موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

الدرر المكنونات النفيسة في تعريب المكتوبات الشريفة

للشيخ الإمام الرباني أحمد الفاروقي السرهندي

(99) المكتوب التاسع والتسعون إلى المير محمد نعمان في جواب أسئلته

 

 


وإبليس اللّعين الذي هو منشأ كلّ فساد وضلال شرّ من العدم أيضا والحرف الّتي هي كائنة في العدم هذا المخذول محروم عنها أيضا وصدور قول “ أنا خير منه ” حسم مادّة الخيريّة منه ودلّ على شرارته الصّرفة وحيث قابل العدم الوجود بلا شيئيّة وعدميّة فلا جرم صار مرآة للوجود ولمّا عارضه اللّعين بوجوده وخيريّته كان مردودا ومطرودا بالضّرورة (ينبغي) أن يتعلّم حسن التّقابل من العدم حيث قابل الوجوديّة بالعدميّة والكمال بالنّقص وحيث وقع على طرف من العزّة والجلال ظهر بذله وانكساره وكأنّ اللّعين جرّ جميع قباحة العدم على نفسه بعلّة التّكبّر والتّمرّد الذي كانا فيه ويتخيّل أنّه لم يبق في العدم شيئا غير الخير. نعم لو لا الخير لما يكون مرآة ومظهرا للخير لا يحمل عطايا الملك الّا مطاياه مثل مشهور وعلم أنّ إبليس كان لازما في هذا الموطن العالي ليأخذ مزابل الكلّ على رأسه بكناسيّته وليطهّر غيره ولكن لمّا جاء المخذول من طريق التّكبّر والتّرفّع وأورد خيريّته في نظره وحبط عمله وحرم الاجر كان خسر الدنيا والآخرة. علامة حاله في الحقيقة بخلاف العدم فإنّه مع وجود الشّرّ والنّقص واللّاشيئيّة الذّاتيّات فيه خرج من الحرمان وشرّف بمرآتيّة حضرة الوجود (فإن قيل) من أين نشأت كثرة الشّرّ في إبليس فإنّ فيما وراء العدم وجودا ولم يتطرّق إليه شرّ؟ (أجيب) كما أنّ العدم مرآة للوجود ومظهر للخير والكمال الوجود أيضا مرآة للعدم ومظهر للشّرّ والنّقص وإبليس عليه اللّعنة كما أنّه أخذ الشّرّ في جانب العدم من العدم الذي هو موطن الشّرّ أخذ في جانب الوجود الخباثة المتوهّمة الّتي ظهرت في مرآة الوجود من جهة مرآتيّته ومظهريّته للعدم فكان حاملا لشرّ الطّرفين الذّاتيّ والعرضيّ والأصليّ والظّلّي فبالضّرورة جعله ماليخوليا الوجود المشابه بالشّرّ محروما من العدميّة واللّاشيئيّة الّتي من الصّفات الحسنة للعدم ومع ذلك كان الشّرّ المتوهّم في جانب الوجود من مرآتيّته للعدم أيضا نصيبه فأوصله بالضّرورة إلى الخسارة الابديّة رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ (١) وَ السَّلامُ عَلى مَنِ اِتَّبَعَ الْهُدى (٢) والتزم متابعة المصطفى عليه وعلى آله أتمّ الصّلاة وأكمل التّسليمات

(٩٩) المكتوب التّاسع والتّسعون إلى المير محمّد نعمان في جواب أسئلته

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى (قد سألتم) انّ السّالك يرى نفسه أحيانا في وقت العروج في مقامات أصحاب الانبياء عليهم الصّلوات والتّحيّات الذين هم أفضل منه بالإجماع بل ربّما يجد نفسه في مقامات الانبياء عليهم الصّلاة والسّلام فما حقيقة هذه المعاملة وبعض النّاس هنا يتوهّمون

__________

(١) آل عمران: ٨

(٢) طه: ٤٧

مساواة ذلك السّالك لارباب تلك المقامات ويتخيّلون شركته في تلك المقامات مع أرباب تلك المقامات وبهذا التّوهّم والتّخيّل يردّونه ويطعنون فيه ويطيلون في حقّه لسان الملامة والشّكاية ينبغي كشف الغطاء عن وجه هذا المعمّي؟ (جوابه) هو أنّ وصول الاسافل إلى مقامات الأعالي يكون أحيانا من قبيل وصول الفقراء والمحتاجين إلى أبواب أصحاب الدول وأمكنة أرباب النّعم الخاصّة بهم ليطلبوا من هناك حاجة ويسألوا من دولهم ونعمهم مجاجة والقاصر في أمره يزعم هذا الوصول مساواة وشركة لهم وكثيرا ما يكون هذا الوصول من قبيل النّظارة والتّنزّه في الاماكن الخاصّة بالأمراء والسّلاطين بالوسائط والوسائل لينظر بنظر الإعتبار وليحصل له رغبة في علوّ الانظار. وأين المجال لتوهّم المساواة في هذا الوصول وكيف يتصوّر تخيّل الشّركة من هذا التّنزّه والنّظارة ووصول الخادمين إلى أمكنة خاصّة بالمخدومين لاداء حقوق الخدمة محسوس الوضيع والشّريف والأبله يتوهّم من هذا الوصول المساواة والشّركة وكلّ فراش وذاب ذباب وسيّاف قرناء السّلاطين وحاضرون في أخصّ أمكنتهم فمن توهّم الشّركة والمساواة من ههنا فقد كشف عن غاية خبطه.

