موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

الدرر المكنونات النفيسة في تعريب المكتوبات الشريفة

للشيخ الإمام الرباني أحمد الفاروقي السرهندي

(271) المكتوب الحادي والسبعون والمائتان إلى الشيخ حسن البركي في حل استفساره عن الواقعة التي رآها ** | ** (272) المكتوب الثاني والسبعون والمائتان إلى السيد محب الله المانكپوري في بيان الإيمان الغيبي والإيمان الشهودي وبيان التوحيد الوجودي والتوحيد الشهودي و

 

 


من استوى يوماه فهو مغبون والسّلام عليكم وعلى سائر من اتّبع الهدى والتزم متابعة المصطفى عليه وعلى آله الصّلوات والتّحيّات.

(٢٧١) المكتوب الحادي والسّبعون والمائتان إلى الشّيخ حسن البركيّ في حلّ استفساره عن الواقعة الّتي رآها

الحمد لله وسلام على عباده الّذين اصطفى وصل مكتوب أخي الأعزّ الشّيخ حسن أحسن الله حاله وبلّغه كماله واتّضحت الواقعة المسطورة الّتي ظهرت ظهورا بيّنا ينبغي أن يكون راجيا وأن تجتهد في إتيان ما أنت مأمور به ببذل الرّوح وأن لا تجوز تجاوز الحدود الشّرعيّة مقدار شعرة وأن تتحلّى بمعتقدات أهل السّنّة والجماعة الحقّة (ع) هذا هو الأمر والباقي خيالات * فإن أجاز والدكم ورضي الإخوان ينبغي أن يغتنم سير بلاد الهند والسّلام.

(٢٧٢) المكتوب الثّاني والسّبعون والمائتان إلى السّيّد محبّ الله المانكپوريّ في بيان الإيمان الغيبيّ والإيمان الشّهوديّ وبيان التّوحيد الوجوديّ والتّوحيد الشّهوديّ وأنّ الضّروريّ في تحقّق الفناء هو الشّهوديّ وأنّ أوّل من أظهر التّوحيد الوجوديّ صاحب الفتوحات المكّيّة وما يناسب ذلك

بعد الحمد والصّلوات ليعلم الأخ الأعزّ المير محبّ الله أنّ الإيمان بالغيب بوجود الواجب تعالى وسائر صفاته نصيب الأنبياء وأصحابهم عليهم الصّلاة والسّلام ونصيب الأولياء الّذين ثبت لهم الرّجوع بالكلّيّة ونسبتهم نسبة الأصحاب وإن كان هؤلاء قليلين بل أقلّ ونصيب العلماء ونصيب عامّة المؤمنين أيضا والإيمان الشّهوديّ نصيب عامّة الصّوفيّة سواء كانوا من أرباب العزلة أو من أصحاب العشرة فإنّ أصحاب العشرة وإن كانوا مرجوعين لكنّهم ما رجعوا بالكلّيّة بل باطنهم مستشرف إلى الفوق ومنجذب إليه دائما فهو بالظّاهر مع الخلق وبالباطن مع الحقّ جلّ سلطانه فالإيمان الشّهوديّ نصيبهم دائما والأنبياء عليهم السّلام لمّا كانوا مرجوعين بالكلّيّة ومتوجّهين ظاهرا وباطنا إلى دعوة الخلق بالحقّ جلّ وعلا كان الإيمان الغيبيّ نصيبهم بالضّرورة وقد حقّق هذا الفقير في بعض رسائله أنّ التّوجّه نحو الفوق مع وجود الرّجوع من علامة النّقص وعدم الوصول إلى نهاية الأمر والرّجوع بالكلّيّة علامة الوصول إلى نهاية النّهايات والصّوفيّة زعموا أنّ الكمال إنّما هو في الجمع بين التّوجّهين وعدّوا الجامع بين التّشبيه والتّنزيه من الكمّل، (ع) وللنّاس فيما يعشقون مذاهب * فإذا فرغ الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام من وظيفة

الدّعوة وتوجّهوا نحو عالم البقاء وتمّت مصلحة الرّجوع يكونون متوجّهين بكلّيّتهم إلى الحقّ جلّ شأنه قائلين بتمام الشّوق الرّفيق الأعلى متبخترين في مراتب القرب شعر:

هنيئا لارباب النّعيم نعيمها ... وللعاشق المسكين ما يتجرّع

والكمال عند الفقير هو أن ترتفع الكثرة وقت العروج عن النّظر بالكلّيّة حتّى لا تكون الأسماء والصّفات أيضا ملحوظة ولا يكون غير الأحديّة المجرّدة مشهودا ثمّ يعامل معه ما يعامل معه وأن يقع النّظر وقت الرّجوع إلى الكثرة بالتّمام ولا يكون مشهوده كعامّة المؤمنين غير الخلق ولا يكون شغله غير أداء الطّاعة ودعوى الخلق إلى الحقّ جلّ وعلا فإذا تمّ أمر الدّعوة وودّع العالم الفاني يتوجّه بكلّيّته إلى جناب قدسه تعالى ويحوّل رحله من الغيب إلى الشّهادة ويبدّل معاملة المراسلة بمعاملة المعانقة ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

ولا يخيّلنّ النّاقص أنّ الرّجوع الكلّيّ نقص ولا يزعمنّ أنّ التّوجّه بالباطن إلى الحقّ جلّ وعلا أفضل من التّوجّه إلى الخلق لدعوتهم وتكميلهم فإنّ صاحب الرّجوع ما جاء إلى مقام الرّجوع باختيار نفسه بل نزل من أعلى إلى أسفل بإرادة الحقّ جلّ سلطانه ورضي لنفسه بالهجر عن الوصول فصاحب الرّجوع قائم بمراد الحقّ جلّ شأنه وفان عن مراد نفسه وصاحب التّوجّه محفوظ بالوصل والشّهود ومسرور بالقرب والمعيّة، شعر:

