موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

الدرر المكنونات النفيسة في تعريب المكتوبات الشريفة

للشيخ الإمام الرباني أحمد الفاروقي السرهندي

(266) المكتوب السادس والستون والمائتان إلى المخدومين المكرمين أعني ابني شيخه الخواجه عبد الله والخواجه عبيد الله في بيان بعض المسائل الكلامية على وفق آراء اهل السنة والجماعة وقد ظهرت له على طريق الكشف والإلهام لا على وجه الظنون والأوهام والر

 

 


ينبغي أن يقعد على مائدة إذا كان عليها لعب وغناء أو قوم يغتابون أو يشربون الخمر كذا في مطالب المؤمنين فإن كانت هذه الموانع كلّها مفقودة لا بدّ حينئذ من الإجابة وإن كان فقدان هذه الموانع عسيرا في هذا الزّمان. (وأيضا) ينبغي أن يعلم أنّ العزلة إنّما تكون من الأغيار لا من الأحباب فإنّ الصّحبة مع محارم الأسرار سنّة مؤكّدة في هذه الطّريقة العليّة قال الخواجه النّقشبند قدّس سرّه: طريقنا طريق الصّحبة فإنّ في الخلوة شهرة وفي الشّهرة آفة والمراد بالصّحبة صحبة أهل الطّريق لا صحبة المنكرين والمخالفين لأنّهم اشترطوا نفي كلّ من المصاحبين نفسه وفناءه في الآخر وهذا لا يتيسّر بدون الموافقة. وعيادة المريض سنّة إن كان للمريض متعهّد وممرّض والّا فهى واجبة كما ذكر في حاشية المشكاة وينبغي أن يحضر صلاة الجنازة وأن يشيّع الجنازة ولو خطوات ليؤدّي حقّ الميّت. وحضور الجمع والجماعات في الأوقات الخمسة وصلاة العيدين من ضروريّات الإسلام لا بدّ منها ثمّ يصرف بقيّة الأوقات إلى ذكر المولى بالتّبتّل والانقطاع ولكن ينبغي أن يصحّح النّيّة أوّلا وأن لا يلوّث العزلة بلوث غرض من الأغراض العاجلة أصلا وأن لا يكون مقصد غير تحصيل جمعيّة الباطن بذكر الله جلّ سلطانه والإعراض عن الإشتغال بما لا طائل فيه وجميع الملاهي قطعا.

وينبغي أن يحتاط في تصحيح النّيّة غاية الإحتياط لئلّا يختفي ويتكمّن في ضمنها غرض نفسانيّ وأن يلتجئ ويتضرّع إلى الله تعالى في هذا التّصحيح كثيرا وأن يكون في مقام العجز والإنكسار فحينئذ يحتمل أن تتحقّق حقيقة النّيّة والحاصل ينبغي أن يختار العزلة بنيّة صادقة صحيحة بعد تكرار الإستخارة سبع مرّات فيرجى حينئذ أن تترتّب عليه ثمرات عظيمة وبقيّة الأحوال أخّرنا خبرها إلى وقت الملاقاة والسّلام.

(٢٦٦) المكتوب السّادس والسّتّون والمائتان إلى المخدومين المكرّمين أعني ابني شيخه الخواجه عبد الله والخواجه عبيد الله في بيان بعض المسائل الكلاميّة على وفق آراء اهل السّنّة والجماعة وقد ظهرت له على طريق الكشف والإلهام لا على وجه الظّنون والأوهام والرّدّ على الفلاسفة وأتباعهم المتفلسفة وعلى الزّنادقة والملاحدة المتشبّهين بالصّوفيّة وبيان بعض المسائل المتعلّقة بالصّلاة ومدح الطّريقة النّقشبنديّة والمنع من سماع الغناء وحضور مجلس الرّقص وما يناسب ذلك

بعد الحمد والصّلوات وتبليغ الدّعوات ليعلم المخاديم الكرام أنّ هذا الفقير مستغرق من القدم إلى الرّأس في إحسان والدكم الماجد حيث تعلّمت درس ألف با في هذا الطّريق منه وأخذت عنه سائر تهجّي حروف هذا الطّريق وحصلت ببركة صحبته دولة اندراج النّهاية في البداية وبصدق خدمته وجدت السّفر في الوطن وتوجّهه الشّريف بلّغ هذا الفقير عديم القابليّة إلى النّسبة النّقشبنديّة في مدّة شهرين ونصف

ومنحه الحضور الخاصّ بهؤلاء الأكابر وكيف أشرح أم كيف أبيّن تفصيل ما حصل في هذه المدّة القليلة من التّجلّيات والظّهورات والأنوار والألوان واللّالونيّة واللّاكيفيّة بتطفّله ولم يبق بتوجّهه الشّريف دقيقة من دقائق معارف التّوحيد والاتّحاد والقرب والإحاطة والسّريان غير منكشفة لهذا الفقير وغير مطّلع هو عليها وماذا يكون شهود الوحدة في الكثرة ومشاهدة الكثرة في الوحدة فإنّهما من مقدّمات هذه المعارف ومباديها وإجراء اسم هذه المعارف على اللّسان في جنب نسبة النّقشبنديّة والحضور الخاصّ بهؤلاء الأكابر وبيان علامة هذا الشّهود والمشاهدة كلّ ذلك من قصور النّظر. ومعاملة هؤلاء الأكابر عالية جدّا لا نسبة لها بكلّ زرّاق ورقّاص فإذا نلت مثل هذه الدّولة العظمى من حضرة شيخنا لا يمكن لي أداء حقّ شيء منها ولو مسحت رأسي مدّة عمري على أقدام خدّام عتبتكم العليّة فماذا أعرض عليكم من تقصيراتي وماذا أظهر لكم من انفعالاتي ولكن جزى الله سبحانه عنّا الخواجه حسام الدّين أحمد خير الجزاء حيث كفانا المؤنة وشدّ نطاق الهمّة في خدمة خدّام العتبة العليّة وخلّص أمثالنا القاصرين من ذلك،

شعر:

فلو أنّ لي في كلّ منبت شعرة ... لسانا يبثّ الشّكر كنت مقصّرا

وقد تشرّفت بتقبيل عتبة شيخنا ثلاث مرّات وقال للفقير في المرّة الأخيرة: إنّه قد غلب الضّعف على بدني ورجاء الحياة قليل ينبغي لك الاستخبار عن أحوال الأطفال وأمر بإحضاركم لديه وكنتم وقتئذ في حجور المرضعات وأمر الفقير بالتّوجّه إليكم فتوجّهت إليكم في حضوره امتثالا لأمره حتّى ظهر أثر ذلك التّوجّه في الظّاهر ثمّ قال: توجّه إلى والداتهم أيضا بالتّوجّه الغائبيّ فتوجّهت إليهنّ أيضا حسب الأمر والمرجوّ أن يكون ذلك التّوجّه مثمرا للنّتائج ببركة حضوره الشّريف ولا تحسبنّ أنّه قد وقع الذّهول عن أمره الواجب الإمتثال أو طرأ التّغافل عن وصيّته اللّازمة الإجراء على كلّ حال كلّا بل انتظر الإشارة والإذن. وأردت الآن أن أكتب فقرات بطريق النّصيحة ينبغي استماعها بسمع العقل. (أسعدكم الله) سبحانه انّ أوّل ما افترض على العقلاء تصحيح العقائد بموجب آراء أهل السّنّة والجماعة شكر الله تعالى سعيهم فإنّهم هم الفرقة النّاجية ولنبيّن بعض المسائل الإعتقاديّة الّتي فيها نوع خفاء. (يجب أن يعلم) أنّ الله تعالى موجود بذاته المقدّسة والأشياء كلّها موجودة بإيجاده تعالى وأنّه تعالى واحد في ذاته وصفاته وأفعاله لا شركة لأحد معه تعالى في أمر من الأمور أصلا لا في الوجود ولا في غيره والمناسبة الإسميّة والمشاركة اللّفظيّة خارجة عن المبحث وصفاته وأفعاله تعالى منزّهة عن المثل والكيف كذاته تعالى لا مناسبة بينها وبين صفات الممكنات وأفعالها فإنّ صفة العلم مثلا له تعالى صفة قديمة بسيطة حقيقيّة لم يتطرّق إليها تعدّد وتكثّر أصلا ولو باعتبار تعدّد التّعلّقات لأنّ هناك انكشاف واحد بسيط انكشفت به المعلومات الأزليّة والأبديّة وعلم به جميع الأشياء بأحوالها المتناسبة والمتضادّة وكلّيّاتها

وجزئيّاتها مع الأوقات المخصوصة بكلّ واحد منها في آن واحد بسيط على وجه يعلم زيدا مثلا في ذلك الآن موجودا ومعدوما وجنينا وصبيّا وشابّا وشيخا وحيّا وميّتا وقائما وقاعدا ومستندا ومضطجعا وضاحكا وباكيا ومتلذّذا ومتألّما وعزيزا وذليلا وفي البرزخ وفي الحشر وفي الجنّة وفي التّلذّذات فيكون تعدّد التّعلّق أيضا مفقودا في ذلك الموطن فإنّ تعدّد التّعلّقات يستدعي تعدّد الآنات وتكثّر الأزمنة وليس ثمّة الّا آن واحد بسيط من الأزل إلى الأبد لا تعدّد فيه أصلا إذ لا يجري عليه تعالى زمان ولا تقدّم ولا تأخّر فإذا أثبتنا لعلمه تعالى تعلّقا بالمعلومات يكون ذلك تعلّق واحد ويصير به متعلّقا بجميع المعلومات وذلك التّعلّق أيضا مجهول الكيفيّة ومنزّه عن المثال والكيف كصفة العلم. (ولندفع) استبعاد هذا التّصوير بضرب مثل (وأقول) إنّه يجوز أن يعلم شخص الكلمة مع أقسامها المتباينة وأحوالها المتغايرة واعتباراتها المتضادّة في وقت واحد فيعلم الكلمة في ذلك الوقت اسما وفعلا وحرفا وثلاثيّا ورباعيّا ومعربا ومبنيّا ومتمكّنا وغير متمكّن ومنصرفا وغير منصرف ومعرفة ونكرة وماضيا ومستقبلا وأمرا ونهيا بل يجوز أن يقول ذلك الشّخص إنّي أرى هذه الأقسام والإعتبارات في مراتب الكلمة في وقت واحد بالتّفصيل فإذا كان جمع الأضداد متصوّرا في علم الممكن كيف يكون مستبعدا في علم الواجب ولله المثل الأعلى.

(ينبغي) أن يعلم: أنّ هنا وإن كان جمع الضّدّين صورة ولكنّ الضّدّيّة مفقودة بينها في الحقيقة فإنّه تعالى وإن علم زيدا موجودا ومعدوما في آن واحد ولكنّه تعالى علم في ذلك الآن أنّ وقت وجوده مثلا بعد ألف سنة من الهجرة ووقت عدمه السّابق قبل تلك السّنة المعيّنة ووقت عدمه اللّاحق بعد ألف ومائة سنة فلا تضادّ بينهما في الحقيقة لتغاير الزّمان وعلى هذا القياس سائر الأحوال فافهم.