(ع) بلاء ذوي الآلام من كلّ جانب * والنّاس يطلبون العلّة لملامة غريب

ويخترعون الحيلة لطعنه وتشنيعه رزقهم الله سبحانه وتعالى الإنصاف وكان اللّائق بهم أن يطلبوا محملا لرفع الشّرور ودفع الملامة عن الضّعيف وأن يجتهدوا في حفظ عرض الإسلاميّة وأمرهم في الطّعن لا يخلو عن أحد الحالين إمّا أن يعتقدوا أنّ صاحب هذا الحال معتقد للشّركة والمساواة لارباب تلك المقامات أو لا فإن اعتقدوا ذلك فقد حكموا عليه بالكفر والزّندقة وأخرجوه من زمرة أهل الإسلام فإنّ اعتقاد الشّركة للأنبياء والمساواة معهم عليهم الصّلوات والتّسليمات كفر وكذلك اعتقاد المساواة للشّيخين عليهما الرّضوان الذين ثبتت أفضليّتهما بإجماع الصّحابة والتّابعين كما نقله جماعة من أكابر الائمّة واحد منهم الإمام الشّافعيّ عليهم الرّضوان بل الفضل لجميع الصّحابة على باقي الامّة فإنّه لا تكون فضيلة من الفضائل أصلا عديلة لفضل صحبة خير البشر عليه الصّلاة والسّلام. والفعل اليسير الذي صدر من الاصحاب الكرام عليهم الرّضوان وقت ضعف الإسلام وقلّة المسلمين لتأييد الدين المتين ونصرة سيّد المرسلين عليه وعليهم الصّلوات والتّسليمات لو صرف غيرهم جميع عمرهم في الطّاعات بالرّياضات والمجاهدات لا يبلغ ذلك مرتبة ذاك الفعل القليل من الاصحاب ولهذا قال عليه وعلى آله الصّلاة والسّلام " لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا لا يبلغ مدّ شعيرهم ولا نصيفه» (١) وأفضليّة الصّدّيق رضي الله تعالى عنه إنّما هي من جهة أنّه أسبق السّابقين في الإيمان وإنفاق الاموال الكثيرة والخدمات اللّائقة ولهذا نزل في شأنه قوله تعالى (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وقاتَلَ) الآية وصرف جماعة نظرهم إلى كثرة

__________

(١) متفق عليه: صحيح البخاري: ك: فضائل الصحابة. ب: قول النبي صلى الله عليه وسلم “ لو كنت متخذا خليلا ” ح ٣٤٧٠. مسلم: ك: فضائل الصحابة. ب: تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم. ح ٢٥٤٠.

فضائل غيره ومناقبه وتوقّفوا في أفضليّته ولا يعلمون أنّ سبب الافضليّة لو كان كثرة الفضائل والمناقب يكون كثير من آحاد الامّة الذين فيهم هذه الفضائل أفضل من نبيّهم الذي ليست فيه هذه الفضائل فما به التّفاضل شيء آخر وراء هذه الفضائل والمناقب وهو في زعم هذا الفقير الاسبقيّة في تأييد الدين والأقدميّة في إنفاق الاموال وبذل الانفس لنصرة أحكام دين ربّ العالمين. وحيث كان النّبيّ أسبق من الكلّ يكون أفضل من الكلّ وكذلك كلّ من هو أسبق في هذا الامر فهو أفضل من المسبوقين وكأنّ السّابق أستاذ اللّاحقين ومعلّمهم في أمر الدين واللّاحقون يقتبسون من أنوار السّابقين ويستفيدون من بركاتهم.