إذا أرضي منّا قلبي بعاديّ ... فهذا الهجر أحظى من وصالي

لأنّي في الوصال عبيد نفسي ... وفي الهجر أنّ مولى للموالي

وشغلي بالحبيب بكلّ حال ... أحبّ إليّ من شغلي بحالي

وفضائل الرّجوع وكمالاته كثيرة وصاحب التّوجّه بالنّسبة إلى صاحب الرّجوع قطرة بالنّسبة إلى البحر المحيط وهذا الرّجوع من فضائل النّبوّة وذاك التّوجّه من آثار الولاية شتّان ما بينهما ولكن لا يدرك هذا الكمال فهم كلّ أحد ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. وقال بعض الجامعين بين التّشبيه والتّنزيه انّ الإيمان بالتّنزيه حاصل لجميع المؤمنين والعارف هو الّذي يجمع بينه وبين الإيمان بالتّشبيه ويرى الخلق ظهور الخالق والكثرة كسوة الوحدة ويطالع الصّانع في صنعه وبالجملة انّ التّوجّه إلى التّنزيه الصّرف نقص عندهم وشهود الوحدة بلا ملاحظة الكثرة عيب وهذه الجماعة يعدّون المتوجّهين إلى الاحديّة الصّرفة ناقصين ويظنّون ملاحظة الوحدة بلا مطالعة الكثرة تحديدا وتقييدا سبحان الله وبحمده أما دروا أنّ دعوة الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام كلّها إلى تنزيه صرف والكتب السّماويّة ناطقة بالإيمان التّنزيهيّ والأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام ينفون الآلهة الباطلة الآفاقيّة والأنفسيّة ويدعون الخلق إلى إبطالها ويدلّون على وحدة واجب الوجود المنزّه عن التّشبيه والتّكييف هل سمعت قطّ أن نبيّا

دعا إلى الإيمان التّشبيهيّ وقال: إنّ الخلق ظهور الخالق وجميع الأنبياء متّفقون على توحيد واجب الوجود تعالى وتقدّس ونفى أرباب غيره تعالى قال الله تعالى (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وبَيْنَكُمْ أَلّا نَعْبُدَ إِلّا الله ولا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا ولا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضًا أَرْبابًا مِنْ دُونِ الله فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اِشْهَدُوا بِأَنّا مُسْلِمُونَ) وهؤلاء الجماعة يثبتون أربابا غير متناهية ويتخيّلون كلّهم ظهورات ربّ الأرباب وما يستشهدون به في إثبات مطالبهم من الكتاب والسّنّة ليس فيه استشهاد أصلا أمّا الكتاب فقوله تعالى (هُوَ الْأَوَّلُ والْآخِرُ والظّاهِرُ والْباطِنُ) (وما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكِنَّ الله رَمى) (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) وأمّا السّنّة فقوله عليه الصّلاة والسّلام اللهمّ (١) أنت الأوّل فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظّاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء. فإنّ جميع الحصر في هذه العبارات لنفي كمال الوجود عمّا سواه تعالى بأبلغ الوجوه لا نفي أصل الوجود كما قال عليه الصّلاة والسّلام لا صلاة (٢) الّا بفاتحة الكتاب. وقال أيضا: لا إيمان (٣) لمن لا أمانة له. وأمثال ذلك في الكتاب والسّنّة كثيرة وهذا التّوجيه ليس من قبيل تأويل النّصوص كما زعموا بل هو حمل النّصوص على كمال البلاغة كما أنّ في العرف إذا وقع الإهتمام برسالة شخص ونيابته يقال: إنّ يده يديّ والمقصود هنا ليس الحقيقة بل المجاز الّذي هو أبلغ من الحقيقة فإذا كان وقوع الفعل أكثر وأزيد بالنّظر إلى مقدار قدرة الفاعل الّذي هو عبد مملوك لصاحب القدرة الكاملة وكان التفات ذلك القادر المالك وتوجّهه إلى ذلك الفعل مرعيّا يصحّ للمالك أن يقول أنا فعلت هذا الفعل لا أنت ولا دلالة لهذا الكلام أصلا على اتّحاد الفعل ولا على اتّحاد الذّات معاذ الله من أن يكون فعل العبد المملوك عين فعل المالك المقتدر أو يكون ذاته عين ذاته ألم تفهم هذه الجماعة مذاق الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام فإنّ مدار دعوتهم على إثبات الاثنينيّة ووجود المغايرة يعني بين الخلق والخالق.

وتنزيل عباراتهم على التّوحيد والاتّحاد من التّكلّفات الباردة فإن كان الموجود واحدا في الحقيقة وكان ما سواه ظهوراته وكان عبادة ما سواه عبادته كما زعم هؤلاء الجماعة لم منع الأنبياء عليهم السّلام عنها بالمبالغة والتّأكيد ولم خوّفوا بالعقوبات الأبديّة على عبادة ما سواه ولم قالوا لعابديه “ أعداء الله ” ولم لم يطلعوهم على منشأ غلطهم ولم يزيلوا عنهم رؤية المغايرة النّاشئة عن الجهل فيهم ولم يفهموهم أنّ عبادة ما سواه عين عبادته جلّ وعلا.