(فاتّضح) من هذا التّحقيق أنّ علمه تعالى لا يتطرّق إليه شائبة التّغيّر بتعلّقه بالجزئيّات المتغيّرة ولا تتوهّم مظنّة الحدوث فيه كما زعمت الفلاسفة فإنّ التّغيّر إنّما يتصوّر على تقدير تعلّق علمه تعالى بواحد بعد الآخر وأمّا إذا تعلّق علمه تعالى بالكلّ في آن واحد فلا يتصوّر فيه التّغيّر والحدوث فلا حاجة حينئذ إلى إثبات تعلّقات متعدّدة له حتّى يكون التّغيّر والحدوث راجعا إلى تلك التّعلّقات لا إلى صفة العلم كما فعله بعض المتكلّمين لدفع شبهة الفلاسفة نعم إذا أثبتنا تعدّد التّعلّقات في جانب المعلومات فله مساغ وكذلك كلامه تعالى واحد بسيط وهو تعالى متكلّم بهذا الكلام الواحد من الأزل إلى الأبد فإن أمرا فناش من هناك وإن نهيا فناش أيضا من هناك وإن إعلاما فمأخوذ أيضا من هناك وإن استعلاما فمن هناك وإن تمنّيا فمستفادا من هناك وإن ترجّيا فمن هناك أيضا وجميع الكتب المنزّلة والصّحف المرسلة ورقة من ذلك الكلام البسيط فإن توراة فهي منتسخة منه وإن إنجيلا فمن هناك أخذ صورة الألفاظ وإن زبورا فمن هناك مسطور وإن قرآنا فمنزّل من هناك شعر:

لكلام مولانا الإله واحد ... حقّا ولكنّ في النّزول تعدّدا

وكذلك فعله تعالى واحد وجميع المصنوعات موجودة بهذا الفعل الواحد وقوله تعالى (وما أَمْرُنا إِلّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) إشارة إلى هذا المعنى والإحياء والإماتة مربوطان بهذا الفعل والإيلام والإنعام منوطان أيضا بهذا الفعل وكذلك الإيجاد والإعدام ناشئان من هذا الفعل فلا يثبت تعدّد التّعلّقات في فعله تعالى أيضا بل المخلوقات الماضية والآتية موجودة في أوقاتها المخصوصة بوجودها بتعلّق واحد وهذا التّعلّق أيضا مجهول الكيفيّة ومعدوم المثليّة كنفس فعله تعالى فإنّه لا سبيل إلى المنزّه عن الكيف للمكيّف بالكيفيّة لا يحمل عطاياه الّا مطاياه ولمّا لم يطّلع الأشعريّ على حقيقة فعل الحقّ جلّ سلطانه قال بحدوث التّكوين وحدوث أفعاله تعالى ولم يدر أنّ هذه الحادثات آثار فعله تعالى الأزليّ لا نفس أفعاله.

ومن هذا القبيل ما أثبته بعض الصّوفيّة من تجلّي الأفعال حيث لم ير في ذلك الموطن في مرآة أفعال الممكنات غير فعل الفاعل الحقيقيّ جلّ سلطانه وذلك التّجلّي في الحقيقة تجلّي آثار فعل الحقّ سبحانه لا تجلّي فعله تعالى الّذي هو منزّه عن المثال والكيف وقديم وقائم بذاته تعالى ويقال له التّكوين لا تسعه مرايا المحدثات ولا ظهور له في مظاهر الممكنات شعر:

در تنكناى صورت معنى چكونه كنجد ... در كلبهء كدايان سلطان چه كار دارد

وتجلّي الأفعال والصّفات بدون تجلّي الذّات غير متصوّر عند الفقير فإنّه لا انفكاك للأفعال والصّفات عن حضرة الذّات أصلا حتّى يتصوّر تجلّيها بدون تجلّي الذّات وما هو منفكّ عن الذّات تعالت وتقدّست ظلال الأفعال والصّفات فيكون تجلّي ذلك المنفكّ تجلّي ظلال الأفعال والصّفات لا تجلّي الأفعال والصّفات ولكن لا يدرك فهم كلّ أحد هذا الكمال ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

ولنرجع إلى أصل الكلام ونقول: إنّه تعالى لا يحلّ في شيء ولا يحلّ فيه شيء ولكنّه تعالى محيط بالأشياء وله سبحانه قرب منها ومعيّة بها وليست تلك الإحاطة والقرب والمعيّة الّتي ندركها بأفهامنا القاصرة فإنّها لا تليق بجناب قدسه تعالى وكلّ شيء يدرك بالكشف والشّهود فهو تعالى منزّه عن ذلك أيضا، فإنّه لا نصيب للممكن من حقيقة ذاته، وصفاته وأفعاله تعالى غير الجهل والحيرة ينبغي الإيمان بالغيب ونفي ما يكون منكشفا ومشهودا بكلمة لا، شعر:

هيهات عنقاء أن يصطاده أحد ... فدع عناك وكن من ذاك في دعة

وبيت مثنويّ حضرة شيخنا مناسب لهذا المقام حيث قال (شعر):

وذا إيوان الإستغناء عال ... فإيّاكم وطمعا في الوصال

فنؤمن بأنّه تعالى محيط بالأشياء وقريب منها وأنّه معها ولكن لا نعرف معنى إحاطته وقربه ومعيّته " إنّه ما هو». والقول بالإحاطة والمعيّة العلميّين من تأويلات المتشابه ونحن لسنا بقائلين بتأويله وإنّه تعالى

لا يتّحد بشيء أصلا ولا يتّحد به شيء أصلا وما يفهم من عبارات بعض الصّوفيّة من معنى الإتّحاد فهو خلاف مرادهم لأنّ مرادهم بهذا الكلام الموهم للاتّحاد أعني قولهم إذا تمّ الفقر فهو الله هو أنّ الفقر إذا تمّ وحصل الإضمحلال الصّرف والطّمس المحض لا يبقى الّا الله سبحانه وتعالى لا أنّ ذلك الفقير يتّحد بالله ويصير إلها فإنّه كفر وزندقة تعالى الله سبحانه عمّا يتوهّم الظّالمون علوّا كبيرا. (قال) حضرة شيخنا قدّس سرّه: ليس معنى عبارة أنا الحقّ بأنّي حقّ بل معناه أنا معدوم والموجود هو الحقّ سبحانه ولا سبيل للتّغيّر والتّبدّل إلى ذاته وصفاته وأفعاله تعالى فسبحان من لا يتغيّر بذاته ولا بصفاته ولا بأفعاله بحدوث الأكوان وما أثبته الصّوفيّة الوجوديّة من التّنزّلات الخمسة فليس هي من قبيل التّبدّل والتّغيّر في مرتبة الوجوب فإنّ القول به وإثباته كفر وضلالة بل اعتبروا هذه التّنزّلات في مراتب ظهورات كماله تعالى من غير أن يتطرّق إلى ذاته وصفاته وأفعاله تغيّر وتبدّل. وانّه تعالى غنيّ مطلق لا يحتاج إلى شيء أصلا لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله في أمر من الامور فكما أنّه تعالى غير محتاج في الوجود كذلك هو غير محتاج في الظّهور وما يفهم من عبارات بعض الصّوفيّة من أنّه تعالى محتاج في الوجود كذلك هو غير محتاج في الظّهور وما يفهم من عبارات بعض الصّوفيّة من أنّه تعالى محتاج إلينا (١) في ظهور كمالاته الأسمائيّة والصّفاتيّة هذا الكلام ثقيل على الفقير جدّا واعتقادي أنّ المقصود من خلق الخلائق وإيجاد الموجودات حصول الكمالات لهم لا حصول كمال عائد إلى جناب قدسه تعالى وتقدّس. وقوله تعالى (وما خَلَقْتُ الْجِنَّ والْإِنْسَ إِلّا لِيَعْبُدُونِ) أي ليعرفون، مؤيّد لهذا المعنى فالمقصود من خلق الجنّ والإنس حصول المعرفة لهم الّتي هي كمالهم لا أمر يكون عائدا إلى جناب قدس الحقّ سبحانه وما ورد في الحديث القدسيّ من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «فخلقت (٢) الخلق لأعرف " فالمراد هنا أيضا معرفتهم لا أنّه يكون الحقّ سبحانه معروفا ويحصل له الكمال بمعرفتهم إيّاه تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا. وإنّه تعالى منزّه ومبرّأ عن جميع صفات النّقص وسمات الحدوث وليس بجسم ولا جسمانيّ ولا مكانيّ ولا زمانيّ وله تعالى جميع صفات الكمال ثمانية منها وجودها زائد على وجود الذّات تعالت وتقدّست وهي الحيات والعلم والقدرة والإرادة والبصر والسّمع والكلام والتّكوين وهذه الصّفات الثّمان موجودة في الخارج لا إنّها موجودة في العلم بوجود زائد على وجود الذّات وفي الخارج عينها كما ظنّه بعض الصّوفيّة وقال:، (شعر):

__________

(١) قال في اليواقيت والجواهر ذكر الشيخ في الباب التاسع والعشرين ومائتين من الفتوحات انه لا يجوز ان يقال ان الحق تعالى مفتقر في ظهور اسمائه وصفاته إلى وجود العالم لان له الغنى على الاطلاق قلت وهذا رد صريح على من نسب إلى الشيخ انه يقول ان الحق تعالى مفتقر في ظهور حضرات اسمائه وصفاته إلى خلقه ولو لا خلقه ما ظهر ولا عرفه احد انتهى نعم يفهم ما قله الامام الرابنى من اللمعات ويجيب عنه مولينا الجامى في شرحه بنقل من الفصوص فليراجع (القزاني رحمة الله عليه)

(٢) قوله فخلقت الخلق لا عرف هذا حديث مشهور بين الصوفية ولكنه لم يثبت عند المحدثين وقال على القارى لكن معناه صحيح مستفاد من قوله تعالى وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون اى ليعرفون كما فسره ابن عباس رضى الله عنه (القزاني رحمة الله عليه)

وصفات حقّ في التّعقّل غير ذا ... ت الحقّ لكن في التّحقّق عينها

فإنّ هذا في الحقيقة نفي الصّفات فإنّ نفاة الصّفات مثل المعتزلة والفلاسفة أيضا قائلون بالتّغاير العلميّ والإتّحاد الخارجيّ ولم ينكروا التّغاير العلميّ ولم يقولوا إنّ مفهوم العلم عين مفهوم الذّات أو عين مفهوم القدرة والإرادة بل قالوا بالعينيّة باعتبار الوجود الخارجيّ فما لم يعتبروا تغاير الوجود الخارجيّ لا يخرجون من زمرة نفاة الصّفات والقول بالتّغاير الاعتباريّ أعني بحسب المفهوم والتّعقّل لا يجديهم نفعا كما عرفت.

وإنّه تعالى قديم أزليّ ليس لغيره تعالى قدم ولا أزليّة أجمع جميع المليّين على هذا الحكم فمن قال بقدم غير الحقّ سبحانه وأزليّته فقد كفر ومن هذه الحيثيّة كفّر الإمام الغزاليّ رحمة الله ابن سينا والفارابيّ وغيرهما فإنّهم قائلون بقدم العقول والنّفوس وقدم الهيولى والصّورة وقال أيضا بقدم السّموات بما فيها وقال حضرة شيخنا قدّس سرّه: إنّ الشّيخ محيي الدّين ابن عربيّ قائل بقدم أرواح الكمّل فينبغي صرف هذا الكلام عن ظاهره وأن يجعله محمولا على التّأويل لئلّا يكون مخالفا لإجماع أهل الملل.

وإنّه تعالى قادر مختار منزّه عن شائبة الإيجاب ومبرّأ عن مظنّة الإضطرار، والفلاسفة الحمقاء نفوا الاختيار من الواجب تعالى وأثبتوا الإيجاب له سبحانه زعما منهم أنّ الكمال في الإيجاب وهؤلاء السّفهاء قد جعلوا الواجب تعالى معطّلا ومهملا ولم يقولوا بصدور غير مصنوع واحد عن خالق السّموات والأرض وهو أيضا صادر عندهم بالإيجاب ونسبوا وجود المحدثات إلى العقل الفعّال الّذي لم يثبت وجوده في غير توهّمهم ولا شغل لهم ولا تعلّق بالحقّ سبحانه وتعالى في زعمهم الفاسد أصلا فيلزمهم بالضّرورة أن يلتجئوا وقت الإضطرار إلى العقل الفعّال وأن لا يرجعوا إلى الحقّ سبحانه وتعالى أصلا فإنّه لا مدخل له تعالى في وجود الحوادث على زعمهم بل القائم بإيجاد الحوادث هو العقل الفعّال بل ينبغي أن لا يرجعوا إلى العقل الفعّال (وأيضا) لأنّه لا اختيار له أيضا في دفع بليّاتهم بزعمهم وهؤلاء الأشقياء أسبق قدما في الخبط والبلاهة من جميع الفرق الضّالّة فإنّ الكفّار يلتجئون إلى الله تعالى ويطلبون منه دفع البليّة بخلاف هؤلاء السّفهاء وفيهم شيئان زائدان على ما في الفرق الضّالّة أرباب البلاهة أحدهما كفرهم بالأحكام المنزّلة وإنكارهم عليها ومعاندتهم ومعاداتهم للأخبار المرسلة وثانيهما ترتيب المقدّمات الفاسدة وتلبيس الدّلائل والشّواهد الباطلة في إثبات مقاصدهم ومطالبهم الواهية والخبط الّذي صدر عنهم في إثبات مقاصدهم لم يصدر من سفيه أصلا حيث جعلوا مدار الأمر على حركات السّموات والكواكب وأوضاعها مع أنّها متحيّرات ومضطربات في جميع الأوقات وغمّضوا عيونهم عن خالق السّموات وموجد الكواكب ومحرّكها ومدبّر أمورهم واستبعدوا إسناد الحوادث إليه تعالى بالذّات وأبوا عنه ما أبعدهم عن العقل ما أخذلهم وما أحرمهم من السّعادة وأشدّ منهم سفها وأكثر حماقة من يزعمهم أذكياء وأرباب فطانة ومن علومهم المنتظمة علم الهندسة وهو لا يغني شيئا ولا طائل فيه أصلا في أيّ شيء يلزم وماذا

يفيد مساوات الزّوايا الثّلاث القائمة من الشّكل المثلّث وأيّ غرض مربوط بالشّكل العروسيّ والشّكل المأمونيّ اللّذين هما بمثابة أرواحهم، وعلم الطّبّ وعلم النّجوم وعلم تهذيب الأخلاق الّتي هي أشرف علومهم كلّ منها مسروق من كتب الأنبياء المتقدّمين على نبيّنا وعليهم الصّلاة والسّلام روّجوا بها أباطيلهم كما صرّح به الإمام الغزاليّ في المنقذ عن الضّلال ولا ضرر أنّ غلط أهل الملّة واتباع الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام في الدّلائل والبراهين لأنّ مدار أمرهم على متابعة الأنبياء عليهم السّلام وإنّما يوردون البراهين والدّلائل في إثبات مطالبهم العالية على سبيل التّبرّع والّا يكفيهم تقليدهم إيّاهم وهؤلاء الأشقياء أخرجوا رقابهم عن ربقة التّقليد وصاروا في صدد الإثبات بالدّلائل فضّلوا وأضلّوا.

