موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


292. الموقف الثاني والتسعون بعد المائتين

قال تعالى: ﴿ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ﴾[الأعراف: 7/54].

قول سيدنا في حضرة الخلق والأمر: وهي للاسم الخالق.... الخ.

ظاهر قول سيدنا: «والوقت أمر عدمي، لأنَّه نسبة، والنسب لا أعيان له في الوجود»، يريد (رضي الله عنه) أن النسب لا أعيان لها خارجية محسوسة، فإن لها أعياناً، وحقائق موجودة في العلم والعقل، وهكذا هي النسب، لا موجودة خارجاً ولا معدومة عقلاً.

قول سيدنا: «وإِنَّما الأعيان الممكنات الثابتة في حال العدم، مرتبة كما وقعت، وتقع في الوجود ترتيباً زمانياً»، يريد (رضي الله عنه) أنه لما كانت الأعيان الثابتة، منها منعوت ونعت، وملزوم ولازم، ومعروض وعرض. كان لهذه الأعيان الثابتة ترتّب ذاتي طبيعي، فإن النعت تابع لمنعوته، والعرض تابع لمعروضه،  وكانت كلّ عين من أعيان الأعراض والأحوال منعزلة ومتميّزة عن الأخرى، ومنعزلة أيضاً عن العين التي تكون نعتاً وحالاً لها في مرتبة الوجود الحسّي، وكلّ حالة تكون عليها، إذا وجدت إلى جانبها، ناظرة إليها، فإنَّ مرتبة الثبوت لا تركيب فيها، فالأعيان فيها بسيطة، كلّ عين متميزة على حدتها، م فيها حامل ومحمول، ولا شيء قائم بشيء. بخلاف مرتبة الوجود الخارجي، ما فيها إلاَّ مركب، ليس فيها بسيط أصلاً. والبسائط معقولة لا موجودة. ولما كانت الأعيان الثابتة، مرتّبة في مرتبة الثبوت كما تقدم، كانت مرتبة في الوجود الخارجي كم وقعت، ووجد منها ما وجد، وكما تقع ويوجد منها ما سيوجد ترتيباً زمانياً، فإن الموجودات الخارجية زمانية. فأحوال عين زيد الثابتة مثلاً، التي تكون عليها، إذ نسب إليها الوجود الخارجي لا تتقدّم منها عين على عين. أعني حالاً على حال في الوجود الخارجي، كما هو في الثبوت.

قول سيدنا : «وكل عين تقبل تغّيرات الأحوال والكيفيات والأعراض، وأمثال ذلك عليها، فالأمر الذي تتغير إليه إلى جانبها متلبسة به»، يريد (رضي الله عنه) ـ : إنّ كل عين من الأعيان المتبوعة، كعين زيد وخالد مثلاً، تقبل حال ثبوته تغييرات الأحوال والأعراض، إذا اتصفت بالوجود الخارجي، فإنَّ الأمر والحال الذي تتغير إليه كلّ عين،  عين متبوعة، هي إلى جانبه في الثبوت، وهي ناظرة إليه بنظر ثبوتي، عالمة بأنه لها، بعلم ثبوتي، كأنها متلّبسة به، من غير ذوق لملائمته، ولا لمنافرته لها.

قول سيدنا: «فلهذه العين، القابلة لهذا الاختلاف في الثبوت، أعيان متعدّدة لكلّ أمر، تتغّير إليه عين ثبوتية تتميز في أحوالها، وتتعدّد بتعدد أحوالها سواء تناهى الأمر فيها أو لا يتناهى»، يريد (رضي الله عنه) أن العين الثابتة المتبوعة، كعين زيد مثلاً، القابلة حال ثبوتها لاختلاف الأحوال والأعراض عليها، لها أعيان ثابتة تابعة متعدّدة لكلّ أمر تتغير إليه العين المتبوعة، حال نسبة الوجود إليها، عين ثبوتّية تابعة. فهي أي العين الوجودية المدركة بالحس تتميّز في أحوالها الوجوديّة، وتتعدّد بتعدّدها مطلقاً، سواء أكانت الأحوال التي تتميز بها وتتحول إليها متقابلة أو غير متقابلة فإنَّ الأمر هكذا هو. فاختلاف الأحكام على الصور الوجودية في كلّ حال يدل على أن تلك الصورة الخارجية التي له هذا الحال الخاص ليست هي الصورة التي كان لها ذلك الحال، الذي شوهد مضيّه وزواله. وهذا هو الخلق الجديد، الذي الناس في لبس منه، ولا تزال الأعيانُ تتغيّرُ الأحوالُ والأحكام عليها، حالة اتصافها بالوجود الخارجي، سواء تناهى أمر الوجود فيها بأن كان لتلك الصورة نهاية في الوجود الخارجي، كصورة الإنسان مثلاً، أو لا يتناهى، بل كانت تلك الصورة، الدائمات كالعرش مثلاً، والذي يوصف بالتناهي وعدم التناهي هو الموصوف بالوجود الخارجي الحسّي. وأمَّا الأعيان الثابتة فلا توصف بالتناهي ول عدم التناهي، لأنها لم توصف بالوجود الحسيّ الخارجي.

