موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

الدرر المكنونات النفيسة في تعريب المكتوبات الشريفة

للشيخ الإمام الرباني أحمد الفاروقي السرهندي

(260) المكتوب الستون والمائتان إلى المخدوم زاده الشيخ محمد صادق قدس سره في بيان الطريقة المختصة به وبيان الولايات الثلاث الصغرى والكبرى والعليا وبيان أفضلية النبوة من الولاية مطلقا وبيان اللطائف العشر الإنسانية التي خمس منها من عالم ا

 

 


ولمّا علموا بإخبار الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام أنّ للعالم صانعا واجب الوجود اطّلع بعض هؤلاء المخذولين على قبح ادّعائه وأثبت الصّانع الواجب الوجود بالتّقليد والتّستّر وزعم أنّه سار فيه ومتّحد به ودعى الخلق إلى عبادته بهذه الحيلة تعالى الله عمّا يقول الظّالمون علوّا كبيرا.

(ولا يعترض) القاصر هنا أنّه لو بعث الأنبياء في أرض الهند لبلغنا خبر بعثته البتّة بل كان ينقل ذلك الخبر بالتّواتر لتوفّر الدّواعي وليس فليس (لأنّا نقول) إنّ دعوة هؤلاء الأنبياء لم تكن عامّة بل كانت دعوة بعضهم مخصوصة بقوم ودعوة بعضهم بقرية أو ببلدة ويمكن أن يشرّف الله سبحانه شخصا في قوم أو قرية بهذه الدّولة فيدعوهم إلى معرفة الصّانع ويمنعهم عن عبادة غيره تعالى فيكذّبونه وينسبونه إلى الجهالة والضّلالة فإذا انتهى إنكارهم وتكذيبهم إيّاهم إلى نهايته وغايته يهلكهم الله جلّ وعلا غيرة لنبيّه وكذلك يمكن أن يبعث نبيّ آخر بعد مدّة إلى قوم أو قرية فيعاملهم كما عامل الأوّل قومه فيفعل بهم كما فعل بأوائلهم وهكذا إلى ما شاء الله تعالى وآثار هلاك القرى والبلاد كثيرة في أرض الهند وهؤلاء القوم وإن هلكوا ولكن كلمة تلك الدّعوة باقية فيما بين أقرانهم وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلّهم يرجعون.

وخبر نبوّة الأنبياء المبعوثة إنّما يبلغنا إذا صدّقهم جمع كثير وقوّى أمره وأمّا إذا جاء شخص ودعا أيّاما فمضى ولم يقبل دعوته أحد ثمّ جاء آخر وفعل مثل ما فعل الأوّل فصدّقه شخص واحد وصدّق الآخر اثنان أو ثلاثة فمن أين ينتشر الخبر وكان الكفّار كلّهم في مقام الإنكار وكانوا يردّون على من كان يخالف دين آبائهم فمن يكون النّاقل وإلى من ينقل. وأيضا إنّ الفاظ الرّسالة والنّبوّة وپيغمبر من لغات العرب والفارس بواسطة اتّحاد دعوة نبيّنا عليه الصّلاة والسّلام وعمومها ولم تكن هذه الألفاظ في لغة الهند حتّى يقال للأنبياء المبعوثين من الهند رسولا أو نبيّا أو پيغمبر أو يذكرون بهذه الأسامي. وأيضا نقول في جواب هذا السّؤال بطريق المعارضة: إنّه لو لم تبعث الأنبياء في الهند ولم يدعوهم بلسانهم لكان حكم هؤلاء القوم حكم من نشأ في شاهق الجبل فلا يدخلون النّار مع وجود التّمرّد ودعوى الالوهيّة ولا يكون لهم العذاب المخلّد وهذا ممّا لا يرتضيه العقل السّليم ولا يساعده الكشف الصّحيح فإنّا نشاهد بعض مردتهم في وسط الجحيم والله سبحانه أعلم بحقيقة الحال.

(٢٦٠) المكتوب السّتّون والمائتان إلى المخدوم زاده الشّيخ محمّد صادق قدّس سرّه في بيان الطّريقة المختصّة به وبيان الولايات الثّلاث الصّغرى والكبرى والعليا وبيان أفضليّة النّبوّة من الولاية مطلقا وبيان اللّطائف العشر الإنسانيّة الّتي خمس منها من عالم الأمر وخمس من عالم الخلق مع كمالات مخصوصة بكلّ واحدة منها وبيان أفضليّة عالم الخلق من عالم الأمر مع بيان كمالات مخصوصة بعنصر التّراب وبيان العلوم والمعارف المناسبة لكلّ مقام وأمثال ذلك

بسم الله الرّحمن الرّحيم. الحمد لله ربّ العالمين والصّلاة والسّلام على سيّد المرسلين عليه وعليهم وعلى آله وأصحابه الطّيّبين الطّاهرين (اعلم) أيّها الولد أسعدك الله سبحانه وتعالى أنّ لطائف عالم الأمر الخمس أعني القلب والرّوح والسّرّ والخفيّ والأخفى الّتي هي من أجزاء العالم الصّغير أعني الإنسان، أصولها في العالم الكبير كالعناصر الأربعة الّتي هي أجزاء الإنسان فإنّ أصولها في العالم الكبير. وظهور أصول الخمس فوق العرش حيث يوصف باللّامكانيّة ومن ههنا يقال لعالم الأمر: لا مكانيّا تتمّ دائرة الامكان خلقه وأمره وصغيره وكبيره بالوصول إلى نهاية تلك الأصول وإلى هذا الموطن ينتهي امتزاج العدم بالوجود الّذي هو منشأ الإمكان فإذا طوى السّالك الرّشيد محمّديّ المشرب هذه الخمس من عالم الأمر بالتّرتيب وشرع في السّير في أصولها من عالم الكبير وطوى كلّها بالتّرتيب والتّفصيل بعلوّ الفطرة بل بمحض فضل الحقّ سبحانه وانتهى إلى النّقطة الأخيرة فلا جرم يكون قد أتمّ دائرة الإمكان بالسّير إلى الله وصار مستحقّا لان يطلق عليه اسم الفناء يعني لان يوصف به وشرع في الولاية الصّغرى الّتي هي ولاية الأولياء فإن وقع السّير بعد ذلك في ظلال الأسماء والصّفات الوجوبيّة الّتي هي أصل الخمسة الّتي في العالم الكبير في الحقيقة ولم يتطرّق إليها شائبة العدم وطوى كلّها بفضل الله سبحانه بطريق السّير في الله وبلغ نهايتها فقد أتمّ دائرة ظلال الأسماء الواجبيّة أيضا وحصل له الوصول إلى مرتبة الأسماء والصّفات الواجبيّة ونهاية عروج الولاية الصّغرى إلى هذا المقام وفي هذا الموطن يتحقّق الشّروع في حقيقة الفناء ويوضع القدم في بداية الولاية الكبرى الّتي هي ولاية الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام.

وممّا ينبغي أن يعلم: أنّ هذه الدّائرة الظّلاليّة متضمّنة لمبادي تعيّنات الخلائق سوى الأنبياء الكرام والملائكة العظام عليهم الصّلاة والسّلام وظلّ كلّ اسم مبدأ تعيّن شخص من الأشخاص حتّى أنّ مبدا تعيّن الصّدّيق الأكبر الّذي هو أفضل البشر بعد الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام النّقطة الفوقانيّة من هذه الدّائرة وما قيل إنّ السّالك إذا انتهى إلى اسم هو مبدأ تعيّنه فقد أتمّ السّير إلى الله ينبغي أن يكون المراد به ظلّ الإسم الإلهيّ جلّ شأنه وجزئيّا من جزئيّاته لا أصله وعينه وهذه الدّائرة الظّلاليّة تفصيل مرتبة الأسماء والصّفات في الحقيقة فإنّ العلم مثلا صفة حقيقيّة ولها جزئيّات. وتفصيل تلك الجزئيّات ظلال هذه الصّفة الّتي لها مناسبة بالإجمال وكّلّ جزئيّ من تلك الجزئيّات مبدأ تعيّن شخص من الأشخاص غير الأنبياء الكرام والملائكة الفخام عليهم الصّلاة والسّلام. ومبادي تعيّنات الأنبياء والملائكة اصول هذه الظّلال يعنى كلّيّات تلك الجزئيّات المفصّلة كصفة العلم مثلا وصفة القدرة وصفة الارادة وغيرها ويشترك الكثيرون من الاشخاص في صفة واحدة كانت مبدأ تعيّن باعتبارات مختلفة وذلك أنّ مبدا تعيّن خاتم الرّسل مثلا شأن العلم وهذه الصّفة كانت مبدا تعيّن إبراهيم عليه السّلام باعتبار آخر وهي مبدأ تعيّن نوح عليه السّلام أيضا باعتبار آخر وتعيّن تلك الإعتبارات مذكور في مكتوب الخواجه محمّد أشرف وما قال بعض المشائخ من أنّ الحقيقة المحمّديّة هي التّعيّن الأوّل الّذي هو حضرة الإجمال ومسمّى بالوحدة فمراده به على ما ظهر

لهذا الفقير من عالم الغيب والله سبحانه أعلم مركز هذه الدّائرة الظّلاليّة قد ظنّ هذه الدّائرة الظّلاليّة تعيّنا أوّلا وتخيّل مركزها إجمالا وسمّاه وحدة وزعم تفصيل ذلك المركز الّذي هو محيط تلك الدّائرة واحديّة وتصوّر ما فوق دائرة الظّلال الّذي هو دائرة الأسماء والصّفات ذاتا منزّهة ومبرأة عن التّعيّن وليس الأمر كذلك بل أقول: إنّ مركز هذه الدّائرة الظّلاليّة ظلّ مركز الدّائرة الفوقانيّة الّتي هي أصلها ومسمّاة بدائرة الأسماء والصّفات والشّئون والإعتبارات.

