائيل. وذلك أنَّ بعض تلك المسائل متعلقة بكون الجسم مركباً من الهيولى والصورة . وقد بيَّنْتُ بطلان ذلك في موضعه بالبراهين العقلية التي تفيد اليقين ، لمن كان له أدنى نصيب من العقل . و بيَّنْتُ كون الجسم مركباً من أجسامٍ صغارٍ، كما ذهب إليه ديمقراطيس و أفلاطون وتوابعهما وكثير من الفلاسفة . وأثبَّتُ ذلك بالبراهين العقلية . وبعض تلك المسائل متعلقة بكون الأفلاك وما فيه بسيطة، وقد بيَّنْتُ بطلان ذلك في موضعه ، و بيَّنْتُ كونها مركبة من العناصر الأربعة، كما ذهب إليه أفلاطون وتوابعه وكثير من الفلاسفة. وأثبت ذلك بالبراهين الشَّرعية والعقلية . وبعض تلك المسائل متعلقة باستحالة بعض العناصر إلى بعض، وما يتفرع بذلك . وقد بيَّنْتُ بطلان ذلك في موضعه كما ذهب إليه أفلاطون وغيره من الفلاسفة ، سوى أرسطوطاليس وأتباعه . وبعض تلك المسائل متعلقة بذات الله تعالى وصفاته ، وتلك المسائل كله مخالفة لما في الحكمة الأفلاطونية . وَقد بيَّنْتُ ما ذهب إليه أفلاطون وَأمثاله من الفلاسفة في تلك المسائل ، وَأثبَّتُ ذلك بالبراهين العقلية وَالقوانين الفلسفية . وَأما أنه صرَّح بمسائل "إشاراته " بكفره وضلالته وإضلاله ، فلأنَّ بعض تلك المسائل متعلقة بتركيب الجسم من الهيولى والصورة . وتلك المسائل ليست إل لتثبت كون الجسم والعالم قديماً . وذلك تكذيب بالله ورسله. وبعض تلك المسائل متعلقة بالعقول، وبحقائق الأفلاك. وتلك المسائل كلها مكذبة بكتب الله المنزلة وأنبيائه المرسلة. وبعض تلك المسائل متعلقة بكون واجب الوجود عديم القدرة والإرادة والعلم والسمع  والبصر وغير ذلك من صفات الكمال...

وقد رأيت أنه قال : إنَّ الله لم يخلق شيئاً غير العقل الأول . وأنه قال في " إشاراته ": إنَّ الله لا يعلم الجزئيات إلاَّ عَلَى وجه كلي . فمن قال ذلك فقد قال بأنه لا يعلم شيئاً من الموجودات في الخارج ،كما هو موجود في الخارج ! ولا يغرنكم الغرور بقوله: "فاعل الكل" "وعالم الكل" وغير ذلك من أسماء الله تعالى .لأنَّه لم يردْ بها معانيها التي أرادها الله تعالى وأنبياؤه والنَّاس أجمعون ، بل غير ذلك . فإنه قد قالَ في " المبدأ والمعاد ": << وأما واجب الوجود ، إن كان مبد للكل ، فلا يجوز أن يكون على غير هذه الجهة . فإنه إنْ كان يعقل الكل ، ولا يعقل أنها منه ، ولا منسوبة إليه ، فيعقل الكل من الكل ، لا من ذاته ، فقد منعنا هذا .فإذاً كان يعقل الكل على أنه منه في ترتيبه ومعقوله ومعشوقه ولذيذه عنده ، على ما أوضحناه . فعقله للكل على الجهة التي تخصه هي إرادته ، لا شيء آخر. وهذه الجهة هي أن يعقل ذاته مبدأً للكل، فيعقل الكل بالقصد الثَّاني(...) ومعقوله بالحقيقة واحد ، منسوب إلى الكل ، نسبة المبد >> .

وقال في ذلك الكتاب : << وإنه ليس يعقل الأشياء لأنها موجودة ، بل يوجد الأشياء لأنه يعقلها. وأنه ليس يعقلها على أنها معقولاته بالقصد الأول، فيكثر ذاته . بل هو واحد يعقل بالقصد الأول ذاته الحق . فيكون عقل بالقصد الثَّاني ما ذاته مبدأ له ، وذلك لأنه يعقل ذاته مبدأ كل وجود، فيعقل كل وجود ، وأنه منـزه عن تعقل الفاسدات وعن تعقل الإعدام كالشر والنقص >> . وقال في ذلك الكتاب : << وقد بيَّنا أنَّ العلم هو بعينه الإرادة التي له، وكذلك تبين أنَّ القدرة التي له هي كون ذاته عاقلة للكل عقلاً هو مبدأ للكل ، لا مأخوذاً عن الكل . ومبدأ ذاته ل يتوقف على وجود شيء. وأنَّ القدرةَ ليست صفة لذاته، ولا جزءاً  من ذاته . بل المعنى الذي هو العلم له ، هو بعينه القدرة له، فبان أنَّ المفهوم من الحياة والعلم والقدرة والإرادة والجود المقولات على واجب الوجود مفهوم واحد >> . وقال في ذلك الكتاب: << وليس معنى قولنا : إنه فاعل الكل ، أنه معطي الكل وجوداً جديداً بعد تسلّط العدم على الكل، وإن كان هذا هو مَعْنَى فاعل الكل عند العامة >> . إلى ههنا كلماته الباطلة المضلة.

