موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

شرح مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية

لست العجم بنت النفيس، والمتن للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

شرح المشهد الرابع عشر [المتن]

 

 


قال الشيخ رحمه الله تعالى:

(ص) [ (أشهدني الحق بمشهد نور الحجاج وطلوع نجم العدل) ].

(ش) أقول: يريد به شهوده للحق تعالى في محل تمييز المعاني، والحق تعالى مستو على عرش الفضل، ظاهر بصفات الجمع، أعني جمع الأولين والآخرين، وهذا المحل هو الذي تقام فيه الحجة على المحجوجين إذ الله تعالى فيه مستو على عرش الفضل، وقد شهد آن نصب ميزان الحق، وقد أريد لأصحاب القبضتين استقرار كل في محله المختص بحقيقته، وقد كان هذا الشاهد في هذا الشهود مستودعا في الآخرين من وراء الحد الفاصل بين حضرتي الآخر والباطن مائلا إلى جهة الآخر في الفرجة الواقعة بين النار والجنة، شاهدا بالنور الذي قد تميز به العرش من المستوي عليه، وهو بعينه نور الحجاج الذي ذكره، وقد كان في حكم هذا الخلع مريدا للدخول في حضرة الآخر ما رأى في الحد المشترك، وولج في الآخر بالسبيل الذي يمر فيها المنتقلون التي هي محل الجذب، ثم إنه استودع عالم مثال الآخرين مقابلا للسبيل القاطعة للحد، وهو ناظر إلى الأمام الذي عبرّنا عنه بالفرجة، لأن كل داخل من أصحاب الخلع إذا ولج في الآخر سبيل المنتقلين، فلابد له من اطلاع هذه الفرجة لكنه مائل إلى الجنة ميل شهود عياني يلحظ منه النعمة من أهل النار، وهذه الفرجة التي هي بين النار والجنة معدة لاستواء هذا العرش، وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى في الحديث الصحيح الذي يذكر فيه بروز العرش للفصل، فيستوي الله عليه، ويكون وجهه تعالى إلى جهة النار والجنة والمحاجّون مستودعون في الثلث الباقي من سعة الفرجة، لأن العرش مماس لحقيقة النار والجنة، وهو مستدير والنار والجنة مستديران أيضا فينشأ هذا المثلث ضرورة من بين ثلث دائر، وهذا المحل هو الذي يذبح فيه الموت على يد يحيى عليه السلام عند منصرف العرش إلى محله، والفريقين كل واحد منهما إلى محله المقسوم له، وهذا النور الذي تميز به الشاهد من المشهود هاهنا هو نور ينشأ من محل أخذ العهد، ولهذا كان فيه نشأة الحجاج، وكانت نشأة هذا النور عند استدارة الزمان إن عطف الأول على الآخر وجعل هذا النور محل المحاجّين تذكير للعهد، لأن الحجة لا تقوم إلا بذكر العهد، فإذا عرف المتحاجّون أنهم أجابوا ببلى، ثبتت الحجة وهذه المعرفة تكون عند انصراف المحاجّين آن استقرارهم في مجالهم، فتظهر لطيفة هذا النور عند المنصرف، ولهذا قال رحمه الله في ضمن هذا المشهد: (فتجلى لهم في صورة العلم فتفاضلت الرؤيا) ، وهذا العلم بعينه هو تذكير العهد المأخوذ في الأزل، فمن هذا التجلي تظهر حقيقة هذا النور الممّيز بين الشاهد والمشهود، وهذا الشهود يسمى شهود التمييز والتنزيه، لأن هذه المعاني والأوصاف والحقائق تقام للشاهد في حضرة ويستودع محيطها ويستوي الله تعالى على عرش يحيط به تلك الحضرة ويرسل إلى الشاهد خطابا في صورة ملاحظة، فكأنه يقول له تأمل وتنزه، وقد قال: أشهدني الحق، وقال لي: ويكون نور هذه الحضرة أمكن وأشد من جميع الأنوار، لأنه ذو ثلاث معاني والنور الآخر إما للتمكين وإما للتمييز ما له التمييز هو قوله: (بمشهد نور كذا) ، وآلة التمكين هي النجوم الطالعة في هذا الكتاب، وهذا النور يباين هذه الأنوار كلها لأجل كمون الثلاث معاني فيه، وإن قيل: إنه مركب من ثلاثة أنوار جاز ذلك أيضا، والمعاني الثلاثة الكامنة فيه هو أنه مميز للشاهد والمشهود باعتبار ومستدير باعتبار ومميز للمعاني وقيام الحجة باعتبار وكونه مركبا من ثلاثة أنوار من أجل تضمنه للنورانية الناشئة عن الأزل واحتوائه على اللطيفة التي تظهر لهذا الشاهد هاهنا في صورة الخلع، فهو مذكر بصورة ومميز بصورة، وممكن بصورة، فلما ووري هذا الشاهد عنه بمشهد النور، كان مميزا وعند وقوع الحجاج يكون مذكرا.