قال بعض هؤلاء الجماعة: إنّ الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام إنّما أخفوا أسرار التّوحيد الوجوديّ عن العوامّ وبنوا أمر الدّعوة على إثبات المغايرة وأخفوا الوحدة ودلّوا على الكثرة بسبب قصور فهم العوامّ عن

__________

(١) (قوله اللهم انت الاول الخ) هذه قطعة من حديث اخرجه مسلم عن ابى هريرة رضى الله عنه (القزاني رحمة الله عليه)

(٢) (قوله لا صلاة الخ) اخرجه الشيخان وغيرهما عن عبادة بن الصامت (القزاني رحمة الله عليه)

(٣) (قوله لا ايمان لمن لا أمانة له) اخرجه البيهقي في شعب الإيمان (القزاني رحمة الله عليه)

ذلك وهذا القول غير مسموع منه كما لا يسمع القول بالتّقاة من الشّيعة فإنّ الأنبياء عليهم السّلام أحقّ بتبليغ ما هو مطابق لنفس الأمر فإن كان الوجود في نفس الأمر واحدا فلم اخفوه واظهروا خلاف ما في نفس الامر خصوصا في الاحكام الّتى تتعلّق بذات واجب الوجود وصفاته وأفعاله تعالى وتقدّس فإنّهم أحقّاء بإعلانها وإظهارها وإن كان قاصر النّظر قاصرا عن إدراكها وعاجزا عن فهمها فضلا عن العوامّ ألا ترى أنّ المتشابهات القرآنيّة وما ورد في الأحاديث النّبويّة من المتشابهات يعجز الخواصّ عن فهمها فضلا عن العوامّ ومع ذلك لم يمنعوا ولم يعقهم توهّم غلط العوامّ من إبدائها وهؤلاء الجماعة يسمّون من يقول بتعدّد الوجود والموجود ويتنزّه عن عبادة ما سوى المعبود تعالى وتقدّس مشركا ويقولون لمن يقول بوحدة الوجود موحّدا ولو كان يعبد ألف صنم بتخيّل انّها ظهورات الحقّ سبحانه وأنّ عبادتها عبادته سبحانه ينبغي أن يتأمّل بالإنصاف أيّ صنف من هذين الصّنفين مشرك وأيّ صنف منهما موحّد والأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام ما دعوا الخلق إلى وحدة الوجود ولم يقولوا لمن قال بتعدّد الوجود مشركا بل كانت دعوتهم إلى وحدة المعبود جلّ سلطانه وأطلقوا الشّرك على عبادة ما سواه تعالى فإن لم يعرف الصّوفيّة الوجوديّة ما سواه تعالى بعنوان الغيريّة لا يتخلّصون من الشّرك وما سواه تعالى هو ما سواه تعالى عرفوا ذلك أو لا وبعض المتأخّرين منهم قال: إنّ العالم ليس عين الحقّ جلّ سلطانه ويتحاشى من القول بالعينيّة ويطعن في القائلين بها ويشنّعهم وينكر الشّيخ محيي الدّين بن عربيّ واتباعه من هذا الوجه ويذكرهم بسوء ومع ذلك لا يقول بمغايرة العالم للحقّ سبحانه بل يقول إنّه ليس عين الحقّ ولا غير الحقّ سبحانه وهذا الكلام بعيد عن الصّواب فإنّ الاثنان متغايران قضيّة مقرّرة ومنكر المغايرة بين الإثنين مصادم لبديهة العقل غاية ما في الباب أنّ المتكلّمين قالوا في صفات الواجب إنّها لا هو ولا غيره وأرادوا بالغير الغير المصطلح وراعوا جواز الإنفكاك في المتغايرين فإنّ صفات الواجب ليست منفكّة عن الذّات وجواز الإنفكاك بين الذّات والصّفات القديمة غير متصوّر فقول لا هو ولا غيره صادق في الصّفات القديمة بخلاف العالم فإنّ تلك النّسبة مفقودة فيه كان (١) الله ولم يكن معه شيء. فنفي العينيّة والغيريّة معا من العالم بعيد عن الصّدق لغة واصطلاحا وهؤلاء الجماعة إنّما زعموا العالم وتصوّروه كالصّفات القديمة وأثبتوا له الحكم المخصوص بها من قصورهم وعدم وصولهم وحيث قالت هؤلاء الجماعة بنفي عينيّة العالم كان اللّازم لهم أن يقولوا بغيريّته أيضا حتّى يخرجوا من زمرة أرباب التّوحيد الوجوديّ ويحكموا بتعدّد الوجود وفي التّوحيد الوجوديّ لا بدّ من القول بالعينيّة كما قال بها الشّيخ محيي الدّين بن عربيّ وأتباعه والقول بالعينيّة لا بمعنى أنّ العالم متّحد بالصّانع معاذ الله من ذلك بل بمعنى أنّ العالم معدوم والموجود هو واجب الوجود تعالى وتقدّس كما حقّق هذا الفقير هذا المعنى في بعض رسائله. فإن قيل: إنّ الصّوفيّة

__________

(١) (قوله كان الله الخ) رواه البخارى عن عمران بن حصين رضى الله عنه بلفظ كان الله ولم يكن شيئ غيره وفى رواية فيه ولم يكن شيئ قبله قال ابن حجر وفى رواية غير البخارى ولم يكن شيئ معه (القزاني رحمة الله عليه)

الوجوديّة إنّما يقولون لمن يقول بتعدّد الوجود مشركا باعتبار أنّه يرى ويشاهد الإثنين ومشاهد الإثنين هو مشرك الطّريقة؟