والحقيقة المحمّديّة هي مركز هذه الدّائرة الأصليّة في الحقيقة الّتي هي إجمال الأسماء والشّئونات وتفصيل الأسماء إنّما هو في هذه الدّائرة الّتي هي مرتبة الواحديّة وإطلاق الوحدة والاحديّة على مرتبة ظلال الأسماء مبنيّ على اشتباه الظّلّ بالأصل ومن هذا القبيل إطلاق السّير في الله في ذلك الموطن فإنّ السّير في ذلك الموطن داخل في الحقيقة في السّير إلى الله هذا. (فإن وقع) العروج بعد ذلك إلى دائرة الأسماء والصّفات الّتي هي أصل دائرة الظّلال بطريق السّير في الله يكون ذلك شروعا في كمالات الولاية الكبرى وهذه الولاية الكبرى مخصوصة بالأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام بالأصالة ووصل أصحابهم الكرام أيضا إلى هذه الدّولة بالتّبعيّة. والنّصف الأسفل من هذه الدّائرة متضمّن للأسماء والصّفات الزّائدة ونصفها الأعلى مشتمل على الشّئون والإعتبارات الذّاتيّة ونهاية عروج لطائف عالم الأمر الخمس إلى نهاية هذه الدّائرة يعني دائرة الأسماء والشّئونات (فإن وقع) التّرقّي بعد ذلك بمحض فضل الحقّ جلّ شأنه من مقام الصّفات والشّئونات يكون السّير في دائرة أصول تلك الصّفات والشّئونات وبعد المجاوزة والعبور عن دائرة تلك الأصول دائرة أصول تلك الاصول وبعد طيّ هذه الدّائرة يظهر من الدّائرة الفوقانيّة قوس ينبغي قطعه أيضا. وحيث لم يظهر من هذه الدّائرة الفوقانيّة غير القوس اقتصرنا على ذلك القوس ولا بدّ من أن يكون هنا سرّ ولم أطّلع عليه بعد. وهذه الاصول الثّلاثة المذكورة للأسماء والصّفات مجرّد اعتبارات في حضرة الذّات تعالت وتقدّست كانت مبادى الصّفات والشّئونات وحصول كمالات هذه الاصول الثّلاثة مخصوصة بالنّفس المطمئنّة ويتيسّر حصول الإطمئنان لها في ذلك الموطن وفي هذا المقام يحصل شرح الصّدر وفيه يتشرّف السّالك بالإسلام الحقيقيّ وهذا هو ذاك الموطن الّذي تجلس المطمئنّة فيه على تخت الصّدر وترتقي في مقام الرّضا وهذا الموطن هو نهاية الولاية الكبرى الّتي هي ولاية الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام. ولمّا انتهى بي السّير إلى هذا المقام توهّم لي أنّ الأمر قد تمّ فنوديت في سرّي أنّ كلّ ذلك كان تفصيل الإسم الظّاهر الّذي هو أحد جناحي الطّيران والإسم الباطن أمامك بعد وهو الجناح الثّاني للطّيران إلى عالم القدس فإذا أتممته بالتّفصيل فقد حصّلت جناحين للطّيران فلمّا تمّ سير الإسم الباطن بعناية الله سبحانه تيسّر الجناحان للطّيران. الحمد لله الّذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لو لا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربّنا بالحقّ.

(أيّها الولد) ماذا أكتب من السّير في الباطن والمناسب لحال ذلك السّير الإستتار والتّبطّن ولنكشف نبذا يسيرا من هذا المقام: انّ السّير في الإسم الظّاهر سير في الصّفات من غير أن يلاحظ الذّات في ضمنها. والسّير في الإسم الباطن وإن كان سيرا في الأسماء ولكنّ الذّات ملحوظة في ضمنها وتلك الأسماء كالحجب ساترة لوجه حضرة الذّات تعالت وتقدّست فإنّ الذّات في صفة العلم مثلا ليست ملحوظة أصلا وفي اسم العليم الملحوظ هو الذّات من وراء حجاب الصّفات لأنّ العليم ذات ثبت لها العلم فالسّير في العلم سير في الإسم الظّاهر والسّير في العليم سير في الإسم الباطن وقس على هذا سائر الصّفات والأسماء وهذه الأسماء المتعلّقة بالإسم الباطن مبادى تعيّنات الملائكة الملأ الأعلى على نبيّنا وعليهم الصّلوات والتّحيّات.

(والشّروع) في السّير في هذه الأسماء وضع القدم في الولاية العليا الّتي هي ولاية الملأ الأعلى والفرق المذكور بين العلم والعليم عند بيان الإسم الظّاهر والإسم الباطن لا تتخيّله شيئا يسيرا ولا تظنّ أنّ من العلم إلى العليم مسافة قليلة لا بل فرق ما بين مركز الأرض ومحدب العرش له بالنّسبة إلى هذا الفرق حكم القطرة بالنّسبة إلى البحر المحيط وهو قريب في التّكلّم بعيد في الحصول ومن هذا القبيل ذكر المقامات المبيّنة على سبيل الإجمال كما قلنا مثلا فإذا طوى هذه الخمس من عالم الأمر وشرع في السّير في أصولها فقد أتمّ دائرة الإمكان فقد ذكر في هذه العبارة السّير إلى الله بالتّمام وقد قدّروا مدّة حصول هذا السّير بخمسين ألف سنة وفي قوله تعالى (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ والرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) رمز إلى هذا المعنى.

غاية ما في الباب أنّ جذب عناية الحقّ جلّ سلطانه يكاد ييسّر أمر هذه المدّة المديدة في طرفة العين. (ع) لا عسر في أمر مع الكرام *. وكذلك قلنا فإذا طوى دائرة الأسماء والصّفات والشّئون والإعتبارات ووقع السّير في أصولها إلخ طيّ جميع الأسماء والصّفات سهل في التّلفّظ ولكن مشكل عند الطّيّ وأيّ مشكل * ومن صعوبة هذا الطّيّ قال المشائخ: منازل الوصول لا تنقطع أبد الآبدين ومنعوا تماميّة السّير يعني انتهاء في هذه المراتب. (شعر)

وليس لحسنه حدّ وغاية ... ولا لمديحة السّعدي نهاية

يموت من التّعطّش مستقيه ... ويبقى البحر بحرا كالبداية

(ولا تظنّنّ) أنّهم إنّما قالوا بعدم انقطاع مراتب الوصول باعتبار التّجلّيات الذّاتيّة لا باعتبار التّجلّيات الصّفاتيّة وأرادوا بالحسن الحسن الذّاتيّ لا الحسن الصّفاتيّ (لأنّا نقول) إنّ التّجلّيات الذّاتيّة.

ليست هي بدون ملاحظة الشّئون والإعتبارات ولا ظهور الحسن الذّاتيّ من غير احتجاب بحجب الصّفات الجماليّة لأنّه لا مجال للقيل والقال في ذلك الموطن بدون توسّط الحجب والاستار من عرف الله كلّ

لسانه والتّجلّي يستدعي نحوا من الظّلّيّة فلا بدّ في ذلك المقام من ملاحظة الشّئون فصارت منازل الوصول ومراتب الحسن داخلة في دائرة الأسماء والشّئونات والحال أنّ انقطاعها متعسّر عندهم والأمر الّذي ظهر لهذا الدّرويش فهو وراء التّجلّيات وغير الظّهورات سواء كان تجلّيا ذاتيّا أو تجلّيا صفاتيّا ووراء الحسن والجمال سواء كان حسنا ذاتيّا أو حسنا صفاتيّا وبالجملة قد نظّمت المطالب العالية والمقاصد السّامية في سلك عبارات محتقرة مختصرة بطريق الإجمال وملأت البحار العديمة النّهاية في كيزان معدودة فلا تكن من القاصرين.