وقوله: (وطلوع نجم العدل) حيث بدأ بالحجاج لزم منه ذكر العدل لأن نفس الاستواء على أي شيء كان هو حقيقة العدل، فهذا المعنى مأخوذ من حقيقة المستوي، فلما ابتدأ في الشهود مطّلعا على النور المميز بين الشاهد والمشهود ويعرف له هذا النور بنور الحجاج وعرف أن الطالع لا يكون في مفتتح الشهود وجب أنه لما تكيف بكيفية الجري يوافي بهذا الطالع مأخوذا من معنى الحجاج، لأن حقيقة معناه هي مراد الله لإظهار العدل، وهذا شهود متصل لم يفارق الشاهد والمشهود من حين الابتداء إلى حين الانتهاء وإرادة الرجوع حتى في الجري بخلاف سائر الشهود، فإنه من حين جرى الشاهد تفارق المشهود عيانا وخصوص هذا الدوام بهذا الشهود من أجل تركيب نوره من الأنوار الثلاثة كما ذكرناه، فلما كان النور مميزا كان ظاهرا بصفة التمييز ولما جرى هذا الشاهد كان الجري في هذا النور، فظهر له عند الانقضاء في صورة الطالع الممكن للشهود فكمنت ثورة التمييز، وظهرت صورة التمكين المروي عنها بالطالع وكان هذا النور ظاهرا لأهل الحجاج بصورة التذكير، فكان ظاهرا في آن واحد بثلاث صفات يعبر عنها بثلاث صور وليس لنا نور يتضمن صورا ثلاثة سوى هذا النور لأن الأنوار لا تتضمن أكثر من صورتين ولا يظهر إلا معاني، وهذا خاص بهذا الشهود لأنه يلزم منه الظهور بثلاث صفات اضطرارا صفة التمييز بين ذوي الحجاج وصفة التذكير بالعهد، وصفة التمكين للشاهد المقام بهذا المحل، وهو الممكن لشهوده، فكأنه جرى في هذا الشهود آخذا من محل تمايز المتحاجين إلى ما هو أخفى من هذا المحل راجعا إلى الحد المشترك الفاصل بين الحضرات الأربعة، وصورة هذا الجري أخذ من ظهور إلى خفاء مثل الرجوع إلى النفس والتدبير القلبي، فإن الإنسان إذا وقف مع اعتبار واحد في التفكير فيه يكون قد أخفى ظاهره، وظهر لباطنه، ويسمى هذا رجوع إلى النفس، وكذلك هذا الشاهد في هذا الجري كأنه أخذ من الخفاء الذي هو بالنسبة إليه ظاهر إلى ما هو أخفى منه والحد المشترك بين الكل بالنسبة إلى الآخر خاف، كما أن الظاهر بالنسبة إلى هذا الحد أيضا خاف، وليس لنا أظهر من الآخر في حقائق الأسماء الأربعة ولا أخفى من الأول، وهذه الأسماء هي التي عبّرنا عنها بالحضرات، وهذا الحد الذي هو محل جري هذا الشاهد المشترك بينهما، فلما كان رحمه الله آخذا عند إلقاء الجسد من الخفاء إلى الظهور، أخذ في هذا الجري من الظهور إلى الخفاء حتى يتسلسل هذا الشهود ويتحقق له الاستدارة، فكأنه قال: أشهدني الحق صورته في محل تمايز المتحاجّين الذي هو النور ومكّن لي هذا الشهود بطلوع نجم العدل.

(ص) [قوله: (فرأيت الساهرة قد مدت، والأرض قد ألقت ما فيها وتخلت، وقال لي: يا عبدي تأمل ما أصنع لأهل المراء والجدل والأهواء والبدع، وأنا القاهر) ].

(ش) أقول: مراده بهذا التنزل إظهار حقيقة ما شهده آن قيامه في نور تمييز المتحاجّين فمنه ظهور الساهرة التي هي أرض الموقف، وهي بيت المقدس شرّفه الله، وفيها قال الله تعالى: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسّاهِرَةِ [النازعات 13 - 14 ].

وقوله: (قد مدت) يريد به الإشارة إلى ما ورد في الحديث الصحيح:

«إن الله أوحى إلى جبريل عليه السلام أن يوسع في الأرض فقال: أتمد كما تمد الأديم» .

وقوله: (والأرض قد ألقت ما فيها وتخلت) يشير به إلى حقيقة القيام من القبور، فإن الأرض عند الصيحة يظهر فيها من صور الأموات كالجراد، وفيه قال تعالى:

يَخْرُجُونَ مِنَ اَلْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ [القمر: 7 ]، فيتخلى الأرض تخلي راحة متهيأة بحمل الواقفين عليها.

وقوله: (وقال لي: يا عبدي تأمل ما أصنع بأهل المراء والجدل والأهواء والبدع) يشير بهذا الخطاب الرباني إلى قيامه بتذكير العهد كالتصديق، فإنه أول المصدّقين بأخذ العبد هم العارفون، لأنهم شهدوه في الدنيا وهو ظاهر لهم عيانا فعند قيام الحجة واستنطاق المتحاجين يكون العارف مبادرا بهذا التصديق، وفي تجلي الموقف ظهور حقيقة شيء من الربوبية، فلهذا خوطب هذا الشاهد هاهنا بالعبودية لأجل اتصافه بأوصاف الربوبية والعبودية كامنة في ذاته، فعند الاستنطاق يكون عبدا فلا ينصرف حكم اسم الرب إلى حين انصراف المتحاجّين كل منهم مستقرا في محله، فهناك لا يعود لهذا الاسم حقيقة ظاهرة في الآخر، ويشير بالأمر إلى كونه في حكم هذا الشهود شاهدا للاستواء والقسمة بالعدل ومقابلة الأسماء واستوائها في ميزان الحق، وقيام أهل الجدال والمراء والأهواء والبدع في مقابلة أهل الإيمان والتبعية والواقفين العارين عن الخلاف والمسلمين المطيعين بحقيقة الرحمة جذبا من الآتي بها.

وقوله: (وأنا القاهر) حيث كان مستويا على عرش الفضل والخصوم محضرة، والأحكام إليه يعطي من يشاء ويمنع من يشاء كان في حال المنع مسمى بالقاهر، لأن الممنوع مقهور، سواء إن كان طائعا أو عاصيا، فحقيقة القهر يظهر لأصحاب الانتقام الذين هم أهل النار، ثم ينزع الله هذا الاسم في صورة التحول ويلبسه الملائكة المتولية على النار وهم الزبانية، وفي مقابلة هذا الاسم اللطف والرأفة والرحمة التي يلتبس بها خزنة الجنة، فكلاهما مقهوران عند الحجاج، وعند الفصل يجعل هذا القهر يصيب أهل النار، فنطقه بالقهر لأجل استوائه على عرش الفضل.