قول سيدنا: «وهكذا تعلّق بها علم الباري أزلاً، فلا يوجدها إلاَّ بصورة ما علمه في ثبوتها، في حال عدمها، حالاً بعد حال، وحالاً في الأحوال التي ل تتقابل»، يريد (رضي الله عنه) أنه تعالى لا يوجد عيناً من الأعيان في الخارج المحسوس إلاَّ بصورة علمه بها، وهي معدومة، لا أزيد ولا أنقص، ولا تبديل ول تغيير، ولا تقديم ولا تأخير، فيوجدها خارجاً كما علمها ثبوتاً، حالاً بعد حال، وذلك في الأحوال التي تتقابل، ولا تجتمع عادة وعقلاً، فإنَّ الصورة الأحدية العين ل تحمل شيئين متقابلين في الآن الواحد، أو يوجدها حالاً في أحوال متعدّدة. وذلك في الأحوال والأعراض التي لا تتقابل، ويمكن اجتماعها، إذ معنى نسبة الوجود إلى أي عين كانت هو ظهور وجود الحق بأحوالها ونعوتها. فالأعيان أي الصور الوجودية فيه حامل ومحمول، وقائم ومقوم بالفعل. وأمَّا الأعيان التي هي الصور الثبوتية فليس فيها حامل ومحمول إلاَّ بالقوة والاستعداد.

قول سيدنا، «فإن نسبتها إلى حال من الأحوال المتقابلة، غير نسبتها إلى الحال التي تقابلها. فلابدَّ أن نثبت لها عين في كلّ حال» يريد (رضي الله عنه) أن نسبة العين، التي الصورة الوجودية كناية عنها، إلى حال من الأحوال المتقابلة، التي لا يمكن اجتماعها، غير نسبتها إلى الحال التي كانت عليها. وحينئذٍ، فلابدَّ أن تكون الصورة الوجودية، التي كانت لها تلك النسبة، ذهبت بذهاب تلك النسبة. لأن اختلاف النسب و الأحكام يدل على اختلاف الصور، كما تقدم، وعليه فالأحوال التي تتقابل على الصورة، تكون لكلّ حال صورة غير الأولى.

قول سيدنا: «وإذا لم تتقابل الأحوال تكون لها عين واحدة في أحوال مختلفة». يريد (رضي الله عنه) أنه إذا لم تتقابل الأحوال والأعراض على العين أي الصورة الخارجية تكون لها عين أي صورة واحدة في أحوال مختلفة غير متقابلة. فمراد سيدنا بالعين، التي تتقابل الأحوال عليها، والتي لا تتقابل الصورة الخارجية المحسوسة، فإنك علمت مما تقدم: أن الأعيان حال ثبوتها وعدمها كلّها بسائط، لا حامل فيها ولا محمول، ولا تلبس شيئاً من الأحوال المتقابلة ولا غير المتقابلة. وهذه العبارة تنزل من سيدنا إلى الذين إدراكهم مقصور على المحسوس. فإن الصورة، إذ تقابلت الأحوال عليها يدرك ذهابها، كصورة الماء إذا صار بخاراً مثلاً، وإذا اختلفت عليها الأحوال غير المتقابلة فلا يدرك ذهابها إلاَّ كشفاً، أو بالدليل. وإلاَّ فالصور كلّها تتجدّد كلّ حين.