(ولنرجع) إلى أصل الكلام فنقول: إنّه لمّا تيسّر الطّيران ووقعت العروجات بعد حصول جناحي الإسم الظّاهر والباطن علم أنّ هذه التّرقّيات بالأصالة نصيب العنصر النّاريّ والعنصر الهوائيّ والعنصر المائيّ الّتي للملائكة الكرام على نبيّنا وعليهم الصّلاة والسّلام أيضا نصيب منها كما ورد أنّ بعض الملائكة مخلوق من النّار والثّلج، تسبيحه سبحان من جمع بين النّار والثّلج وأريت في الواقعة في أثناء هذا السّير كأنّي ماش على طريق وقد حصلت لي غاية الإعياء من كثرة المشي وصرت ألتمس خشبة أو عصا للاتّكاء رجاء حصول قدرة على المشي بمددها فلم يتيسّر فصرت أتمسّك وأتشبّث بكلّ حشيش متمنّيا تقويته على المشي ولا أجد بدّا من المشي ولمّا سرت مدّة بهذا الحال ظهر فناء بلدة فدخلت البلدة بعد طيّ مسافة ذلك الفناء وأعلمت أنّ تلك البلدة عبارة عن التّعيّن الأوّل الّذي هو جامع لجميع مراتب الأسماء والصّفات والشّئون والإعتبارات. وجامع أيضا لاصول تلك المراتب ولاصول تلك الاصول ومنتهى الإعتبارات الذّاتيّة الّتي تمايزها يعني تمايز بعضها عن بعض مناسب للعلم الحصوليّ فإن وقع السّير بعد ذلك يكون مناسبا للعلم الحضوريّ. (أيّها الولد) إنّ إطلاق العلم الحصوليّ والحضوريّ في تلك الحضرة إنّما هو باعتبار التّمثيل والتّنظير فإنّ الصّفات الّتي وجودها زائد على وجود الذّات تعالت وتقدّست علمها مناسب بالعلم الحصوليّ والإعتبارات الذّاتيّة الّتي لا تتصوّر زيادتها على الذّات أصلا علمها مناسب بالعلم الحضوريّ والّا فليس ثمّة الّا تعلّق العلم بالمعلوم من غير أن يحصل من المعلوم فيه شيء فأفهم. (وهذا) التّعيّن الأوّل الّذي تلك البلدة الجامعة كناية عنه جامع لجميع ولايات الأنبياء الكرام والملائكة العظام عليهم الصّلاة والسّلام ومنتهى الولاية العليا الّتي هي مخصوصة بالملأ الأعلى بالأصالة ولوحظ في هذا المقام أنّ هذا التّعيّن الأوّل هل هو الحقيقة المحمّديّة أو لا ثمّ تبيّن أنّ الحقيقة المحمّديّة هي الّتي ذكرت فيما سبق وإطلاق التّعيّن الأوّل عليها أنّ ذلك المركز ظلّ هذا التّعيّن الأوّل باعتبار جامعيّته للأسماء والصّفات والشّئون والإعتبارات. (والسّير) الواقع فوق ذلك البلد يكون شروعا في الكمالات والنّبوّة. وحصول تلك الكمالات مخصوص بالأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام وناش من مقام النّبوّة ولكمّل اتباع الأنبياء أيضا نصيب من تلك الكمالات بالتّبعيّة والحظّ الوافر من تلك الكمالات

بالأصالة من بين اللّطائف الإنسانيّة للعنصر التّرابيّ. وسائر الأجزاء الإنسانيّة سواء كانت من عالم الأمر أو من عالم الخلق كلّها تابعة في هذا المقام لذلك العنصر التّرابيّ ومشرّفة بهذه الدّولة بتطفّله ولمّا كان هذا العنصر مخصوصا بالبشر كان خواصّ البشر أفضل من خواصّ الملائكة بالضّرورة لأنّه لم يتيسّر لاحد ما تيسّر لهذا العنصر وبعد الدّنوّ يظهر في هذا المقام حقيقة التّدلّي وهنا ينكشف سرّ قاب قوسين أو أدنى.

ويرى في هذا السّير أنّ كمالات جميع الولايات سواء كانت صغرى أو كبرى أو عليا كلّها ظلال كمالات مقام النّبوّة وانّها أشباح وأمثال لحقيقة هذه الكمالات ويلوح فيه أنّ النّقطة الّتي تقطع في ضمن هذا السّير أزيد من جميع كمالات الولاية فينبغي أن يتأمّل أنّه ماذا يكون على هذا القياس حكم الكمالات المتقدّمة بالنّسبة إلى جميع هذه الكمالات وللقطرة نسبة إلى البحر المحيط وهذه النّسبة مفقودة هاهنا الّا أنّي أقول إنّ نسبة الولاية إلى مقام النّبوّة كنسبة المتناهي إلى غير المتناهي سبحان الله وقد يقول الجاهل بهذا السّرّ: إنّ الولاية أفضل من النّبوّة ويقول الآخر في توجيه هذه العبارة غافلا عن هذه المعاملة: إنّ ولاية النّبيّ أفضل من نبوّته (كبرت كلمة تخرج من أفواههم) ولمّا أتممت هذا السّير أيضا بعناية الله سبحانه وبركة حبيبة عليه وعلى آله الصّلاة والسّلام شوهد لي أنّه لو زدت فرضا خطوة واحدة في السّير لاقع في عدم محض إذ ليس وراءه الّا العدم المحض. (أيّها الولد) إيّاك والوقوع في التّوهّم من هذه المعاملة إنّ العنقاء قد وقع في الشّرك والسّيمرغ قد تعلّق في الشّبكة، (شعر)

هيهات عنقاء أن يصطاده أحد ... فاترك عناك وكن من ذاك في دعة

وهو سبحانه وراء الوراء ثمّ وراء الوراء. (شعر)

وذا إيوان الإستعلاء عال ... فإيّاكم وطمعا في الوصال

وهذه الوراثيّة ليست باعتبار وجود الحجب لأنّ الحجب صارت مرتفعة بالكلّيّة بل باعتبار ثبوت العظمة والكبرياء بالمانعة للإدراك المنافية للوجدان فهو سبحانه أقرب في الوجود وأبعد عن الوجدان نعم قد يكون بعض الكمال من المرادين فيعطون محلّا من سرادقات العظمة والكبرياء ويجعلون من محارم خيمة الجلال بتطفّل الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام فيعامل معهم ما عومل معهم.

(أيّها الولد) إنّ هذه المعاملة مخصوصة بالهيئة الوحدانيّة الإنسانيّة النّاشئة من مجموع عالم الخلق وعالم الأمر ومع ذلك الرّئيس في هذا الموطن هو العنصر التّرابيّ وإنّما قلت ليس وراءه الّا العدم المحض لأنّ بعد تمام مراتب الوجود الخارجيّ والوجود العلميّ ليس الّا حصول العدم الّذي نقيضه وذات الله سبحانه وراء هذا الوجود والعدم وكما أنّه لا سبيل إليها للعدم كذلك لا مجال فيها للوجود لأنّ الوجود الّذي قام العدم بنقاضته كيف يليق بحضرته جلّ سلطانه فلئن أطلقنا الوجود في هذه المرتبة لضيق العبارة

يراد به وجود (١) لا يكون للعدم (٢) مجال مناقضته وما كتب هذا الفقير في بعض مكاتيبه أنّ حقيقة الحقّ سبحانه وجود محض فهو من عدم الإطّلاع على حقيقة هذه المعاملة ومن هذا القبيل بعض المعارف الّتي حرّرتها في التّوحيد الوجوديّ وغيره وسرّه عدم الإطّلاع ولمّا كنت واقفا ومتنبّها على حقيقة المعاملة كنت متندّما على ما كتبته أو قلته في الإبتداء والوسط وكنت مستغفرا منه أستغفر الله وأتوب إلى الله من جميع ما كره الله سبحانه وتعالى.

ولاح من هذا البيان أنّ كمالات النّبوّة في مراتب الصّعود وأنّ الوجه في عروجات النّبوّة إلى الحقّ سبحانه لا كما زعمه الكثيرون من أنّ الوجه في الولاية إلى الحقّ سبحانه وتعالى وفي النّبوّة إلى الخلق وأنّ الولاية في مراتب العروج والنّبوّة في مدارج النّزول ومن هنا توهّموا أنّ الولاية أفضل من النّبوّة نعم إنّ لكلّ من الولاية والنّبوّة عروجا وهبوطا وفي العروج الوجه إلى الحقّ في كليهما وفي الهبوط إلى الخلق غاية ما في الباب أنّ الوجه في مرتبة هبوط النّبوّة إلى الخلق بالكلّيّة بخلاف هبوط الولاية فإنّ الوجه فيها ليس إلى الخلق بالكلّيّة بل باطنه بالحقّ وظاهره بالخلق وسرّه أنّ صاحب الولاية نازل قبل اتمام مقامات العروج فلا جرم يكون النّظر إلى الفوق منازعه في جميع الأوقات ومانعه من التّوجّه بكلّيّته إلى الخلق بخلاف صاحب النّبوّة فإنّه هبط بعد اتمام مقامات العروج ولهذا يكون متوجّها بكلّيّته إلى دعوة الخلق إلى الحقّ جلّ وعلا فافهم فإنّ هذه المعرفة الشّريفة وأمثالها ممّا لم يتكلّم بها أحد وممّا ينبغي أن يعلم:

أنّ العنصر التّرابيّ كما أنّه يتفوّق على الكلّ في مراتب العروج كذلك ينزل في منازل الهبوط أسفل من الكلّ وكيف لا فإنّ مكانه الطّبيعيّ أسفل من الكلّ فإذا ثبت أنّه ينزل أسفل من الكلّ تكون دعوة صاحبه أتمّ بالضّرورة وإفادته أكمل.