(ص) [قوله: (فرأيت سرادقا مضروبا عموده وأرجاءه وأطنابه من قطران، فقال لي: هذا سرادق لك، أفي يقع الخلاف أم بغيري يتكلم؟ أ إلي يقدر هيهات هيهات لما خيّلوا وتّبت أيديهم بما كسبوا) ].

(ش) أقول: يريد بالسرادق مثال النار له كتمثيلها في عرض الحائط للنبي صلى الله عليه وسلم وهذا السرادق هو نصيبه من النار ولو لم يكن إلا قسط العنصر الناري الذي في جسده، وهذا الشهود يشبه شهوده للصخرة، فأقيم له هذا الجزء في صورة سرادق يشتمل على

________________________________________

( 1 ) وردت في الأصل مقهورون وتم تغييرها لمناسبة السياق. المستودع فيه.

قوله: (فقال لي: هذا سرادق لك) ، يشير به إلى احتوائه على المؤمن والكافر بواسطة الأحدية، لأنه من حين اتصافه بمجموع الوجود محتو على الإيمان والشرك، فالإيمان نصب صورته، والشرك شيء لنزوله في حقيقته نصيب، ولهذا كان عمود السرادق من نار ولم يكن هو من نار، فعرفنا أن هذا العمود هو نصيب الإشراك من حقيقته وتأييد هذا

قوله صلى الله عليه وسلم: «الطيرة شرك وما منا إلا من يجد » ،و

قوله عليه السلام: «ما منا إلا من له شيطان، ولكن الله أعانني عليه » ، والشيطان هو حقيقة النار، ولهذا يقول: إن الجن روحانيات الكافرين وهي هذه الحقيقة النارية، فلما كان لهذا الشاهد عناية من الله تعالى فرّق عناصره عند جمع الجمع وصفّاها من شوائب الكدر فعادت النار التي هي نصيب الشرك الذي في ذاته مباينة له كمباينة الرحمة للانتقام، وجعل هذا السرادق مهيأ لحقائق الموجودات التي اتصف بها هذا الشاهد، فعند انفصال الفصل وانقضاء الحجاج، يفسح في هذا للسرادق بالقدرة ويعود هو حقيقة النار، وهذا الانفساح يكون عند وضع قدم الجبار في النار، كما ورد في صحاح الأخبار.

فقوله: (سرادق لك) ، يشير به إلى ما احتوت ذات هذا العارف عليه من المشركين، فالخطاب له والإشارة إلى المحتوين.

وقوله: (أفيّ يقع الخلاف؟) ، إشارة إلى هؤلاء أيضا وهم المختلفون في مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم والمكذبون والسامعون من غير إصغاء، فكل هذه صفات تصدق على الكافر بهذه البعثة.

وقوله: (أم بغيري يتكلم؟) يشير به إلى أنه تعالى هو المتكلم، والسامع، والتابع، والمتبوع، والمرسل، والمرسل، والموافق، والمخالف، وهذه الإشارة إلى إثبات الصفات والأسماء، فإنه إذا تسمى منتقما يكون ذاته مسماة بالاسم محتوية على المنتقم منهم، فهؤلاء هم المخالفون، وهو صفة لهم، والمنتقم هو اسمه، وهو بمنزلة الهادي هاهنا فإذا كان متصفا بالصفات التي من جملتها الخلاف، ويكون مسمى بالأسماء التي من جملتها الانتقام، فكأنه ينطق بألسن الصفات بالخلاف، ويتسمى بالأسماء، فيظهر بحقيقة الكلام،

________________________________________

( 1 ) رواه أبو داود ( 4 / 17 ) ، وابن ماجه ( 2 / 1170 ) ، والحاكم في المستدرك ( 1 / 64 ) . فهو المتكلم في حال كونه مسمى والمخالف في حال كونه متصفا والخلاف هاهنا بمنزلة المكر، وقد قال تعالى: ومَكَرُوا ومَكَرَ الله [آل عمران: 54 ]، وحقيقة مكره هي عين مكرهم، فكأنه قال: أفي يقع خلاف؟ وأنا الناطق بالخلاف.

وقوله: (أ إلي يقدر) ، يشير إلى عدم قدرة التقدير من هؤلاء المختلفين، فإن نفس الاختلاف ينفي القدرة ولو لا نفيها لما سموا هؤلاء مختلفين، لأن القدرة عبارة عن شيء من نفوذ الحكم، وهو إقامة الحجة والإتيان بالدليل، لأن حجة الله على العباد لا تقوم إلا بتذكير آخذ العهد، والاستنطاق والإجابة ببلى، وهناك يرتفع ويستودع الحكم في حقيقة اسم الرب، وهذا الحكم نشأ عن التقدير، وهو قوله تعالى: وقَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ [الإسراء: 23 ]، وهو لا يقدر عليه كما قال: أي لا يقضي عليه. وقوله: (هيهات لما خيلوا، وتبّت أيديهم) ، بمقدار ما حكم في قطر من أقطار الأرض وأخذ في الاستعلاء فسدت المخيلة التي في رأسه وأسندت إلى الجهة التي أخذ فيها فنظر بهذه الفاسدة أنه مستو على العباد استواء الرب على المربوبين، وقد أشير إلى ذلك بقوله تعالى: وقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص: 38 ]من إله غيري، فتبت يداه بما قال.

(ص) [قوله: (ثم قال لي: يا عبدي إذا دخل المتناظرون في هذا السرادق، فانظر فريقك فسر معهم، فإن نجوا نجوت، وإن هلكوا هلكت) ].