قول سيدنا: «فالأمر الإلهي يساوق الخلق الإيجادي، فعين قول «كن» عين، قبول الكائن للتكوين «فيكون» فإلقاء في قوله «فيكون» جواب أمره «كن» وهي فاء التعقيب، وليس الجواب والتعقيب إلاَّ في المرتبة». يريد (رضي الله عنه) أنَّ أمر الحق تعالى الشيء الذي يريد إيجاده، وهو قوله: «كن» بمعنى أوجد من «كان» التي هي حرف وجودي، لا من «كان» التي هي من الأفعال الناقصة، يساوق الخلق الوجودي لا الخلق التقديري، أي يصاحبه، بحيث لا يتقدم أحدهما الآخر، فزمان عين قوله تعالى «كن» عين قبول المأمور للتكوين، فيكونا كوناً. فأضاف التكوين إلى الذي يكون، لا إلى الحقّ، ول إلى القدرة. فإن الأمر والمأمور والأمر شيء واحد، فما أمر إلاَّ نفسه. ولا كان إلاَّ هو. فإنَّ معنى الإمكان هو قبول الممكن لظهور الحق بصورته. فمعنى «كن»: أقبل ظهوري بك، والذي يكون إنما هو الصورة الخاصّة، كالصورة المنقوشة في الخشب مثلاً، وليس الترتيب والجواب المفهوم من الفاء، في قوله «فيكون» إلاَّ في الرتبة، وهو تقدّم المأمور على المأمور به في التعقّل. وأمّا في الخارج فهما متصاحبان لا متتابعان. فلازمان بينهما كالبرق مثلاً: آن لمعانه آن انصباغ الهواء به. وآن ظهور الأشياء آن إدراك البصر الأشياء، فلا ترتيب ولا تعقيب في هذه الأمور إلاَّ في التعقلّ. وأمَّ في الخارج فجميعها في آن واحد.

