كتاب التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

الباب الثاني عشر في السّفراء والرسل الموجّهين إلى الثائرين بمدينة البدن

اعلم أيّها السيّد الكريم أنّ الحكمة قد أعطت عند من غلب عليه عقله على شهوته من الملوك أنّه لا يوجّه رسولا إلى عدوّ من أعدائه إلّا ذا فطنة وذكاء وشجاعة ووفاء وسخاء وصدق وديانة وأمانة وعلم بالحجّة ومواقع الكلام .

فإنّ الرسول دليل على مرسله ومنزلته فإن كان على هذه الأوصاف علم أنّ مرسله بهذه والمثابة وأعلى فإنّه لولا علم من أرسله وعقله لما ميّز هذا الرسول من غيره .

وإن كان بضدّ ما وصفنا كاذبا خائنا كثير الهوس سخيفا علم أنّ الّذي أرسله أسخف منه.

فإذا تقرّر هذا فلتكن رسلك أيّها السيّد إلى الهوى الملك المطاع الثائر بمدينتك التوفيق والهدى والفكر والاعتبار والتدبّر والثبات والقصد والحزم والإستبصار والتذكّر والخوف والرجاء والإنصاف وما شاكل هذه الأوصاف فهذا ينبغي أن يكون رسلك فأفلح وربح وعظم ملك كانت رسله هؤلاء إلى أعدائه فإنّه يعلم على الضرورة أنّهم يقمعون عدوّه بالحجّة القاطعة وربّما أسلم ويرجع الهوى الّذي كان يقصد الشرّ يقصد الخير وتكفى مئونة المقابلة والمقاتلة .

فإن قدمت رسل الهوى الّذي هو الثائر عليك والساعي في فساد ملكك فلا تغلظ عليهم فإنّ إهانة الرسل من عدم السياسة .

ورسله الحرص والكذب والخيانة والغدر والجبن والبخل والجهل والشّره والعيّ والبلادة وما شاكل هذا الصنف فمن جاء منهم إليك فلا تنفر عنهم ابتداء فلا تنهرهم "وقل لهم قَوْلًا كَرِيماً " فإنّك تأخذ بأسماعهم وأبصارهم .

واقعد على سرير ملكك وأخل لهم مجلسك وأمر وزيرك العقل يترجم لهم عنك فإنّه سؤوس .

فإن كان الحرص من جملة الرسل وتكلّم فإنّه لا يتكلّم إلّا بحقيقته ،.

فيقول لك إنّ هذا الملك المطاع الّذي اسمه الهوى قد أرسلنا إليك لتدخل تحت سلطانه وإلّا فلتأذن بحرب وقد أمرك

بأن تحرص على جمع الأموال والادّخار ومخالفة ما جاءت به الشريعة فتقول له أيّه الرسول مكانتك عندنا عظيمة ومنزلتك كريمة فإنّه إذا سمع هذا منك سرّ به فإنّه ل يسمع مثل هذا من سلطانه .

ولكن أيّها الرسول انظر هذا بعقلك وأنصف من نفسك ما تقول في اللّه أهو ربّنا أم ل فيقول نعم هو ربّنا فتقول له هذه الدار الّتي نحن فيها أنحن راحلون عنها أم ل فيقول بلى راحلون عنها .

فتقول إنقلابنا ورحلتنا إلى اللّه أم إلى غيره فيقول لك إلى اللّه فتقول بما ذا وصف من خالف شرعه ودينه فيقول بالشقاء فتقول له ومن أطاعه فيقول بالسعادة فتقول له وهل يغني عنك أحد من اللّه شيئا فيقول لا فتقول له أنت أيّها الحرص رسول هذا الهوى .

تعلم أني أدعو إلى ما فيه مرضاة اللّه هبك تحرص على طلب المال هل يصحّ لك منه إلّ ما كتب اللّه لك ولو لم تحرص فيقول نعم فتقول حقيقتك باقية أيّها الحرص ولكن اصرفه إلى الطاعات ومرضاة الربّ واحرص عليها تسعد بها ومتاع الدنيا قليل ومع قلّتها فانية والدار الآخرة خير وأكبر « أنت يا حرص هنا ما انتقص لك من منزلتك فيقول نعم .

فيسلم ويتوجّه الحرص على طريق العلم والدين فيقوى ملكك ويضعف ملك الهوى وهكذا تفعل مع كلّ رسول منهم مثل الخيانة والكذب والفجور إلى آخرها ولولا التطويل لذكرنا كيف تقام الحجج على كلّ رسول منهم بما تقتضيه منزلته حتّى يسلم الكلّ فإنّ الإسلام هو الأصل فيرجعون إلى أصولهم بخلاف رسلك فإنّهم لا

يرتدّون أبدا عليك وغايتهم ألّا يقبل الهوى كلامهم فينصرفون خائبين .

فاعرف هذه الحقائق فقد بيّنت لك كيف تكلّم أرسال عدوّك ومن ذلك الواحد تستدلّ على الباقي ولهذا ترى المريدين اليوم يقلّ فلاحهم لعدم محاضرة مثل هذا المجلس وإنّما هم يغلظون بالقول على هؤلاء الإرسال من غير سياسة فلهذا تراه له دخول في طريق الخير وليس له ثبوت ويسخر منه الشيطان وهنا حقائق متّسعة لا ينحصر بابها فتركنا الخوض فيها مخافة أن ينخرق علينا ما يخرجنا عن مقصودنا من الاختصار.

وهذا القدر كاف فاستعمله وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ *والصلاة على نبيّه.

uNzW13kMAac