(ش) أقول: يشير بهذا الخطاب إلى استعداد السرادق للمختلفين، فهم أرباب المناظرة وهي الجدل والاختلاف، فإنه لما قال له هذا سرادق لك أفيّ يقع الخلاف أشار بقوله لك إلى أنه للمختلفين في ذاته من ذاته، ثم إن المختلفين ظهروا من حين نظر الله تعالى بإضافة السرادق إليه من ذاته وهموا بالدخول فيه إذ هو معد لهم، فأمر بمصاحبة صفاته وموافقته لهم في الدخول، وهذه الموافقة تكون للمستعلين بالجدل، فهو لا يصاحب إلا ظاهر الحجة، وأيضا فإنه من حيث هو صورة فهو من أرباب العقول القائمين بالحجة، والقائمون بالحجة هاهنا هم أصحاب الفرق، وهذا الشاهد من حين اتصافه بالجمعية أعطي الفرق ففريقه من المتناظرين هو رب الفرق الظاهر بالحجة.

وقوله: (فإن نجوا نجوت، وإن هلكوا هلكت) ، يشير به إلى أن المآل للرحمة على رأي العارفين ولو بعد حين، وهو النسيان الذي أشار إليه في كتاب الفتوحات هذا في حقيقة الأمر، وأما في الظاهر فإن الكافر هو رب الجدل وهو الناطق بقدم العالم ومن تابعهم فإنهم هالكون، فإذا ثبتت الحقيقة كان هؤلاء ناجين، وإذا حكم الظاهر كانوا هالكين فهذا ظاهر، وأما حقيقته فيريد بها أن بقاء العارف وصفاته في الذات هو عين هلاكه وفناءه مع صفاته فيها هو عين النجاة، فكأنه يقول له: إن بقيت في الوجود مع الصفات كنت هالكا، وإن فنيت في ذاتي فأنت ناجي، وهذا مما حصل له قبل الكمال.

(ص) [قوله: (ألق سمعك واشهد، فهذا ميزان العدل قد نصب، وصراط الحق قد مدت، وجحيم الخلاف قد سعّرت، وجنان الموافقة قد أزلفت) ].

(ش) أقول: يريد به الإشارة إلى دوام الاستماع والشهود مع عدم الاعتراض بالأمر، وهذا مثل مفتتح هذا الشهود، فإننا قلنا: إن شهوده يشبه التنزه.

وقوله: (وهذا ميزان العدل قد نصب) ، يشير به إلى عطاء الاستحقاق بقدر السعة لأنه لا يكون إلا بميزان الحق الذي ينشأ عن التقدير، وهذا من قوله تعالى: ولَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها ولكِنْ حَقَّ اَلْقَوْلُ مِنِّي [السجدة: 13 ]، وتحقيق القول هاهنا هو التقدير مقترنا بالقضاء هذا كله والحق تعالى مستو على عرش الفصل.

وقوله: (وجحيم الخلاف قد سعرت) ، يشير به إلى خلاف الكافر للرسول كما أزلفت الجنة للموافق له، أيضا فإنه من حين يستوي الله تعالى على عرش الفصل يظهر بحقيقتي النار والجنة معدتين لأهلها قبل الحجاج افترق المتحاجّون إلى الجنة والنار على ما يحكم لهم به.

(ص) [قوله: (فإذا النداء أين ذوو العقول بزعمهم، فجيء بالفلاسفة ومن تابعهم فأدخلوا في السرادق فسئلوا فيما صرفتم عقولكم؟ قالوا: فيما يرضيك، قال: ومن أين علمتم ذلك، بمجرد العقل، أم بالاتباع والاقتداء؟ فقالوا: بمجرد عقولنا، فقال: لا عقلتم ولا أفلحتم، لكنكم تحكمتم، يا نار تحكمي فيهم، فسمعت ضجيجهم بين أطباق النيران بالويل، فقلت: من يعذبهم؟ قال لي: عقولهم، فهو كان معبودهم ما سألهم سواهم، ولا عذبهم غيرهم) ].

(ش) أقول: يريد بالنداء الصيحة التي تخلص بين المتمازجين المتماثلين في الصورة، وهذه الصيحة نشأت من قوله تعالى: واِمْتازُوا اَلْيَوْمَ أَيُّهَا اَلْمُجْرِمُونَ [يس: 59 ]، أراد تخليص المؤمن من الكافر بمعزل لائق بالإيمان، وهذا النداء نشأ من المنزه تعالى، ولهذا بدأ بخطاب أرباب العقول، وإن كان الحكم هاهنا للرب لكنه قد ظهر هاهنا بصفة التنزيه، ولهذا كان للفلاسفة من أرباب العقول. قوله: (ومن تابعهم) يشير به إلى الداخلين في عموم الحكم بالعقل.

قوله: (فادخلوا في السرادق) يريد به دخولهم في المحل الذي يكون فيه الحساب وهي أرض الموقف، ولهذا قال: (فسئلوا) ، والسؤال هو لتحقيق الحجة عليهم بصورة الامتحان، ولهذا قال لهم: بمجرد عقولكم أو بالإتباع، وكل هذا ابتلاء منه تعالى، فلما قالوا بمجرد عقولنا، كانت حجة الله هي البالغة.

وقوله لهم: (لا عقلتم ولا أفلحتم) ، يشير به إلى إظهار النقمة في صورة الغضب، ولهذا قال: يا نار تحكمي فيهم، لأن النار هي حقيقة المنتقم كما أن الجنة هي حقيقة اسم الرحمن.

وقوله: (فسمعت ضجيجهم بين أطباق النيران) ، يريد به تعينه بالنقمة والعذاب اللاحق بهؤلاء فإنه متى كان الخلع إلى جهة الآخر تحقق الشاهد فيه جميع ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم يقينا عيانا.