قول سيدنا: «كما يتوهّم في الحقّ أنه لا يقول للشيء «كن»» إلاَّ إذ أراده، ورأيت الموجودات يتأخر بعضها عن بعض، وكلّ موجود منها، لابدَّ أن يكون مراداً بالوجود، ولا يتكوّن إلاَّ بالقول الإلهي على جهة الأمر، فيتوهّم الإنسان، أو ذو القوة الوهمية، أوامر كثيرة، لكلّ شيء كائن أمر إلهي، لم يقله الحق إلاَّ عند إرادته تكوين ذلك الشيء. فبهذا الوهم عينه، يتقدّم الأمر الإيجادي الوجود، لأنَّ الخطاب الإلهي على لسان الرسول اقتضى ذلك، فلابدَّ من تصوره. وإن كان الدليل العقلي لا يتصوّره، ولا يقول به، ولكن الوهم يحضره ويصوّره، كما يصوّر المحال ويتوهّمه صورة وجودية، وإن كانت لا تقع في الوجود الحسّي أبداً،  ولكن لها وقوع في الوهم». يريد (رضي الله عنه) ـ أنَّ كون الحق تعالى لا يوجد شيئاً إلاَّ بقوله للشيء «كن» وأن الأعيان الثابتة مترتبة في حال عدمها وثبوتها، كما هي مترتبة في حال وجودها الحسّي، ترتباً زمانياً، إنما يدركه المتوهّم المتخيّل بقوته الوهمية الخيالية، والوهم عين الخيال، وهو الذي جاءت به الشرائع، وبلّغته الرسل عليهم الصلاة و السلام في نعوت الحق السمعية، وفي أمور الآخرة، ممّا لا يتقبله العقول، كما يتوهّم في الحق تعالى أنه لا يقول للشيء «كن» إلاَّ إذا أراده أن يكون، لا قبل إرادته كونه. ورأيت أيها الرائي الموجودات الحسّية الداخلة تحت ظرفية الزمان، يتأخّر وجود بعضه عن بعض بالزمان. وكلّ موجود تقدّم أو تأخر، لابدَّ أن يكون مراداً بالوجود، واللازم من ذلك تقدّم إرادة وتأخر إرادة. ولا يتكون المراد تكوينه إلاَّ بالقول الإلهي له «كن» على جهة الأمر. فيتوهّم الإنسان المخصوص بالقوة الوهمية الخيالية، أو ذو القوة الوهمية، على فرض وجودها في غير الإنسان، أوامر كثيرة لا نهاية لها، كما أن المكوّنات لا نهاية لها. لكل شيء كائن أمر إلهي بالتكوين، لم يقله الحق تعالى إلاَّ عند إرادته تكوين ذلك الشيء المعدوم، لا قبله. واللازم من ذلك تقدّم قول وتأخر قول وتجدّده. فبهذا الوهم الخيال يتقدّم الأمر الإلهي للكائن بالتكوين، الذي هو الإيجاد، أي الوجود ضرورة، تقدّم الأمر على المأمور به. إنما كان الإنسان، أو ذو القوّة الوهميّة، كان من كان، يتوهّم هذا، لأنَّ الخطاب الإلهي بالكلام القديم، الوارد على لسان الرسول (صلى الله عليه وسلم) اقتضى ذلك التوهّم التخيّل، وصحته. فلابدَّ من تصوره بالقوة الوهمية عند كل مؤمن بالرسول، وبما جاء به. وإن كان الدليل العقلي لا يتصوّره، لأنه ليس في قوته تصّور ذلك، ولا يقول به،  لأنه ليس من طوره. وإنما القول بذلك طور الإيمان والكشف. فإن الدليل العقلي يقول: ماثمَّ شيء ثمّ ظهر شيء، لا عن شيء. ويقول: الإيجاد بصفة القدرة، لا بالقول، ويقول: كلام الحق واحد، لا يتعدد بتعدد الأشياء ولا يتجدد. ويقول: إرادته تعالى واحدة قديمة، لا تتعدّد ولا تتجدد، وكلّ ما ورد على لسان الرسول (صلى الله عليه وسلم) مالا يعطيه دليله يؤّوله حتى يردّه إلى مرتبة إدراكه، من حيث أنه عقل. لأن للعقول حداً تقف عنده، من حيث أنه عقلٌ لا من حيث أنه قابل. فإنه يقبل كلّ ما جاءت به الرسل (عليهم الصلاة والسلام من الأمور المتوهمة و المتخيّلة، إذا مازج نوره نور الإيمان، فالعقل من حيث إدراكه ل يتصّور أنَّ ثمَّ شيئاً كان غيباً فصار شهادة؛ وأن للحق قولاً مع كلّ كائن، وإرادة كذلك، وأنَّ للحق نفساً وعماء وكلمات؛ وأنَّ ظهور المكون في النفس الرحماني يسمّى كلمة وأمراً، وظهوره في العماء يسمّى كوناً وخلقاً. ولكن الوهم يحضر هذا كله، وأبعد منه في العقل، ويصوّره بقوته الوهمية الخيالية، كما يصوّر المحال الذي لا يتصّور في العقل وجوده. ويدركه صورة وجودية، وإن كانت تلك الصورة لا تقع ولا توجد في الوجود الحسي أبداً ولكن لها وجود في مرتبة الوهم الخيال، وهو أحد مراتب الوجود.

قول سيدنا: «وكذا هي مفصلة في الثبوت الإمكاني» هذا معطوف على قوله قبل: «وكذا» يعني أن كلّ عين ثبوتية لها أعيان ثابتة، وهي أحوالها التي تكون عليه حالاً بعد حال، أو حالاً في أحوال، وهي مفصّلة متميّزة في العدم والثبوت الإمكاني.

قول سيدنا: «فإنَّ قوة الخيال ما عندها محال أصلاً ولا تعرفه، فله إطلاق التصرّف في الواجب الوجود والمحال. وكل هذا عندها قابل بالذات إمكان التصّور». يريد (رضي الله عنه) أنَّ قوّة الخيال الوهم ما عندها شيء من الأشياء محال أصلاً، ولا تعرف ثمّ شيئاً لا يصحّ تصوّره ولا وجوده. فتكثّف اللطيف المطلق، وتلطّف الكثيف المطلق في مرتبة وتكثّف اللطيف المقيّد، وتلطف الكثيف المقيد في مرتبة، فلها التصرف المطلق في الواجب الوجود، توجده في محلّ، وتعدمه في محلّ، وتقيّده وتحدّده وتصّوره بصور المحدثات، وتصفه بصفاتها. بل تخلقه خلقاً، ثم تعبده، كما لها التصرف المطلق في المحال فتصوّره وجوداً، وتشاهده، كالجمع بين الضدين، ووجود الشخص الواحد في مكانين، في آن واحد، وقيام العرض بنفسه، وحياة الأعراض. ومن ذلك حياة الشهيد، وسؤال القبر، وإيراد الكبير على الصغير من غير أن يكبر الصغير، ولا يصغر الكبير.... وأمثال هذه المحالات العقلية والعادية. وكلّ هذ التصرف في الواجب والمحال إنما ذلك لقبولهما بالذات والحقيقة إمكان التصّور والتصرّف فيهما عندها.