(اعلم) أيّها الولد أنّ ابتداء السّير في الطّريقة النّقشبنديّة لمّا كان من القلب الّذي هو من عالم الأمر افتتحنا الكلام بعالم الأمر بخلاف طرق سائر المشائخ الكرام فإنّهم يشرعون أوّلا في تزكية النّفس وتطهير القالب ثمّ يشرعون بعد ذلك في عالم الأمر ويعرجون فيها إلى ما شاء الله ولهذا اندرجت في بداية هؤلاء الكبراء نهاية من سواهم وصار هذا الطّريق أقرب الطّرق لأنّ حصول التّزكية والتّطهير ميسّر في ضمن هذا السّير على أحسن الوجوه فقصرت المسافة بذلك فلا جرم اعتقد هؤلاء الأكابر سير عالم الخلق قصدا عبثا

__________

(١) قال الشيخ صدر الدين القونوى في اوائل مفتاح الغيب بعد ان قال ان حقيقة الحق هو الوجود المحض الخ وقولنا وجود يعنى في قوله وانه من هذا الوجه الحق وانه من هذا الوجه لا كثرة فيه ولا تركيب الخ بل وجود بحت هو للتفهيم لا ان ذلك اسم حقيقى له انتهى بغاية الاختصار. (القزاني رحمة الله عليه)

(٢) وقال فيه أيضا ان الحق هو الوجود المحض وانه وحدة حقيقية لا تتعقل في مقابلة الكثرة وقال في شرحه لانه لو كانت في مقابلتها كثرة لتقوف تعقلها وتصورها على تعقل تلك الكثرة وتصورها اهـ. وهذا كقولنا بعينه انه تعالى واحد لا من حيث العدد يعنى في مقابل الاثنين فان كل شخص واحد بهذا المعنى كما لا يخفى (القزاني رحمة اله عليه)

وعدّوه تعطيلا لا بل تيقّنوا أنّه مضرّ ومانع عن الوصول إلى المطلب وذلك لأنّ سالكي الطّريق بقدم التّزكية والرّياضات الشّاقّة والمجاهدات الشّديدة إذا شرعوا في سير عالم الأمر بعد قطع بوادي صورة عالم الخلق ووقعوا في الإنجذاب القلبيّ والإلتذاذ الرّوحيّ كثيرا ما يقنعون بهذا الإنجذاب ويكتفون بهذا الإلتذاذ ومظنّة لا مكانيّة عالم الأمر تكون ممدّة لهم في تلك المعاملة وشائبة لا مثليّة هذا العالم تمنعهم عن اللّامثليّ الحقيقيّ حتّى قال واحد من السّالكين في هذا المقام: عبدت الرّوح ثلاثين سنة معتقدا بأنّه الحقّ سبحانه وتعالى. وقال آخر: إنّ سرّ الإستواء وظهور تنزيه ما فوق العرش من المعارف الغامضة وقد علم من البيان السّابق أنّ ذلك التّنزيه داخل في دائرة الإمكان بل هو تشبيه في الحقيقة في صورة التّنزيه بخلاف أكابر هذه الطّريقة العليا فإنّهم يشرعون من مقام الجذبة ويترقّون بمدد الإلتذاذ وهذا الإنجذاب والإلتذاذ في حقّهم بمثابة الرّياضات والمجاهدات في حقّ غيرهم فما هو مانع عن الوصول لغيرهم ممدّ ومعاون لهؤلاء الأكابر وهم يتصوّرون لا مكانيّة عالم الأمر عين المكانيّة فيتوجّهون منه إلى اللّامكانيّ الحقيقيّ ويعتقدون لا مثليّة ذلك العالم عين المثليّة ويرتقون منه إلى اللّا مثليّ الحقيقيّ فلا جرم أنّهم لا يفتنون بغرور الوجد والحال ولا يغبنون بجوز هذا الطّريق وموز الأشباه والأمثال كالأطفال ولا يباهون بترّهات الصّوفيّة ولا يفتخرون بشطحيّات المشائخ بل هم متوجّهون إلى الاحديّة الصّرفة لا يبغون من الإسم والصّفة غير الذّات المقدّسة.

(وينبغي) أن يعلم أنّ هذا العروج الّذي مرّ ذكره مخصوص بمحمّديّ المشرب التّامّ الإستعداد له نصيب كامل من كمالات الجواهر الخمس الّتي في عالم الأمر صغيره وكبيره وكذلك له حظّ وافر من أصول هذه الخمس أعني ظلال الأسماء الواجبيّة، وكذلك من أصول هذه الظّلال أعني مقام الأسماء والصّفات (وإنّما) قلت التّامّ الإستعداد لأنّه كثيرا ما يكون في الظّاهر محمّديّ المشرب ويكون له نصيب من كمالات الأخفى الّذي هو نهاية مراتب عالم الأمر ولكنّه لا يتمّ معاملة الأخفى ولا ينتهى إلى نقطته الأخيرة بل يبقى في ابتدائه أو وسطه فإذا كان له قصور في الأخفى يكون له قصور في أصوله أيضا بمقداره فلا يتمكّن من إتمام معاملته وكذلك الحكم في الأربع الباقية من عالم الأمر حيث انّ تامّيّة الاستعداد في كلّ مرتبة مربوطة بالوصول إلى النّقطة الأخيرة من تلك المرتبة، والوقوف في الإبتداء والوسط ينبئ عن النّقصان ولو كان القصور في الوصول إلى النّهاية مقدار شعرة.

(شعر)

وما قلّ هجران الحبيب وإن غدا ... قليلا ونصف الشّعر في العين ضائر

ويسري هذا القصور إلى الاصول وأصول الاصول ويكون مانعا عن الوصول إلى المطلب.

وإنّما قلت إنّ هذا العروج مخصوص بمحمّديّ المشرب لأنّ غير محمّديّ المشرب منهم من يكون كماله مقصورا على الدّرجة الاولى من درجات الولاية، والمراد بالدّرجة الاولى مرتبة القلب ومنهم

من يكون كماله مقصورا على الدّرجة الثّانية من درجات الولاية الّتي هي مقام الرّوح ومنهم من تكون نهاية عروج كماله إلى الدّرجة الثّالثة أعني مقام السّرّ. ومنهم من تكون نهاية عروج كماله إلى الدّرجة الرّابعة أعني مقام الخفيّ.

والدّرجة الاولى لها مناسبة بتجلّي صفات الأفعال وللدّرجة الثّانية بتجلّي الصّفات الثّبوتيّة وللدّرجة الثّالثة بتجلّي الشّئون والإعتبارات الذّاتيّة وللدّرجة الرّابعة بالصّفات السّلبيّة الّتي هي مقام التّنزيه والتّقديس.

(وكلّ) درجة من درجات الولاية تحت قدم نبيّ من الأنبياء أولي العزم فالدّرجة الاولى منها تحت قدم آدم على نبيّنا وعليه الصّلاة والسّلام وربّه صفة التّكوين الّتي هي منشأ صدور الأفعال (والدّرجة الثّانية) تحت قدم إبراهيم ويشاركه في هذا المقام نوح عليهما السّلام وربّهما صفة العلم الّتي هي أجمع الصّفات الذّاتيّة (والدّرجة الثّالثة) تحت قدم موسى عليه السّلام وربّه من مقامات الشّئونات شأن الكلام (والدّرجة الرّابعة) تحت قدم عيسى عليه السّلام وربّه من الصّفات السّلبيّة لا من الثّبوتيّة فإنّها موطن التّقديس والتّنزيه وأكثر الملائكة الكرام يشاركون عيسى على نبيّنا وعليه السّلام في هذا المقام والشّأن العظيم حاصل لهم في هذا المقام (والدّرجة الخامسة) تحت قدم خاتم الرّسل عليه وعليهم الصّلاة والسّلام وربّه صلّى الله عليه وسلّم ربّ الأرباب الّذي هو جامع جميع الصّفات والشّئونات والتّقديسات والتّنزيهات ومركز دائرة هذه الكمالات ويناسب التّعبير عن هذا الشّأن الجامع في مرتبة الصّفات والشّئونات بشأن العلم لكون هذا الشّأن عظيم الشّأن جامعا لجميع الكمالات وبهذه المناسبة صارت ملّته صلّى الله عليه وسلّم ملّة إبراهيم عليه السّلام وقبلته قبلته. (ينبغي) أن يعلم أنّ تفاضل الأقدام في الولاية ليس باعتبار تقدّم الدّرجات وتأخّرها حتّى يكون صاحب الأخفى أفضل من غيره وعلى هذا القياس بل باعتبار القرب من الأصل والبعد عنه وطىّ منازل درجات الظّلال كثرة وقلّة فعلى هذا يجوز أن يكون صاحب القلب باعتبار القرب من الأصل أفضل من صاحب الأخفى الّذي لم يحصل له القرب من الاصل كيف وولاية النّبيّ الّتي في الدّرجة الأخيرة من درجات الولاية أفضل قطعا من ولاية الوليّ الّتي في الدّرجة الفوقانيّة.