وقوله: (فقلت من يعذبهم؟ قال لي: عقولهم فهو كان معبودهم) ، يريد به اعتمادهم وتسليم أمورهم إلى العقل، فإن المعبود عبارة عن الرب آن تسليم الأمور إليه وامتثال أوامره، وحقيقة النقمة التي تظهر في حق هؤلاء ناشئة عن هذا الاسم.

وقوله: (ما سألهم سواهم ولا عذبهم غيرهم) ، يشير به إلى العقل الذي هو قوة من قوى النفس عندهم، فإن مبنى قواعدهم على النفس وإليها مرجع أمورهم، ولهذا كانت هي المعذّبة لهم، ولذلك قال: (ما سألهم سواهم، ولا عذبهم غيرهم) ، يشير به إلى أنفسهم.

(ص) [قوله: (أين الطبيعيون فأتي بهم، فرأيت أربعة أملاك غلاظ شداد بأيديهم مقامع، فقالوا لهم: يا ملائكة الله ما تبغون منا؟ قالوا: نهلككم ونعذبكم، فقالوا لهم:

ولأي شيء؟ قالوا: كنتم في الدنيا تزعمون أنّا آلهتكم وكنتم تعبدوننا من دون الله، وترون الأفعال منا لا من الله، فسلطنا الله عليكم نعذبكم في نار جهنم فكبكبوا فيها) ].

(ش) أقول: يريد بالأربعة أملاك روحانيات العناصر الأربعة التي مبنى الأجسام عليها، ولأجل أن هذه لطائف ناقصة جعلت روحانية في صور ملائكة، لأن الملائكة عندنا هي الروحانيات، وأما المقامع التي بأيديهم هي صور القهر التي قد تحقق لهؤلاء بواسطة هذه الأملاك واتخاذهم آلهة لهم، والملك من حيث هو عبد مألوه يأبى أن يكون إلها حتى إننا نقول: إن لنا ملائكة لا يعلمون أن الله خلق غيرهم، فالمعبود هو الله مع نفي الغيرية، فلما اتخذوا الملائكة آلهة سلطوا بحقيقة القهر على المتخذين وقامت واسطة الأحد في صورة مقامع، ولجهل الطبيعيين بمعبودهم وتيقنهم بألوهية الملائكة، فقالوا لهم:

ما تبغون منا؟ فأجابتهم الملائكة بما قال حالا وفعلا، وهذا الفعل الصادر من الملائكة هو كبكبة هؤلاء في النار.

(ص) [قوله: (أين الدهرية؟ فقيل لهم: أنتم القائلون، وما يهلكنا إلا الدهر، حدثتم أنفسكم أنكم ستردون على هذا المقام؟ فقالوا: لا يا ربنا، فقال: ألم يأتكم الرسل بالبينات، فكذبتم وقلتم: ما نزّل الله من شيء؟ اخسئوا فلا حجة لكم، فكبوا على وجوههم في نار جهنم) ].

(ش) أقول: يريد بالدهرية قوما نسبوا الأفعال إلى الدهر، وظنوا أنه غير الله ولم يعتقدوا في الوجود فعّالا سوى الدهر، فحق العذاب عليهم، ولو أنهم تيقنوا أن الدهر اسم من أسماء الله تعالى لم يتوجه عليهم لائمة، وكان الدليل لهم على هذا اليقين،

قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا الدهر، فإن الدهر هو الله» والحديث الآخر في الصحيح،

قوله صلى الله عليه وسلم: حاكيا عن ربه أنه يقول تعالى: «شتمني ابن آدم، ولم يكن له ذلك، وسبني ولم يكن له ذلك، أما شتمه لي فاتخاذه معي الأولاد والأنداد، وأما سبه لي، فإنه يسب الدهر وأنا الدهر» .

فلما لم يعتقدوا ما أراده النبي صلى الله عليه وسلم من نسبة الأفعال إلى الله توجهت عليهم الحجة، ونزل القرآن ذاما لهم في قوله تعالى: وما يُهْلِكُنا إِلاَّ اَلدَّهْرُ [الجاثية: 24 ]، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أشار في قوله:

«لا تسبوا الدهر» إلى زمان يعرف أوله بالأزل وآخره بالأبد، وهذان نعتان من نعوت الله تعالى وهؤلاء الكفار لما أشاروا إلى هذا الزمان الفلكي الذي لا حقيقة له في أيام الله تعالى شهد هذا الشاهد رحمه الله عذابهم لتحقيقه بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.

(ص) [قوله: (أين المعتزلة الذين اعتزلوا عن الصراط المستقيم؟ فأتي بهم أجمعين، فقيل لهم: ادعيتم الربوبية تقولون ما شيئا فعلنا، فسحبوا على وجوههم في نار جهنم) ].

________________________________________

( 1 ) في الأصل (اتخذه هو) وتم تعديلها لمناسبة السياق. (ش) أقول: يريد بهذه الطائفة أناسا ينسبون الأفعال إلى أنفسهم، وفاتهم أن الأفعال لا يليق نسبتها إلا بالرب تعالى، لأجل نفوذ حكمه في الموجودات حاكما محكوما عليه، فالأفعال لا تليق إلا به بالمقترنة بالقدرة، بخلاف المحكوم عليه الذي هو العبد إذ لا قدرة له ولا حكم، فمن أين يصح دعوى هؤلاء مع ثبوت الحكم عليهم والعجز والخوف اللازم لهم؟ وهذه حجج الله ظاهرة على حقائق هؤلاء فلا جرم شهدهم وقد حق عليهم العذاب من جملة من تقدم عليهم من المفترين.

(ص) [قوله: (أين الروحانيون فأتي بهم، فرأيتهم أقبح الناس صورا وأشمت الناس حالا إلا طائفة واحدة منهم، عزلت عنهم في كنف النبيين والصدّيقين تحت سرادق الأمن، فقال لي: انتظم معهم إن أردت النجاة واسلك سبيلهم لا تنتظم معهم ما دامت الميم، فإذا فني الميم، فانتظم معهم ما دامت المعية، فإذا فنيت المعية فاحكم بما شئت، ولا جناح عليك، وإن لم تعمل هلكت برؤيتك عاملا والسلام) ].

