وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ

واعلم أن الدنيا نعمة مطية المؤمن العارف عليها يبلغ الخير كله، وبها ينجو من الشر كله، وهى من جملة ما اختبر الله بها عباده المدعين فيه، فمن تعشق بوجه الحق منها وقبلها على حد ما أعلمناه، فقد فاز فوزًا عظيمًا بما فاز به خاصة الله، ومن تعشق بها من غير رؤية ذلك الوجه خِيف عليه أن ينترك معها، وهو الذي خاف منه صاحب هذه الوصية، وكذلك الكون كله إذا عرض عليك في الدنيا وآخره، ومحموده ومذمومه، فم من صورة تظهر في العالم محسوسة أو متخيلة بالخيالين، المتصل والمنفصل، أو معلومة؛ إل ولها روح هو حياة تلك الصورة، وذلك الروح هو المعبر عنه بوجه الحق منها، وليس الغرض إلا العالم بذلك الوجه دنيا وآخرة، وحسًا وعلمًا وخيالاً، والوصية به أولى من الوصية بالتحفظ من تلك الصور، فما من شيء إلا وهو يسبح بحمد ربه، ولكن لا يفقه كل أحد تسبيح ذلك، وكيف يتحفظ من ذاكرٍ لله، وهو محل الإقتداء به وهو المعين، فما ذلك إلا لعمى البصيرة، ولذلك قال: ﴿وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء: 44]، وفرضنا أنا لا نفقه ذلك فما يكفينا الإيمان والتصديق بقول الله تعالى الصادق والمتواتر، أن ذلك يسبح بحمد الله تعالى، فقد شهد الله تعالى بعدالته وزكاته، فالرغبة فيه أولى من الرغبة عنه، فإن الله جليس من ذكره، وكل ما في العالم في الدنيا والآخرة ذاكر ومسبح فالله جليسه، فمن جالس ذاكر الله، فقد جالس الله من حيث أنه تعالى جليس لهذا الذاكر، فلا يكون بعد ما ذكرنا في هذا الأمر، ﴿كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً﴾ [النحل: 92]، وما أظهره الله تعالى من أسمائه عند ذكر هؤلاء الذاكرين له بالتنزيه الذي لا يصل إلى فهم كل أحد إلا الحليم الغفور، فالغفور من حيث أن الله ستر عن بعض أعين عباده وأسماعهم، إدراك ذلك التسبيح، والحليم من حيث أنه ذكر لنا أن ذلك مسبح بحمده، وأن لا نفقه ذلك، فما وفينا حق الإيمان بقول الله في ذلك، فعرضنا أنفسنا لله قربة، فوصف نفسه بالحلم عنا في ذلك، فلم يؤاخذنا في العاجلة ولا ندري ما يفعل بالآجل، فإن الحليم حلمه المهلة بالعقوبة لا غير، وإن أخذ بها في المستأنف فقد وفى الحليم حلمه، وإن لم يأخذ بذلك عنده، فمن حكم اسم آخر مثل الغفور الذي قرنه به وإخوته، فما أحكم صور القرآن وما أبدعها، لمن كشف الله عن بصيرته، ورزقه الفهم فيه، فما في العالم متكلم بأمر؛ إلا وذلك الكلام شرح للقرآن، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، إذ لا يخرج عن كتاب الله شيء وهو قوله: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 38].