ولمّا وصلت دعوة عيسى على نبيّنا وعليه الصّلاة والسّلام إلى أفلاطون وكان هو أكبر هؤلاء الخذلة قال نحن قوم مهديّون (١) لا حاجة بنا إلى من يهدينا ما أسفهه وما أشقاه حيث أدرك شخصا يحيي الأموات ويبرّئ الأكمه والأبرص كلّ ذلك خارج عن طور حكمتهم ومع ذلك أجابه بهذا الجواب من غير رؤيته وتفطّن أحواله وملاحظة سيرته وذلك من كمال العناد والسّفاهة،

شعر

الفلسفة سفة أكثرها وكذا ... مجموعها إذ لكلّ حكم أكثره

نجّانا الله سبحانه عن ظلمات معتقداتهم السّوء وقد أتمّ ولدي محمّد معصوم مبحث الجواهر من شرح المواقف في هذه الأيّام واتّضح قبائح هؤلاء السّفهاء في أثناء درسه وترتّبت على ذلك فوائد، الحمد لله الّذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لو لا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربّنا بالحقّ. وعبارات الشّيخ محيي الدّين بن عربيّ قدّس سرّه أيضا ناظرة إلى الإيجاب وله موافقة للفلاسفة في معنى القدرة حيث لا يجوّز صحّة التّرك للقادر المختار بل يعتقد لزوم جانب الفعل والعجب أنّ الشّيخ يرى في النّظر يعني نظر الكشف من المقبولين، وأكثر علومه الّتي تخالف آراء أهل الحقّ تظهر خطأ غير صواب ولعلّه كان معذورا في الخطأ الكشفيّ وارتفعت عنه الملامة عليه مثل الخطأ الإجتهاديّ وهذا اعتقاد خاصّ بالفقير في حقّ الشّيخ اعتقده من المقبولين وأرى علومه المخالفة خطأ ومضرّة. وقوم من هذه الطّائفة يطعنون في الشّيخ يخطّئونه في جميع علومه، وجماعة أخرى من هذه الطّائفة يختارون تقليد الشّيخ ويعتقدون أنّه مصيب في جميع علومه ويثبتون حقّيّتها بالدّلائل والشّواهد ولا شكّ أنّ كلا هذين الفريقين اختاروا جانب التّفريط والإفراط في حقّه وفارقوا توسّط الأحوال وبعدوا عنه كيف يردّ الشّيخ الّذي هو من الأولياء المقبولين بسبب الخطأ الكشفيّ وكيف تقبل علومه البعيدة عن الصّواب المخالفة لآراء أهل الحقّ بمحض التّقليد فالحقّ هو التّوسّط الّذي وفّقني الله سبحانه له بمنّه وكرمه نعم إنّ الجمّ الغفير من هذه الطّائفة

__________

(١) روى مهذبون ويهذبنا

مشاركون للشّيخ في مسألة وحدة الوجود وإن كان للشّيخ في هذه المسألة طرز خاصّ أيضا ولكنّهم يشاركونه في أصل الكلام وهذه المسألة وإن كانت أيضا مخالفة لمعتقدات أهل الحقّ ولكنّها قابلة للتّوجيه وصالحة للجمع بها وقد طبّق هذا الفقير بعناية الله تعالى في شرح رباعيّات حضرة شيخنا هذه المسألة على معتقدات أهل الحقّ وجمع بينهما وأعاد نزاع الفريقين إلى اللّفظ وحلّ شكوك الطّرفين وشبهاتهما على نهج لم يبق فيها محلّ ريب واشتباه أصلا كما لا يخفى على النّاظر فيه.

(ينبغي) أن يعلم أنّ الممكنات بأسرها جواهرها وأعراضها وأجسامها وعقولها ونفوسها وأفلاكها وعناصرها مستندة إلى إيجاد القادر المختار الّذي أخرجها من كتم العدم إلى عرصة الوجود وكما أنّها محتاجة إليه تعالى في الوجود كذلك هي محتاجة إليه سبحانه في البقاء أيضا.

وإنّما جعل الله سبحانه وجود الأسباب والوسائط نقابا لوجه فعله وجعل الحكمة قبابا لقدرته لا بل جعل الأسباب دلائل لثبوت فعله والحكمة وسيلة إلى وجود قدرته فإنّ أرباب الفطانة الّذين بصائرهم مكتحلة بكحل متابعة الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام يعلمون أنّ الأسباب والوسائل الّتي هي محتاجة في الوجود إليه تعالى ولها ثبوت وقيام منه ومعه تعالى وتقدّس في الحقيقة جمادات محضة كيف تؤثّر في شيء آخر مثلها وتحدّثه وتخترعه بل وراء تلك الأسباب قادر يوجد ذلك الشّيء ويعطيه الكمالات اللّائقة به ألا ترى أنّ العقلاء إذا رأوا فعلا من جماد محض مثلا ينتقل منه ذهنهم إلى فاعله ومحرّكه لأنّهم يعلمون يقينا أنّ هذا الفعل ليس في حوصلة حاله بل وراءه فاعل موجد لهذا الفعل فلم يكن فعل الجماد عند العقلاء نقابا لوجه فعل الفاعل الحقيقيّ بل كان ذلك الفعل نظرا إلى جماديّة مصدره دليلا على وجود الفاعل الحقيقيّ فكذا هذا. نعم إنّ فعل الجماد نقاب لوجه فعل الفاعل الحقيقيّ في نظر الأبله حيث يزعم الجماد المحض من كمال غباوته بواسطة صدور ذلك الفعل عنه صاحب قدرة ويكفر بالفاعل الحقيقيّ يضلّ به كثيرا ويهدي به كثيرا وهذه المعرفة مقتبسة من مشكاة النّبوّة لا يدركها فهم كلّ أحد ولهذا ترى طائفة يعتقدون الكمال في رفع الأسباب ودفعها وينسبون الأشياء إلى الحقّ سبحانه ابتداء من غير توسّط الأسباب ولا يدرون أنّ رفع الأسباب رفع الحكمة الّتي في ضمنها مصالح لا تحصى ربّنا ما خلقت هذا باطلا كيف والأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام كانوا يراعون الأسباب ومع تلك المراعاة كانوا يفوّضون أمورهم إلى الحقّ سبحانه وتعالى كما قال يعقوب على نبيّنا وعليه الصّلاة والسّلام وصيّة لبنيه ملاحظا لإصابة العين (يا بنيّ لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرّقة) الآية. ومع وجود هذه المراعاة قال تفويضا أمره إلى الله تعالى (وما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ الله مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلّا لله عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) واستصوب سبحانه هذه المعرفة منه واستحسنها ونسبها إلى نفسه حيث قال بعد ذلك (وإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ) الآية. وأشار الحقّ سبحانه في القرآن المجيد فيما خاطب

به نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم إلى توسّط الأسباب وقال (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ الله ومَنِ (١) اِتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).

(بقي) الكلام في تأثير الأسباب ويجوز أن يخلق الله سبحانه في بعض الأوقات تأثيرا في الأسباب فتكون مؤثّرة ويجوز أن لا يخلق التّأثير فيها في بعض الأوقات فلا يترتّب عليها أثر أصلا بالضّرورة كما أنّا نشاهد هذا المعنى فإنّ بعض الأسباب يترتّب عليها وجود المسبّبات أحيانا وفي بعض الأوقات لا يظهر منها أثر ما أصلا فالإنكار على تأثير الأسباب مطلقا مكابرة ينبغي أن يقول بالتّأثير وينبغي أن يعتقد أنّ وجود ذلك التّأثير كوجود نفس السّبب بإيجاد الله سبحانه هذا هو رأي الفقير في هذه المسألة والله سبحانه أعلم.

(فلاح) من هذا البيان أنّ التّمسّك بالأسباب ليس بمناف للتّوكّل كما ظنّ النّاقصون بل في التّمسّك بالأسباب كمال التّوكّل فإنّ يعقوب عليه السّلام أطلق التّوكّل على مراعاة الأسباب مع تفويض الأمر إلى الحقّ جلّ وعلا حيث قال: عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ.

وأنّه تعالى مريد الخير والشّرّ وخالق كلّ منهما ولكنّه راض بالخير وغير راض بالشّرّ وبين الرّضا والإرادة فرق دقيق هدى الله سبحانه أهل السّنّة إلى هذا الفرق وبقي سائر الفرق في الضّلالة لعدم اهتدائهم إلى هذا الفرق ومن ههنا قالت المعتزلة: إنّ العبد خالق لأفعاله ونسبوا إيجاد الكفر والمعاصي إليه ويفهم من كلام الشّيخ محيي الدّين واتباعه أنّ الإيمان مرضيّ الإسم الهادي وكذا الأعمال الصّالحة والكفر مرضيّ الإسم المضلّ وكذا المعاصي.

وهذا الكلام أيضا مخالف لما عليه أهل الحقّ وفيه ميل إلى الإيجاب لكونه منشأ للرّضا كما يقال:

الإشراق مرضيّ الشّمس يعني لازمها. (وقد أعطى) الحقّ سبحانه عباده قدرة وإرادة يكتسبون بهما الأفعال باختيارهم فخلق الأفعال منسوب إلى الله سبحانه وكسبها إلى العباد وعادة الله سبحانه جارية على أنّ العبد إذا قصد فعل شيء من أفعاله وتشبّث بأسبابه يتعلّق بذلك الفعل خلقه سبحانه وتعالى فإذا كان صدور الفعل من العبد بقصده واختياره يكون متعلّق المدح والذّمّ والثّواب والعقاب بالضّرورة وما قيل إنّ اختيار العبد ضعيف فإن كان المراد به أنّه ضعيف بالنّسبة إلى إرادة الله تعالى فمسلّم وإن كان أنّه غير كاف في أداء الفعل المأمور به فغير صحيح فإنّ الله سبحانه لا يكلّف العبد بما ليس في وسعه بل يريد اليسر ولا يريد العسر غاية ما في الباب أنّ حكمة الجزاء المخلّد على الفعل الموقّت مفوّضة إلى تقدير الحقّ وعلمه تعالى وقد قال في حقّ الجزاء المخلّد على الكفر الموقّت (جزاء وفاقا) وجعل التّلذّذات الدّائمة مسبّبة من الإيمان الموقّت ومترتّبة عليه ذلك تقدير العزيز العليم ولكن نعرف بتوفيق الله سبحانه أنّ

__________

(١) وهذا على تقدير كون الموصول مرفوعا معطوفا على لفظ الجلالة (القزاني رحمة الله عليه)

اختيار الكفر بالنّسبة إلى الحقّ سبحانه وتعالى الّذي هو مولى النّعم الظّاهرة والباطنة وموجد السّموات والأرض وما من عظمة وكمال الّا هو ثابت له تعالى يقتضي أن يكون جزاء ذلك الكفر من أشدّ العقوبات وهو الخلود في عذاب النّار

وكذلك الإيمان بالغيب بمثل هذا المنعم العظيم الشّأن وتصديقه مع وجود مزاحمة النّفس والشّيطان وممانعة سائر الأكوان يستدعي أن يكون جزاؤه من أفضل الجزاء وهو الخلود في التّنعّمات والتّلذّذات في الجنان. قال بعض المشائخ: إنّ دخول الجنّة مربوط في الحقيقة بفضل الحقّ سبحانه وإنّما جعل منوطا بالإيمان بناء على أنّ كلّما يكون جزاء الأعمال يكون ألذّ وعند الفقير أنّ دخول الجنّة في الحقيقة مربوط بالإيمان ولكنّ الإيمان فضل من المنّان وعطيّة من ذي الجود والإحسان ودخول النّار مربوط بالكفر والكفر ناش من هوى النّفس والطّغيان ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيّئة فمن نفسك.

