موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

شرح مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية

لست العجم بنت النفيس، والمتن للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

خاتمة المشاهد [المتن]

 

 


فصل في تأييد هذه المكاشفات العلية والمشاهد القدسية وما يتعلق بها بالآيات والأخبار والآثار.

لعلك تطلب أيها الباحث عن هذه الأسرار، والباغي اقتباس هذه الأنوار، شواهد عليها من الآيات والأخبار والآثار، ليتقوى طلبك عليها، وتكون ممن ينتدب إليها، نعم سدّدك الله بنظره الصائب، وجعلك ممن جمع في معرفته بين الشاهد والغائب ونمهدها لك أحسن تمهيد، ونفرق لك بين المعوج منها، والسديد، ما إذا عملت بمقتضاه كوشفت على حقيقته ومعناه، وشاهدت هذه المشاهد القدسية، والمكاشفات العلية التي أوردت منها في هذا الكتاب على قدر ما حد لي في الخطاب حتى لو بثثت ما أسدى إليّ سبحانه من أسراره العلية، وأنواره السنية، وغيوبه الأزلية، وتكون الأبحر مدادا، والشجر أقلاما لفنيت الأدوات، وبقيت الأسرار والواردات، فألق سمعك إن كنت على الحقيقة طالبا، ولا تكن عما أورده عليك راغبا.

أما الآيات: فقوله تعالى: وعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنّا عِلْماً [الكهف: 65 ]، واِتَّقُوا الله ويُعَلِّمُكُمُ الله [البقرة: 282 ]، يُؤْتِي اَلْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ [البقرة:269]، وآتَيْناهُ اَلْحُكْمَ صَبِيًّا [مريم: 12 ]، وتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ [الأنعام: 83 ]، أَ ومَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنّاسِ [الأنعام: 122 ]، واَلَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [العنكبوت:69]، واُتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ اَلَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها [الأعراف: 175 ].

وأما الأخبار:

فقوله صلى الله عليه وسلم: «من عمل بما علم، أورثه الله علم ما لم يعلم » .

وقال:

«العلم نور يضعه الله في قلب من يشاء » .

وقال:

«العلم علمان: علم باللسان فتلك حجة الله على ابن آدم، وعلم في القلب

________________________________________

( 1 ) ذكره العجلوني في كشف الخفاء ( 2 / 287 ) ، وابن رجب في جامع العلوم والحكم (ص 342 ) . ) رواه الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي والسامع ( 2 / 174 ) . فذلك العلم النافع » .

وقال:

«إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العالمون بالله » .

وقال حاكيا عن ربه:

«و لا يزال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا » الحديث.

وفي حديث أبي سعيد:

«القلوب أوعية: قلب أجرد فيه سراج يزهر، فذلك قلب المؤمن » .

وأما الآثار: فقد

قال علي رضي الله عنه: وضرب بيده إلى صدره، وقال: إن هاهنا لعلوما جمة لو وجد لها حملة .

وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: الله اَلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ ومِنَ اَلْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق: 12 ]: لو ذكرت تفسيره لزحمتموني، وفي رواية: لقلتم إني كافر.

و

قال علي رضي الله عنه: لو أذن لي أن أتكلم في الألف من الحمد لله لتكلمت فيها سبعين.

وقرأ إلى أمثال هذا مما لا يحصى كثرة، وهذا في العلوم الذي اختص الله تعالى بها بعض عباده ونهى عن كشفها لغير أهلها في الكتاب والسنة، وفقك الله وسدّدك.

وسبيل حصول هذه العلوم المذكورة في قلوب أهل الحقائق له شروط جمة لا يفي بها إلا أهل العناية والتوفيق، والسالكين سواء الطريق.

فنقول: إن القلب على خلاف بين أهل الحقائق والمكاشفات، كالمرآة المستديرة لها ستة أوجه، وقال بعضهم: ثمانية، هذا محل الخلاف، ولو لا التطويل، وخروجنا عما أردناه من الاختصار، لأزلنا الخلاف، وبينا وجه الجمع بين هذين المقامين بأدلة قاطعة، لكنا قد تممنا هذا المقصد في كتابنا المترجم بجلاء القلوب، ولا يلتفت إلى من زاد وجها تاسعا، لأن الحكمة الإلهية منعت من ذلك، ولا في الإمكان أن يوجد لها من الوجود ما لا يتناهى،