(أجيب) أنّ رؤية الإثنين الّتي هي شرك الطّريقة تندفع بالتّوحيد الشّهوديّ ولا حاجة إلى التّوحيد الوجوديّ في ذلك الموطن بل ينبغي أن لا يكون مشهود السّالك وملحوظه غير الذّات الأحد المقدّسة حتّى يتحقّق الفناء ويندفع شرك الطّريقة كما إذا رأى شخص الشّمس في النّهار وحدها ولم ير النّجوم يندفع رؤية الاثنين وان كانت النّجوم كلّها موجودة في النّهار والمقصود هو كون المشهود هو الشّمس وحدها سواء كانت النّجوم موجودة أو معدومة بل أقول: إنّ كمال الفناء إنّما هو في صورة تكون الأشياء موجودة ومع ذلك لا يلتفت السّالك من كمال تعلّقه وشغفه بالمطلوب الحقيقيّ إلى شيء أصلا بل لا يشاهد شيئا ولا يقع نظر بصيرته إلى شيء قطعا فإن لم تكن الأشياء موجودة فمن أيّ شيء يتحقّق الفناء وعمّن يكون فانيا وذاهلا وناسيا وأوّل من صرّح بالتّوحيد الوجوديّ هو الشّيخ محيي الدّين بن عربيّ وعبارات المشائخ المتقدّمين وإن كانت مشعرة بالتّوحيد ومنبئة عن الإتّحاد ولكنّها قابلة للحمل على التّوحيد الشّهوديّ فإنّه لمّا لم ير غير الحقّ سبحانه قال بعضهم: ليس في جبّتي سوى الله وقال بعضهم:

سبحاني وبعضهم ليس في الدّار غيري وهذه كلّها أزهار تفتّقت من غصن رؤية الواحد لا دلالة في واحد منها على التّوحيد الوجوديّ والّذي بوّب مسألة وحدة الوجود وفصّلها ودوّنها تدوين النّحو والصّرف هو الشّيخ محيي الدّين بن العربيّ وخصّص بعض المعارف الغامضة بين هذا المبحث بنفسه حتّى قال: إنّ خاتم النّبوّة يأخذ بعض العلوم والمعارف عن خاتم الولاية وأراد بخاتم الولاية المحمّديّة نفسه وقال الشّرّاح في توجيهه: إنّ السّلطان إذا أخذ من خازنه شيئا فأيّ نقصان فيه وبالجملة لا حاجة في تحصيل الفناء والبقاء وحصول الولاية الصّغرى والكبرى إلى التّوحيد الوجوديّ بل لا بدّ في تحقّق الفناء وحصول نسيان السّوى من التّوحيد الشّهوديّ بل يمكن أن يسير السّالك من البداية إلى النّهاية ولا يظهر له شيء من علوم التّوحيد الوجوديّ ومعارفها أصلا بل يكاد ينكر هذه العلوم وعند هذا الفقير أنّ الطّريق الّذي يتيسّر سلوكه بدون ظهور هذه المعارف أقرب من الطّريق الّذي هو متضمّن لظهور هذه المعارف. وأيضا إنّ أكثر سالكي هذه الطّريق يصلون إلى المطلوب وأكثر سائري ذاك الطّريق يبقون في الطّريق ويروون من البحر بقطرة ويبتلون بتوهّم اتّحاد الظّلّ بالأصل ويحرمون بذلك الوصل وعلمت هذا المعنى بتجاريب متعدّدة والله سبحانه الملهم للصّواب وسير الفقير وإن كان من الطّريق الثّاني ووجد حظّا وافرا من ظهورات علوم التّوحيد الوجوديّ ومعارفه ولكن لمّا كانت عناية الحقّ سبحانه شاملة لحاله وكان سيره السّير المحبوبيّ طوى بوادي الطّريق ومفاويزه بامداد فضله وعنايته تعالى وجاوز مراتب الظّلال ووصل إلى الأصل بتوفيق الله تعالى وعونه. ولمّا وقعت المعاملة على المسترشدين رأى أنّ الطّريق الآخر أقرب

إلى الوصول وأسهل من حيث الحصول الحمد لله الّذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لو لا أن هدانا الله، لقد جاءت رسل ربّنا بالحقّ.

تنبيه: قد علم من التّحقيق السّابق أنّ الموجودات وإن كانت متعدّدة وما سواه تعالى كان موجودا جاز أن يتحقّق الفناء والبقاء وتحصل الولاية الصّغرى والكبرى فإنّ الفناء هو نسيان السّوى لا إعدامه واستئصاله وما هو اللّازم فيه أن تكون رؤية السّوى مفقودة لا أن يكون السّوى معدوما ولا شيئا محضا.

وهذا الكلام مع ظهوره قد خفي على أكثر الخواصّ وماذا نقول من العوامّ وجعلوا معرفة وحدة الوجود من شرائط الطّريق بتخيّل أنّ التّوحيد الشّهوديّ هو عين التّوحيد الوجوديّ وزعموا القائل بتعدّد الوجود ضالّا ومضلّا حتّى تخيّل الكثيرون منهم أنّ معرفة الحقّ سبحانه منحصرة في معارف التّوحيد الوجوديّ وتصوّروا أنّ شهود الوحدة في مرايا الكثرة من تمام الأمر حتّى صرّح بعضهم أنّ نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم كان بعد حصول كمالات النّبوّة في مقام الشّهود والوحدة في الكثرة وأنّ في قوله تعالى (إِنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) إشارة إلى ذلك المقام ويؤول العبارة هكذا (إِنّا أَعْطَيْناكَ) شهود الوحدة في الكثرة وكأنّه فهم هذه الإشارة من توسّط الواو بين حروف الكثر حاشا مقام النّبوّة من أن يليق بمثل هذه المعارف وكلا فإنّ الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام إنّما دعوا إلى الله المنزّه عن المماثلة والمشابهة والّذي يكون له متّسع في مرايا المثاليّ ليس له نصيب من المثاليّ بل هو متّسم بسمة الكيف والمثال رزقهم الله سبحانه الإنصاف وكأنّهم يزنون الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام بميزان كمالاتهم ويزعمون كمالاتهم مماثلة لكمالاتهم (كبرت كلمة تخرج من أفواههم)،

شعر:

وليس لشيء كامن جوف صخرة ... سواها سموات لديه ولا أرض

وأحقر أمّته صلّى الله عليه وسلّم في استغفار وندامة من أمثال هذه المعرفة الّتي حصلت له في أوائل حاله وينفى ذلك الشّهود من جانب قدسه تعالى كحلول النّصارى قال الخواجه النّقشبند قدّس سرّه: كلّما يكون مرئيّا مسموعا أو متخيّلا أو موهوما فهو غيره تعالى ينبغي نفيه بحقيقة كلمة لا فكان شهود الوحدة في الكثرة أيضا مستحقّا للنّفي فهو منتف من جانب قدسه وكلام الخواجه هذا هو الّذي أخرجني من هذا الشّهود وأنجاني من التّعلّقات بالمشاهدة والمعاينة، وحوّل الرّحل من العلم إلى الجهل ومن المعرفة إلى الحيرة جزاه الله سبحانه خير الجزاء وأنا بهذا الكلام الواحد مريد الخواجه بهاء الدّين النّقشبند قدّس سرّه ومقرطق الاذن بكلامه هذا. والحقّ أنّ قليلا من الأولياء تكلّم بهذه العبارة ونفى جميع المشاهدات والمعاينات على هذا النّهج وقال هو يعني الخواجه النّقشبند في هذا المقام الّذي هو مقام الحقيقة: معرفة الحقّ سبحانه وتعالى حرام على بهاء الدّين لو لم تكن بدايته نهاية أبي يزيد فإنّ أبا يزيد مع عظم شأنه

وجلالة قدره ما جاوز الشّهود والمشاهدة ولم يضع قدمه خارج مضيق سبحاني بخلاف الخواجه النّقشبند فإنّه نفى جميع مشاهداته بكلمة واحدة يعني كلمة لا، وجعل الكلّ غير الحقّ سبحانه وتنزيه البسطاميّ تشبيه عند الخواجه ولا مثاليه مثالي، وكماله نقص فلا جرم تكون نهايته الّتي لم تتجاوز التّشبيه بداية الخواجه، فإنّ البداية تكون من التّشبيه والنّهاية تكون إلى التّنزيه ولعلّه حصل الإطّلاع لأبي يزيد في آخر الحال على هذا النّقص حيث قال قبيل الإحتضار: إلهي ما ذكرتك الّا عن غفلة ولا خدمتك الّا عن فترة فعرف في ذلك الحال أنّ حضوره السّابق كان غفلة فإنّه ما كان حضور الحقّ سبحانه بل كان حضور ظلّ من الظّلال وظهور من الظّهورات فيكون غافلا عنه تعالى بالضّرورة فإنّه سبحانه غير الظّلال والظّهورات ووراء الوراء والظّلال والظّهورات إنّما هي مباد ومقدّمات ومعارج ومعدّات وما قال الخواجه قدّس سرّه:

نحن ندرج النّهاية في البداية، مطابق للواقع فإنّ ابتداء توجّههم إلى الاحديّة الصّرفة لا يريدون من الإسم والصّفة غير الذّات وهذه الحال تحصل للمبتدئين الرّاشدين من هذه الطّائفة بطريق الإنعكاس من شيخ مقتدى به مشرّف بهذا الكمال عرفوا أو لم يعرفوا فتكون نهاية الكمال مندرجة في بداية هؤلاء الأكابر (غاية ما في الباب) أنّ هذا التّوجّه إلى الاحديّة لو غلب فيهم ونمى وجعل الظّاهر أيضا منصبغا بلون الباطن يكون السّالك حينئذ متخلّصا من رقّيّة مشاهدة السّفليّ وشهود الأدنى الّذي يظهر في مرايا الممكنات وهاربا من المعارف التّشبيهيّة وإن لم يغلب هذا التّوجّه بل كان مقصورا على الباطن فكثيرا ما يكون الظّاهر ملتذّا بشهود الوحدة في الكثرة ومحتظّا بالتّوحيد والاتّحاد ولكنّ هذا الشّهود مقصور في حقّهم على الظّاهر غير سار إلى الباطن بل باطنهم متوجّه إلى الاحديّة الصّرفة وظاهرهم مشاهد للوحدة في الكثرة بل ربّما لا يكون توجّه الباطن بواسطة غلبة نسبة الظّاهر معلوما ولا يكون شيء سوى الشّهود الظّاهريّ مفهوما كما كان ذلك في أوائل أحوال محرّر هذه السّطور فإنّه لم يكن له شعور من توجّه الباطن إلى الاحديّة الصّرفة بواسطة غلبة نسبة الظّاهر، ووجد نفسه متوجّها بالكلّيّة إلى شهود الوحدة في الكثرة ثمّ رزقه الحقّ سبحانه بعد مدّة الإطّلاع على توجّه الباطن ونصر الباطن على الظّاهر وأوصل المعاملة إلى هنا الحمد لله سبحانه على ذلك ومن هذا القبيل ما صدر من بعض خلفاء هذه الطّائفة العليّة من المعارف التّوحيديّة والمشاهدة السّفليّة لا أنّهم متوجّهون إلى هذا الشّهود ومبتلون بهذه المعرفة ظاهرا وباطنا بخلاف غيرهم حيث انّهم مبتلون بهذا الشّهود ظاهرا وباطنا ويزعمون هذا الشّهود جمعا بين التّشبيه والتّنزيه ويعدّونه من الكمال وإن كان لهم في الباطن إيمان بالتّنزيه الصّرف فإنّ الإبتلاء غير الإيمان والحال غير العلم. وأمّا الّذين لا إيمان لهم بالتّنزيه الصّرف ولا يعتقدون شيئا غير المشاهدة السّفليّة فهم الملاحدة وهم خارجون عن المبحث وشهود الحقّ جلّ وعلا في مرايا الممكنات الّذي يعدّه جماعة من الصّوفيّة كمالا ويزعمونه جمعا بين التّشبيه والتّنزيه ليس هو عند الفقير شهود الحقّ جلّ وعلا وليس