(ش) أقول: يريد بالروحانية طائفة تقول بفيض العالم العلوي على السفلي خصوصا بالكواكب مع جحود الفاعل تعالى وهم الصابئة، فلأجل جحود الفاعل رآهم أقبح الناس صورا لأنه لم يوجد من قال بجحود فاعل واحد من الروحانيين إلا هؤلاء.

وقوله: (إلا طائفة منهم عزلت عنهم في كنف النبيين والصدّيقين) ، يريد بهم التابعين الموافقين للرسل فإنهم يقولون: إن الكواكب آيات الله وأماراته على أفعاله، وهذا يوافق الآية وهي قوله تعالى: وجَعَلْنَا اَللَّيْلَ واَلنَّهارَ آيَتَيْنِ [الإسراء: 12 ]، فالقائلون بهذه الآيات قسم من الروحانيين، لأنهم نسبوا فعلها إلى الله تعالى، وجعلوا فعل الله تعالى مخلوقا عندها، كما جعل الري عند الماء والشبع عند الخبز، فهؤلاء هم الذين عزلوا في كنف النبيين والصدّيقين عليهم السلام، وهم تحت سرادق الأمن كما ذكر.

وقوله: (فقال لي: انتظم معهم إن أردت النجاة واسلك سبيلهم) ، يريد به انتظامه مع القائلين بالوسائط انتظاما قلبيا يكاد يلتحق بالإتحاد، ولهذا قال له: (لا تنتظم معهم ما دام الميم) ، يشير به إلى ميم المعية، وهو قوله تعالى: (معهم) أي: يكون مصاحبتك لهم ظاهرة، ولأجل ذلك قلنا: إنها قلبية لكنه يريد بهذا الانتظام انتظام الاتصاف، وهو الذي يشبه الاتحاد، وهذا الخطاب قد حصل له عند اتصافه بجمع الجمع وهو فناء الأعيان التي يشهدها متمايزة عند الجمع بين النقيضين، وهذا الفناء هو عين البقاء، فهناك يعود الشاهد متصفا بالأعيان المتميزة ولا حقيقة لتمايزها إلا ذهنا، فتثبت المعية في الذهن وتزول الميم الملحقة بمع، ويخفى ميم المعية أيضا خفاء يلتحق بمنزلة العلم، ويبقى لفظ المعية ثابتا في الذهن لأجل تعين الشاهد أنه اتصف بكثرة متميزة، وتعدم ميم المصاحبة اللاحقة بمع كما عدمت الأشياء المتكثرة في ذات هذا الشاهد، وفنيت حقائقها متحدة فيه، وعادت صورته هي الظاهرة بالاتصاف دون أولي الفناء، وتخلفت الكثرة منتقشة في خياله، فلهذا كانت المعية باقية بعد هذا الاتصاف، فكأنه قال له: انتظم معهم إذا كانوا لك بمنزلة الصفات، وكنت مفنيا لهم عند الاتصاف بمجموع الوجود ولا ينتظم معهم ما دامت حقائقهم موجودة مسماة بهم.

قوله: (فإذا فني الميم انتظم ما دامت المعية) ، يشير به إلى المعية التي قلنا فيها إنها تعود في حال اتصاف العارف بمجموع الوجود ذهنية ولا تفارقه من حين فناء الميم إلى وقت اتصافه بالجمع إلى آن اتصاف جمع الجمع، وهذا يجوز الاتصاف به في آنين أعني:

الجمع، وجمع الجمع، وقد يكون حصوله في أيام كثيرة، وأما فناء المعية الدالة على المصاحبة الخافية، فيكون من حين اتصاف الكامل بالبقاء إلى وقت اتصافه ببقاء البقاء فمن هناك يعود الكامل اختياره على وفق مراده، ولهذا قال له: احكم بما شئت، وهذا مما حصل له بعد الكمال بآن واحد وقبل اتصافه ببقاء البقاء، ولا يعود عليه جناح كما قيل له لأجل تفرده بإرادته.

(ص) [قوله: (ورأيت السبعة الأحزاب من الروحانيين قد سئلوا وصاروا محجوبين قد لعبت بهم الأهواء واستهواهم الشيطان، فاستعاذ جميع الطوائف منهم ومن عذابهم وحصلوا بين أطباق النيران هذا الذي كنتم به تكذبون أين لاهوتكم ليشفع في ناسوتكم، وقد جاء الحق وزهق الباطل، قد خلت الجنان مع الحزب الثامن، فأزلت الميم كما قال لي، فبقيت المعية بسبعين ألف حجاب، فلم تزل المعية تقطع الحجب ويخرقها حتى هلكت في آخر حجاب، وما بقي حجاب ولا معية، فإذا الحزب الثامن ينادي: ربنا آتنا ما وعدتنا) ].

(ش) أقول: يريد بالسبعة الأحزاب العالم الذي يقول بروحانيات الكواكب السبعة السيارة، فإنه شهدهم مقطوعين الحجة لا حجة لهم، وكأنه شهدهم في هذا المحل ثمانية، فقد أفرد التابعين بمعزل من السبعة وهم الفريق الذي أمر بإتباعه لهم، لأنهم يقولون بالوسائط وهي صفات الله تعالى، فلأجل موافقتهم للأنبياء دخلوا الجنان ودخل هذا الشاهد معهم، وكان رحمه الله تعالى في مجموع هذا الشهود مستودعا في مثال الآخرين كما قال في مفتتح هذا الشهود، فلم يزل في هذا المحل إلى حين انفصال الفصل، ورفع العرش وتمييز الفريقين بعضهم عن بعض وإباحة الدخول في الدارين فانتقل من المثال إلى حقيقة الاسم، ثم إنه دخل مع فريقه بشفاعة النبيين لأنهم من حين صاروا في كنف النبيين لا يدخلون إلا بشفاعتهم، وأقول: إنهم داخلون في شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم لأجل انتظام هذا الشاهد معهم، إذ هو تابع لمحمد صلى الله عليه وسلم حذو النعل بالنعل.