(ينبغي أن يعلم) أنّ جعل دخول الجنّة مربوطا بالإيمان في الحقيقة تعظيم الإيمان بل تعظيم المؤمن به حيث ترتّب عليه مثل هذا الأجر العظيم القدر وكذلك جعل دخول النّار مربوطا بالكفر تحقير للكفر وتنقيص لمن وقع هذا الكفر بالنّسبة إليه (فترتّب) مثل هذه العقوبة الدّائمة عليه بخلاف ما قال به بعض المشائخ فإنّه خال عن هذه الدّقيقة وأيضا إنّ هذا الوجه لا يتمشّى في دخول النّار الّذي هو عديله فإنّ دخول النّار في الحقيقة مربوط بالكفر والله سبحانه الملهم للصّواب هذا (ويرى) المؤمنون الحقّ سبحانه في الآخرة في الجنّة من غير جهة ولا كيف ولا شبه ولا مثال وأنكر على ذلك جميع الفرق مليّهم وغير مليّهم خلا أهل السّنّة فإنّهم لا يجوّزون الرّؤية بلا جهة ولا كيف حتّى إنّ نسخ الشّيخ محيي الدّين بن عربيّ تنزّل الرّؤية الاخرويّة إلى التّجلّي الصّوريّ ولا يجوّز غير التّجلّي.

نقل حضرة شيخنا يوما عن الشّيخ أنّه قال: إنّ المعتزلة لو لم يقيّدوا الرّؤية بمرتبة التّنزيه وقالوا بالتّشبيه أيضا وتصوّروا الرّؤية عين هذا التّجلّي لما أنكروا الرّؤية أصلا ولما استحالوها يعني أنّ إنكارهم عليها إنّما هو من حيثيّة كونها بلا جهة ولا كيف ممّا هو مخصوص بمرتبة التّنزيه بخلاف هذا التّجلّي فإنّ الجهة والكيف ملحوظان فيه.

(لا يخفى) أنّ تنزيل الرّؤية الاخرويّة إلى التّجلّي الصّوريّ إنكار عليها في الحقيقة فإنّ ذلك التّجلّي الصّوريّ وإن كان مغايرا للتّجلّيات الصّوريّة الدّنيويّة ليس هو رؤية الحقّ تعالى، (نظم):

يراه المؤمنون بغير كيف ... وإدراك وضرب من مثال

وبعثة الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام رحمة للعالمين فلو لم تكن وساطة هؤلاء الكبراء من كان يدلّنا على معرفة ذات واجب الوجود وصفاته؟ ومن كان يميّز لنا مرضيّات مولانا جلّ شأنه عن غير مرضيّاته؟ فإنّ عقولنا النّاقصة بمعزل عن هذا المعنى بدون تأييد نور دعوتهم وأفهامنا القاصرة مخبولة في هذه

المعاملة من غير تقليد هؤلاء الأكابر نعم إنّ العقل وإن كان حجّة ولكنّه غير تامّ في الحجّيّة وغير بالغ مرتبة البلوغ والحجّة البالغة إنّما هي بعثة الأنبياء عليهم السّلام والعذاب والثّواب الاخرويّان منوطان بها.

فإن قيل: إذا كان العذاب الدّائميّ الاخرويّ منوطا بالبعثة فبأيّ معنى تكون البعثة رحمة للعالمين؟ (أجيب) أنّ البعثة عين الرّحمة لأنّها سبب لمعرفة ذات واجب الوجود وصفاته تعالى وتقدّس وهي متضمنّة لسعادة دنيويّة وأخرويّة وبدولة البعثة امتاز ما هو اللّائق بجناب قدسه تعالى عمّا هو غير لائق به فإنّ عقولنا العرجى العميى الّتي هي متّسمة بسمة الإمكان والحدوث كيف تعرف وكيف تدرك ما هو مناسب لحضرة الوجوب الّذي من لوازمه القدم من الأسماء والصّفات وما لا يناسبه منها حتّى يطلق عليه ذاك ويجتنب من هذا بل هو كثيرا ما يزعم من نقصه الكمال نقصانا والنّقص كمالا وهذا التّمييز عند الفقير فوق جميع النّعم الظّاهرة والباطنة وأشدّ المحرومين من السّعادة من ينسب إلى جناب قدسه تعالى أمورا غير مناسبة وأشياء غير لائقة به تعالى والّذي ميّز الحقّ عن الباطل هو البعثة والّذي فرّق بين المستحقّ للعبادة وبين غير المستحقّ لها هو البعثة وبواسطتها يدعي العباد إلى طريق الحقّ جلّ وعلا وبها يصلون إلى سعادة قرب المولى ووصله جلّ سلطانه وبسبب البعثة يتيسّر الإطّلاع على مرضيّات المولى جلّ شأنه كما مرّ وبها يتميّز جواز التّصرّف في ملكه تعالى عن عدم جوازه وأمثال هذه الفوائد في البعثة كثيرة فتقرّر أنّ البعثة رحمة ومن كان منقادا للنّفس وأنكر البعثة تبعا لحكم الشّيطان اللّعين ولم يعمل بمقتضى حكم البعثة فما ذنب البعثة فيه وكيف لا تكون البعثة رحمة بسبب خذلانه.

فإن قيل: سلّمنا أنّ العقل ناقص غير تامّ في حدّ ذاته في حقّ معرفة الأحكام الإلهيّة جلّ شأنه ولكن لم لا يجوز أن يحصل للعقل بعد حصول التّصفية والتّزكية له مناسبة واتّصال بلا كيف بمرتبة الوجوب تعالت وتقدّست فيأخذ الأحكام من هناك بتلك المناسبة والإتّصال فلا يحتاج حينئذ إلى البعثة الّتي هي بواسطة الملك.

(أجيب) أنّ العقل وإن حصل له تلك المناسبة والإتّصال ولكن لا يزول عنه التّعلّق بهذا الجسم الهيولانيّ بالكلّيّة ولا يحصل له التّجرّد التّامّ فتكون القوّة الوهميّة في عقبه دائما ولا تترك القوّة المتخيّلة ذيل خياله أصلا وتكون القوّة الغضبيّة والشّهويّة مصاحبتين له في جميع الأزمان وتكون رذيلة الحرص والشّره نديميه في كلّ أوان ولا ينفكّ عنه السّهو والنّسيان اللّذان هما من لوازم نوع الإنسان دائما ولا يفارقه الخطأ والغلط اللّذان هما من خواصّ هذه النّشأة أبدا فلا يكون العقل إذا حقيقا وحريّا بالإعتماد ولا تكون الأحكام المأخوذة بواسطته مصونة من سلطان الوهم وتصرّف الخيال ولا محفوظة من شائبة الخطأ ومظنّة النّسيان بخلاف الملك فإنّه منزّه عن هذه الأوصاف مبرّأ عن هذه الرّذائل فيكون مستحقا للاعتماد وتكون الأحكام المتلقّاة منه مصونة من شائبة الوهم والخيال ومظنّة الخطأ والنّسيان وقد يحسّ في بعض الأوقات أنّ الأحكام المأخوذة بلقاء الرّوحانيّين والمعارف المتلقّاة منهم ينضمّ إليها في أثناء تبليغها بالقوى

والحواسّ بعض المقدّمات المسلّمة غير الصّادقة الحاصلة من طريق الوهم والخيال أو غيرهما بلا اختيار بحيث لا يمكن تمييزها في ذلك الوقت عن تلك الأحكام وربّما يحصل ذلك التّمييز في وقت آخر وربّما لا يحصل فلا جرم يعرض لهذه العلوم بواسطة مخالطة تلك المقدّمات هيئة الكذب فتخرج به عن أن تكون معتمدا عليها.

(أو نقول) إنّ حصول التّزكية والتّصفية منوط بإتيان الأعمال الصّالحة الّتي هي مرضيّات الحقّ سبحانه وتعالى ومعرفة ذلك موقوفة على البعثة كما مرّ فلا يتيسّر حصول حقيقة التّصفية والتّزكية بدون البعثة والصّفاء الحاصل للكفّار والفسّاق هو صفاء النّفس لا صفاء القلب وصفاء النّفس لا يزيد شيئا غير الضّلالة ولا يورث شيئا غير الخسارة وكشف بعض الامور الغيبيّة الّذي يحصل للكفّار والفسّاق وقت صفاء نفوسهم استدراج في حقّهم يقصد به هلاكهم وخسارتهم نجّانا الله سبحانه من هذه البليّة بحرمة سيّد المرسلين عليه وعليهم الصّلاة والسّلام.

(واتّضح) من هذا التّحقيق أنّ التّكاليف الشّرعيّة الثّابتة من طريق البعثة أيضا رحمة لا كما زعمه المنكرون عليها من الملاحدة والزّنادقة من اعتقادها كلفة وغير معقولة حتّى قالوا: أيّ شفقة في تكليف العباد بأمور شاقّة ثمّ يقال لهم: من عمل بمقتضى هذا التّكليف يدخل الجنّة ومن ارتكب خلافه يدخل النّار كيف لا يكلّفون بل يتركون يأكلون وينامون ويمشون على طور عقولهم ومقتضى طبائعهم أما يعلم هؤلاء الخبثاء الخائبون أنّ شكر المنعم واجب عقلا وهذه التّكليفات الشّرعيّة بيان كيفيّة أداء ذلك الشّكر فيكون التّكليف واجبا بالعقل وأيضا إنّ نظام هذا العالم وانتظام أمره منوط بهذا التّكليف فإنّه إذا ترك كلّ أحد على طوره وخلّى على طبعه لا يظهر فيه غير الشّرّ والفساد ويعتدي كلّ مهوّس على نفس الآخر وماله ويتغلّب عليه بالخبث والفساد فيضيّع نفسه عند عدم الزّواجر الشّرعيّة وموانعها ويضيّع غيره عياذا بالله سبحانه وتعالى ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب، شعر:

لو لا الأمير الّذي نخشى بوادره ... لقاءت الزّنج في بحبوحة الحرم

(أو نقول) إنّ الله تعالى مالك على الإطلاق والعباد كلّهم مماليكه سبحانه فكلّ حكم وتصرّف يجريه عليهم فهو عين الخير والصّلاح لهم وهو منزّه ومبرّأ عن شائبة الظّلم والفساد في ذلك لا يسأل عمّا يفعل (شعر):

من ذا الّذي في فعله يتكلّم ... دون الرّضا يا صاح والتّسليم

فإن أدخل الجميع إلى النّار وعذّبهم بالعذاب الأبديّ فليس ذلك منه بمحلّ الإعتراض وليس تصرّفا في ملك الغير حتّى تكون فيه شائبة الجور بخلاف تصرّفنا في أملاكنا الّتي كلّها أملاكه تعالى في الحقيقة. وجميع التّصرّفات منّا فيها عين الظّلم فإنّ صاحب الشّرع إنّما نسب هذه الأملاك إلينا بسبب

بعض المصالح والّا فهي في الحقيقة أملاكه تعالى فجواز تصرّفنا فيها مقصور على القدر الّذي جوّزه لنا المالك على الإطلاق وأباحه.

(وجميع) ما أخبر به هؤلاء الأكابر عليهم الصّلاة والسّلام باعلام الحقّ جلّ وعلا وما بيّنوا من الأحكام كلّها صادقة ومطابقة للواقع وإن جوّز العلماء الخطأ في أحكامهم الإجتهاديّة ولكنّهم لم يجوّزوا تقريرهم على الخطأ بل قالوا: إنّهم ينبّهون عليه بلا تأخير فيتدار كونه بالصّواب فلا اعتداد بذلك الخطأ.