(ولا يخفى) أنّ سلوك اللّطائف بالتّرتيب المذكور أعني الإنتقال من القلب إلى الرّوح ومن الرّوح إلى السّرّ ومن السّرّ إلى الخفيّ ومن الخفيّ إلى الأخفى مخصوص أيضا بمحمّديّ المشرب فإنّه يتمّ سير هذه الخمس من عالم الأمر بالتّرتيب ثمّ يسير في أصولها ويتمّ السّلوك بعد السّير في أصول الاصول مراعيا لهذا التّرتيب وهذا الطّريق بالتّرتيب المذكور طريق سلطانيّ للوصول وصراط مستقيم لمتوجّهي الاحديّة بخلاف ولايات أخر وكان فيها نقبت نقبة من كلّ درجة إلى أن يصل إلى المطلوب مثلا نقبت نقبة من مقام القلب إلى أن تصل إلى صفات الأفعال الّتي هي أصل أصله وكذلك نقبت نقبة من مقام الرّوح إلى الصّفات الذّاتيّة وعلى هذا القياس ولا شكّ أنّ أفعاله تعالى وصفاته ليست منفكّة عن ذاته تعالى فإنّ كلّ الإنفكاك فهو في الظّلال ففي ذلك الموطن للواصلين إلى الأفعال والصّفات نصيب من تجلّيات الذّات

المنزّهة عن المثال تعالت وتقدّست أيضا كما تتيسّر هذه الدّولة لصاحب الأخفى بعد إتمام الأمر وإن كان التّفاوت باعتبار العلوّ والسّفل باقيا. وادّعاء صاحب القلب المساواة لصاحب الأخفى غير موجّه.

(ولا تغلطنّ) في هذا المقام واعلم أنّ هذا التّفاوت إنّما هو متصوّر فيما بين الأولياء لأنّ صاحب الولاية القلبيّة أدون من صاحب الولاية الأخفويّة بعد وصول كليهما إلى مرتبة الكمال وأمّا فيما بين الأولياء والأنبياء فمفقود لأنّ ولاية نبيّ ولو كانت ناشئة من مقام القلب أفضل من ولاية وليّ ولو كانت ناشئة من مقام الأخفى ولو كان ذلك ممّن أتمّ الأمر وسرّ ذلك أنّ صاحب الولاية تحت قدم نبيّ تلك الولاية دائما أيّ ولاية كانت. قال الله تعالى (ولَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ)

نعم إنّ هذا التّفاوت فيما بين الأنبياء بعضهم ببعض متصوّر وصاحب العليا منهم أفضل من صاحب السّفلى ولكنّ هذا التّفاوت فيما بين الأنبياء عليهم السّلام أيضا إلى آخر دوائر كمالات عالم الأمر وليس التّفاضل بعده مربوطا بالعلوّ والسّفل بل يمكن أن يكون صاحب السّفل في ذلك الموطن أفضل من صاحب العلوّ كما شاهدنا التّفاوت في ذلك الموطن بين موسى وعيسى على نبيّنا وعليهما الصّلاة والسّلام فإنّ موسى جسيم ثمّة ذو شأن عظيم ليس لعيسى فيه تلك الجسامة والشّأن فعلمنا أنّ التّفاوت في ذلك الموطن بأمر آخر وراء ذلك العلوّ والسّفل وسأبيّنه بعد مفصّلا إن شاء الله تعالى بحسن توفيقه وكمال منّه وكرمه تعالى وكذلك وجدنا فيه التّفاوت بين خليل الرّحمن وبين سائر الأنبياء غير خاتم الرّسل عليهم الصّلاة والسّلام في الكمالات الّتي لها تعلّق بحقيقة الكعبة الرّبّانيّة الّتي هي فوق جميع الحقائق البشريّة والملكيّة فإنّ للخليل ثمّة شأنا عظيما ومرتبة رفيعة لم يتيسّر لأحد ذلك الشّأن والرّتبة. وفي ذلك المقام العالي المناسب لمقام ظهور سرادقات العظمة والكبرياء كمالات مركز ذلك المقام الّذي هو مقام الإجمال نصيب خاتم الرّسل والباقي المفصّل كلّه مسلّم للخليل وكلّ من سواه من الأنبياء وكمّل الأولياء طفيليّه هناك وكان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم طلب تفصيل ذلك الإجمال حيث سأل صلاة وبركة مشابهتين بصلاة إبراهيم على نبيّنا وعليه الصّلاة والسّلام وبركته (وقد ظهر) لهذا الفقير أنّ ذلك التّفصيل قد تيسّر له أيضا بعد مضيّ ألف سنة واستجيب مسئوله والحمد لله على ذلك وعلى جميع نعمائه وكمالات ذلك المقام العالي فوق كمالات الولاية وفوق كمالات النّبوّة والرّسالة وكيف لا تكون فوقها فإنّ تلك الحقيقة مسجود إليها للأنبياء الكرام والملائكة العظام عليهم الصّلاة والسّلام وما كتبه هذا الفقير في رسالة المبدأ والمعاد أنّ الحقيقة المحمّديّة عرجت من مقامها وانتهت إلى حقيقة الكعبة الّتي فوقها واتّحدت بها وعرض للحقيقة المحمّديّة اسم الحقيقة الأحمديّة كانت تلك الحقيقة أعني حقيقة الكعبة ظلّا من ظلال هذه الحقيقة قد ظنّ قبل ظهور هذه الحقيقة حقيقة ويقع هذا الإشتباه كثيرا ويظنّ الظّلّ قبل ظهور الأصل أصلا ويسمّى حقيقة ومن ههنا يظهر المقام الواحد مرّات وسرّه أنّ ظهورات ذلك المقام

باعتبار ظلال ذلك المقام وحقيقة ذلك المقام في الحقيقة هي ما ظهرت في المرتبة الأخيرة. فإن قيل: من أين يعلم أنّ هذه المرتبة هي المرتبة الأخيرة من مراتب ظهوراته حتّى يعلم أنّها هي الحقيقة. قلت: إنّ حصول العلم بظلّيّة الظّهورات السّابقة شاهد عدل لآخريّة هذا الظّهور فإنّ هذا العلم لم يكن حاصلا وقت الظّهورات السّابقة بل كان يرى كلّ ظهور حقيقة وما كان يظنّ شيء منها ظلّا أصلا وإن لم يعلم أنّ اختلاف هذه الحقائق من أين جاء فافهم.

(أيّها الولد)، قد علم من المعارف السّابقة أنّ الكمالات المتعلّقة بعالم الأمر مقامات ومعارج للكمالات المتعلّقة بعالم الخلق والكمالات الاولى ليست بخالية عن الظّلّيّة ومخصوصة بمقامات الولاية والكمالات الثّانية مبرّأة عن شائبة الظّلّيّة المناسبة لظهورات هذه النّشأة الدّنيويّة وفيها نصيب كامل من مقامات النّبوّة فتكون الطّريقة والحقيقة اللّتان مربوطان بالولاية خادمتين للشّريعة الّتي هي ناشئة من مقام النّبوّة وتكون الولاية سلّما لعروج النّبوّة