وقوله: (فأزلت الميم) ، يريد به فناء هذا الفريق الثامن في ذاته فناء اتصاف، ويريد بذلك أنه كان عند الخلع الذي أريد له فيه الاتصاف بجمع الجمع في الاسم الآخر، وهذا شهود جري من الاسم الآخر إلى محل الاتصاف بجمع الجمع، وهذا المحل لا يكون إلا في الحد المشترك للأسماء الأربعة، لأن حقيقة الجمع لها، فلا يكون الشاهد لهذا الجمع إلا مستودعا في الحد استيداع حمل ليحيط بالأسماء، فكأنه جرى عند إزالة الميم الذي هو الملحق بمع آتيا من الآخر إلى جهة الأولية في هذا الحد الذي هو محل الاتصاف بالجمعية.

وقوله: (فبقيت المعية) ، يشير به إلى المعية الذهنية المصاحبة له في هذا الجري، لأنه اعتقد الاتصاف بالجمع اعتقادا لأجل بقاء المعية في ذهنه من غير تعيين تمكن ذلك الاعتقاد، فلما انتهى الجري وتحقق الاتصاف كان عين يقينه، وهو ابتداؤه في زوال المعية، ثم إنه جرى جريا آخر قطع فيه السبعين حجابا التي بقيت المعية بها، وكان القطع في آن واحد، فنهاية هذا الجري هو وقوفه عند آخر حجاب، وهو الذي زالت عين المعية الذهنية فيه، وهذا بعينه هو تعيينه بالاتصاف بجمع الجمع، وهذا نهاية هذا الخلع وهذا هو الخلع الكامل، وهو الذي يجري الشاهد فيه ثلاث مرات يقطع بها ثلاث مرات لا أحمل من هذا الخلع، بل لا يمكن وقوفه لأن غاية ما يعهد في الخلع الخروج من الظاهر إلى ما هو بالنسبة باطن وقوف هذا الجري من الباطن المذكور إلى ما هو أشد بطونا منه كشهود العلم في الأولية، والأزل وما أشبهه، فإن هذه الأوصاف خافية بالنسبة إلى مجموع الأسماء، فالجري يكون إلى أحد هذه الأوصاف أو إلى أضدادها أو إلى ما يقابلها، وفوق الجري جري آخر يسمى جري التردد، لأنه تردد في أطوار مراتب الكشف، وهذه الثلاثة قد حصلت لهذا الشاهد رحمه الله تعالى في هذا الخلع الواحد، فلأجل هذا كان هذا الخلع هو الكامل، والخلع الكامل لا يكون إلا للكامل المنفرد في عصره بحمل الأشياء.

(ص) [قوله: (قال العبد الفقير إلى رحمة ربه: فتجلى لهم في صورة العلم فتفاضلت الرؤيا، وقال لي: هذه صورتك أبرز لهم فيها) ]. (ش) أقول: يريد بنطقه العبودية هاهنا إظهار حقيقة خطابه في مجموع هذا الشهود، فإنه لم يخاطب فيه إلا بالعبودية إذ هو مقتضى هذا الكشف الذي شهد فيه صورة الحجاج، وقيام حجة الرب على العباد، فأراد إلحاق رجوعه بخلعه فنطق بالعبودية يعرفنا أنه رجع من هذا الخلع وعاد إليه في حال شهود التجلي.

وقوله: (فتجلى لهم في صورة العلم) ، يريد به التجلي لأهل الجنة قبل البعثة إليهم من الحي إلى الحي ليتبين العالم من الجاهل، والشاهد المحق من المفتري، والعارف الكامل من الناقص، وهذا الافتراق لا يحصل إلا بالتجلي في صورة العلم ليأخذ كل واحد من هذه الأصناف نصيبه من الرؤيا ويأخذ كل واحد من الشاهدين نصيبه من العلم، فإن لشاهد الصورة نصيبا ولصاحب الحال نصيبا، وللمنفرد بالكمال نصيبا، وكل من هذه الحقوق يباين الآخر سعة وقدرا، فليس نصيب شاهد الصورة كنصيب المنفرد بكماله، فإنه يشترط فيه أن يكون سعته تحتوي على مجموع الوجود، وتقترن هذه السعة بالاتصاف بخلاف نصيب صاحب الصورة، فإن غاية الرؤية وسعة نصيبه بقدر ما بينه وبين المتجلي في هذا الموطن، وأما نصيب صاحب الحال، فإنه بقدر ما يحتوي عليه خبثه فقط، فهذا هو التفاضل في الرؤيا بقدر مراتب السعة المختلفة بين هذه الثلاثة أصناف، وهذا التجلي يختص بهم حتى أن أصحاب الجنة الذين هم على غير هذه الأوصاف لا يشهدون هذا التجلي بالعلم لأن كل العلوم تفنى إلا العلم بالله تعالى وهو الذي قام به هذه الأوصاف، الثلاثة، وهذا معنى قوله: (فتفاضلت الرؤيا) .