وصاحب هذه الدولة العظمى في هذه الامّة بعد نبيّنا عليه وعلى آله الصّلاة والسّلام الصّدّيق الاكبر رضي الله تعالى عنه فإنّه أسبق السّابقين في إنفاق الاموال الكثيرة والمقاتلة والمجاهدة الشّديدة وبذل العرض والجاه ورفع الفساد والإشتباه لتأييد الدين المتين ونصرة سيّد المرسلين عليه وعليهم الصّلاة والسّلام فالأفضليّة على غيره مسلّمة إليه وحيث طلب النّبيّ عليه وعلى آله الصّلاة والسّلام عزّة الإسلام وغلبته بإمداد عمر» (١). وكفى الله سبحانه في نصرة حبيبه في عالم الاسباب به وقال (يا أيّها النّبيّ حسبك الله ومن اتّبعك من المؤمنين) قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: سبب نزول هذه الآية إسلام عمر تتعيّن الافضليّة بعد الصّدّيق رضي الله عنه له ولهذا انعقد إجماع الصّحابة والتّابعين على أفضليّة هذين الشّيخين المعظّمين كما مرّ وقال عليّ - كرّم الله وجهه - أيضا إنّ أبا بكر وعمر أفضل هذه الائمّة فمن فضّلني عليهما فهو مفتر اضربه بالسّياط كما يضرب المفترون (وتحقيق) هذا المبحث مندرج في كتبي ورسائلي بالتّفصيل لا مجال للزّيادة على ذلك في هذا المقام والأبله من يجعل نفسه عديلا لاصحاب خير البشر عليه وعليهم الصّلوات والتّسليمات والجاهل بالأخبار والآثار من يتصوّر نفسه من السّابقين ولكن ينبغي أن يعلم أنّ دولة تلك السّبقة الّتي هي باعثة على الافضليّة مخصوصة بأهل القرن الاوّل الذين تشرّفوا بشرف صحبة خير البشر عليه وعلى آله الصّلوات والتّسليمات وهذا المعنى مفقود في قرن آخر بل يكون لاحقوا بعض القرون أفضل من سابقي قرون أخر بل يجوز أن يكون اللّاحق في قرن أفضل من السّابق في ذلك القرن بصّر الله سبحانه الطّاعنين بشناعة طعن مسلم وطرد مؤمن بمجرّد التّوهّم والتّخيّل وبقباحة تكفير

__________

(١) وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: اللهمّ أعزّ الإسلام بأحبّ هذين الرّجلين إليك “ سنن الترمذي: كتاب المناقب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ب: في مناقب أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ح ٣٨٣٣ من حديث ابن عمرو قال حسن صحيح. سنن ابن ماجه: ك: الإيمان وفضائل الصحابة. ب: في فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. (فضل عمر رضي الله عنه) المعجم الكبير للطبراني: باب الظاء: حديث عبد الله بن مسعود وروى الحاكم من حديث عائشة: «اللهمّ أعزّ الإسلام بعمر بن الخطّاب خاصّة ” وقال صحيح على شرط وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير والأوسط بنحوه باختصار وقال: «أيد الإسلام». ورجال الكبير رجال الصحيح غير مجالد بن سعيد وقد وثق.

مسلم وتضليله بمحض التّعنّت والتّعصّب فما العلاج لو لم يكن المقول فيه قابلا للتّكفير ومستحقّا للتّضليل يرجع ذاك الكفر والضّلال بالضّرورة إلى أرباب ذاك القول ويتّصل من المرميّ بالكفر إلى الرّامي به كما ورد في الحديث النّبويّ عليه وعلى آله الصّلاة والسّلام رَبَّنَا اِغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وثَبِّتْ أَقْدامَنا واُنْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (١) (ولنرجع) إلى أصل الكلام فنبيّن الشّقّ الثاني ونقول: لو لم يكن للطّاعنين هذا الإعتقاد في حقّ صاحب هذا الحال ولا يوصلون معاملته إلى حدّ الكفر فحالهم أيضا لا يخلو من أحد الحالين إمّا أن يحملوا واقعته على الكذب والبهتان فهذا عين سوء الظّنّ بالمسلم وهو محظور عنه شرعا وإمّا أن لا يحملوا على الكذب والبهتان وأن لا يظنّوه معتقدا للشّركة والمساواة فحينئذ ما وجه الطّعن والملامة وما سبب تشنيعه وتعييبه فإنّ اللّائق بالواقعة الصّادقة أن يحمل على محامل صحيحة لا أن يشنّع صاحبها ويقبّح (فإن قيل) ما وجه إظهار مثل هذه الواقعة الموجبة للفتنة؟ (نقول) إنّ ظهور مثل هذه الأحوال من مشائخ الطّريقة كثير الوقوع وذلك عادة مستمرّة لهم وليس هذا أوّل قارورة كسرت في الإسلام ولا يكون بلا نيّات حقّانيّة وإرادة صادقة والمقصود من هذه الكتابة أحيانا إظهار أحواله الموهوبة عند شيخه ليبيّن صحّة حاله وسقمه وليطلعه على تعبيره وتأويله وأحيانا ترغيب الطّلاب والتّلامذة وتحريضهم وأحيانا لا يكون مقصود من الكتابة لا هذا ولا ذاك بل يورده في هذا القيل والقال مجرّد السّكر وغلبة الحال ليتنفّس ممّا به قليلا وليخفّف عن نفسه لمحة ومن كان مقصوده من إظهار أمثال هذه الأحوال الشّهرة وقبول الخلق فهو مدّع بطّال وهذه الأحوال استدراج عليه ووبال ومتضمّنة لخذلانه وأنواع الاهوال رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ (٢) وما أبرّئ نفسي إنّ النّفس لامّارة بالسّوء الّا ما رحم ربّي إن ربّي لغفور رحيم (وسألتم) أيضا أنّه ما السّبب في أنّ الانبياء عليهم الصّلوات والتّسليمات والأولياء عليهم الرّضوان يبتلون في الدنيا بأشدّ البلاء والمصائب والمحن كما قيل: إنّ أشدّ النّاس بلاء الانبياء ثمّ الأولياء ثمّ الامثل فالأمثل وقال الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد (وما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) ويفهم من هذه الآية الكريمة أنّ كلّ من يكون اكتسابه للسّيّئات أكثر يكون موردا للمصيبة في الاكثر فينبغي أن يبتلى بأشدّ البلاء والمصيبة غير الانبياء عليهم الصّلوات والتّسليمات وغير الأولياء عليهم الرّضوان دون الانبياء والأولياء عليهم الصّلاة والسّلام وأيضا إنّ هؤلاء الكبراء محبوبو الحقّ سبحانه أصالة وتبعا ومن خواصّ مقرّبيه تعالى فكيف يصحّ إحالة البليّات والمحن إلى المحبوبين وخواصّ المقرّبين وبأيّ وجه يجوز أذاهم وكيف يستقيم كون الاعداء في راحة ونعيم وإقامة الاحبّاء في بليّات وعذاب أليم (اعلم) أرشدك الله وهداك سواء الصّراط أنّ الدنيا ليست بموضوعة للتّنعّم والتّلذّذ وإنّما المعدّ للتّنعّم والتّلذّذ هي الآخرة