المشهود فيها غير متخيّلهم ومنحوتهم ولا ما يرونه في الممكن واجبا ولا ما يجدونه في الحادث قديما ولا ما يظهر في التّشبيه تنزيها وإيّاك والإفتتان بترّهات الصّوفيّة واعتقاد غير الحقّ حقّا وهذه الجماعة وإن كانوا معذورين في خصوصهم بغلبة الحال ومحفوظين من المؤاخذة بذلك كالمجتهد المخطئ ولكن لا ندري ماذا تكون المعاملة بمقلّديهم ليتهم يكونوا كمقلّدي المجتهد المخطئ والّا فالأمر مشكل والقياس الإجتهاديّ أصل من الاصول الشّرعيّة ونحن مأمورون بتقليده بخلاف الكشف والإلهام فإنّا لم نؤمر بتقليده. والإلهام ليس بحجّة للغير، والحكم الإجتهاديّ حجّة للغير فيجب إذا تقليد العلماء المجتهدين وينبغي طلب أصول الدّين موافقة لآرائهم وما يقوله الصّوفيّة أو يفعلونه مخالفا لآراء العلماء المجتهدين لا ينبغي تقليده بل ينبغي السّكوت عن طعنهم بحسن الظّنّ بهم وأن يعدّه من شطحيّاتهم وأن يصرفه عن ظاهره. والعجب أنّ كثيرا من الصّوفيّة يدلّون العوامّ على الإيمان بأمورهم الكشفيّة كوحدة الوجود مثلا ويدعونهم إليه ويرغّبونهم في تقليدهم فيها ويهدّدونهم على عدم الإيمان بها وليتهم يدلّونهم على عدم الإنكار على هذه الامور ويهدّدون المنكرين فإنّ الإيمان غير عدم الإنكار. والإيمان بهذه الامور ليس بلازم ولكن ينبغي الإجتناب والإحتراز عن الإنكار لئلّا ينجرّ إنكار هذه الامور إلى إنكار أربابها فيؤدّي إلى بغض أولياء الحقّ جلّ وعلا وعداوتهم فاللّازم للإنسان العمل على وفق آراء علماء أهل الحقّ والسّكوت عن كشفيّات الصّوفيّة بحسن الظّنّ وعدم الجسارة بلا ونعم هو الحقّ المتوسّط بين الإفراط والتّفريط والله سبحانه الملهم للصّواب. ومن أعجب العجب أنّ جماعة من مدّعي هذا الطّريق لا يقنعون بهذا الشّهود والمشاهدة بل يزعمون هذا الشّهود تنزّلا ويقولون في أثناء ذلك بالرّؤية البصريّة ويقولون نرى ذات واجب الوجود المنزّه عن المثال ويقولون إنّ هذه الدّولة الّتي كانت ميسّرة للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم مرّة واحدة في ليلة المعراج تتيسّر لنا في كلّ يوم ويشبّهون النّور المرئيّ لهم بإسفار الصّبح ويزعمون ذلك النّور المرتبة اللّاكيفيّة ويتخيّلون ظهور ذلك النّور نهاية مراتب العروج تعالى الله سبحانه عمّا يقول الظّالمون علوّا كبيرا. وأيضا إنّهم يثبتون المكالمة معه تعالى ويقولون: أمرنا الله سبحانه وتعالى بكذا وكذا وينقلون عنه سبحانه أحيانا وعيدا في حقّ أعدائهم ويبشّرون أحيانا أحبابهم ويقول بعضهم كلمة الحقّ سبحانه بقيّة ثلث اللّيل او ربعه إلى صلاة الصّبح وسألته عن كلّ باب ووجدت منه الجواب، لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوّا كبيرا ويفهم من كلمات هؤلاء الجماعة أنّهم يعتقدون ذلك النّور المرئيّ عين الحقّ سبحانه وعين ذاته تعالى لا انّهم يقولون إنّه ظهور من ظهوراته تعالى وظلّ من ظلاله ولا شكّ أنّ اعتقاد ذلك النّور ذات الحقّ سبحانه افتراء محض وإلحاد صرف وزندقة خالصة ومن نهاية تحمّله سبحانه وتعالى عدم استعجاله في عقوبة أمثال هؤلاء المفترين وتعذيبهم بأنواع العذاب وعدم استئصالهم سبحانك على حلمك بعد علمك سبحانك على عفوك بعد قدرتك وقد هلك قوم موسى على نبيّنا وعليه الصّلاة والسّلام بمجرّد طلب الرّؤية وسمع موسى عليه السّلام نداء لن تراني بعد طلب الرّؤية وخرّ صعقا وتاب من ذلك