(وعذاب القبر) للكافرين ولبعض عصاة المؤمنين حقّ قد أخبر به المخبر الصّادق (وسؤال منكر ونكير) للمؤمنين والكافرين في القبر أيضا حقّ والقبر برزخ بين الدّنيا والآخرة وعذابه أيضا من وجه مناسب لعذاب الدّنيا فيقبل الإنقطاع ومن وجه مناسب لعذاب الآخرة بل هو من عذاب الآخرة في الحقيقة وقوله تعالى (النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وعَشِيًّا) نزل في عذاب القبر وكذلك راحة القبر لها جهتان والسّعيد من يغفر زلّاته ومعاصيه بكمال الكرم والرّأفة ولا يؤاخذ فإن يؤاخذ إنّما يؤاخذ بآلام الدّنيا ومحنها ويكون ذلك كفّارة لذنوبه من كمال الرّحمة فإن بقيت منها بقيّة تكفّر بضطغة القبر والمحن المهيّأة لذلك الموطن حتّى يبعث في المحشر طاهرا ومطهّرا ومن لم يعامل به هذه المعاملة بل أخّرت مؤاخذته إلى الآخرة فهو عين العدل ولكن ويل للعاصين والخاطئين وأمّا من كان من أهل الإسلام فمآله إلى الرّحمة ومحفوظ من العذاب الأبديّ وذلك أيضا نعمة عظيمة ربّنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنّك على كلّ شيء قدير بحرمة سيّد المرسلين عليه وعليهم الصّلاة والسّلام. (ويوم القيامة) حقّ وتكون السّموات والكواكب والأرض والجبال والبحار والحيوانات والنّباتات والمعادن معدومة ومتلاشية ويومئذ تنشقّ السّموات وتنتثر الكواكب ويكون الأرض والجبال هباء منثورا وهذا الإعدام والإفناء يتعلّق بالنّفخة الاولى وبالنّفخة الثّانية يقوم الخلائق من قبورهم ويذهبون إلى المحشر. والفلاسفة لا يجوّزون إعدام السّموات والكواكب والفناء والفساد لها ويقولون بأزليّتها وأبديّتها ومع ذلك يجعل المتأخّرون منهم أنفسهم من زمرة أهل الإسلام ويأتون ببعض أحكام الإسلام يعني يعملون بها والعجب من بعض أهل الإسلام أنّه كيف يصدّق منهم هذا المعنى ويعتقدهم مسلمين من غير تحاش.

وأعجب من ذلك أنّ بعض المسلمين يعتقد إسلام بعض من هذه الجماعة كاملا ويظنّ طعنهم وتشنيعهم منكرا والحال أنّهم منكرون على النّصوص القطعيّة وإجماع الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام قال الله تعالى (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وإِذَا النُّجُومُ اِنْكَدَرَتْ) وقال تعالى (إِذَا السَّماءُ اِنْشَقَّتْ وأَذِنَتْ لِرَبِّها وحُقَّتْ) وقال تعالى (وفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْوابًا) أي شقّت وأمثال ذلك في القرآن كثيرة أولا يعلمون أنّ مجرّد التّفوّه بكلمة الشّهادة غير كاف في الإسلام بل لا بدّ من تصديق جميع ما علم مجيئه من الدّين بالضّرورة والتّبرّي من الكفر ولوازمه أيضا حتّى يتصوّر الإسلام وبدونه خرط القتاد. (والصّراط) حقّ

والميزان حقّ والحساب حقّ قد أخبر بكلّ منها المخبر الصّادق عليه وعلى آله الصّلاة والسّلام. واستبعاد بعض الجاهلين بطور النّبوّة وجود هذه الامور ساقط عن حيّز الإعتبار فإنّ طور النّبوّة وراء طور العقل وتطبيق جميع أخبار الأنبياء الصّادقة على نظر العقل والتّوفيق بينهما إنكار في الحقيقة على طور النّبوّة والمعاملة هناك إنّما هي بالتّقليد ألم يعلموا أنّ طور النّبوّة مخالف لطور العقل بل لا يقدر العقل أن يهتدي إلى تلك المطالب العالية بدون تأييد تقليد الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام والمخالفة غير عدم الإدراك فإنّ المخالفة إنّما تتصوّر بعد الإدراك.

(والجنّة والنّار) موجودتان تدخل طائفة الجنّة بعد المحاسبة يوم القيامة وطائفة تدخل النّار وثواب اهل الجنّة وعقاب أهل النّار أبديّان لا ينقطعان كما دلّت عليه النّصوص القطعيّة المؤكّدة قال صاحب الفصوص: مآل الكلّ إلى الرّحمة إنّ رحمتي وسعت كلّ شيء وثبت العذاب للكفّار إلى ثلاثة احقاب ويقول ثمّ تصير النّار في حقّهم بردا وسلاما كما كانت للخليل على نبيّنا وعليهم الصّلاة والسّلام ويجوز الخلف في وعيده سبحانه ويقول: لم يذهب أحد من أرباب القلوب إلى خلود الكفّار في عذاب النّار وهو قد وقع في هذه المسألة أيضا بعيدا عن الصّواب لم يدر أنّ سعة الرّحمة وعمومها في حقّ المؤمنين والكافرين مخصوصة بالدّنيا وأمّا في الآخرة فلا تصل رائحة الرّحمة إلى مشامّ الكفّار كما قال الله تعالى (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ الله إِلّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) وقال تعالى بعد قوله سبحانه (ورَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ والَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) وكأنّ الشّيخ قرأ أوّل الآية وترك آخرها وليس في قوله تعالى (فَلا تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) دلالة على خصوصيّة عدم الجواز بخلف الوعد لأنّه لا يجوز الإقتصار هنا على عدم خلف الوعد بناء على أنّ المراد من الوعد هنا الوعد بتصرّف الرّسل وتسلّطهم على الكفّار وغلبتهم عليهم وهو متضمّن للوعد والوعيد جميعا وعد للرّسل ووعيد للكفّار فدلّت هذه الآية على انتفاء خلف الوعد وخلف الوعيد جميعا فالآية مستشهد بها عليه لا له وأيضا أنّ الخلف في الوعيد كالخلف في الوعد مستلزم للكذب وما لا يليق به سبحانه لأنّ حقيقة هذا القول أنّ الله تعالى علم في الأزل أنّه لا يخلّد الكفّار في عذاب النّار ومع ذلك أخبر بخلاف علمه رعاية لمصلحة وقال: أعذّبهم بالعذاب المخلّد وفي تجويز هذا المعنى شناعة تامّة سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون وسلام على المرسلين. إجماع أرباب القلوب على عدم خلود الكفّار في عذاب النّار من كشفيّات الشّيخ ومجال الخطأ في الكشف كثير فلا اعتداد به مع كونه مخالفا لإجماع المسلمين.

(والملائكة) عباد الله سبحانه معصومون من العصيان ومحفوظون من الخطأ والنّسيان لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون لا يأكلون ولا يشربون لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة فهم مبرّؤن عنهما ومنزّهون وتذكير الضّمائر الرّاجعة إليهم في القرآن المجيد إنّما هو باعتبار شرف صنف الذّكور بالنّسبة إلى صنف الإناث كما أورد الحقّ سبحانه الضّمائر الرّاجعة إلى نفسه مذكّرة وقد اصطفى الحقّ سبحانه

بعضهم للرّسالة كما شرّف بعض الإنسان بهذه الدّولة الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن النّاس.

وجمهور علماء أهل الحقّ على أنّ خواصّ البشر أفضل من خواصّ الملائكة وقال الإمام الغزاليّ وإمام الحرمين وصاحب الفتوحات المكّيّة بأفضليّة خواصّ الملائكة من خواصّ البشر وما ظهر لهذا الفقير أنّ ولاية الملك أفضل من ولاية الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام ولكن في النّبوّة والرّسالة درجة للأنبياء لم يبلغها ملك قطّ وهذه الدّرجة ناشئة من جهة العنصر التّرابيّ الّذي هو مخصوص بالبشر وظهر أيضا لهذا الفقير أنّ كمالات الولاية لا اعتداد بها بالنّسبة إلى كمالات النّبوّة وليت لها حكم القطرة بالنّسبة إلى البحر المحيط فالمزيّة النّاشئة من طريق النّبوّة تكون زائدة بأضعاف مضاعفة على المزيّة النّاشئة من طريق الولاية فالأفضليّة على الإطلاق ثابتة للأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام والفضل الجزئيّ للملائكة الكرام عليهم السّلام فالصّواب ما قاله الجمهور من العلماء الأعلام شكر الله سعيهم يوم القيام.

(فلاح) من هذا التّحقيق أنّه لا يبلغ وليّ قطّ درجة نبيّ من الأنبياء عليهم السّلام بل يكون رأس الوليّ تحت قدم نبيّ على الدّوام (ينبغي) أن يعلم أنّه ما من مسألة اختلف فيها العلماء والصّوفيّة الّا إذا لوحظ فيها حقّ الملاحظة يوجد الحقّ فيها في جانب العلماء وسرّ ذلك أنّ نظر العلماء بواسطة متابعة الأنبياء عليهم السّلام نافذ إلى كمالات النّبوّة وعلومها، ونظر الصّوفيّة مقصور على كمالات الولاية ومعارفها فلا جرم يكون العلم المأخوذ من مشكاة النّبوّة أصوب وأصحّ من العلم المأخوذ من مرتبة الولاية. وتحقيق بعض هذه المعارف مندرج في المكتوب المسطور باسم ولدي الأرشد فإن بقي هنا شيء من الخفاء فليراجع هناك. والإيمان عبارة عن تصديق قلبيّ بما بلغنا من الدّين بطريق الضّرورة والتّواتر وقالوا: الإقرار اللّسانيّ أيضا ركن من الإيمان محتمل للسّقوط وعلامة هذا التّصديق التّبرّي من الكفر والتّجنّب عن لوازمه وخصائصه وكلّما هو من فعل الكفّار كشدّ الزّنّار وأمثاله فإن لم يتبرّأ من الكفر عياذا بالله سبحانه مع دعوى التّصديق ظهر أنّه متّسم بسمة الإرتداد وحكمه في الحقيقة حكم المنافق لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء فلا بدّ إذا في تحقّق الإيمان من التّبرّي من الكفر وأدنى هذا التّبرّي قلبيّ وأعلاه التّبرّي بحسب القلب والقالب. والتّبرّي عبارة عن معاداة أعداء الحقّ جلّ وعلا سواء كانت هذه المعاداة بالقلب فقط كما إذا خيف من ضررهم أو بالقلب والقالب معا إذا لم يكن ضرر الخوف وقوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفّارَ والْمُنافِقِينَ واُغْلُظْ عَلَيْهِمْ) مؤيّد لهذا المعنى فإنّ محبّة الحقّ سبحانه ومحبّة رسوله عليه الصّلاة والسّلام لا تتصوّر بدون معاداة أعداء الله ورسوله، (ع): وليس محبّي من يحبّ أعاديا *

وإجراء الشّيعة الشّنيعة هذه القضيّة في موالاة أهل البيت وجعلهم التّبرّي من الخلفاء الثّلاثة وغيرهم من الصّحابة شرطا لها غير مناسب فإنّ التّبرّي الّذي هو من شرط موالاة الأحباب هو التّبرّي من الأعداء لا مطلق التّبرّي عمّن سواهم لا يجوّز عاقل منصف كون أصحاب النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام أعداء فإنّ

هؤلاء الأكابر بذلوا أموالهم وأنفسهم في محبّته عليه الصّلاة والسّلام وتركوا الجاه والرّياسة فكيف يجوز نسبة عداوة أهل البيت إليهم ولزوم محبّة أهل بيته عليه الصّلاة والسّلام ثابت بالنّصّ القطعيّ وجعلت محبّتهم أجرة الدّعوة (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ومَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْنًا)

وإبراهيم الخليل على نبيّنا وعليه الصّلاة والسّلام إنّما نال من الدّرجة القصوى وصار أصل شجرة النّبوّة بواسطة تبرّيه من أعدائه تعالى قال الله تعالى (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ والَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ ومِمّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله كَفَرْنا بِكُمْ وبَدا بَيْنَنا وبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ والْبَغْضاءُ أَبَدًا حَتّى تُؤْمِنُوا بِالله وَحْدَهُ) ولا عمل من الأعمال في نظر هذا الفقير أفضل من هذا التّبرّي في حصول رضا الحقّ جلّ وعلا وإنّ للحقّ سبحانه وتعالى عداوة ذاتيّة مع الكفر والكفرة والآلهة الباطلة الآفاقيّة مثل اللّات والعزّى، وعبدتها أعداء الحقّ سبحانه بالذّات والخلود في النّار جزاء هذا العمل الشّنيع وهذه الحالة مفقودة في الآلهة الباطلة الأنفسيّة وسائر الأعمال السّيّئة فإنّ العداوة والغضب بالنّسبة إلى هذه المذكورات ليست بذاتيّة فإن كان هناك غضب فهو راجع إلى الصّفات وإن كان عقاب أو عتاب فهو راجع إلى الأفعال ولهذا لم يكن الخلود في النّار جزاء هذه السّيّئات بل جعل الحقّ سبحانه مغفرتهم منوطة بمشيئته.