__________

(١) البقرة: ٢٨٦

(٢) آل عمران: ٨

وحيث كان بين الدنيا والآخرة نسبة الضّدّيّة والنّقاضة ورضاء احداهما مستلزم لسخط الاخرى يكون التّلذّذ في إحداهما مستلزما للتّألّم في الاخرى بالضّرورة فمن يكون تلذّذه وتنعّمه في الدنيا أوفر يكون تألّمه وتندّمه في الآخرة أكثر وكذلك من كان ابتلاؤه بالبليّات والمحن في الدنيا أكثر يكون احتظاظه وسروره في الآخرة بالتّنعّمات والتّلذّذات أزيد وأوفر وليت لبقاء الدنيا بالنّسبة إلى بقاء الآخرة حكم القطرة بالنّسبة إلى البحر المحيط نعم ماذا تكون نسبة المتناهي إلى غير المتناهي فلا جرم كان اللّائق بمقتضى الكرم ابتلاء الاحباب بمحنة أيّام في هذه الدار ليحتظّوا ويفرحوا بتنعّمات أبديّة وكان المناسب بموجب المكر والإستدراج احتظاظ الاعداء بتلذّذات قليلة ليبتلوا بتألّمات كثيرة (فإن قيل) إنّ الكافر الفقير الذي هو محروم في الدنيا والآخرة لم يكن تألّمه في الدنيا مستلزما لتلذّذه في الآخرة فما وجه ذلك؟ (نقول) إنّ الكافر عدوّ الله جلّ سلطانه ومستحقّ للعذاب الدائميّ ورفع العذاب عنه في الدنيا وتركه على وضعه وحاله عين التّلذّذ والتّنعّم ونفس الإحسان في حقّه ولهذا قيل لنفس الدنيا في حقّ الكافر إنّها جنّة غاية ما في الباب أنّ بعض الكفّار يرفع عنه العذاب في الدنيا ويعطى بعض التّلذّذات الاخرى أيضا وبعض آخر يرفع عنه العذاب ولا يعطى له شيء أخرى بل يكتفى في حقّه بالتذاذ إعطاء الفرصة والمهلة ورفع العذاب لكلّ ذلك حكم ومصالح (فإن قيل) إنّ الله تعالى قادر على كلّ شيء ومقتدر لاكرام أوليائه بتلذّذات دنياويّة وتنعّمات أخرويّة من غير أن يكون التّلذّذ في إحداهما مستلزما للتّألّم في الاخرى في حقّهم. (أجيب بوجوه): (الأوّل) أنّهم لو لم يذوقوا في الدنيا بليّات أيّام قليلة ومحن أويقات يسيرة لا يعرفون قدر تلذّذات وتنعّمات أبديّة ولا يدركون قدر نعمة الصّحّة والعافية الدائمة كما ينبغي نعم من لم يجع بطنه لا يجد لذّة الطّعام ومن لم يكن مبتلى لا يعرف قدر الفراغة وكأنّ المقصود من تألّمهم الموقّت تحصيلهم لكمال التّلذّذ الدائميّ وظهر الجمال في حقّ هؤلاء الاكابر بصورة الجلال لابتلاء العوامّ يضلّ به كثيرا ويهدي به كثيرا. (والثاني) أنّ البليّات والمحن إن كانت عند العوامّ من أسباب التألّم ولكن كلّما يصيب من الجميل المطلق فهو من أسباب التّنعّم. والإلتذاذ عند هؤلاء الاكابر وهم يجدون من التّلذّذ بالبلايا ما يجدون من التّنعّم بالنّعماء بل احتظاظهم من البلايا أكثر لكونها خالص مراد المحبوب وليس هذا الخلوص في النّعماء فإنّ النّفس أيضا مريدة لها وهاربة من البلايا فيكون البلاء عند هؤلاء الاكابر أفضل من النّعمة ويكون التذاذهم من البلاء أكثر من التذاذهم من النّعمة وحظّهم في الدنيا من البليّات والمصائب فلو لم يكن هذا الملح في الدنيا لما ساوت عندهم بشعيرة ولو لم تكن هذه الحلاوة فيها لكانت عبثا في نظرهم.