(فعلم) من هذا البيان أنّ السّير الّذي اختاره الأكابر النّقشبنديّة قدّس الله أسرارهم العليّة الّذي ابتدؤه من عالم الأمر أولى وأنسب لأنّ التّرقّي ينبغي أن يكون من الأدنى الّذي هو عالم الأمر إلى الأعلى الّذي هو عالم الخلق لا من الأعلى إلى الأدنى وما العلاج فإنّ هذا المعمّي لم ينكشف لكلّ أحد بل نظر الأكثرون إلى الصّورة وظنّوا عالم الخلق أدنى فشرعوا في الإرتقاء من الأدنى إلى الأعلى الصّوريّين ولم يدروا أنّ حقيقة الحال على عكس هذا المنوال وأنّ ما ظنّوه أدنى في الحقيقة هو الأعلى وما زعموه أعلى هو أدنى نعم إنّ النّقطة الأخيرة الّتي هي عالم الخلق وقعت قريبة من النّقطة الاولى الّتي هي أصل الأصل وهذا القرب لم يتيسّر لنقطة أخرى. (ع) أحقّ الخلق بالكرم العصاة * وهذه المشاهدة مقتبسة من مشكاة النّبوّة وأرباب الولاية قليلو النّصيب من هذه المعرفة وشروع الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام كان من عالم الأمر وانّهم وردوا من الحقيقة إلى الشّريعة، غاية ما في الباب أنّ في كمّل الأولياء الّذين وقع سيرهم موافقا لسير الأنبياء في الإبتداء صورة الشّريعة وفي الوسط الطّريقة والحقيقة المتعلّقتان بالولاية المناسبتان لعالم الأمر وفي النّهاية حقيقة الشّريعة الّتي هي ثمرة النّبوّة. (فتقرّر) من هذا أنّ حصول الطّريقة مقدّم على حصول حقيقة الشّريعة فكانت بداية الأولياء الكاملين وبداية الأنبياء المرسلين من الحقيقة ونهاية كلّ منهما إلى الشّريعة فلا معنى لقول من قال: إنّ بداية الأولياء نهاية الأنبياء وأراد ببداية الأولياء ونهاية الأنبياء الشّريعة الغرّاء. نعم إنّ هذا المسكين لمّا لم يطّلع على حقيقة الحال تكلّم بهذا الشّطح ولم يبال. (وهذه) المعارف وإن لم يتكلّم بها أحد بل ذهب الأكثرون إلى عكسها واستبعدوها عن الإدراك ولكن إذا لاحظ منصف جانب عظمة الأنبياء عليهم السّلام واستولت عليه عظمة الشّريعة يحتمل أن يقبل هذه المعارف الغامضة ويجعل هذا القبول وسيلة إلى زيادة إيمانه (أيّها الولد) إنّ الأنبياء عليهم الصّلاة

والسّلام اقتصروا دعوتهم على عالم الخلق بني الإسلام (١) على خمس, الحديث صريح في هذا ولمّا كانت مناسبة القلب بعالم الخلق أزيد دعوة أيضا بالتّصديق ولم يتكلّموا فيما وراء القلب بل جعلوه كالمطروح في الطّريق ولم يعدّوه من المقاصد نعم ينبغي أن يكون كذلك فإنّ تنعّمات الجنّة وآلام النّار ودولة الرّؤية والحرمان عنها كلّها مربوطة بعالم الخلق لا تعلّق لشيء منها بعالم الأمر أصلا. وأيضا إنّ إتيان العمل الفرض والواجب والسّنّة متعلّق بالقالب الّذي هو من عالم الخلق وما هو نصيب عالم الأمر من الأعمال هو النّافلة والقرب الّذي هو ثمرة أداء الأعمال إنّما يكون على مقدار الأعمال الّتي هو ثمرتها فلا جرم يكون القرب الّذي هو ثمرة أداء الفرائض نصيب عالم الخلق، والقرب الّذي هو ثمرة أداء النّوافل نصيب عالم الامر ولا شكّ أنّه لا اعتداد بالنّفل ولا اعتبار له بالقياس على الفرض وليت له حكم القطرة بالنّسبة إلى البحر المحيط بل هذه النّسبة للنّفل بالقياس على السّنّة وإن كانت نسبة ما بين السّنّة والفرض كنسبة القطرة إلى البحر فينبغي أن يقيس تفاوت ما بين القربين على هذا وأن يعلم مزيّة عالم الخلق على عالم الأمر من هذا التّفاوت وأكثر الخلائق لمّا لم يكن لهم نصيب من هذا المعنى صاروا يخرّبون الفرائض ويجتهدون في ترويج النّوافل والصّوفيّة النّاقصون يعتقدون الذّكر والفكر من أهمّ المهمّات ويتساهلون في إتيان الفرائض والسّنن ويختارون الأربعينات تاركين للجمع والجماعات ولا يعلمون أنّ أداء فرض واحد مع الجماعة أفضل من ألوف من أربعيناتهم. نعم إنّ الذّكر والفكر مع مراعاة الآداب الشّرعيّة أفضل وأهمّ والعلماء القاصرون أيضا يسعون في ترويج النّوافل ويخرّبون الفرائض ويضيّعونها ومن ذلك صلاة العاشوراء مثلا ولم يصحّ (٢) عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه كان يصلّيها مع الجماعة والجمعيّة التّامّة والحال أنّهم يعلمون أنّ الرّوايات الفقهيّة ناطقة بكراهة الجماعة في النّافلة وهم يتكاسلون في أداء الفرائض على حدّ قلّما يوجد منهم من يؤدّي الفرض في وقته المستحبّ بل ربّما يفوّتونه عن أصل وقته ولا يتقيّدون بالجماعة كثير تقيّد ويقنعون في الجماعة بشخص أو بشخصين بل ربّما يكتفون بالإنفراد فإذا كانت معاملة مقتدي أهل الإسلام هذه فما تقول في غيرهم من العوامّ ومن شؤم هذه الأفعال وسوء الأعمال ظهر الضّعف في الإسلام ومن ظلمة هذه المعاملة وكدورة الأحوال ظهرت البدعة بين الأنام،

(شعر) بثثت لديكم من همومي وخفت أن ... تملّوا والّا فالكلام كثير.

وأيضا إنّ أداء النّوافل إنّما يعطي قرب " ظلّ من الظّلال وأداء الفرائض يعطي قرب الأصل الّذي ليس فيه شائبة الظّلّيّة الّا أنّ النّفل إذا أدّي لاجل تكميل الفرائض فحينئذ يكون ذلك أيضا ممدّا ومعاونا لحصول

__________

(١) رواه الشيخان عن ابن عمر رضى الله عنهما.

(٢) (قوله ولم يصح عن النبى صلى الله عليه وسلم الخ) قال ابن رجب الحنبلى روى ابو موسى المدنى من حديث ابى موسى مرفوعا هذا يوم تاب الله فيه على قوم فاجعلوه صلاة وصوما يعنى عاشوراء وقال حسن غريب وليس كمال اهـ. إلى ليس بحسن قلت قد ذكروا في صلاة يوم عاشوراء غير ذلك وهو باطل أيضا وكذلك صلوات ليلة البراءة والرغائب وسائر ليالى رجب كلها باطلة لا اصل لها كما حققه المحققون.

قرب الأصل وملحقا بالفرائض فيكون أداء الفرائض بالضّرورة مناسبا لعالم الخلق الّذي هو متوجّه وناظر إلى الأصل وأداء النّوافل مناسبا لعالم الأمر الّذي هو ناظر إلى الظّلّ (١) والفرائض وإن كانت كلّها مورّثة للقرب ولكنّ أفضلها وأكملها الصّلاة ولعلّك سمعت أنّ الصّلاة معراج المؤمن وأقرب (٢) ما يكون العبد من الرّبّ في الصّلاة والوقت الخاصّ الّذي كان للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم حيث عبّر عنه بقوله " لي مع الله وقت» الحديث هو عند الفقير في الصّلاة, الصّلاة هي المكفّرات للسّيّئات والصّلاة هي الّتي تنهي عن الفحشاء والمنكرات والصّلاة هي الّتي كان النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام يطلب راحته فيها حيث كان يقول أرحني (٣) يا بلال والصّلاة (٤) هي الّتي عماد الدّين والصّلاة هي الّتي صارت فارقة بين الإسلام والكفر (ولنرجع) إلى أصل الكلام ولنقل من مزيّة عالم الخلق على عالم الأمر اعلم أنّ عالم الأمر قد نال هنا يعني في النّشأة الدّنيا حظّا وافرا وحصل المشاهدة وستقع المعاملة غدا في الجنّة على عالم الخلق وتتيسّر له رؤية بلا كيف ومع ذلك أنّ متعلّق المشاهدة ظلّ في ظلال الوجوب. والمرئيّ في الآخرة واجب الوجود فالفرق الّذي بين المشاهدة والرّؤية والظّلّيّة والأصالة هو فرق ما بين عالم الخلق وعالم الأمر (واعلم) أنّ المشاهدة ثمرة الولاية والرّؤية ثمرة النّبوّة وتتيسّر لعامّة أتباع الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام ومن ههنا يعرف التّفاوت بين الولاية والنّبوّة أيضا (تنبيه) كلّ عارف مناسبته لعالم الأمر أزيد يكون قدمه في كمالات الولاية أزيد والّذي مناسبته لعالم الخلق أكثر فقدمه في كمالات النّبوّة أوفر ومن ههنا كان لعيسى عليه السّلام قدم أزيد في الولاية ولموسى عليه السّلام قدم أزيد في النّبوّة فإنّ جانب الأمر غالب في عيسى عليه السّلام ولهذا صار ملحقا بالرّوحانيّين وجانب الخلق غالب في موسى عليه السّلام ولهذا لم يكتف بالمشاهدة بل طلب رؤية بصر. وهذا هو سبب تفاوت اقدام الأنبياء عليهم السّلام في كمالات النّبوّة الّذي كنت وعدت بيانه فيما تقدّم لا علوّ بعض اللّطائف وسفله الّذي هو معتبر في تفاوت كمالات الولاية والله سبحانه الملهم للصّواب.