(ينبغي) أن يعلم أنّه لمّا تحقّق العداوة الذّاتيّة في حقّ الكفر والكفّار امتنع أن تشمل الرّحمة والرّأفة اللّتان هما من صفات الجمال في الآخرة الكفّار وأن ترفع صفة الرّحمة العداوة الذّاتيّة فإنّ المتعلّق بالذّات اقوى وارفع ممّا هو متعلّق بالصّفة فمقتضى الصّفات لا يقدر أن يبدّل ويغيّر مقتضى الذّات وما ورد في الحديث القدسيّ سبقت (١) رحمتي غضبي فالمراد بالغضب فيه ينبغي أن يكون الغضب الصّفاتيّ الّذي هو مقصور على عصاة المؤمنين لا الغضب المخصوص بالمشركين.

(فإن قيل) إنّ للكفّار نصيبا من الرّحمة في الدّنيا كما حقّقته فيما سبق فكيف تكون صفة الرّحمة في الدّنيا رافعة للعداوة الذّاتيّة؟

(أجيب) أنّ حصول الرّحمة للكافرين في الدّنيا إنّما هو باعتبار الظّاهر والصّورة وأمّا في الحقيقة فهو استدراج ومكيدة في حقّهم وقوله تعالى (أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) وقوله تعالى (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) شاهد لهذا المعنى فليفهم.

__________

(١) رواه الشيخان عن ابى هريرة رضى الله عنه

(فائدة جليلة) إنّ عذاب النّار الأبديّ جزاء الكفر. فإن قيل: إنّ شخصا مع وجود الإيمان يجري رسوم الكفر ويعظّم مراسم أهل الكفر ويحكم العلماء بكفره ويعدّونه من أهل الإرتداد بفعله كما أنّ أكثر مسلمي الهنود مبتلون بهذه البليّة فيلزم أن يكون الشّخص معذّبا في الآخرة بالعذاب الأبديّ بمقتضى فتوى العلماء والحال أنّه قد ورد في الأخبار الصّحاح أنّ من كان في قلبه مثقال ذرّة من الإيمان يخرج من النّيران ولا يخلّد في العذاب فما تحقيق هذه المسألة عندك؟ (اقول) إن كان كافرا محضا فنصيبه العذاب المخلّد أعاذنا الله سبحانه منه وإن كان فيه مقدار ذرّة من الإيمان مع وجود إتيان مراسم الكفر يعذّب في النّار ولكنّ المرجوّ خلاصه من الخلود في النّار ببركة تلك الذّرّة من الإيمان ونجاته من دوام الإستقرار في عذاب النّيران وقد ذهبت مرّة لعيادة شخص قد قرب من الإحتضار ولمّا كنت متوجّها إلى حاله رأيت قلبه في ظلمات شديدة وكلّما كنت متوجّها لرفع تلك الظّلمات لم ترتفع فعلم بعد توجّه كثير أنّ تلك الظّلمات ناشئة من صفة الكفر الّتي هي مكنونة فيه ومنشأ تلك الكدورات هو موالاته أهل الكفر وبان لي أنّه لا ينبغي التّوجّه لدفع تلك الظّلمات فإنّ تنقيته منها مربوطة بعذاب النّار الّذي هو جزاء الكفر. وعلم أيضا أنّ فيه مقدار ذرّة من الإيمان وأنّه يتخلّص من الخلود في عذاب النّيران ببركة ذلك المقدار من الايمان ولمّا شاهدت فيه هذا الحال وقع في خاطري أنّه هل يجوز أن يصلّى عليه أو لا؟

فظهر بعد التّوجّه أنّه ينبغي أن يصلّى عليه فالمسلمون الّذين يجرون رسوم أهل الكفر مع وجود الإيمان ويعظّمون أيّامهم ينبغي أن يصلّى عليهم ولا ينبغي إلحاقهم بالكفّار كما هو عمل اليوم وينبغي أن يرجى نجاتهم من العذاب الأبديّ آخر الأمر فعلم ممّا ذكرنا أنّه لا عفو عن أهل الكفر ولا مغفرة لهم (إنّ الله لا يغفر أن يشرك به) فإن كان كافرا صرفا فجزاء كفره العذاب الأبديّ وإن كان فيه مع فجوره مقدار ذرّة من الإيمان أيضا فجزاؤه العذاب الموقّت وفي سائر الكبائر إن شاء الله تعالى غفره وإن شاء عذّبه وعند الفقير انّ عذاب النّار مخصوص بالكفر وصفات الكفر سواء كان ذلك العذاب مؤقّتا أو مخلّدا أو مؤبّدا كما سيجيء تحقيقه. وأمّا أهل الكبائر الّذين لم يوفّقوا للتّوبة فيغفر بها ذنوبهم ولم ينالوا الشّفاعة ومجرّد العفو والإحسان ولم تكفّر كبائرهم أيضا بآلام الدّنيويّة ومحنها أو بشدائد سكرات الموت فالمرجوّ أن يكتفي في تعذيب طائفة منهم بعذاب القبر وفي أخرى منهم مع وجود محن القبر بأهوال يوم القيامة وشدائدها وأن لا تبقى ذنوبهم حتّى يحتاج إلى عذاب النّار وقوله تعالى (الَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ) الآية، مؤيّد لهذا المعنى فإنّ المراد بالظّلم هنا الشّرك والله سبحانه أعلم بحقائق الامور كلّها.

(فإن قيل) قد ورد الوعيد بعذاب النّار في جزاء بعض السّيّئات غير الكفر كما قال تعالى (ومَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِدًا فِيها) وورد في الأخبار من قضى (١) صلاة واحدة متعمّدا بقي في النّار حقبا فلم يكن عذاب النّار مخصوصا بالكفّار. (أقول) امّا ورد في القاتل فهو مخصوص بمستحلّ القتل ومستحلّ القتل كافر كما ذكره المفسّرون وما ورد في السّيّئات غير الكفر من الوعيد بعذاب النّار فلا تخلوا تلك السّيّئات من شائبة صفة الكفر مثل استخفاف تلك السّيّئة واستصغارها وعدم المبالاة بإتيانها واستحقار الأوامر الشّرعيّة ونواهيها وقد ورد في الخبر: شفاعتي (٢) لأهل الكبائر من أمّتي. وقال في حديث آخر: أمّتي (٣) أمّة مرحومة لا عذاب عليها في الآخرة. وقوله تعالى (الَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ) الآية، مؤيّد لهذا المعنى كما مرّ وأحوال أطفال المشركين ومن نشأ في شاهق الجبل ومشركي زمن الفترة مسطورة في المكتوب الّذي كتبته لولدي محمّد سعيد بالتّفصيل فليراجع هناك. (وفي) زيادة الإيمان ونقصانه وعدمهما اختلاف بين العلماء قال الإمام الأعظم أبو حنيفة رضي الله عنه: الإيمان لا يزيد ولا ينقص.

وقال الإمام الشّافعيّ رضي الله عنه: يزيد وينقص. ولا شكّ أنّ الإيمان عبارة عن تصديق ويقين قلبيّ ولا يتصوّر فيه الزّيادة والنّقصان والّذي يقبل الزّيادة والنّقصان فهو داخل في دائرة الظّنّ لا اليقين.

(غاية ما في الباب) أنّ إتيان الأعمال الصّالحة يورث جلاء ذلك اليقين وصفاءه وإتيان الأعمال غير المرضيّة يكدّره ويظلم ضياءه فالزّيادة والنّقصان بحسب إتيان الأعمال الصّالحة وضدّها راجعان إلى جلاء اليقين لا إلى النّفس اليقين ولمّا وجد طائفة جلاء وصفاء في يقينهم قالوا بزيادته بالنّسبة إلى يقين ليس فيه ذلك الجلاء والصّفاء وكأنّهم لم يروا اليقين الّذي لا جلاء فيه يقينا بل اعتقدوا أنّ اليقين هو اليقين الّذي له جلاء فقط دون غيره فقالوا لذاك ناقصا.

(وأمّا) الّذين فيهم حدّة النّظر فلمّا رأوا أنّ تلك الزّيادة والنّقصان راجعان إلى وصف اليقين لا إلى نفس اليقين لم يقولوا بزيادة اليقين ونقصانه بالضّرورة ومثل ذلك كمثل المرآتين المساويتين في الصّغر والكبر المتفاوتتين بحسب الجلاء والنّورانيّة فرآهما شخص وقال للّتي جلاؤها أكثر إنّها أزيد وأكبر من

__________

(١) (قوله من قضى صلاة الخ) اى تركها متعمدا ثم قضاها قال مخرجه لم اجد له اصلا لا في الكتب المعتمدة ولا في غير المعتمدة وإنما اخرجه بعض المتأخرين من المتفقهين في كتابه. (القزاني رحمة الله عليه)

(٢) (قوله شفاتى لاهل الكبائر من امتى) رواه الترمذي وابو داود عن انس وابن ماجه عن جابر رضى الله عنهم (القزاني رحمة الله عليه)

(٣) (قوله امتى امة مرحومة الحديث) اخرج الخطيب في المتفق والمفترق وابن النجار عن ابن عباس رضى الله عنهما بلفظ امتى امة مرحومة لا عذاب عليها في الآخرة اذا كان يوم القيامة اعطى الله كل رجل من امتى رجلا من اهل الاديان فكان فداؤه من النار (واخرج) دطب ك عن ابى موسى بلفظ امتى هذه امة مرحومة ليس عليها عذاب في الآخرة إنما عذابها في الدنيا الفتن والزلازل والقتل والبلايا اهـ. وفى سند الاول عبد الله بن ضرار عن ابيه قال ابن معين لا يكتب حديثه اهـ. راموز (القزاني رحمة الله عليه)

الاخرى الّتي ليس فيها ذلك الجلاء وقال شخص آخر: المرآتان متساويتان لا زيادة لأحديهما على الاخرى ولا نقصان والتّفاوت إنّما هو في الجلاء والإراءة اللّذين هما من صفات المرآة فنظر الشّخص الثّاني صائب ونافذ إلى حقيقة الشّيء ونظر الأوّل مقصور على الظّاهر لم يجاوز من الصّفة إلى الذّات (يرفع الله الّذين آمنوا منكم والّذين أوتوا العلم درجات)

