موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

نظرية الجوهر الفرد:

مفهوم الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي للزمن والخلق في ستة أيّام

دراسة وتأليف: د. محمد علي حاج يوسف

هذا الموقع باللغة الإنكليزية مخصص للدراسات حول نظرية الجوهر الفرد وازدواجية الزمان


الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية

بنية الجوهر الفرد


في بداية الفصل الأوّل من كتاب التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية يقول ابن العربي إنّ أوّل الموجودات عن الله تعالى هو جوهرٌ فردٌ روحاني بسيط، متحيّز عند قوم وغير متحيّز عند آخرين.[545] فهذا يعني أنّ ابن العربي كان مدركاً جيّداً للجدال الطويل بين الفلاسفة فيما إذا كان الجوهر كيان طبيعي (فيزيقي) أو غيبي (ميتافيزيقي)، أو فيما إذا كان متحيّزاً أو غير متحيّز.[546] بالرغم من أنّه غالباً ما يفضّل الخيار الثاني[547] لكنّ ابن العربي أحياناً لا يستثنى كون الجوهر متحيّزاً، ربما ذلك لأن الكلام عن الأحياز ليس له معنى إذا تذكّرنا أنّ هناك في الحقيقة جوهراً واحداً فقط يتّصف بالوجود الحقيقي. على كلّ حال في بعض الأحيان يؤكّد ابن العربي أنّ الجوهر متحيّز وغير قابل للقسمة، خصوصاً عندما يتكلّم عن العالَم الظاهري،[548] في حين أنّ جواهر الأرواح لا يمكن أن تكون متحيّزة.[549] مع ذلك يجب التنبيه إلى أنّ كلا الظاهرتين الجسمية والروحانية ليستا سوى انعكاسات للجوهر الفرد الذي لا يمكن أن يتّصف في حدّ ذاته أنّه متحيّز أو غير متحيّز، لأنه بالضرورة كلّ شيء.

في الفصل الطويل جداً 198 من الفتوحات المكية يتكلّم ابن العربي بالتفصيل حول السِّمات المختلفة لأقسام الوجود فيلخّص أنواع الوجود المختلفة الطبيعية والروحانية ويذكر أيضاً الاختلاف بين الجواهر والأعراض، وفي نفس هذا النصِّ يقرّر أيضاً رؤيته حول نموذج الجوهر الفرد ثم يشير في النهاية إلى الفرق الأساسي بين الرؤية الصوفية والرؤية الفلسفية للعالم كما ناقشناها في بداية الفصل الخامس، فيقول إنّ كلّ معلوم يدخله التقسيم فإنّه يدخل في الوجود الذهني لا بدّ من ذلك، وقد يكون هذا الداخل في الوجود الذهني ممن يقبل الوجود العيني وقد يكون ممن لا يقبل الوجود العيني كالمحال. والذي يقبل الوجود العيني لا يخلو إمّا أن يكون قائماً بنفسه وهو المقول عليه "لا في موضوع" وإمّا أن لا يكون. فأمّا قسم ما يكون قائماً بنفسه فلا يخلو إمّا أن يكون متحيّزاً أو غير متحيّز، وأمّا قسم لا في موضوع غير متحيز فلا يخلو إمّا أن يكون واجب الوجود لذاته وهو الله تعالى، وإمّا أن يكون واجباً بغيره وهو الممكن. وهذا الممكن إمّا أن يكون متحيّزاً أو غير متحيّز. والقسمة فيما هو قائم بنفسه من الممكنات: فغير المتحيّز كالنفوس الناطقة المدبّرة لجوهر العالَم النوراني والطبيعي والعنصري، والمتحيّز إمّا أن يكون مركّبا ذا أجزاء وإمّا أن لا يكون ذا أجزاء. فإن لم يكن ذا أجزاء فهو الجوهر الفرد وإن كان ذا أجزاء فهو الجسم. وأمّا القسم الذي هو في موضوع وهو الذي لا يقوم بنفسه ولا يتحيّز إلا بحكم التبعيّة فلا يخلو إمّا أن يكون لازماً للموضوع أو غير لازم، في رأي العين وأمّا في نفس الأمر فلا شيء مما لا يقوم بنفسه يكون باقٍ في نفس الأمر زائداً على زمان وجوده، لكن منه ما تعقبه الأمثال ومنه ما يعقبه ما ليس بمثل. فأمّا الذي يعقبه الأمثال فهو الذي يتخيّل أنه لازم كصفرة الذهب وسواد الزنجي، وأما الذي لا تعقبه الأمثال فهو المسمّى بالعَرَض، واللازم يُسمّى صفة. وليست المعلومات التي لها وجود عيني سوى ما ذكرناه. واعلم أن العالَم واحدٌ بالجوهر كثيرٌ بالصورة، وإذا كان واحداً بالجوهر فإنّه لا يستحيل وكذلك الصورةأيضاً لا تستحيل، لما يؤدّي إليه من قلب الحقائق؛ فالحرارة لا تكون برودة واليبوسة لا تكونرطوبة والبياض لا يستحيل سواداً والتثليث لا يصير تربيعاً لكن الحارّ قد يوجد بارداً لا فيزمان كونه حارّاً وكذلك البارد قد يوجد حارّاً لا في زمان كونه بارداً، وكذلك الأبيض قد يكون أسوداً بمثل ما ذكرنا، والمثلّث قد يكون مربّعاً، فبطلت الاستحالة. فالأرض والماء والهواء والأفلاك والمولّدات صورٌ في الجوهر؛ فصورٌ تُخلع عليه فيسمى بها من حيث هيئته وهو الكون، وصورٌ تُخلع عنه فيزول عنه بزوالها ذلك الاسم وهو الفساد، فما في الكون استحالة يكون المفهوم منها أنّ عين الشيء استحال عيناً آخر، إنّما هو كما ذكرنا.