(أيّها الولد) إنّ تعلّق علوم النّبوّة الّتي هي الشّرائع والأحكام بالقالب لمّا كان أزيد وكانت مناسبة الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام لعالم الخلق أكثر وأوفر ظنّوا من ذلك أنّ النّبوّة عبارة عن النّزول إلى دعوة

__________

(١) قيل لم يوجد له اصل. (القزاني رحمة الله عليه)

(٢) (قوله اقرب ما يكون الخ) اخرجه مسلم وابو داود والنسائى عن ابى هريرة رض بلفظ اقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فاكثروا الدعاء وابن النجار عن عائشة والطبرانى والبزار عن ابن مسعود بمعناه (القزاني رحمة الله عليه)

(٣) (قوله ارحنى يا بلال) الدارقطنى في العلل من حديث بلال ولابى داود ونحوه عن رجل من الصحابة لم يسم باسناد صحيح ذكره العراقى في تخريج احاديث الاحياء (القزاني رحمة الله عليه)

(٤) وكأنه اشارة إلى ما دار على الالسنة من قول الفارق بين المؤمن والكافر هو الصلاة ولم ار من خرجه وقد ورد ما معناه من قوله عليه السلام من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر اخرجه البزار من حديث ابى الدرداء واخرجه الطبرانى من حديث انس بزيادة لفظ جهارا في آخره قال الهيتمى رجاله موثوقون اهـ. من شرح الاحياء ملخصا (القزاني رحمة الله عليه)

الخلق بعد العروج إلى مقامات القرب الّتي تتعلّق بالولاية ولم يعلموا أنّ نهاية العروج وغاية القرب في هذا الموطن والقرب الحاصل فيما سبق كان ظلّا من ظلال هذا القرب الّذي يتصوّر بصورة البعد:

والعروج الّذي تيسّر أوّلا كان عكسا من عكوس هذا العروج الّذي يرى في الظّاهر نزولا ألا ترى أنّ مركز الدّائرة أبعد النّقطة بالنّسبة إلى محيط الدّائرة والحال أنّه لا نقطة في الحقيقة أقرب إلى المحيط من نقطة المركز لأنّ المحيط تفصيل تلك النّقطة الإجماليّة وهذه النّسبة لم تتيسّر لنقطة أخرى والعوامّ الّذين اقتصر نظرهم على الصّورة لا يقدرون على وجدان هذا القرب وإدراكه فيحكمون بأبعديّة تلك النّقطة ويزعمون الحكم بأقربيّتها جهلا مركّبا ويحمّقون الحاكم بهذا الحكم ويجهّلونه والله المستعان على ما يصفون. ينبغي أن يعلم أنّ المطمئنّة تعرج عن مقامها بعد حصول شرح الصّدر الّذي هو من لوازم كمالات الولاية الكبرى وترتقي إلى تخت الصّدر ويحصل لها هناك التّمكين والسّلطنة وتستولي على ممالك القلب وتخت الصّدر هذا في الحقيقة فوق جميع مقامات عروج مرتبة الولاية الكبرى وينفذ نظر الصّاعد إلى هذا التّخت إلى أبطن البطون ويسري إلى غيب الغيب نعم إنّ الشّخص إذا صعد إلى أرفع الأمكنة ينفذ بصره إلى أبعد الأبعاد وبعد تمكين هذه المطمئنّة يخرج العقل أيضا من مقامه ويلحق بها وينضمّ إليها ويعرض له حينئذ اسم عقل المعاد وتتوجّه كلاهما بالإتّفاق بل بالاتّحاد إلى شغلهما.

(أيّها الولد) إنّ هذه المطمئنّة لا يبقى فيها إمكان المخالفة ومجال الطّغيان بل هي متوجّهة إلى المطلوب بكلّيّتها ومشغوفة بالمقصود بتماميّتها لا همّة لها غير تحصيل رضا ربّها ولا مطلوب لها سوي طاعته وعبادته تعالى سبحان الله. إنّ الامّارة الّتي كانت أوّلا شرّ جميع الخلائق صارت بعد الإطمئنان وحصول رضاء حضرة الرّحمن رئيس لطائف عالم الأمر ورأس كافّة الأقران نعم قد قال المخبر الصّادق عليه الصّلاة والسّلام «خياركم (١) في الجاهليّة خياركم في الإسلام إذا فقهوا».

فإن وقعت بعد ذلك صورة الخلاف والبغي فمنشؤها اختلاف طبائع العناصر الأربعة الّتي هى أجزاء القالب فإن كانت قوّة غضبيّة فناشئة من هناك وإن كانت شهويّة فهي أيضا ثائرة من هناك وان حرصا وشرها فقائمان من هناك وان خسّة ودناءة فمنبعثتان من هناك ألا ترى أنّ سائر الحيوانات ليست فيهنّ هذه النّفس الأمّارة.

ومع ذلك فيهنّ هذه الأوصاف الرّذيلة بالوجه الأتمّ والأكمل فيمكن أن يكون المراد بالجهاد الأكبر حيث قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " الجهاد مع القالب لا الجهاد مع النّفس كما قيل لأنّ النّفس قد بلغت حدّ الإطمئنان وصارت راضية مرضيّة فلا تتصوّر منها صورة المخالفة والبغي حتّى يحتاج إلى الجهاد وصورة الخلاف والبغي من أجزاء القالب عبارة عن إرادة

__________

(١) (قوله خياركم في الجاهلية الحديث) رواه الشيخان عن ابى هريرة رضى الله عنه

تلك الاولى وارتكاب الامور المرخّصة وترك العزيمة لا ارادة ارتكاب المحرّمات وترك الفرائض والواجبات فإنّ هذه الأشياء صارت في حقّها نصيب الأعداء.

(أيّها الولد) إنّ كمالات العناصر الأربعة وإن كانت فوق كمالات المطمئنّة كما مرّ ولكن بواسطة مناسبتها لمقام الولاية وصيرورتها ملحقة بعالم الأمر صاحبة سكر وفي مقام الإستغراق فلا جرم لا يبقى فيها مجال المخالفة وحيث كانت مناسبة العناصر بمقام النّبوّة أزيد كان الصّحو غالبا فيها فبالضّرورة تبقى فيها صورة المخالفة لاجل تحصيل بعض المنافع والفوائد المربوطة بها فافهم. (ينبغي) أن يعلم أنّ منصب النّبوّة كان مختوما بخاتم الرّسل عليه وعلى آله الصّلاة والسّلام ولكن لاتباعه صلّى الله عليه وسلّم نصيب كامل من كمالات ذلك المنصب بالتّبعيّة وهذه الكمالات كانت في طبقة الأصحاب أزيد منها في غيرها وسرت هذه الدّولة أيضا على سبيل القلّة إلى التّابعين وتبع التّابعين ثمّ شرعت بعدهم في الإختفاء والإستتار وانتشرت كمالات الولاية الظّلّيّة وغلبت وشاعت ولكنّ المرجوّ أن تتجدّد هذه الدّولة المستترة بعد مضيّ الألف ويحصل لها الغلبة والشّيوع وأن تظهر الكمالات الأصليّة وتستتر الظّلّيّة وأن يكون المهديّ عليه الرّضوان مروّج هذه النّسبة العليّة. أيّها الولد، إنّ التّابع الكامل للنّبيّ عليه وعلى آله الصّلاة والسّلام إذا أتمّ كمالات مقام النّبوّة بالتّبعيّة فإن كان من أهل المناصب يشرّف بمنصب الإمامة وإذا أتمّ كمالات الولاية الكبرى فإن كان من أهل المنصب يشرّف بمنصب الخلافة والمناسب لمنصب الإمامة في مقام الكمالات الظّلّيّة منصب قطب الإرشاد والمناسب لمنصب الخلافة منصب قطب المدار وكأنّ هذين المقامين التّحتانيّين ظلّ ذينك المقامين الفوقانيّين والغوث عند الشّيخ محيي الدّين بن عربيّ قدّس سرّه هو عين قطب المدار وليست الغوثيّة عنده منصبا على حدة وما هو معتقد الفقير أنّ الغوث غير قطب المدار والقطب يستمدّ منه في بعض الامور وله دخل أيضا في نصب مناصب الأبدال ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