وبهذا التّحقيق الّذي وفّق هذا الفقير لإظهاره اندفع اعتراضات المخالفين على القول بعدم زيادة الإيمان ونقصانه ولم يلزم كون إيمان عامّة المؤمنين مماثلا ومساويا لإيمان الأنبياء عليهم السّلام من جميع الوجوه فإنّ إيمان الأنبياء عليهم السّلام له جلاء تامّ ونورانيّة وله ثمرات ونتائج زائدة بأضعاف مضاعفة على إيمان عامّة المؤمنين الّذي فيه ظلمات وكدورات على تفاوت درجاتهم. وكذا ينبغي أن يكون المراد بزيادة إيمان أبي بكر رضي الله عنه في الوزن على إيمان هذه الامّة زيادته باعتبار الجلاء والنّورانيّة بإرجاع الزّيادة إلى الصّفة الكاملة ألا ترى أنّ الأنبياء عليهم السّلام وعامّة النّاس متساوون في نفس الإنسانيّة والكلّ متّحدون في الحقيقة والذّات. والتّفاضل فيما بينهم إنّما هو باعتبار الصّفات الكاملة والّذي ليس له صفة كاملة كأنّه خارج من نوع الإنسان ومحروم من فضائله ومع وجود هذا التّفاوت لم يتطرّق الزّيادة والنّقصان إلى نفس الإنسانيّة ولا يصحّ أن يقال: إنّ الإنسانيّة في أفراد الإنسان قابلة للزّيادة والنّقصان والله سبحانه الملهم للصّواب. (وأيضا) إنّهم قالوا إنّ التّصديق الإيمانيّ عند البعض هو التّصديق المنطقيّ الّذي هو شامل للظّنّ واليقين فعلى هذا التّقدير يمكن الزّيادة والنّقصان في نفس الإيمان لكنّ الصّحيح أنّ المراد بالتّصديق هنا اليقين والإذعان القلبيّ لا المعنى العامّ الشّامل للظّنّ والوهم. قال الإمام الأعظم: أنا مؤمن حقّا وقال الإمام الشّافعيّ: أنا مؤمن إن شاء الله. ونزاعهما في الحقيقة لفظيّ مذهب الأوّل باعتبار الزّمان الحال ومذهب الثّاني باعتبار المآل وعاقبة الأحوال ولكنّ التّحاشي من صورة الإستثناء أولى وأحوط كما لا يخفى على المنصف. (وكرامات أولياء الله تعالى حقّ) ومن كثرة وقوع خوارق العادات منهم صار هذا المعنى عادة مستمرّة لهم ومنكرها منكر على العلم العاديّ والضّروريّ ولا اشتباه بينها وبين معجزة النّبيّ فإنّ معجزة النّبيّ مقرونة بدعوى النّبوّة، وكرامات الوليّ خالية عن هذا المعنى بل هي مقرونة بالإقرار والإعتراف بمتابعة نبيّ فأنّى الإشتباه بينهما كما زعمه المنكرون. (وترتيب) الأفضليّة بين الخلفاء الرّاشدين على ترتيب خلافتهم ولكن أفضليّة الشّيخين ثابتة بإجماع الصّحابة والتّابعين كما نقلته جماعة من أكابر أئمّة الدّين أحدهم الإمام الشّافعيّ رضي الله عنه قال الشّيخ الإمام أبو الحسن الأشعريّ: إنّ فضل أبي بكر ثمّ عمر على بقيّة الامّة قطعيّ قال الذّهبيّ: وقد تواتر عن عليّ في خلافته وكرسيّ مملكته، وبيّن الجمّ الغفير من شيعته أنّ أبا بكر وعمر أفضل الامّة. ثمّ قال ورواه عن عليّ كرّم الله وجهه نيّف وثمانون نفسا وعدّ منهم جماعة ثمّ قال: فقبّح الله الرّوافض ما أجهلهم وروى البخاريّ عنه أنّه قال: خير النّاس بعد النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام أبو بكر ثمّ عمر ثمّ رجل آخر فقال ابنه محمّد ابن الحنفيّة ثمّ أنت فقال إنّما أنا رجل من المسلمين وصحّح الذّهبيّ وغيره عن عليّ أنّه قال: ألا وإنّه بلغني أنّ رجالا يفضّلونني عليهما

ومن وجدته يفضّلني عليهما فهو مفتر عليه ما على المفتري. وأمثال ذلك منه ومن غيره من الصّحابة متواترة بحيث لا مجال فيها لإنكار أحد حتّى قال عبد الرّزّاق عن أكابر الشّيعة: أفضّل الشّيخين لتفضيل عليّ إيّاهما على نفسه والّا لما فضّلتهما كفى بي وزرا أن أحبّه ثمّ أخالفه كلّ ذلك مستفاد من الصّواعق وأمّا تفضيل عثمان على عليّ رضي الله عنهما فأكثر علماء أهل السّنّة على أنّ الأفضل بعد الشّيخين عثمان ثمّ عليّ ومذهب الأئمّة الأربعة المجتهدين أيضا هو هذا والتّوقّف المنقول عن الإمام مالك في افضليّة عثمان على عليّ فقد قال القاضي عياض: إنّه رجع عن هذا التّوقّف إلى تفضيل عثمان وقال القرطبيّ: وهو الأصحّ إن شاء الله تعالى وكذلك التّوقّف المفهوم من عبارة الإمام الأعظم أعني قوله: من علامة أهل السّنّة والجماعة تفضيل الشّيخين ومحيّة الختنين ولإختياره هذه العبارة عند الفقير محمل آخر وهو أنّه لمّا كثر ظهور الفتن والإختلال في أمور النّاس في زمن خلافة الختنين وحدوث الكدورات من هذه الجهة في قلوب النّاس اختار الإمام لفظ المحبّة في حقّهما ملاحظا لهذا المعنى وجعل محبّتهما من علامات أهل السّنّة والجماعة من غير أن يلاحظ فيها شائبة التّوقّف كيف وكتب الحنفيّة مشحونة بأنّ أفضليّتهم على ترتيب خلافتهم وبالجملة انّ أفضليّة الشّيخين يقينيّة وأفضليّة عثمان دونهما ولكنّ الأحوط أن لا نكفّر منكر افضليّة عثمان بل أفضليّة الشّيخين بل نقول: إنّه مبتدع وضالّ فإنّ للعلماء اختلافا في تكفيره وفي قطعيّة هذا الإجماع قيل وقال وذلك المنكر قرين يزيد الخائب المخذول وقد توقّفوا في لعنه احتياطا والإيذاء الّذي يصيب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم من جهة إيذاء الخلفاء الرّاشدين كالإيذاء الّذي أصابه صلّى الله عليه وسلّم من جهة إيذاء سبطيه قال عليه الصّلاة والسّلام: الله الله في أصحابي لا تتّخذوهم غرضا من بعدي فمن أحبّهم فبحبّي أحبّهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله ورسوله فيوشك ان يؤخذ وقال الله عزّ وجلّ انّ الّذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدّنيا والآخرة. وما عدّه مولانا سعد الدّين التّفتازانيّ في شرح عقائد النّسفيّ إنصافا في هذه الأفضليّة بعيد عن الإنصاف والتّرديد الّذي ذكره فيه لا حاصل فيه لأنّ المقرّر عند العلماء أنّ المراد بالأفضليّة هنا باعتبار كثرة الثّواب عند الله جلّ وعلا لا الأفضليّة الّتي هي بمعنى كثرة ظهور المناقب والفضائل فانّه لا اعتبار لها عند العقلاء فانّ السّلف من الصّحابة والتّابعين قد نقلوا عن علىّ من المناقب والفضائل ما لم ينقل مثله عن صحابيّ غيره حتّى قال الإمام أحمد: ما جاء لأحد من الصّحابة من الفضائل ما جاء لعليّ ومع ذلك حكم هو بأفضليّة الخلفاء الثّلاث فعلم من هذا أنّ وجه الأفضليّة شيء آخر وراء هذه الفضائل والمناقب والإطّلاع عليها إنّما يتيسّر لمن أدركوا زمان الوحي وشاهدوه حتّى علموها بالتّصريح أو بالقرائن وهم أصحاب النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام فما قال شارح العقائد النّسفيّة إنّه لو كان المراد بالأفضليّة كثرة الثّواب فللتّوقّف جهة ساقط عن الإعتبار لأنّه إنّما يكون للتّوقّف مجال لو لم يعلم الأفضليّة من قبل صاحب الشّرع صراحة أو دلالة وحيث علم فعلى ما يتوقّف وإن لم يعلم فلم يحكم بالأفضليّة والّذي يرى الكلّ متساوية ويزعم تفضيل أحدهم على الآخر فضولا فهو فضوليّ أيّ فضوليّ حيث يزعم إجماع أهل الحقّ فضولا ولعلّ لفظ الفضل هو الّذي أورده في موارد الفضوليّ. (وما قال) صاحب

الفتوحات المكّيّة إنّ سبب خلافتهم مدّة أعمارهم ليس فيه دلالة على مساواتهم في الفضيلة لأنّ أمر الخلافة غير أمر الأفضليّة ولو سلّم فهذا وأمثاله من شطحيّاته غير لائق بالتّمسّك وأكثر كشفيّاته الّتي تخالف علوم أهل السّنّة بعيدة عن الصّواب فلا يتابعها أحد الّا مريض القلب أو مقلّد صرف. (وما وقع) بين الأصحاب من المنازعات والمشاجرات يجب حملها على محامل حسنة وينبغي تبريئتهم عن الهوى والتّعصّب قال التّفتازانيّ مع إفراطه في حبّ عليّ كرّم الله وجهه: وما وقع من المخالفات والمحاربات لم يكن عن نزاع في الخلافة بل عن خطأ في الإجتهاد. وفي حاشية الخياليّ عليه: فإنّ معاوية وأحزابه بغوا عن طاعته مع اعترافهم بأنّه أفضل أهل زمانه وأنّه الأحقّ بالإمامة منه بشبهة هي ترك القصاص عن قتلة عثمان رضي الله عنه. ونقل في حاشية قره كمال عن عليّ كرّم الله وجهه أنّه قال: إخواننا بغوا علينا وليسوا بكفرة ولا فسقة لما لهم من التّأويل. ولا شكّ أنّ الخطأ الاجتهاديّ بعيد عن الملامة عليه والطّعن والتّشنيع مرفوعان عن صاحبه ينبغي أن يذكر جميع الأصحاب الكرام بالخير مراعاة لحقوق صحبة خير البشر عليه وعلى آله الصّلوات والتّحيّات وأن يحبّهم بحبّ النّبيّ عليه السّلام قال عليه السّلام من أحبّهم فبحبّي أحبّهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم. يعني أنّ المحبّة الّتي تتعلّق بأصحابي هي عين المحبّة الّتي تتعلّق بي وكذلك البغض الّذي يتعلّق بهم عين البغض الّذي يتعلّق بي ولا غرض لنا من محبّة محاربي عليّ كرّم الله وجهه أصلا بل يحقّ لنا أن نتأذّى منهم ولكن حيث كانوا أصحاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وكنّا مأمورين بمحبّتهم وممنوعين عن بغضهم وإيذائهم فلا جرم نحبّ كلّهم بحبّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ونحترز عن بغضهم وإيذائهم لكونهما منجرّين إليه صلّى الله عليه وسلّم ولكن نقول للمحقّ محقّا وللمبطل مبطلا كان عليّ على الحقّ ومخالفوه على الخطأ والزّيادة على ذلك من الفضول وتحقيق هذا المبحث مذكور تفصيلا في المكتوب الّذي كتبته إلى الخواجه محمّد أشرف فإن بقي هنا خفاء فليراجع هناك (ولا بدّ بعد تصحيح العقائد) من تعلّم أحكام الفقه ولا مندوحة من تعلّم علم الفرض والواجب والحلال والحرام والسّنّة والمندوب والمشتبه والمكروه والعمل بمقتضى هذا العلم أيضا ضروريّ ينبغي أن يعدّ مطالعة كتب الفقه من الضّروريّات وأن يراعى السّعي البليغ في إتيان الأعمال الصّالحة ولنورد هنا شمّة من فضائل الصّلاة وأركانها فإنّها عماد الدّين فينبغي استماعها لا بدّ أوّلا من إسباغ الوضوء ومن غسل كلّ عضو ثلاثا ثلاثا على وجه التّمام والكمال ليكون مؤدّى على وجه السّنّة وينبغي الإستيعاب في مسح الرّأس والإحتياط في مسح الاذنين والرّقبة وورد (١) تخليل أصابع الرّجل بخنصر يد اليسرى من الأسفل فينبغي مراعاته أيضا ولا ينبغي المساهلة في إتيان المستحبّ فإنّه محبوب الحقّ سبحانه ومرضيّة تعالى فإن علم في جميع الدّنيا فعل واحد مرضيّ ومحبوب عند الحقّ جلّ سلطانه وتيسّر العمل بمقتضاه ينبغي أن

__________

(١) (قوله وورد) اى من النبى صلى الله عليه وسلم لكن التخليل بالبنصر فقط اخرج ابن ماجه من حديث مستور ابن شداد رضى الله عنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فخلل اصابع رجليه بخنصره اهـ. وورد عن الامام الاعظم رضى الله عنه انه مستحب حتى روى انه قضى صلاة عشرين سنة كان صلاها بترك هذا المستحب (القزاني رحمة الله عليه)