والعالَم في كل زمان فردٍ يتكوّن ويفسد ولا بقاء لعين جوهر العالَم لولا قبول التكوين فيه، فالعالَم يفتقر على الدوام؛ أمّا افتقار الصور فلبروزها من العدم إلى الوجود وأمّا افتقار الجوهر فلحفظ الوجود عليه إذ من شرط وجوده وجود تكوين ما هو موضوع له لا بدّ من ذلك. وكذلك حكم الممكن القائم بنفسه الذي لا يتحيّز هو موضوعٌ لما يحمله من الصفات الروحانية والإدراكات التي لا بقاء لعينه إلا بها، وهي تتجدّد عليه تجدّد الأعراض في الأجسام.

وصورة الجسم عرض في الجوهر. وأما الحدود إنّما محلّها الصور فهي المحدودة ولا بدّ أن يوجد في حدّها الجوهر الذي تظهر فيه، وبهذا القدر يسمّون الصور جوهراً لكونهم يأخذون الجوهر في حدّ الصورة.[550] وبالجملة فالنظر في هذه الأمور من غير طريق الكشف الإلهي لا يوصل إلى حقيقة الأمر على ما هي عليه لا جَرَم أنهم لا يزالون مختلفين. ولهذا عدلت الطائفة السعيدة المؤيَّدة بروح القدس إلى التجرّد عن أفكارها والتخلّص عن قيد قُواها واتصلت بالنور الأعظم فعاينت الأمر على ما هو عليه في نفسه إذ كان الحقّ عزّ وجلّ بصرُها فلم تشاهد إلا حقّاً كما قال الصدّيق: ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله قبله؛[551] فيرى الحقّ ثم يرى أثره في الكون وهو الوقوف على كيفية الصدور. فكأنه عاين الممكنات في حال ثبوتها عندما رشّ علي ما رشّ منها من نوره الأعظم فاتّصفت بالوجود بعدما كانت تُنعت بالعدم. فمن هذا مقامُه فقد ارتفع عنه غطاء العمى والحيرة، كما قال الله تعالى في سورة ق: ﴿لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)﴾، وقال أيضاً في نفس السورة: ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)﴾؛ فما جعل العلم إلا في الشهود فالحاكم يحكم بغلبة ظنه والشاهد يشهد بعلم لا بظنّ.[552]

ووفقاً لهذا التفصيل نلخّص أقسام الوجود في الشكل التالي:

 


الشكل 1: خلاصة الأنواع المختلفة للأشياء التي تقبل الوجود الذهني.

أيضاً في كتاب إنشاء الدوائر  يوضّح ابن العربي أصناف الوجود بطريقة مشابهة، كما هو موضّح في المخطط التالي:

الشكل 2: الأنواع المختلفة للوجود كما في كتاب إنشاء الدوائر، ولقد أضفنا الرقمين صفر وواحد في داخل الدائرة لنصف حالة القائم بنفسه أو غير القائم بنفسه وحالة كونه متحيّز أو غير متحيّز.


[545] التدبيرات الإلهية: ص87.

[546] الفتوحات المكية: ج1ص4722.

[547] الدرّة البيضاء: ص134.

[548] الفتوحات المكية: ج2ص438س2.

[549] الفتوحات المكية: ج2ص309س25.

[550] يبدو أن هذا هو في الحقيقة المانع الرئيسي الذي يمنعنا من مشاهدة حقيقة العالم؛ لأنّنا نحاول دائماً أن نشكّل صورة خيالية إلى كلّ مفهوم، وبعد ذلك نناقش شروط هذه الصورة مثل شكلها أو لونها أو حجمها، في حين إنّ الجوهر لا يدخل في حدّ الصورة.

[551] من أجل المزيد حول كلام ابن العربي حول رؤية الحقّ انظر في الفتوحات المكيّة في الأبواب 61-65 و 371 بالإضافة إلى جواب ابن العربي على أسئلة الترمذي 67-72 في الباب 73 من الفتوحات المكيّة.

[552] الفتوحات المكية: ج2ص454س1.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!