الطّلب ومحمّد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الّذي هو محبوب ربّ العالمين وأفضل الموجودات وسيّد الأوّلين والآخرين مع كونه مشرّفا بدولة المعراج البدنيّ وتجاوزه العرش والكرسيّ وعلوّه على الزّمان والمكان يعني خلوّه وخروجه منهما للعلماء اختلاف في رؤيته عليه الصّلاة والسّلام مع وجود الإشارة القرآنيّة إليها وأكثرهم قائلون بعدمها قال الإمام الغزاليّ: الأصحّ إنّه عليه الصّلاة والسّلام ما رأى ربّه ليلة المعراج وهؤلاء القاصرون يرون الله سبحانه كلّ يوم بزعمهم الباطل مع وجود القيل والقال بين العلماء في رؤية محمّد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرّة واحدة فقبّحهم الله سبحانه ما أجهلهم. وأيضا يعلم من كلمات هؤلاء الجماعة أنّ نسبة الكلام الّذي يسمعونه إلى الله سبحانه عندهم كنسبة الكلام إلى المتكلّم وهذا عين الإلحاد معاذ الله سبحانه من أن يصدر عنه كلام بطريق تكلّم فيه ترتيب الحروف والتّقدّم والتّأخّر فإنّ ذلك من علامات الحدوث والّذي أوقعهم في الاغلوطات هو كلمات المشائخ الكبار فإنّهم أيضا أثبتوا له سبحانه الكلام والمكالمة. ولكن ينبغي أن يعلم: انّ المشائخ لا يقولون إنّ نسبة الكلام إليه تعالى كنسبته إلى المتكلّم بل يقولون إنّه كنسبة المخلوق إلى الخالق يقينا ولا محذور في ذلك أصلا فإنّ موسى على نبيّنا وعليه الصّلاة والسّلام سمع من الشّجرة كلام الحقّ سبحانه وتعالى ونسبة هذا الكلام إلى الحقّ سبحانه كنسبة المخلوق إلى الخالق لا كنسبة الكلام إلى المتكلّم وكذلك الكلام الّذي كان يسمعه من جبريل عليه السّلام نسبته إلى الحقّ كنسبة المخلوق إلى الخالق. غاية ما في الباب أنّ ذلك الكلام أيضا كلام الحقّ سبحانه ومنكره كافر وزنديق وكأنّ كلام الحقّ مشترك بين الكلام النّفسيّ والكلام اللّفظيّ الّذي يوجده الحقّ سبحانه من غير توسّط أمر ما فيكون الكلام اللّفظيّ أيضا في الحقيقة كلام الحقّ سبحانه وتعالى فيكون منكره كافرا بالضّرورة فافهم فإنّ هذا التّحقيق ينفعك في كثير من المواضع والله سبحانه الموفّق وينبغي أن يعلم أنّ الوجود الّذي نثبته في الممكنات هو وجود ضعيف كسائر صفات الممكنات وما مقدار علم الممكن في جنب علم الواجب تعالى وأيّ اعتبار للقدرة الحادثة في جنب القدرة القديمة وكذلك وجود الممكن في جنب وجود الواجب لا شيء محض فكيف يقع النّاظر في الشّكّ من تفاوت مراتب هذين الوجودين أنّ إطلاق الوجود على هذين الفردين هل هو بطريق الحقيقة أو على أحدهما بطريق الحقيقة وعلى الآخر بطريق المجاز ألا ترى أنّ الجمّ الغفير من الصّوفيّة تيقّنوا بالشّقّ الثّاني وقالوا: إنّ إطلاق الوجود على وجود الممكن إنّما هو بطريق المجاز ولا يثبت الوجود للممكنات الّا العوامّ وأخصّ الخواصّ والمراد بأخصّ الخواصّ الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام ومن كان مشرّفا بولايتهم الأصليّة من أممهم وطوى دائرة الظّلال بالتّمام فأمّا العوامّ فنظرهم مقصور على الظّاهر فيزعمون أنّ وجود الواجب ووجود الممكن قسمان من الوجود المطلق ويظنّون كليهما موجودين. وأمّا أخصّ الخواصّ فأبصارهم حديدة فيجدون كلا الوجودين من أفراد الوجود المطلق ويعدّون تفاوت مراتب أفراد الوجود المطلق راجعا إلى صفات الوجود واعتباراته لا إلى حقيقته وذاته حتّى يكون في أحدهما

حقيقة وفي الآخر مجازا وأما المتوسّطون الّذين وضعوا أقدامهم فوق رتبة العوامّ وقصروا عن إدراك كمالات أخصّ الخواصّ فعسير عليهم أن يقولوا بوجود الممكنات وأن يطلقوا لفظ الوجود على وجود الممكن بطريق الحقيقة ومشكل ومن ههنا قالوا: إنّ الممكن إنّما يقال له موجودا بعلاقة أنّ له نسبة إلى الوجود كما يقال: ماء الشّمس لا إنّ الوجود قائم به حتّى يكون موجودا حقيقة. وبعض هؤلاء الجماعة ساكت عن وجود الممكن غير مصرّح بنفيه وإثباته وبعضهم ينفي الوجود عن الممكن ولا يرى موجودا غير الواجب تعالى. وبعضهم لا يقول بغيريّة وجود الممكن لوجود الواجب كما لا يقول بعينيّته له ويصرّح بعضهم أنّ الممكن موجود بعين الوجود الّذي به الواجب تعالى موجود وهذه العبارة أيضا تنفي الوجود عن الممكن وبالجملة يحتاج في إثبات وجود الممكن إلى حدّة النّظر حتّى يمكن رؤيته حين تشعشع أنوار وجود الواجب تعالى كما أنّ من لهم حدّة البصر يرون النّجوم في النّهار مع وجود تشعشع نور الشّمس والّذين ليس لهم حدّة البصر لا يقدرون رؤيتها فوجود الممكنات في جنب وجود الواجب كوجود الكواكب في النّهار من كان فيه حدّة البصر يقدر رؤيته ومن هو ضعيف البصر لا يقدرها (ع) وليس له منها نصيب ولا سهم *

فإن قيل: كيف يرى العوامّ وجود الممكنات مع وجود ضعف البصر وعمى البصيرة فيهم والحال أنّ تشعشع أنوار وجود الواجب مانع عن رؤيته يعني الضّعاف البصر؟

(أجيب) أنّ العوامّ أرباب العلم لا أرباب الرّؤية، وكلامنا في أرباب الرّؤية لا في أرباب العلم فإنّهم خارجون عن المبحث فكان ظهور أنوار الواجب تعالى مفقودا في حقّهم فلا يكون مانعا عن رؤية وجود الممكنات في حقّهم أو نقول: إنّ ظهور أنوار الواجب إنّما هو مانع عن شهود وجود الممكنات لا إنّه مانع عن العلم بوجود الممكنات فإنّ العلم كثيرا ما يحصل بالسّماع والتّقليد والنّظر والإستدلال كما أنّ العلم بوجود الكواكب في النّهار حاصل لضعاف البصر أيضا مع وجود ظهور الشّمس وفي العوامّ العلم بوجود الممكنات لا شهوده فإنّ الشّهود من صفة البصيرة وبصيرة العوامّ مطموسة سواء كان المشهود ملكا أو ملكوتا أو جبروتا أو لاهوتا.