(شعر) ألا إنّ قصدي من هواك تألّمي ... وإلّا فأسباب النّعيم كثيرة

فأولياؤه تعالى متلذّذون في الدنيا ومحتظّون ومسرورون في الآخرة ولذّتهم هذه في الدنيا لا تنافي حظّهم في الآخرة والتّلذّذ الذي ينافي حظّ الآخرة هو غير ذلك ممّا هو حاصل للعوامّ إلهي ما هذا الذي

جعلت أولياءك بحيث أنّ ما هو سبب تألّم الآخرين سبب لالتذاذهم وما هو زحمة على الآخرين رحمة لهؤلاء الاكابر ونقمة الآخرين نعمة لهم النّاس مسرورون في السّرور ومغمومون في الغمّ وهؤلاء الكبراء مسرورون في السّرور وفرحون في الغمّ فإنّ نظرهم مصروف عن خصوصيّات الافعال الجميلة والرّذيلة ومقصور على جمال فاعل تلك الافعال الذي هو جميل مطلق وكانت الافعال عندهم أيضا محبوبة بحبّ الفاعل ومورّثة للالتذاذ. كلّ ما يصدر في العالم بمراد الفاعل الجميل جلّ سلطانه وإن كان من إيلامهم وإضرارهم فهو عين مرادهم المحبوب لهم وسبب التذاذهم إلهي ما هذا الفضل والكرامة حيث أعطيت مثل هذه الدولة الخفيّة والنّعمة الهنيئة لأوليائك مخفيا إيّاها من نظر الاغيار وأقمتهم بمرادك دائما محتظّين ومتلذّذين ورفعت عنهم الكراهة والتّألّم وجعلتها نصيب غيرهم وجعلت العار والفضيحة اللّذين من عيوب الآخرين جمال هذه الطّائفة العليّة وكمالهم وأودعت مرادهم في عين عدم حصول المراد وجعلت التذاذهم وسرورهم العاجلين سببا لزيادة حظوظهم الاخرويّة على عكس الآخرين ذلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ والله ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١)

والثالث: أنّ هذه الدار دار ابتلاء والحقّ ممتزج فيها بالباطل والمحقّ مختلط بالمبطل فلو لم يعط الأولياء المحن والبلاء بل اعطيهما الاعداء لما يتميّز الأولياء من الاعداء ولتبطل حكمة الاختبار والامتحان وذلك مناف للإيمان بالغيب الذي السّعادة الدنيويّة والأخرويّة مودعة في ضمنه. قوله تعالى (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) وقوله تعالى (ولِيَعْلَمَ الله مَنْ يَنْصُرُهُ ورُسُلَهُ بِالْغَيْبِ) شاهد لهذا المعنى فجعل الله سبحانه أولياءه مبتلين بصورة البلاء والمحن ورمى في عيون الاعداء التّراب لتتمّ بذلك حكمة الإبتلاء والامتحان وليكون أولياؤه متلذّذين في عين البلاء وليكون الاعداء مطموسو البصيرة خائبين وخاسرين غافلين عن هذا الإبتلاء يضلّ به كثيرا ويهدي به كثيرا. وكانت معاملة الانبياء مع الكفّار أن تكون الغلبة أحيانا في هذا الجانب وأحيانا في ذاك الجانب كانت النّصرة في البدر في جانب أهل الإسلام وكانت الغلبة في الأحد في جانب الكفّار قال الله تبارك وتعالى (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وتِلْكَ الْأَيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النّاسِ ولِيَعْلَمَ الله الَّذِينَ آمَنُوا ويَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ والله لا يُحِبُّ الظّالِمِينَ ولِيُمَحِّصَ الله الَّذِينَ آمَنُوا ويَمْحَقَ الْكافِرِينَ)

والرّابع: أنّ الحقّ سبحانه وتعالى وإن كان قادرا على كلّ شيء ومقتدرا على إكرام أوليائه بالتّنعّم الدنيويّ والأخرويّ ولكنّ هذا المعنى مناف لحكمته وعادته سبحانه وتعالى وهو تعالى يحبّ أن يجعل قدرته مستورة تحت حكمته وعادته أن يجعل العلل والأسباب نقاب جناب قدسه فبحكم النّقاضة بين الدنيا والآخرة لا بدّ للأولياء من محن الدنيا وبليّتها حتّى تكون لهم تنعّمات الآخرة هنيئة مريئة وقد مرّ في