تذييل: إنّ العلوم والمعارف المناسبة لمقام النّبوّة وولايتها شرائع الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام ولمّا كان في النّبوّة تفاوت أقدام الأنبياء ظهر الإختلاف أيضا في الشّرائع بمقدار ذلك التّفاوت والمعارف المناسبة لمقام ولاية الأولياء شطحيّات المشائخ والعلوم المخبرة عن التّوحيد والإتّحاد المنبئة عن الإحاطة والسّريان المورّثة لعلامة القرب والمعيّة المشعرة بالمرآتيّة والظّلّيّة المثبتة للشّهود والمشاهدة وبالجملة انّ معارف الأنبياء كتاب وسنّة ومعارف الأولياء فصوص وفتوحات مكّيّة. (ع) وقس من حال بستاني ربيعي * ولاية الأولياء تطلب قرب الحقّ وولاية الأنبياء تبدي أقربيّته تعالى. ولاية الأولياء تدلّ على الشّهود وولاية الأنبياء تثبت النّسبة المجهولة الكيفيّة. ولاية الأولياء لا تعرف الأقربيّة أنّها ما هي ولا تدري الجهالة والحيرة أنّها أيّ شيء هي وولاية الأنبياء مع وجود الأقربيّة ترى القرب عين البعد وتعدّ الشّهود عين الغيب، (ع) يطول إذا ما قلت تفصيل شرحه *

أيّها الولد: قد أطنبت في بيان كمالات النّبوّة ومزيّتها على الولاية، والفرق بين الولايات الثّلاث أعني الصّغرى والكبرى والعليا وبيان المعارف المناسبة لكلّ منها والمحالّ المتعلّقة بكلّ منها وأدرجت في بيان هذا المعنى فقرات مكرّرة ومتكثّرة وأطلت في ذلك ذيل الكلام رجاء أن يخرج عن استبعاد الأفهام من كمال غرابته وأن يتخلّص من مظانّ الإنكار، وهذه العلوم كشفيّة ضروريّة لا استدلاليّة ونظريّة.

وذكر بعض المقدّمات إنّما هو للتّنبيه والتّقريب إلى أفهام العوامّ بل للتّشريح والتّوضيح لأجل إدراك خواصّ الأنام. (هذا) هو الطّريق الّذي جعل الحقّ سبحانه وتعالى هذا الحقير ممتازا به من بدايته إلى نهاية أساسه. النّسبة النّقشبنديّة المتضمّنة لاندراج النّهاية في البداية قد بنيت على هذا الأساس عمارات وقصور فإن لم يكن هذا الأساس لما زادت المعاملة وما انتهت إلى هنا قد أتوا بالبذر الّذي أصله من تراب يثرب وبطحاء من بخارا وسمرقند وزرعوه في أرض الهند وسقوه بماء الفضل سنين وربّوه بتربية الإحسان فلمّا أدرك ذلك الزّرع وبلغ كماله أثمر هذه العلوم والمعارف. الحمد لله الّذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لو لا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربّنا بالحقّ. (وينبغي) أن يعلم أنّ سلوك هذا الطّريق العالي برابطة المحبّة للشّيخ المقتدى به الّذي سار في هذا الطّريق بالسّير المراديّ وانصبغ بقوّة الجذبة بهذه الكمالات وصاحب هذه الكمالات إمام الوقت وخليفة الزّمان نظره شفاء الأمراض القلبيّة وتوجّهه رافع العلل المعنويّة، الأقطاب والبدلاء فرحون بظلال مقاماته والأوتاد والنّجباء قانعون بقطرة من بحار كمالاته نور هدايته وإرشاده فائض على جميع الأشخاص كنور الشّمس بلا إرادته فكيف إذا أراد وإن لم تكن إرادته في اختياره فإنّه كثيرا ما يطلب الإرادة ولكن لا تحصل له تلك الإرادة ولا يلزم أن يعلم هذا المعنى ويطّلع عليه من يهتدون بنوره ويسترشدون بتوسّله بل ربّما لا يعلمون أصل هدايتهم ورشدهم أيضا كما ينبغي ومع ذلك يتحقّقون بكمالات الشّيخ المقتدى به ويهدون العالم فإنّ العلم بالأحوال لا يعطاه كلّ أحد ومعرفة تفصيل سير المقامات لا يمنحها جميع الأشخاص. نعم، إنّ الشّيخ الّذي نيط بوجوده الشّريف مدار بناء طريق مخصوص من طرق الوصول صاحب علم ألبتّة وصاحب شعور بتفاصيل السّير ويكتفي غيره بعلمه ويصلون بتوسّطه إلى مرتبة الكمال والتّكميل ويشرّفون بالفناء والبقاء،

(شعر) ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد

إفادتنا واستفادتنا انعكاسيّة وانصباغيّة ينصبغ المريد بصبغ الشّيخ المقتدى به ساعة فساعة بواسطة محبّته له ويتنوّر بأنواره بطريق الإنعكاس فلأيّ شيء يحتاج في هذه الصّورة إلى العلم بالأحوال في الإفادة والإستفادة ألا ترى أن الخربزة تدرك بحرارة الشّمس ساعة فساعة وتبلغ مرتبة الكمال بمرور الأيّام فمن أين يلزم أن يكون لها علم بإدراكها ومن أين يلزم للشّمس أن تعلم بأنّها سبب إدراكها. نعم، إنّ العلم لاجل السّلوك والتّسليك الاختياريّ لازم ولكنّه مربوط بسلاسل أخر. وأمّا في طريقنا الّتي هي طريقة

الأصحاب الكرام عليهم الرّضوان فالعلم بالسّلوك والتّسليك ليس بلازم أصلا وإن كان الشّيخ المقتدى به الّذي هو راعي هذه الطّريقة موصوفا بكمال العلم ومتحقّقا بوفور المعرفة فلا جرم يكون الأحياء والأموات والصّبيان والأشياخ والشّبّان والكهول متساوين في هذا الطّريق العالي في حقّ الوصول لأنّهم يصلون إلى منتهى المقاصد إمّا برابطة المحبّة أو بتوجّه صاحب دولة، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. (ولكن ينبغي) أن يعلم أنّ المنتهى وإن لم يكن صاحب علم ولكن لا بدّ له من ظهور الخوارق وربّما لا يكون له اختيار في ذلك الظّهور بل كثيرا ما لا يكون له علم بظهورها بل يرى النّاس منه الخوارق وليس له اطّلاع عليها. (وما قلت) إنّ المنتهى وإن لم يكن صاحب علم المراد بعدم العلم عدم علم بتفصيل الأحوال لا عدم العلم مطلقا بحيث لا يفهم أحواله أصلا كما مرّت الإشارة إليه، ونور هدايته المذكور يسري إلى مريديه بلا واسطة أو بواسطة أو بوسائط ما لم تلوّث طريقته المخصوصة بلوث التّغيّرات والتّبديلات ولم تخرّب بإلحاق المخترعات والمبتدعات بها (انّ الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم). والعجب من قوم يزعمون هذه التّبديلات تكميلات هذه الطّريقة ويتصوّرون تلك الإلحاقات تتميمات هذه النّسبة ولا يعلمون أنّ تكميل هذا الأمر وتتميمه ليس لكلّ قاصر وناقص.

والإلحاق والإختراع ليس في حوصلة كلّ خالي الظّرف. (شعر)

هزار نكته باريكتر ز مو اينجاست ... نه هركه سر بتراشد قلندرى داند

قد ستروا نور السّنّة السّنيّة بظلمات البدع وضيّعوا رونق الملّة المصطفويّة على صاحبها الصّلاة والسّلام والتّحيّة بكدورات الامور المخترعة وأعجب من هذا ظنّ قوم هذه المحدثات أمورا مستحسنة وزعمهم تلك المبتدعات حسنات مستملحة فيطلبون بها تكميل الدّين وتتميم الملّة ويرغّبون في إتيان تلك الامور ترغيبا كثيرا هداهم الله سبحانه سواء الصّراط ألم يعلموا أنّ الدّين كان كاملا قبل هذه المحدثات وكانت النّعمة تامّة وكان رضاء الحقّ سبحانه حاصلا كما قال الله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)

فطلب كمال الدّين من هذه المحدثات إنكار في الحقيقة على مقتضى هذه الآية الكريمة،

(شعر):

بثثت لديكم من همومي وخفت أن ... تملّوا والّا فالكلام كثير.

وقد أظهر العلماء المجتهدون أحكام الدّين لا إنّهم أحدثوا فيه ما ليس منه فلا تكون الأحكام الإجتهاديّة من الامور المحدثة بل من أصول الدّين لأنّ الأصل الرّابع هو القياس.

(أيّها الولد) إنّي قد كنت كتبت المعرفة المتعلّقة بقطب الإرشاد في باب الإفادة والإستفادة من رسالة المبدأ والمعاد ولكن لمّا كانت لها مناسبة بهذا المقام ومفيدة فيه ناسب كتابتها في هذا المكتوب



 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!