يغتنمه وحكمه كحكم جواهر نفيسة اشتراها شخص بقطعات خزف أو روح نالها ببذل جماد لا طائل فيه وبعد الطّهور الكامل وإسباغ الوضوء ينبغي قصد الصّلاة الّتي هي معراج المؤمن وينبغي الإهتمام في أداء الفرض مع الجماعة بل ينبغي أن لا يترك التّكبيرة مع الإمام وينبغي أيضا أداء الصّلاة في الوقت المستحبّ ومراعاة القدر المسنون في القراءة ولا بدّ من الطّمأنينة في الرّكوع والسّجود فإنّها إمّا فرض أو واجب على القول المختار وينبغي أن يستوي قائما على الكمال في القومة على نهج يرجع كلّ عضو إلى محلّه ويستقرّ في مقرّه والطّمأنينة لازمة أيضا بعد الإستواء قائما فإنّها هنا إمّا فرض أو واجب أو سنّة على اختلاف الأقوال وهكذا في الجلسة الّتي هي بين السّجدتين يلزم فيها الطّمأنينة بعد الإستقرار كما في القومة وأقلّ تسبيحات الرّكوع والسّجود ثلاث مرّات وأكثرها إلى سبع مرّات أو أحد عشر مرّة على اختلاف الأقوال وتسبيح الإمام ينبغي أن يكون على قدر حال المقتدين وينبغي أن يستحي الإنسان من اقتصار التّسبيحات على أقلّ مرتبتها في حال الإنفراد ووقت قوّة الإستطاعة بل يقول خمسا أو سبعا ووقت قصد السّجدة يضع على الأرض أوّلا ما هو أقرب إلى الأرض فيضع أوّلا ركبتيه ثمّ يديه ثمّ أنفه ثمّ جبهته وينبغي الإبتداء من اليمين وقت وضع يديه وركبتيه وحين يرفع رأسه من السّجدة ينبغي أن يرفع أوّلا ما هو أقرب إلى السّماء فينبغي الإبتداء برفع الجبين وينبغي أن ينظر في القيام إلى موضع سجوده وفي الرّكوع إلى ظهر قدميه وفي السّجود إلى رأس أنفه وفي القعود إلى يديه فإنّه إذا نصب البصر على المواضع المذكورة ومنع النّظر من التّفرقة تتيسّر الصّلاة بالجمعيّة ويحصل فيها الخشوع كما هو المنقول عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وكذلك تفريج الأصابع في الرّكوع وضمّها في السّجود سنّة فينبغي مراعاتها وتفريج الأصابع وضمّها ليسا بلا فائدة بل فيهما فوائد كثيرة أمر الشّارع بإتيانهما بملاحظة تلك الفوائد وليس لنا فائدة أصلا تساوي متابعة صاحب الشّريعة عليه وعلى آله الصّلاة والتّحيّة وكلّ هذه الأحكام مذكورة في كتب الفقه بالتّفصيل والإيضاح (والمقصود) هنا التّرغيب في الأعمال بمقتضى علم الفقه وفّقنا الله سبحانه وإيّاكم للأعمال الصّالحة الموافقة للعلوم الشّرعيّة بعد أن وفّقنا لتصحيح العقائد اليقينيّة بحرمة سيّد المرسلين عليه وعليهم وعلى آل كلّ من الصّلوات أفضلها ومن التّسليمات أكملها فإن وجدتم في أنفسكم شوقا إلى فضائل الصّلاة والإطّلاع على كمالاتها المخصوصة بها ينبغي المراجعة إلى ثلاثة مكاتيب المتّصل بعضها ببعض ومطالعتها: الأوّل مكتوب باسم ولدي محمّد صادق والثّاني باسم المير محمّد نعمان والثّالث باسم الشّيخ تاج الدّين. وبعد تحصيل جناحي الإعتقاد والعمل إذا كان توفيق الحقّ رفيقا ودليلا ينبغي سلوك طريقة الصّوفيّة العليّة لا لغرض تحصيل شيء زايد على ذلك الإعتقاد والعمل ونيل أمر جديد سواهما فإنّ ذلك من طول الأمل المفضي إلى الزّلل بل المقصود منها حصول اليقين والإطمئنان في المعتقدات بحيث لا تزول بتشكيك مشكّك ولا تبطل بإيراد شبهة فإنّ قدم الإستدلال لا ثبات لها ولا قرار لخزف معمول من طين والمستدلّ ليس له تمكين ألا بذكر الله تطمئنّ القلوب.

وحصول اليسر والسّهولة في إتيان الأعمال وزوال الكسالة والعناد والتّعنّت النّاشئة من النّفس الأمّارة وليس المقصود من سلوك طريق الصّوفيّة أيضا مشاهدة الصّور والأشكال الغيبيّة ومعاينة الألوان والأنوار

اللّاكيفيّة فإنّ ذلك داخل في اللهو واللّعب وأيّ نقصان في الأنوار والصّور الحسّيّتين حتّى يتركها شخص ويتمنّى الصّور والأنوار الغيبيّتين بارتكاب الرّياضات والمجاهدات فإنّ هذه الصّور والأنوار وتلك الصّور والألوان كلّها مخلوقة الحقّ جلّ وعلا ومن الآيات الدّالّة على وجوده تعالى. واختيار الطّريقة النّقشبنديّة من بين سائر طرق الصّوفيّة أولى وأنسب لأنّ هؤلاء الأكابر قد التزموا متابعة السّنّة السّنيّة واجتناب البدعة الشّنيعة ولهذا تراهم يفرحون ويستبشرون إذا كان فيهم دولة المتابعة وإن لم يكن لهم شيء من الأحوال ومتى أحسّوا فتورا في المتابعة مع وجود الأحوال لا يقبلون تلك الأحوال ولا يبغونها ومن ههنا لم يجوّزوا الرّقص والسّماع ولم يقبلوا الأحوال المترتّبة عليه باتّفاق منهم وإجماع بل اعتقدوا ذكر الجهر بدعة ومنعوا أصحابهم عنه ولم يلتفتوا إلى ثمرات تترتّب عليه كنت يوما في مجلس الطّعام مع حضرة شيخنا فقال الشّيخ كمال الّذي هو من مخلصي حضرة شيخنا بسم الله الرّحمن الرّحيم جهرا حين شرع في الأكل فلم يناسب ذلك منه لحضرة شيخنا حتّى قال بالزّجر البليغ امنعوه لا يحضر مجلس طعامنا.

وسمعت حضرة شيخنا يقول: إنّ الخواجه النّقشبند قدّس سرّه جمع علماء بخارا وجاء بهم إلى خانقاه شيخه الأمير كلال ليمنعوهم من ذكر الجهر. فقال العلماء للأمير: إنّ ذكر الجهر بدعة فلا تفعلوه فقال في جوابهم: لا أفعل فإذا صدر من أكابر هذه الطّريقة مثل هذه المبالغة في المنع عن ذكر الجهر فماذا نقول في السّماع والرّقص والوجد والتّواجد والأحوال والمواجيد الّتي تترتّب على أسباب غير مشروعة فهي من قبيل الإستدراجات عند الفقير فإنّ الأحوال والأذواق قد تحصل لاهل الإستدراج أيضا ويظهر لهم في مرايا صورة العالم كشف التّوحيد والمكاشفة والمعاينة وفلاسفة اليونان وجوكيّة الهنود وبراهمتهم شركاء في تلك الامور وعلامة صدق الأحوال موافقتها للعلوم الشّرعيّة مع الإجتناب من ارتكاب الامور المحرّمة والمشتبهة. واعلم أنّ الرّقص والسّماع داخل في الحقيقة في اللهو واللّعب وقوله تعالى (ومِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) الآية، نازل في شأن المنع عن الغناء كما قال مجاهد الّذي هو تلميذ ابن عبّاس ومن كبار التّابعين أنّ المراد بلهو الحديث الغناء في المدارك لهو الحديث السّمر والغناء وكان ابن عبّاس وابن مسعود رضي الله عنهم يحلفان أنّه الغناء، وقال مجاهد في قوله تعالى: والَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ (١) أي: لا يحضرون الغناء وحكي عن إمام الهدى أبي منصور الماتريديّ (٢) من قال لمقرئي زماننا: أحسنت عند قراءته يكفر وبانت منه امرأته وأحبط الله كلّ حسناته وحكي عن أبي نصر الدّبوسيّ عن القاضي ظهير

__________

(١) الآية: ٧٢ من سورة الفرقان.

(٢) هو محمد بن محمد بن محمود الماتريدي السمرقندي (أبو منصور) متكلم، أصولي، من أهم مصنفاته: شرح الفقه الأكبر المنسوب للإمام أبو حنيفة، تأويلات أهل السنة، بيان وهم المعتزلة، تأويلات القرآن، مأخذ الشرائع في أصول الفقه. توفي سنة ٣٣٣ هـ. انظر: تاج التراجم لابن قطلوبغا ٤٣، مفتاح السعادة لطاش كوبرى زادة ٢/ ٢١، معجم المؤلفين لكحالة ٣/ ٦٩٢.

الدّين الخوارزميّ (١): من سمع الغناء من المغنّي وغيره أو يري فعلا من الحرام فيحسّن ذلك باعتقاد أو بغير اعتقاد يصير مرتدّا في الحال بناء على أنّه أبطل حكم الشّريعة ومن أبطل حكم الشّريعة فلا يكون مؤمنا عند كلّ مجتهد ولا يقبل الله طاعته وأحبط الله كلّ حسناته أعاذنا الله سبحانه من ذلك والآيات والأحاديث والرّوايات الفقهيّة في حرمة الغناء كثيرة جدّا على حدّ يتعذّر إحصاؤها ومع هذه كلّها لو اورد شخص حديثا منسوخا أو رواية شاذّة في إباحة الغناء لا ينبغي اعتباره منه فإنّه لم يفت فقيه في وقت من الأوقات بإباحة الغناء ولم يجوّز الرّقص والضّرب بالأرجل كما هو مذكور في ملتقط الإمام الهمام ضياء الدّين الشّاميّ.

وعمل الصّوفيّة ليس بسند في الحلّ والحرمة أما يكفيهم أن نعذرهم ولا نلومهم ونفوّض أمرهم إلى الله تعالى والمعتبر هنا قول الإمام أبي حنيفة والإمام أبي يوسف والإمام محمّد رحمهم الله لا عمل الشّبليّ وأبي الحسين النّوريّ وقد جعلت الصّوفيّة القاصرون اليوم السّماع والرّقص دينهم وملّتهم مستندين إلى عمل مشائخهم واتّخذوه طاعتهم وعبادتهم أولئك الّذين اتّخذوا دينهم لهوا ولعبا. وقد علم من الرّواية السّابقة أنّ من استحسن الفعل الحرام فقد خرج من زمرة أهل الإسلام وصار مرتدّا فينبغي التّأمّل ماذا يكون شناعة تعظيم مجلس السّماع والرّقص بل اتّخاذه طاعة وعبادة ولله سبحانه الحمد والمنّة لم يبتل مشائخنا بهذا الأمر وخلّصوا أمثالنا المقلّدين من تقليد هذا الأمر وقد نسمع أنّ المخاديم يميلون إلى السّماع ويعقدون مجلس السّماع وقراءة القصائد في ليالي الجمعة وأكثر الأصحاب يوافقونهم في ذلك الأمر والعجب ألف عجب أنّ مريدي السّلاسل الاخر إنّما يرتكبون هذا الأمر مستندين إلى عمل مشائخهم ويدفعون الحرمة الشّرعيّة بعملهم وإن لم يكونوا محقّين في هذا الأمر في الحقيقة وما معذرة أصحابنا في ارتكاب هذا الأمر وفيه ارتكاب الحرمة الشّرعيّة من طرف وارتكاب مخالفة مشائخ طريقهم من طرف آخر فلا أهل الشّريعة راضون عن هذا الفعل ولا أهل الطّريقة فلو لم يكن فيه ارتكاب الحرمة الشّرعيّة لكان مجرّد إحداث أمر في الطّريقة شنيعا فكيف إذا اجتمع معه ارتكاب الحرمة الشّرعيّة. واليقين أنّ جناب الميرزا جيو لا يرضى بهذا الأمر ولكن لا يصرّح بالمنع أيضا رعاية للأدب معكم ولا ينهى الأصحاب عن هذا الإجتماع أيضا والفقير لمّا أحسست توقّفا في مجيئي كتبت هذه الفقرات وأرسلتها إليكم فينبغي قراءتها من أوّلها إلى آخرها عند الميرزا جيو والسّلام.

__________

(١) هو محمود بن محمد بن العباس بن أرسلان، العباسي، الخوارزمي، الشافعي (ظهير الدين، أبو محمد) فقيه، محدث، مؤرخ، صوفي، واعظ، سمع وحدث ووعظ بالمدرسة النظامية، ثم رجع إلى بلده، وتوفي بها سنة ٥٦٨ هـ تقريبا، من أهم مؤلفاته: الكافي في الفقه، وتاريخ خوارزم في ثمانية أجزاء. انظر: هدية العارفين للبغدادي ٢/ ٤٠٣، معجم المؤلفين لكحالة ٣/ ٨٢٩.



 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!