قول سيدنا: «وهذه القوّة، وإن كان لها هذا الحكم فيمن خلقها فهي مخلوقة. وهذا الحكم لها وصف ذاتي نفسي، لا يكون لها وجود عين في من خلقت فيه إلاَّ ولها هذا الحكم، فإنه عين نفسها، وما حازها إلاَّ هذا النشأ الإنساني، وبه يرتب الإنسان الأعيان الثبوتيّة في حال عدمها كأنها موجودة. وكذلك هي لأن له وجوداً متخيّلاً في الخيال. ولذلك الوجود الخيال يقول الحق له «كن» في الوجود العيني «فيكون» السامع لهذا الأمر الإلهي وجوداً عينياً يدركه الحسّ. أي يتعلّق به في الوجود المحسوس الحسّ كما تعلّق به في الوجود الخيالي». يريد (رضي الله عنه) ـ أنَّ قوّة الوهم الخيال، وإن كان لها هذا الحكم المطلق، والتصرف في من خلقها، وهو الحق تعالى حتى انتهى حكمها فيه إلى أن تخلقه وتصّوره كيف شاءت، وهو معنى م ورد في بعض الأخبار الغريبة «أنَّ الله خلق نفسه» فأنكرته العقول، وحكمت بوضعه بل بكفر قائله، ومع هذا كلّه فهي مخلوقة له تعالى، مع ما تخلفه، وهذا التصرّف في الواجب الوجود، و المحال لهذه القوّة وصف ذاتي نفسي لا عرضي. والوصف الذاتي هو نفس الحقيقة وعينها، فلا يكون لها وجود عين في من خلقت فيه وهو الإنسان إلاَّ ولها هذ الحكم والتصرّف في كلّ موجود خارجي وخيالي، وهي أقوى سلطاناً في الإنسان من العقل. فإنَّ العقل ولو بلغ ما بلغ لم يخل عن حكم الوهم عليه. لأن الوهم يستشرف إلى ما وراء مدارك العقول، ويطلب الصورة فيما لا صورة له. وما حاز هذه القوة الوهمية، وفاز بها فكملت له المعرفة بالله في مرتبتي التنزيه العقلي والتشبيه الوهمي إلاَّ هذ النشء والخلق الإنساني، الذي جمع الله له في خلقه بين يديه تعالى ـ، خلقها تعالى له في وسط الدماغ، وتجمع فيها مدركات الحواسّ الظاهرة والباطنة، الجسمانية والروحانية، جعلها تعالى مظهر الاقتدار الإلهي، فهي أرض واسعة، توجد فيه المستحيلات العقلية والعادية كلّها. ولعلها هي المكني عنها بأرض السمسمة، التي خلقت من بقيّة خميرة طينة آدم (عليه السلام) وبهذه القوة الوهمية يرتّب الإنسان الأعيان الثبوتيّة في العلم، حال عدمها، كأنها موجودة مترتبة ترتباً زمانياً محسوساً، وكذلك هي مرتبة في نفس الأمر، لأن لها وجوداً متخيّلاً متوهّماً في الخيال المطلق، ولذلك الوجود الخيال، أي المتخيّل يقول الحق تعالى له «كن» في الوجود العيني المحسوس «فيكون» المأمور السامع لهذا الأمر الإلهي وجوداً عينياً محسوساً يدركه الحسّ، أي يتعلق به في الوجود المحسوس الحسّ، كما تعلق به في الوجود الخيالي «الخيال» .