قوله: (وقال لي: هذه صورتك أبرز لهم فيها) ، يشير به إلى أن صورة الله الظاهرة في الوجود هي صورة الكامل المنفرد، وهذا تأييد ما ذكرناه مرارا في مضمون هذا الشرح وذلك في قولنا: إن بصورة الكامل يكون النزول في الثلث الآخر من الليل، وهذا مثل قوله: (أنت وجهي فابتسم) ، فتجلى الله لعباده وتخوله في الصور، والنزول في الليل لا يكون إلا في صورة الكامل، فإذا قلنا: إن الله تعالى قد ظهر بالتقييد أو تقييد ويريد به ظهوره بصورة الكامل، فعلى الحقيقة ظهور هذه الصورة هو الاتصاف بالتقييد، وهي التي قال له عنها هذه صورتك أبرز لهم فيها، وأشار إلى الصورة التي كان فيها التجلي، وعرفنا بهذا الأمر أن المتجلي هاهنا هو العارف، فإن العارفين أرباب الكمال يكونون يوم القيامة أرباب الناس، ومجموع الكاملين رب واحد إذ لا تفاضل بينهم في الحقيقة، بل هم مشتركون في الفناء في الذات الواحدة. فقوله: (أبرز لهم فيها) ، يريد به إظهار حقيقة لنا في شهوده.

(ص) [قوله: (ثم قال لي، ادخل السرادق تعود ناره نورا، ادخل النيران تعد جنة، لا تدخل مكانا إلا بي ولا تقصد إلاّ إليّ، قامت الحجج على أهل الحجاج، من سلم؟ قلت: من لم يكن له حجة؟ قل: فلله الحجة البالغة، ولو شاء لهداكم أجمعين، فصاحب الحجة يسلم) ].

(ش) أقول: يريد بهذا الأمر إظهار اتصاف هذا الكامل بالربوبية والتجلي لنفسه عيانا ليحصل له اليقين بالاتصاف، فإنه لما قال له: هذه صورتك كان قد اتصف بالتجليّ وأريد له نفوذ الحكم حتى تتحقق الربوبية، فقيل له: ادخل السرادق أي: نفذ حكمك فيه.

وقوله: (تعود ناره نورا) يشير به إلى اشتمال الرحمة عند التجلي فإن من الرحمة عود النار نورا ومن التجلي حقيقة التبدل، وكذلك عود النيران جنة، فكل هذا ظهور رحمة مقترنة بالتجلي، وإنما كان هذا التبدل على يد الكامل لأنه في الحقيقة مستقل بحمل الوجود، وتحقيق هذه الحقيقة لا يظهر إلا في الآخرة كالحاصل من العلوم وما أشبهها، لأن الآخرة دار القرار وكل واحد من الموجودات هناك يعطى نصيبه بقدر سعته عطاء حكم، وتمليك لا رجوع فيه، والأولى أن يكون هذا للعارف لأنه كما هو هاهنا يكون هناك كما قيل لهذا الشاهد: ألم تعلم أم العارفين كما هم اليوم كذلك يكون غدا؟ وهذا مثل

قول علي رضي الله عنه: «لو كشف الغطاء لازددت يقينا» .

وقوله: (قامت الحجج على أهل الحجاج) ، يشير به إلى انفصال المتحاجين واستقرار كل منهم في محله المعد له بظهور حجة الله عليه.

وقوله: (من سلم؟ قلت من لم يكن له حجة، فلله الحجة البالغة، ولو شاء لهداكم أجمعين) ، يريد بهذا السؤال امتحان هذا الشاهد في معرفته بأصحاب الحجج لأجل نفوذ حكمه عند دخوله في السرادق وتبدله باختياره، فكأنه يقول له من سلم علم رأيك قال له: من لم يظهر حجة، وبهذا كانت الحجة لله تعالى على العالمين.

وقوله: (فصاحب الحجة يسلم) ، يريد به الآتي بالتسليم غير معتمد على دليله فهذا في الظاهر ليس عليه حجة وهو السالم، قال الله تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ ولا بَنُونَ إِلاّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: 89 ]، أي: عن الحجج والاعتماد على غير الله تعالى.

(ص) [قوله: (ثم قال لي: ارجع بخير وإياي فكبر، وثيابك فطهر والرجز فاهجر، وفي هذا المقام فاعتبر، ثم قال لي: لا تعمل شيئا مما ذكرت لك أن تعمله وإن لم تعمله هلكت وإن عملته هلكت فكن على حذر ولا تفارق الأمر) ].

(ش) أقول: مراده في هذا الخطاب رجوعه من الكشف بالأمر لأن الله تعالى قد كان في حكم هذا الخطاب مسمى بالظاهر وهو يجذب الشاهد إليه في أي اسم كان فيه، فكأنه قال له: ادن مني بصورة الرجوع، ولما كان الرجوع إلى الظاهر يلي له هذه الآيات على سبيل التأديب إذ هي منوطة بالظاهر، فيشير بهذه الآيات إلى هدم تغييره عما كان عليه، والجري في مضمار التبعية.

قوله: (وفي هذا المقام فاعتبر) ، يشير به إلى هذا الشهود، فإنه معتبر كل ذي عقل.

وقوله: (ثم قال لي: لا تعمل شيئا مما ذكرت لك أن تعمله، وإن لم تعمله هلكت وإن عملته هلكت، فكن على حذر ولا تفارق الأمر) أقول: مراده بهذا الخطاب إظهار نفوذه بالإرادة، فإنه إذا كان فعله مقرونا بمشيئته لا يفتقر إلى أمر في كل الأفعال، وإنما يفتقر في بعضها فكأنه يقول له: لا تفعل ما قلته لك في كل الأمور وإن لم تفعله في بعضها هلكت، وإن لم تمتثل هذا الأمر الثاني هلكت.

وقد تم شرح المشاهد القدسية التي هي من كشوف الشيخ الإمام العالم الكامل الراسخ المحقق محمد بن عربي المغربي قدّس الله سرّه بترداد التجلّي إلا نزّه روحه ونوّر بتكرار موارد السبحات النورانية ضريحه.

وجملتها أربعة عشر مشهدا.

*** بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ



 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!