فقوله: وإنَّه منـزه عن تعقل الفاسدات ، يعني بهذا القول أن الله تعالى لا يعلم المحسوسات التي تحت فلك القمر. وإنما قال ذلك لأنه يزعم أن الله تعالى يحتاج في علمه بالمحسوسات المتغيرات الفاسدات إلى آلات جسمانية ، كما يحتاج الإنسان إليها في علمه بها. ويزعم أيضاً أنَّ علمه تعالى يتغير بتغير المعلوم وفساده ،كما يتغير علم الإنسان بتغيره وفساده ، فلذلك أنكر علمه تعالى بالمذكورات. وهو الذي قد قال بأنَّ الله لا يعلم الجزئيات! فمن قال هذا، هل يجوز له أن يقول ومعقوله بالحقيقة واحد، وأن يعني بمعقوله العقل الأول . وهو عنده موجود في الخارج جزئيٌ حقيقي. فكيف يجوز له أن يقول بأنه معقوله بالحقيقة ؟ وهل يجوز له أن يقول ، وإنه ليس يعقل الأشياء لأنها موجودة، بل يوجد الأشياء لأنه يعقلها ؟ فهذا القول يدل على أن الله تعالى يوجد الأشياء بعلمه، وهو الذي قد نفى علمه تعالى بالجزئيات ! وقال بأنه لم يصدر عنه إلا واحد. وقال ومعقوله بالحقيقة واحد ! فإذاً أي شيء يوجد بعلمه ؟ وكيف يجوز له أن يقول: لأنه يعقل ذاته مبدأ كل وجود، فيعقل كل وجود ؟ وأن يقول : فيعقل الكل بالقصد الثاني ومعقوله بالحقيقة واحد ؟ وهو الذي قال: الأول ليس فيه حيثيتان لوحدانيته، وههنا جعل له قصدين: القصد الأول والثَّاني. فقال:  بل هو واحد يعقل بالقصد الأول ذاته الحق ، فيكون عقل بالقصد الثَّاني ما ذاته مبدأ له ! وهو الذي قد قال بأنَّه ليس في ذات الله غير القصد الأول الذي به عقل ذاته، فأوجب ذاته بذلك العلم العقل الأول ! فقد بيَّنت كيف يعلم الله تعالى الأشياء وكيف يخلقها ويفعلها ويدبر أمورها، وأثبَتُّ ذلك بالبراهين العقلية والقوانين الفلسفية في موضعه. وقوله: فبان أنَّ المفهوم من الحياةِ والعلم والقدرة والإرادة والجود ، المقولات على واجب الوجود، مفهوم واحد. يعني بهذا القول أن ينفي الحياةِ والقدرة والإرادة والجود عن كونها صفات لله، فلذلك جعل مفهومات هذه الأمور ومفهوم العلم مفهوماً واحداً ، . فأرادَ بذلك أن يثبت أنه ليس لله تعالى صفة سوى العلم، وقد علمت ما قال في علم الله. وأن يثبت أنه لم يصدر عن الله سوى الواحد ! وذلك لأنه لو كان الله حياً قادراً مريداً جواداً لفعل ما يشاء . فلم يكن موجباً بالذات شيئاً واحداً ! وهل يوجد في العالم سفيه مثل السفيه الذي قال بكون الشيء عالماً بدون الحياة والإرادة ؟ وواجب الوجود هو الذي يخلق الحيواناتِ من ترابٍ وماء ويجعلها ذوات الإرادات. فكيف يجوز أن يكون ذلك عديم الإرادات ؟ وقوله: وليس معنى قولنا: أنه فاعل الكل أنه يعطي الكل وجوداً جديداً، باطل. لأنَّ الله تعالى إنما يريد بقوله في كتبه:" فاعل الكل، المعنى الذي أسنده إلى العامة. وأنبياؤه وأصحابهم والفلاسفة كلهم لا يريدون بقولهم: فاعل الكل، إلا المعنى الذي أسنده إلى العامة. فإذاً قد افترى على الله وأنبيائه وأصحابهم ، والفلاسفة كلهم ! فالقائل بهذا يريد به أن يَغر المؤمنين ليفهموا من قول الله ورسوله بـ"فاعل الكل"  المعنى الذي أراده دون المعنى الذي أراده الله تعالى وأنبياؤه والناس أجمعون. فمن قال بوجود العقول والأفلاك كما ذكر فهو جهلٌ بالله تعالى وأكفر به من عبدة الأصنام؛ لأنَّ الله تعالى قالَ في حقهم: ) وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ(  .) وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاءً فَأَحْيَ بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ (. ومَنْ جهلَ بصفات الله التي هي الحياة والقدرة والإرادة والعلم والسَّمع والبصر والكلام والتَّخليق والتَّرزيق فهو جاهل بالله تعالى، كافر به. فكيف حال مَنْ ينكرها؟ وذلك لأنَّ الشَّرعَ جعل الإيمانَ بالله: الإقرار والتَّصديق به، كما هو بصفاته المذكورة وأسمائه المشتقة منها. ومَنْ قال بأنَّ العالم قديم، فهو كافر بالله وكتبه وملائكته ورسله، لأنَّ الله تعالى قد بيَّنَ في كتبه أنَّ الله خلق السمواتِ والأرضَ وما بينهما وسائر الموجودات كلها بعد أن لم تكن . وأنبياؤه وأممهم كلهم كانوا على ذلك البيان.

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!