________________________________________

( 1 ) رواه الدارمي ( 1 / 114 ) ، والربيع في مسنده ( 1 / 335 ) ، وابن المبارك في الزهد (ص 407 ) . ) رواه الديلمي في الفردوس ( 1 / 210 ) ، وذكره المنذري في الترغيب ( 1 / 58 ) . ) رواه البخاري ( 2 / 2384 ) . ) رواه أحمد في المسند ( 2 / 177 ) . ) ذكره القنوجي في أبجد العلوم ( 1 / 129 ) . إذ صفات الجلال لا تحصى، ولعلك تقول: أستشعر من هذا القول الذي ذكرته مناقضة الإمام أبي حامد حيث قال: وليس في الإمكان أبدع من هذا العالم، نعم يشعر ذلك عند من يقصر إدراكه عن الاطلاع إلى هذه العلوم السماوية، وأما عند من فحص عن كلامنا وبحث عن حقيقة ما أشرنا إليه يرى: لا مناقضة بينهما، وقد أشبعنا القول بالأدلة الواضحة في شرح كلام الإمام أبي حامد رضي الله عنه وليس في الإمكان أبدع من هذا العالم، في كتاب الجمع والتفصيل في معاني التنزيل لمّا تكلمنا على قوله تعالى: وإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: 30 ]، ثم نقول: وقد جعل الله في مقابلة كل وجه من وجوه القلب حضرة من أمهات الحضرات الإلهية تقابله، فمتى جلي وجه من هذه الوجوه تجلّت تلك الحضرة فيه، فإذا أراد الله سبحانه أن يمنح عبده من هذه العلوم شيئا تولى سبحانه بتوفيقه مرآة قلبه، فيظهرها بعين اللطف والتوفيق، وأمدها ببحر التأييد، فاهتدى ذلك الموفق للرياضات والمجاهدات، ووجد الإرادة والمحبة من قلبه، فبادرت الجوارح بالطاعة للقلب، إذ هو مالكها وسيدها، فاستعمل الأذكار، وعلق الهمة، وتخلق بأخلاق الله تعالى، وغسل قلبه بماء المراقبة حتى ينجلي عن القلب صدأ الأغيار، وتتجلى فيه حضائر الأسرار، فالوجه الأول ينظر إلى حضرة الأحكام، وصقالة ذلك الوجه بالمجاهدات، والوجه الثاني ينظر إلى حضرة الاختيار والتدبير وصقالة ذلك الوجه بالتسليم والتفويض والوجه الثالث ينظر إلى حضرة الإبداع وصقالة ذلك الوجه بالفكر والاعتبار، والوجه الرابع ينظر إلى حضرة الخطاب وصقالته بخلع الأكوان، والوجه الخامس ينظر إلى حضرة الحياة وصقالتها بالتبري والفناء والوجه السادس وهو الثامن عند من أثبتها ثمانية ينظر إلى حضرة ما لا يقال، وصقالته بياء أهل يثرب لا مقام لكم.

وأما الوجهان اللذان هما محل الخلاف فأهل السنة صرفوهما إلى حضرة الأحكام وغيرهم قال: إن أحدهما ينظر إلى حضرة المشاهدة، وصقالته ببيع النفس والآخر ينظر إلى حضرة السماع، وصقالته بالصمت والأدب، وليس ثمّ وجه تاسع، ولا كشف لها سبحانه حضرة زائدة على هذه الثمانية، فكانت تجهلها إذ ليس لها وجه تتجلى فيه للحكمة الإلهية التي سبقت بالإرادة القديمة، وهنا موضع نزاع بين الأشعرية والصوفية دقيق لا يتفطن له إلا صاحب ذوق، ثم لتعلم أن لهذه الحضرات أبوابا في مقابلة ما على وجه المرآة من الصدأ تسمى أبواب المشيئة، فعلى قدر ما تكون الصقالة يكون التجلي، وعلى قدر ما يفتح من الأبواب يكون الكشف، فليس كل مرآه مجلوة يكشف لها، لكنها معدة لقبول الصور، كذلك ليس كل من سلك هذا الطريق يكشف له، قد يدخر له إلى يوم القيامة أعني قيامته، كما تدخر المرآة المحسوسة ليوم ما وإلا لأي معنى صقلت، أو لأي فائدة وجدت، لكن يلوح لها بوارق من المطلوب، وإن كانت لا تخلي عن صورة، لكن الصور التي قصدنا في هذا الباب صور مخصوصة انفردت بها مرآة أهل الحقائق، فإذا رقيت إلى هذه المنازل، واطلعت على هذه المقامات صارت الغيوب مشاهدة في حقك، أعني غيوب ما بطن في ظاهر علوم الدين، لا في يجيء فلان وزني فلان، فإن تلك مكاشفات السالكين، وإن يتشوش عليك خاطرك، ولم ترزق الإيمان بهذا المقام، فقد أجرى الله لك في ظاهر الكون مثالا ترتقي به إلى ما ذكرناه، وهي المرآة المحسوسة تنجلي فيها صور المحسوسات على قدر صقالتها وجلائها، وقد نبّه على ذلك سيد البشر صلى الله عليه وسلم حيث

قال: «إن القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد» ، قيل: فما جلاؤها؟ قال: «ذكر الله، وتلاوة القرآن » .