__________

(١) الحديد: ٢١

جواب أصل السّؤال رمز إلى هذا المعنى (ولنرجع) إلى أصل الكلام ونبيّن تتمّة الجواب من أصل السّؤال ونقول: إنّ سبب الالم والبلاء والمصيبة وإن كان كسب الذّنوب والسّيّئات ولكنّ البليّات مكفّرة في الحقيقة للسّيّئات والمصيبات مزيلة لظلمات الذّنوب والخطيّات فالكرم في زيادة محن الأولياء وبليّاتهم لتكون كفارّة لسيّئاتهم ومزيلة لظلمات ذنوبهم وزلّاتهم ولا ينبغي أن تتصوّر سيّئات الأولياء وذنوبهم مثل سيّئات الاعداء وذنوبهم. ولعلّكم سمعتم قولهم حسنات الابرار سيّئات المقرّبين فلو صدر عنهم الذّنب والعصيان لا يكون ذلك كذنب غيرهم وعصيانه بل يكون من قسم السّهو والنّسيان بعيدا من العزم والجدّ والطّغيان قال الله تبارك وتعالى (ولَقَدْ عَهِدْنا إلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ ولَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) فكثرة الآلام والمصائب والبليّات تدلّ على كثرة كفّارة السّيّئات لا على كثرة كسب السّيّئات فيعطي أكثر البلاء للأولياء ليكفّر عنهم سيّئاتهم فيقدمون إلى ربّهم طاهرين مطهّرين ويكونون محفوظين من محنة الآخرة ومصونين (نقل) أنّ في حين احتضار النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ظهر فيه قلق واضطراب فلمّا شاهدت فاطمة رضي الله عنها منه صلّى الله عليه وسلّم ذلك صارت من كمال شفقتها وتحننّها لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم - ولقوله صلّى الله عليه وسلّم “ فاطمة بضعة منّى ” مضطربة ومنزعجة فلمّا شاهد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ذاك الإضطراب والانزعاج من فاطمة الزّهراء في ذلك الوقت قال لتسليتها رضي الله عنها: إنّ محنة أبيك هي هذه فقط لا مكروه بعد ذلك ما أعظم دولة لو ارتفع العذاب الاشدّ والّا بقى بمحنة أيّام قليلة وإنّما يعامل بهذه المعاملة الأولياء دون غيرهم فإنّ ذنوب غيرهم لا تكفّر هنا كما ينبغي بل يؤخّر مجازاتهم إلى الآخرة فيكون الأولياء أحقّاء بكثرة الآلام والبليّات الدنيويّة وليس غيرهم مستحقّين لهذه الدولة فإنّ ذنوبهم كبيرة ومشغوليّتهم بالإلتجاء والتّضرّع والإستغفار والانكسار قليلة ونفوسهم على كسب المعاصي جسورة يكتسبون الذنوب بالجدّ والعزم ولا يخلون من التّمرّد والطّغيان والرّجم بل يكادون يستهزئون ويسخرون بآيات الله عزّ وجلّ والجزاء على قدر الجريمة فإن كانت الجريمة خفيفة وصاحبها ملتجئا ومتضرّعا إلى الله تعالى فهي قابلة للكفّارة بالبلاء الدنيويّ أمّا إذا كانت غليظة وصاحب الجريمة متمرّد ومتكبّر فهي حريّة بالجزاء الأخرويّ الذي هو أشدّ وأدوم وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (وكتبتم) أيضا أنّ النّاس يستهزئون ويسخرون ويقولون: إنّ الحقّ سبحانه لم يبتلي أولياءه بالمحنة والبلاء ولم لا يجعلهم في التّلذّذ والتّنعّم دائما ويريدون نفي هذه الجماعة بهذا القيل والقال نعم: قد قال الكفّار أمثال هذه الكلمات في حقّه صلّى الله عليه وسلّم قال الله تعالى (وقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ ويَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها) الآية ومدار أمثال هذه الكلمات على إنكار الآخرة وإنكار العذاب والثواب الدائمين وعلى الإعتداد بالتّلذّذات الفانية العاجلة والذي يؤمن بالآخرة ويذعن بالثّواب والعذاب الدائمين لا يورد محنة أيّام قليلة على نظره أصلا بل يتصوّر هذه المحنة الموقّتة الّتي هي سبب راحة مؤبّدة عين الرّاحة

لا ينبغي الإصغاء إلى قيل النّاس وقالهم. والألم والبلاء والمحنة من شواهد المحبّة فإن زعمها مطموسو البصيرة منافية للمحبّة ماذا نصنع لا علاج غير الإعراض عن الجاهلين ومقالتهم فاصبر صبرا جميلا.

