كتاب الأجوبة العربية في شرح النصائح اليوسفية

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

ويعرف هذا الكتاب أيضاً باسم: شرح روحية الشيخ على الكردى

أول ما يجب على المريد أن يسلب اختياره

قوله: (أول ما يجب على المريد أن يسلب اختياره) يريد مريد التربية، أي: الذي يكون في خدمة شيخ، وأضاف السلب إليه، وجعل الفعل في ذلك له، فإن [البيعة] إنم تكون على السمع والطاعة، في المنشط والمكره، وعلى الحقيقة؛ فهذه صفة المؤمن، فأحرى للمريد.

وما سُمي المريد مريدًا؛ إلا لكونه ذا إرادة، فإنه لابد أن يريد م يريد شيخه، فلابد له من إرادة تقوم به، كما قال أبو يزيد : أريد ألا أريد، فأثبت لنفسه إرادة، وطلب نفيها عن نفسه، ولم يرد إرادته من نفسه، وإنما كان مطلبه من الله، أن تكون إرادته، إذ ولابد منها تبعًا لإرادة مولاه، فيريد العلم بما يريده ربه، فيريده وهو أعلى مرتبة في هذا الباب، وأما المرتبة التي هي دون هذا في هذ الباب هي أعلى في المقام في دار التكليف، فهي هينة الخطب عند المُوَفَّقٌ ، وهو أن الله قد شرع الأحكام وفرغ منها، فقد سلب الإرادة بهذا الفعل عن كل مؤمن بالله، فل يريد أمرًا إلا ما أراد الله سبحانه وتعالى في شرعه، فلا إرادة له من نفسه، وإنم إرادته ما أريد به، وقد أبان ذلك الحق للمؤمنين بما شرع لهم، ولهذا المؤمن يصحب ول يصحب سوى حكم إيمانه، كالنبي ﷺ لا يصحب أحدًا سوى نبوته؛ لأنه يحكم بما يُوحى به إليه، لا بحكم نفسه، والمؤمن بحكم إيمانه، لا بحكم نفسه، والمَلِك بحكم مُلكه، ل بحكم أحد، فلا يصحب سوى ملكه وبه يحكم.

كذلك المريد الحق الصادق، لا يصحب سوى شيخه، فلا إرادة له من نفسه؛ إلا ما يريد به شيخه، ولذلك قال: (أن يسلب اختياره) فيكون واحد الإرادة، وليست إلا إرادة شيخه به، فما قال: أن يسلب إرادته، فإن ذلك لا يصح، وإنما يسلب اختياره، فلا يختار إلا ما أراد به شيخه، وما لم يكن يريد به مجهول عنده حتى يأمره بما يأمره فيريد، فلابد ما أراد به شيخه، وإن لم يكن كذلك فليس بمريد تربية، ولا يجيء منه شيء أبدًا، ومتى زعم أنه مريد تربية، وهو بحضور شيخ، وتصرف في أمره بنفسه، من غير إذن شيخه في ذلك فهو كذاب.

وإنما ينبغي له، إذا طرأ أمر أن يقتضي التصريف به ولابد، وله وجوه عديدة: منه ما يكرهها، ومنها ما يحبها، فينبغي له أن يعرض على شيخه ما طرأ، حتى يُعين له الشيخ وجهًا من وجوه التعريف في ذلك، فإن عين ما كان يكرهه، تعود تلك الكراهة حبًا لذلك التصريف، حيث عينه له الشيخ، وإن كان مما يحبه فبخٍ على بخ، وإن كان من يفعل م يكره الشيخ على كُره لا على محبة، فهو صاحب مجاهدة ومكابدة، ويعلم أنه دون الذي رجع المكروه له محبوبًا، ولابد، وكِلا [الأمرين] يتصفان بأنهما محبوبان مسلوبان الاختيار.