فقديما نصبت الأمثال أدلة لعلوم ربانية، فمن وقف مع المثال ضل، ومن ارتقى عنه إلى الحقيقة اهتدى، ثم لتعلم أن لهذا الحضرات أسرارا ظاهرة وأسرارا باطنة، فالظاهرة لأهل الاستدراج، والباطنة لأهل الحقائق، فليس كل حكيم حكيما، بل الحكيم من حكمته الحكمة، وقيدته بالوقوف عند فصل الخطاب، ومنعته أن ينظر إلى سوى خالقه، ولازم المراقبة على كل أحيانه، فليس من نطق بالحكمة ولم تظهر آثارها عليه يسمى حكيما،

فالنبي صلى الله عليه وسلم قد قال: «رب حامل فقه ليس بفقيه » إنما هي أمانة عنده يؤديها إلى غيره كمثل الحمار يحمل أسفارا، فإذا صدرت منك حكمة، فانظرها في نفسك، فإن كنت قد تحليت بها فأنت صاحبها، وإن رأيت نفسك عارية عنها، فأنت لها حامل ومسئول عنها، وتحقيق هذا أن تنظر إلى استقامتك على الطريق الأوضح والمنهج السديد، والميزان الأرجح في قولك، وفعلك، وقلبك، إذ الناس في الاستقامة سبعة أقسام:

قسمان لهما الفضل، والخمسة عليهم الدرك، فمستقيم بقوله، وفعله، وقلبه، ومستقيم بفعله وقلبه دون قوله، فهذان لهما الفضل، والأول أعلى، ومستقيم بقوله في فعله دون قلبه

________________________________________

( 1 ) رواه القضاعي في الشهاب ( 2 / 198 ) ، والبيهقي في الشعب ( 2 / 353 ) ، وأبو نعيم في الحلية ( 8 / 197 ) ، والخطيب في تاريخ بغداد ( 11 / 85 ) . ) رواه أحمد في المسند ( 5 / 183 ) ، وابن أبي عاصم في الزهد (ص 33 ) . يرجى له النفع بغيره، ومستقيم بقوله وقلبه، ومستقيم بفعله دون قوله وقلبه، ومستقيم بقوله دون فعله وقلبه، فهؤلاء عليهم لا لهم، لكن بعضهم فوق بعض ولست أعني بالاستقامة في القول ترك الغيبة والنميمة وشبهها، فإن الفعل يشمل ذلك، وإنما نعني بالاستقامة في القول أن يرشد غيره بقوله إلى الصراط المستقيم، وقد يكون عريا مما أرشد إليه، فهذا نعني بالاستقامة، ويجمع ذلك مثال واحد، وهو رجل تفقه في أمر صلاته وحققها، ثم علمها غيره، فهذا مستقيم في قوله، ثم حضر وقتها، فأداها على حد ما علمها وحافظ على أركانها الظاهرة، فهذا مستقيم في فعله، ثم علم أن مراد الله منه في تلك الصلاة حضور قلبه لمناجاته فأحضره، فهذا مستقيم بقلبه، ثم احمل هذا المثال على ما بقي من الأقسام تجده واضحا إن شاء الله تعالى، ثم لتعلم أن العلل التي تصدك عن الاستقامة طريق الكاملة غير منحصرة مستقرها كتاب الله تعالى وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْخاسِرُونَ ، وإني لك بالأمين ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

«اللهم إني استغفرك مما علمت ومما لم أعلم » ، فقيل له: تخاف يا رسول، قال: وما يؤمني والقلب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف شاء، والله تعالى يقول: وبَدا لَهُمْ مِنَ الله ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر: 47 ]. فالإنسان محل للتغيير قابل لكل صفة ترد عليه، ولذلك قال بعض العارفين: لو عرضت علي الشهادة عند باب الدار، والموت على التوحيد عند باب الحجرة لاخترت الموت على الشهادة لأني لا أدري ما يعرض لقلبي من التغيير عن التوحيد إلى باب الحجرة فكن على حذر ما دار تركيبك،

قال تعالى لموسى عليه السلام في التوراة: يا ابن آدم لا تأمن مكري حتى تجوز الصراط فالآفات رحمك الله كثيرة، والخطوب والطريق دقيق، أرق من الشعرة وأحد من السيف لا يثبت عليه إلا أهل العناية، فباللحظة والخطرة تزل الأقدام.

ألا ترى أبا سليمان الداراني يقول: سمعت من بعض الأمراء شيئا، فأردت أن أنكر فخفت أن يقتلني، وما خفت من الموت، ولكني خشيت أن يتعرض لقلبي التزين للخلق عند خروج روحي فكففت.

فانظر حذرهم من الزلل مخافة الفوت، فإن أردت أنوارهم وأسرارهم فاسلك

________________________________________

( 1 ) رواه أبو يعلى في مسنده ( 1 / 163 ) ، وذكره العجلوني في الكشف ( 2 / 527 ) . ) ذكره ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم (ص 230 ) . آثارهم.

وكان الفراغ من كتاب المشاهد في الخميس لأربعة خلت من شهر صفر الخير سنة 1321 ه‍ إحدى وعشرين وثلاثمائة بعد الألف على يد الفقير إلى الله تعالى أحمد حمدي ابن الشيخ حسن الإسطواني غفر الله ولوالديه ولجميع المسلمين آمين. قوبلت بأصلها على يد الناسخ ووالده والحمد لله.

***



 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!