(جواب) آخر عن أصل السّؤال أنّ البلاء سوط المحبوب يمنع المحبّ من الالتفات إلى ما سوى المحبوب ويجعله متوجّها بكلّيّته إلى جناب قدسه فيكون المستحقّ للألم والبلاء الأولياء ليكون هذا البلاء مكفّرا لسيّئة التفاتهم إلى ما سواه ولا يكون غيرهم لائقا بهذه الدولة وكيف لا يجاء به إلى جانب المحبوب بلا اختيار فانّ كلّ من سبقت له العناية الازليّة يجاء به إلى جانب المحبوب بالجرّ والضّرب ويجتبى للمحبوبيّة ومن لا فيترك على اختياره فإن أدركته السّعادة الابديّة يسلك طريق الإنابة ويصل إلى المقصد بإمداد الفضل والعناية وإلّا فإيّاه وحاله اللهمّ لا تكلني إلى نفسي طرفة عين فعلم من هذا أنّ البلاء في المرادين يكون اكثر منه في المريدين ولهذا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذى هو رئيس المرادين والمحبوبين ما أوذي نبيّ مثل ما أوذيت فظهر في البلاء معنى الدلاليّة حيث أنّه أوصل الحبيب إلى الحبيب بحسن دلالته وجعله صافيا من الإلتفات إلى غير الحبيب والعجب أنّ الأولياء لو وجدوا ألوفا لاشتروا بها البلاء وغيرهم يريدون دفع البلاء بإعطاء ألوف (فإن قيل) قد يفهم الاضطراب والكراهة في الأولياء أيضا وقت إصابة الالم والبلاء في بعض الاحيان فما وجه ذلك؟ (أجيب) أنّ ذلك الإضطراب صوريّ يصدر عنهم أحيانا بمقتضى الطّينة البشريّة وفي إبقائه حكم ومصالح فإنّ الجهاد مع النّفس لا يتصوّر بدونه وقد سمعت ما ظهر من سيّد الاوّلين والآخرين عليه وعلى آله الصّلاة والسّلام من الإضطراب والقلق في سكرات الموت وكان ذلك بقيّة الجهاد مع النّفس ليكون خاتمة خاتم الرّسل عليه وعليهم الصّلاة والسّلام على الجهاد مع أعداء الله تعالى وشدّة المجاهدة تحسم موادّ الصّفات البشريّة وتوصل النّفس إلى كمال الإنقياد وحقيقة الإطمئنان وتجعلها صافية زاكية فصار البلاء دلّال سوق المحبّة ومن لا محبّة له لا شغل له بالدّلّال ولا يحتاج إلى الدلاليّة ولا يكون لها عنده قدر ولا قيمة ووجه آخر للألم والبلاء حصول الإمتياز بين المحبّ الصّادق وبين المدّعي الكاذب فإنّ من كان صادقا يكون ملتذّا ومحتظّا بالبلاء ومن كان مدّعيا لا يكون نصيبه من البلاء غير التّألّم والكراهة ولا يهتدي إلى هذا التّمييز الّا من كان فيه شائبة من الصّدق حتّى يميّز بين حقيقة التّألّم وصورته ويفرّق بين حقيقة الصّفات البشريّة وصورتها. “ الوليّ يعرف الوليّ ” رمز إلى هذا البيان والله سبحانه الهادي إلى سبيل الرّشاد (وسألتم) أيضا أنّ العدم لا شيء محض كما قالوا فلا يكون له وجود فإذا لم يكن له وجود كيف تكون له آثار وترقّيات مع الوجود الذي عرض له في الذّهن فإن كانت تكون ذهنيّة فكيف تخرج عن دائرة الخيال؟ (اعلم) أنّ العدم وإن كان لا شيئا ولكنّ معاملة الاشياء كلّها قائمة به ومنشأ تفصيل الاشياء وكثرتها مرآتيّته والصّور العلميّة للأسماء الإلهيّة جلّ شأنه الّتي انعكست في مرآة العدم جعلته متميّزا واستلزمته ثبوتا علميّا فبالضّرورة أخرجته أيضا من اللّاشيئيّة المحضة وصيّرته منشأ للآثار والأحكام وهذه الآثار والأحكام أيضا

كائنة في خارج موطن العلم وثابتة في مرتبة الحسّ والوهم وحيث حصل لها في تلك المرتبة باستحكام صنع الله جلّ شأنه ثبات واستقرار بحيث لا ترتفع بزوال الحسّ والوهم يمكن أن يقال: إنّ هذه الآثار والأحكام خارجيّة وأنتم كيف تتعجّبون من ترقّيات العدم فإنّ جميع معاملة الكائنات مبتنية على العدم ينبغي أن يشاهد كمال قدرة الله جلّ شأنه حيث وسّع دائرة المعاملة هذه كلّها من العدم وأظهر كمالات الوجود بنقائصه ووجه ترقّيه في كمال الوضوح فإنّ الصّور العلميّة للأسماء الإلهيّة جلّ سلطانه متمكّنة فيه وكائنة به ومن الصّور إلى الحقيقة والظّلال إلى الاصل طريق سلطانيّ ومن لم يحسّ ذلك فهو مطموس البصيرة إنّ هذه تذكرة فمن شاء اتّخذ إلى ربّه سبيلا. ولفظ الذّهن والخيال لا يوقعنّك في الإشتباه والاحتمال ولا يجعلنّ صدور الآثار والتّرقّيات عسيرا في نظركم فإنّه ما من معاملة الّا وهي في العلم والخيال ليست بخارجة منهما غاية ما في الباب أنّ بين خيال وخيال فرقا كثيرا فإنّ الخلق في مرتبة الوهم والخيال غير اختراع الوهم والخيال فإنّ الاوّل واقعيّ وكائن في نفس الامر ويمكن أن يقال: إنّه موجود خارجيّ والثاني قليل النّصيب من هذه الدولة وقليل الحظّ من الثبات والإستقرار وقد كتبت بعض خصائص العدم في معرفة على حدة وأخذ نقلها المير محبّ الله فإن أردتم الإطّلاع عليها ينبغي المراجعة إليها (وسألتم) أيضا عن الفناء والبقاء وقد كتب هذا الفقير معنى هاتين الكلمتين في مواضع كثيرة من كتبه ورسائله ومع ذلك لو بقي الخفاء فيه فعلاجه الحضور والمشافهة فإنّ تمام الحقيقة لا يحصل بالكتابة فإن حصل ربّما يكون إظهاره بعيدا عن المصلحة فإنّه لا يدرى ماذا يفهم منه الإنسان وماذا يدرك. الفناء والبقاء شهوديّان لا وجوديّان العبد لا يكون متلاشيا ومتّحدا بالحقّ تعالى.