قول سيدنا: «وهنا حارت الألباب، هي الموصوف بالوجود، المدرك بهذه الإدراكات الحسّية هي العين الثابتة انتقلت من حال العدم إلى حال الوجود؟ أو حكمه تعلّق تعلقاً ظهورياً، تعلّق صورة المرئي في المرآة، وهي في حال عدمها، كما هي ثابتة منعوتة بتلك الصفة، فتدرك أعيان الممكنات بعضها بعضاً في عين مرآة الوجود الحق؟!» يريد (رضي الله عنه) أن العقول التي هي لبّ مطلق العقول، وهي المنعوتة بقوله تعالى «أولي الألباب» وإنما كان لهم هذا النعت لأنهم يستخرجون لبّ الأمر المستور بالقشر، هل الموصوف بالوجود الحسّي،  المدرك بالإدراكات الحسيّة، من بصر ولمس وغيره من الإدراكات هو العين الثابتة، التي هي نسبة معلوميّة الحق تعالى، انتقلت من حال الثبوت والعدم إلى حال الوجود الحسّي الخارجي، فهي المدركة بالإدراكات الحسّية؟! وهو قول الحكماء وبعض المتكلمين ممّن قال بالأعيان الثابتة، والعالم عندهم موجود وجوداً حقيقياً، بوجود حارث، وهو مذهب المتكلّمين قاطبة، من قال بالأعيان الثابتة ومن لم يقل بها، أو بوجود قديم، وهو مذهب المشّائين من الحكماء؟! وقول سيدنا: «أو حكمها تعلق تعلّقاً ظهورياً، تعلّق صورة المرئي في المرآة بعين الوجود الحقّ، وهي في حال عدمها، ماهي ثابتة منعوتة بتلك الصفة، فتدرك أعيان الممكنات بعضها بعضاً في عين مرآة وجود الحقّ» هذا القول ، والذي بعده هما لأهل الكشف والوجود، ساداتنا رضوان الله عليهم وهم متفقون على أنَّ الأعيان الثابتة ما شمّت رائحة الوجود، ول تشمّها أبداً، وإنما اختلفوا في الظاهر المحسوس: هل هو الوجود الحق، وأحوال الممكنات ونعوتها مظاهره؟! أو هو حكم الممكنات، والوجود الحق مظهر لها؟! فقالت طائفة: الظاهر المحسوس هو حكم العين الثابتة، ونعتها تعلق بالوجود الحق، الذي هو بمثابة المرآة، لظهور حال العين الثابتة به تعلقاً ظهورياً لا معنوياً، تعلّق صورة المرئي في المرآة. والصورة دائماً حائلة بين الرائي و المرآة. والعين الثابتة في حال عدمها، وإن ظهر حكمها ونعتها في عين مرآة الوجود الحق، كما هي ثابتة معدومة منعوتة بتلك الصفة والحال، فتدرك أعيان الممكنات بعضها بعضاً في عين مرآة الوجود الحق، فالظاهر هو: أحكام الممكنات، والمقوّم لها الوجود الحق. وأحكام الممكنات، وإن كانت أعداماً فهي تدرك كما يدرك المسحور أشياء لا وجود لها في نفس الأمر. وكذ ألوان قوس قزح، وتلّونات الحرباء، وتلّون النور إذا ضرب في الزجاج، ونحو هذا. فهي أمور تدرك ولا وجود لها، إلاّ في المدركات. فالممكن موجود شهوداً لا علماً، ويدرك العلم مالا يدرك البصر.