(أيّها الأخ الأعزّ) إنّ العوامّ كما أنّهم مشاركون لاخصّ الخواصّ في هذا المبحث كذلك لهم مشاركة في مواضع أخر ومن ههنا كانت معاملة الأنبياء ومعائشهم عليهم الصّلاة والسّلام في كثير من الأحكام كمعاملة العوامّ ومعائشهم عليهم الصّلاة والسّلام في كثير من الأحكام كمعاملة العوامّ ومعائشهم ومعاشرتهم مع أهلهم وعيالهم وكان خير البشر صلّى الله عليه وسلّم يعامل أهله وعياله مثل معاملتهم وحسن معاشرته صلّى الله عليه وسلّم مشهور، نقل أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قبّل يوما الحسن

والحسين (١) رضي الله عنهما وأظهر لهما تمام الإنبساط فقال شخص من الحاضرين: إنّ لي أحد عشر ابنا ولم أقبّل واحدا منهم أصلا فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إنّ هذه الرّحمة أعطاها الله سبحانه لعباده من رحمته وحيث كانت لاخصّ الخواصّ مشاركة مع العوامّ في بعض الأوصاف وإن كانت صورة كان العوامّ محرومين من أكثر كمالاتهم بسبب نقصانهم وقصور إدراكهم وتخيّلهم إيّاهم كأنفسهم والّذين فارقوهم في الأوصاف والخصال تراهم يعظّمونهم ويوقّرونهم ولهذا يفضّلون أوصاف الأولياء وأخلاقهم على ما سواها من الأوصاف الّتي تشابه أوصافهم وأخلاقهم لكونها مغايرة لاوصافهم وأخلاقهم، وإن كانت تلك الأخلاق موجودة في الأنبياء عليهم السّلام (نقل) عن المخدوم الشّيخ فريد كنج شكر أنّه لمّا توفّي واحد من أولاده وبلغه خبر وفاته لم يطرأ عليه تغيّر أصلا وقال: مات جرو الكلب فأخرجوه ولمّا توفّي ولد سيّد البشر إبراهيم عليه السّلام بكى عليه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وحزن وقال: إنّا بفراقك (٢) لمحزونون. وبيّن حزنه بالتّأكيد مبالغة فانظر أيّهما أفضل الشّيخ فريد كنج شكر أم سيّد البشر صلّى الله عليه وسلّم؟ وعند العوامّ الّذين هم كالأنعام بل أضلّ معاملة الأوّل أولى وأفضل فإنّهم يعدّونها من عدم التّعلّق بالسّوى ويزعمون الثّاني عين التّعلّق بالفاني أعاذنا الله سبحانه من معتقداتهم السّوء وحيث انّ هذه الدّار دار امتحان وابتلاء فإلقاء العوامّ في الإشتباه والشّبهة عين الحكمة والمصلحة اللهمّ أرنا الحقّ حقّا وارزقنا اتّباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه بحرمة سيّد البشر عليه وعلى آله الصّلاة والسّلام.

(ولنرجع) إلى أصل الكلام ونقول: إنّ إيمان النّبيّ عليه السّلام وأصحابه الكرام والأولياء الملحقين بالأصحاب العظام بعد الشّهود قد تقرّر كونه بالغيب بواسطة الرّجوع إلى الدّعوة كما أنّ شخصا رأى الشّمس في النّهار ووجد فيه الإيمان الشّهوديّ بوجود الشّمس فإذا جاء اللّيل يتبدّل إيمانه الشّهوديّ بالايمان الغيبيّ وإيمان العلماء وإن كان غيبا ولكن غيبهم عرض له حكم الحدس بواسطة نور متابعة الأنبياء عليهم السّلام وخرج من كونه نظريّا واستدلاليّا والمراد بالعلماء هنا علماء الآخرة فإنّ علماء الدّنيا داخلون في عامّة المؤمنين وأفضل أقسام الإيمان الغيبيّ المنسوب إلى عامّة المؤمنين إيمان مربوط بتقليد الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام ومنوط بقال الله وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

__________

(١) في الاحياء رأى الاقرع بن حابس النبى صلى الله عليه وسلم وهو يقبل ولده الحسن فقال ان لى عشرة من الولد ما قبلت واحدا منهم فقال عليه السلام من لا يرحم لا يرحم اهـ. قد اخرجه الشيخان وابو داود والترمذي عن ابى هريرة رضى الله عنه قال قبل رسول الله صلى الله عليه وسلّم لا حسين بن على وعنده الاقرع ان لى احد عشرة من الولد ما قبلت منهم احدا فنظر رسول الله صلعم ثم قال من لا يرحم لا يرحم وزاد رزين او املك ان كان الله نزع منك الرحمة ورواه ابى يعلى عن ابى هريرة لكن ذكر عينيية بن حصين بدل الاقرع ابن حابس وليس فيه الزيادة الا ان فيه يقبل الحسن والحسين. (القزاني رحمة الله عليه)

(٢) رواه الشيخان عن انس رضى الله عنه (القزاني رحمة الله عليه)



 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!