العبد عبد أبدا ... والرّبّ ربّ سرمدا

زنادقة من يزعمون الفناء والبقاء وجوديّين ويظنّون “ أنّ العبد يرفع عن نفسه تعيّنات وجوده ويتّحد مع أصله الذي منزّه عن التّعيّنات والقيودات ويصير مضمحلّا ومتلاشيا وباقيا بربّه كقطرة تكون فانية عن نفسه وتلحق بالبحر وترفع عن نفسه القيد وتتّحد بالمطلق ” أعاذنا الله سبحانه من معتقداتهم السوء.

وحقيقة الفناء عبارة عن نسيان ما سواه تعالى وعدم التّعلّق بغيره وتطهير ساحة الصّدر عن جميع مرادات النّفس ومقتضياتها الذي هو مناسب لمقام العبوديّة والمناسب لمقام البقاء هو قيام العبد بمرادات مولاه جلّ سلطانه وأن يجد مراداته سبحانه عين مرادات نفسه وذلك بعد شهود الآيات الأنفسيّة (وسألتم) أيضا أنّه قد أثبتّم سيرا فيما وراء الانفس والسّير في المراتب العشرة لعالم الخلق وعالم الامر وسير الهيئة الوحدانيّة داخل في السّير الانفسيّ فما يكون السّير فيما وراء الانفس؟ (اعلم) أنّ الانفس كالآفاق ظلال الاسماء الإلهيّة جلّ سلطانه فإذا نسي الظّلّ بفضل الله جلّ سلطانه نفسه وتوجّه إلى أصله وحصل له تمام محبّة الاصل فبحكم “ المرء مع من أحبّ ” يجد نفسه عين أصله ويصرف لفظ “ أنا ” الذي كان يطلقه على نفسه إليه وكذلك لهذا الاصل أصل أيضا فيتوجّه من هذا الاصل إلى ذاك الاصل بل يجد نفسه عين ذاك

الاصل وهلمّ جرّا إلى أن يبلغ الكتاب أجله وهذا السّير سير فيما وراء الانفس والآفاق ولكن ينبغي أن يعلم أنّ جماعة من القوم قالوا للسّير الانفسيّ “ إنّه سير في الله ” وذاك السّير الذي بيّنّاه آنفا غير هذا السّير الذي قاله بعض المشائخ فإنّ هذا السّير حصوليّ وذاك السّير وصوليّ والفرق بين الحصول والوصول مذكور في مكاتيب متعدّدة بالتّفصيل فليعلم من هناك (وسألتم) أيضا عن أقربيّة ذاته وصفاته وأفعاله جلّ سلطانه بيانه أيضا متعلّق بالحضور فإنّه لا مصلحة في كتابته ولئن كتبناه يكون مغلقا لا يعلم انفهامه بل لو فهم بالتّقرير في الحضور فهو أيضا مغتنم (وسألتم) أيضا عن كمالات مرتبة النّبوّة قائلا بأنّ الفناء والبقاء والتّجلّي ومبدئيّة التّعيّن كلّها في مراتب كمالات الولايات الثلاثة فباىّ كيفيّة يكون السّير في مراتب كمالات النّبوّة. (اعلم) أنّ مراتب العروج ما دام بعضها متميّزا عن بعض ويحصل السّير من أصل إلى اصل فكلّ كمالات حاصلة فيها داخلة في دائرة الولايات فإذا زال ذلك التّميّز وانعدم التّفصيل ووقعت المعاملة في الإجمال والبساطة يقع الشّروع في كمالات مرتبة النّبوّة وإن كان في تلك المرتبة أيضا وسعة “ إنّ الله واسع عليم ” ولكنّ تلك الوسعة وسعة أخرى فإن كان فيها تميّز فهو أيضا تميّز آخر وماذا أكتب زيادة على ذلك وماذا يفهم منه رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَدًا (١) (وسألتم) أيضا عن بعض أسرار الصّلاة فأخّرنا جوابه إلى وقت آخر فإنّ الوقت الآن ضيّق جدّا وإنّما نكتب بعض المعارف بسرقة الوقت من يد الزّمان وأهله ارحموا الفقير ولا تجاسروا في الإستفسار رَبَّنَا اِغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وثَبِّتْ أَقْدامَنا واُنْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢)

الحمد لله ربّ العالمين أوّلّا وآخرا والصّلاة والتّحيّة على رسوله دائما وسرمدا وعلى آله الكرام وصحبه العظام إلى يوم القيام.

تمّ الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث أوّله: أمّا بعد فهذه كلمات إلخ

__________

(١) الكهف: ١٠

(٢) البقرة: ٢٨٦



 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!