قول سيدنا: «أو الأعيان الثابتة على ترتيبها، الواقع عندنا في الإدراك هي على ما هي عليه من العدم، ويكون الحق الوجود ظاهراً في تلك الأعيان، وهي له مظاهر. فيدرك بعضها بعضاً عند ظهور الحقّ فيها. فيقال: قد استفادت الوجود، وليس إلاَّ ظهور الحق. وهو أقرب من وجه آخر، وهو أن يكون الحق محلّ ظهور أحكام الممكنات غير أنها في الحكمين معدومة العين، ثابتة في حضرة الثبوت». يريد (رضي الله عنه) ـ بهذه الجملة بيان القول الثاني من قولي أهل الكشف، وهو أنَّ الأعيان الثابتة وإن كانت أحكامها ونعوتها على ترتيبها الواقع عندنا في الإدراك الحسّي، فهي على ما هي عليه من العدم أزلاً وأبداً،  ويكون الحق الوجود هو الظاهر في أحكام تلك الأعيان الثابتة، وهي له مظاهر، فيدرك بعضها بعضاً عند ظهور الحقّ فيها بالوجود، فإنها حال ثبوتها ما هي إلاَّ مظاهر للوجود، فيقال عند ظهور وجود الحق فيها قد استفادت الوجود، وليس معنى هذه الاستفادة إلاَّ ظهور الحق فيها، وهو معنى قول الطائفة: العالم ما اكتسب من الحق إلاَّ الوجود، وليس الوجود إلاَّ الحق. فما أكسبهم سوى هويّته، فهو الوجود بصور الممكنات، والعالم على أصله من العدم، والحكم له فيما ظهر من وجود الحقّ. فما ثمَّ إلاَّ الله مجملاً ومفصلاً. بل التحقيق أن أعيان الممكنات ما استفادت من الحق الوجود، وإنما استفادت منه ما ظهر ممّا هي عليه من الحقائق عند ظهوره فيها، فأعطته كلّ وصف ونعت اتصف به، ممّا تطلبه بطريق الحقيقة، وهو أي كون الوجود الحقّ هو الظاهر، وأحكام الممكنات الثابتة وأحوالها محلّ ظهوره، أقرب على ما هو الأمر عليه من حيث أنَّه لا وجود حقيقي إلاَّ له تعالى. وأول ما يرى من كل شيء وجوده، ثم يتعلّق البصر بالصورة فهو الظاهر، إذ من قال: إنه تعالى الظاهر، فما قال إلاَّ ما قال الله عن نفسه، ول فائدة لكون الأمر ظاهراً إلاَّ مشاهدته وإدراكه، فهو مشهود مرئي من هذا الوجه. والآخر وهو كون الظاهر هو أحكام الممكنات الثابتة ونعوتها، والوجود الحقّ محلّ ظهورها، فهو كالمرأة لها أقرب من وجه، حيث أنَّ الإدراكات الحسيّة تدرك أشياء كثيرة متعدّدة متنوّعة، والوجود واحد لا يتعدّد ولا يتنوّع، وهذه الإدراكات أدركت شيئاً ولابدَّ، فإدراكها صحيح بالنسبة إليها، وإن تعلّق بمعدوم علماً وحينئذٍ فالظاهر أحكام الممكنات، والوجُود الحق باطن، ومن قال إن الله باطن: فما قال إلاَّ ماقاله الحق عن نفسه، ولا فائدة لكون الأمر باطناً إلاَّ أنه لا تدركه الأبصار. غير أنَّ الأعيان الثابتة منعدمة العين، باقية في حضرة الثبوت دائماً لا تبرح منها.

قول سيدنا: «ويكشف المكاشف هذين الوجهين، وهو الكشف الكامل. وبعضهم ل يكشف من ذلك إلاَّ الوجه الواحد، كان ماكان. فنطق صاحب كلّ كشف بحسب ما كشف، وليس هذا الحكم إلاَّ لأهل هذا الطريق» يريد (رضي الله عنه) أن الله تعالى قد يكشف لبعض الكمّل من أهل هذه الطريق، الوجهين المتقدّمين. ومحصلهما، أن أهل الله شهدوا العالم على وجهين ثابتين، أحدهما أنَّ الحق مرآة الخلق فالخلق نظروا نفوسهم ببصر الحق في مرآة الحق، فهو الناظر نفسه منهم. والثاني أن الخلق مرآة للحق، فهو يظهر لهم بصور استعداداتهم، ويبصر نفسه منهم بصورهم. والمكاشف بهذين الوجهين هو الكامل الجامع بين شهود الحق في الظهور والبطون. وقد لا يكشف الله لبعضهم إلاَّ الوجه الواحد من الوجهين، فنطق صاحب كل كشف بحسب ما كشف، و الكلّ حق صدق. وليس هذ الشهود لأحد من الحكماء ولا من المتكلمين،  فإنهم يظنون أنَّ الحقَّ تعالى مباين للعالم، لا ارتباط له مع العالم بوجه من الوجوه.

قول سيدنا: «و أمَّا غيرهم فإنهم على قسمين»، الخ ظاهر واضح.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!