كتاب الأجوبة العربية في شرح النصائح اليوسفية

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

ويعرف هذا الكتاب أيضاً باسم: شرح روحية الشيخ على الكردى

أنه ضرب بيده بين كتفيه، فوجد من برد أنامله في صدره، فعلم علم الأولين والآخرين

وبالضرورة يعلم أن التلميذ ما يأتي إلى الشيخ؛ إلا ليناجيه بأي لسان كان، وإنم قلنا بأي لسان كان، فإني ناجيت رسول الله ﷺ في واقعة بمجرد النظر، وفهمت عنه جميع ما أراد، وفهم عني جميع ما أردت، وما تحرك بيننا عضو لسان، لا منه ولا مني، وقد بينا ما قال لي في مثل هذه النجوى في المبشرات قال الشاعر:

تَكلّمَ مَنّا في الوُجوهِ عُيونُنا

فَنَحنُ سُكوتٌ وَالهَوى يَتَكَلَّمُ

وقلت في ذلك:

وَالهَوى بَينَنا يَسوقُ حَديثًا

طَيِّبًا مُطرِبًا بِغَيرِ لِسانِ

وقال صلى الله عليه وسلم عن ربه سبحانه وتعالى: «أنه ضرب بيده بين كتفيه، فوجد من برد أنامله في صدره، فعلم علم الأولين والآخرين» فهذه مناجاة من غير حرف مسموع، ل بأُذن ولا صوت، فالمناجاة لها ألسنة كثيرة، فإياك أن تنتظر من الشيخ مناجاة القول بعضو اللسان ولابد، فالنجوى لابد منها بين يدي الشيخ والتلميذ، فلابد من الصدقة أن يقدمها التلميذ بين يديه، ومتى ما قال للشيخ: لِمَ فإنه لا يفلح، ول يجيء منه شيء أبدًا، هذا أجمع عليه [المشايخ من] أهل الله تعالى، فلا تعلل على الشيخ ما يقول، ولا تسأل عن علة ما أمر به، وكذلك الرسول لا يعلل عليه ما أمر به ولا يسأل عن العلة، وكذلك مناجاة الحق لا يعلل عليه أمره ولا يسأل عن العلة، بل يمتثل السامع الأمر من غير تردد، فإن علل الحق أو مَن ذكرنا أمره وكلامه، فذلك الله، وتحصل الفائدة لنا، كما قال: ﴿وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ﴾[البقرة: 179]، وإنما أمرنا بالصدقة، لأن الأمر يشق على النفس. وأفضل الصدقات ما تصدق به المتصدق على نفسه، والصدقات متنوعة، منها الصدقة المعلومة في العُرف، ومنها المعلومة بالشرع، فإنه عم الصدقة العرفية وغير العرفية، فقال صلى الله عليه وسلم: «يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ»، فجعل الذكر من صدقات الإنسان على نفسه، فإرشاد الضال صدقة، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة، وجميع أفعال البر كلها صدقة من العبد على نفسه أو غيره، ومن تصدق على غيره، فقد تصدق على نفسه، وما كل صدقة تكون على نفسه يلزم تعديها إلى غيره، فمنها ومنه فوسع الله في الصدقات بما أبان، وقال: ﴿بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً﴾[المجادلة: 12]، ولم يعين صدقة من صدقة، ولما جمع وجب على السامع أن يتصدق بأقل الجمع، وهي ثلاث صدقات فصاعدًا، من أي نوع كان من الصدقات المشروعة، والله يجزي المتصدقين.

ولو كانت الصدقة هذه المعروفة في العُرف، لكان من لا يجدها لا يكون له قدم في هذا الشهود، فلما عم الشرع الصدقات بما بين، لم يبق مفلس ولا غير مفلس؛ إلا وهو قادر على صدقة، فعم الخير والحمد الله.