موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

إشارات في تفسير القرآن الكريم

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

مستخلصة من الفتوحات المكيّة وكتبه الأخرى

سورة الأحزاب (33)

 

 


الآية: 35 من سورة الأحزاب

إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35)

[ «إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ . . .» الآية طبقات الأولياء]

نعت اللّه أقواما من النساء والرجال بصفات ومنزلة ، فما نعتهم اللّه بهذه النعوت سدى ، والمتصفون بهذه الأوصاف قد طالبهم الحق بما تقتضيه هذه الصفات ، وما تثمر لهم من المنازل عند اللّه ، فقال تعالى : «إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ» وهؤلاء تولاهم اللّه بالإسلام وهو انقياد خاص لما جاء من عند اللّه لا غير ، فإذا وفّى العبد الإسلام بجميع لوازمه وشروطه وقواعده فهو مسلم ، وإن انتقص شيئا من ذلك فليس بمسلم فيما أخلّ به من الشروط ،

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : [ المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ]

واليد هنا بمعنى القدرة ، أي سلم المسلمون مما هو قادر على أن يفعل بهم مما لا يقتضيه الإسلام ، من التعدي لحدود اللّه فيهم ، فأتى بالأعم ، وذكر اللسان لأنه قد يؤذي بالذكر من لا يقدر على إيصال الأذى إليه بالفعل ، وهو البهتان هنا خاصة لا الغيبة ، فإنه قال : المسلمون ولو قال : الناس لدخلت الغيبة وغير ذلك من سوء القول ، فلم يثبت الشارع الإسلام إلا لمن سلم المسلمون ، وهم أمثاله في السلامة ، فالمسلمون هم المعتبر في هذا الحديث ، وهم المقصود ، فإن المسلمين لا يسلمون من لسان من يقع فيهم إلا حتى يكونوا أبرياء مما نسب إليهم ، ولذلك فسرناه بالبهتان ،

فإن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : [ إذا قلت في أخيك ما ليس فيه فذلك البهتان ، وفي رواية فقد بهته ] فخاب سهمك الذي رميته به ، فإنه ما وجد منفذا ، فإنك نسبت إليه ما ليس هو عليه ، فسماهم اللّه مسلمين ، فمن وقع فيمن هذه صفته فليس بمسلم ، لأن ذلك الوصف الذي وصف المسلم به ورماه به ولم يكن المسلم محلا له عاد على قائله ، فلم يكن الرامي له بمسلم ، فإنه ما سلم مما قال إذ عاد عليه سهم كلامه الذي رماه به ،

قال صلّى اللّه عليه وسلم : [ من قال لأخيه كافر فقد باء به أحدهما ]

وقال تعالى في حق قوم قيل لهم : (آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُو نُؤْمِنُ


كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) قال اللّه فيهم (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ)

فأعاد الصفة عليهم لما لم يكن المسلمون المؤمنون أهل سفه ، فليس المسلم إلا من سلم من جميع العيوب الأصلية والطارئة ، فلا يقول في أحد شرا ولا يؤثر فيه إذا قدر عليه شرا أصلا ، وليس إقامة الحدود بشر فإنه خير فلا يخرجه ذلك عن الإسلام ، فإن النبي صلّى اللّه عليه وسلم اشترط سلامة المسلمين ، ومن آذاك ابتداء عن قصد منه فليس بمسلم ،

فإنك ما سلمت منه ،

والنبي صلّى اللّه عليه وسلم يقول : [ من سلم المسلمون ] فلا يقدح القصاص في الإسلام ، فإنك ما آذيت مسلما من حيث آذاك ، فإن المسلم لا يؤذي المسلم ، بل أسقط القصاص في الدنيا القصاص في الآخرة ، فقد أنعم عليه بضرب من النعم ، فإن عفا وأصلح ولم يؤاخذه وتجاوز عن سيئته فذلك المقام العالي وأجره على اللّه ، بشرط ترك المطالبة في الآخرة ، وحق اللّه ثابت قبله لأنه تعدى حده ، فقدح في إسلامه قدر ما تعدى ، فإن قيل : إن عصى المسلم ربه في غير المسلم هل يكون مسلما بذلك أم لا ؟

قلنا : لا يكون مسلما ، فإن اللّه يقول : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) والمسلم لا يكون ملعونا ،

فلقائل أن يقول : هنا بالمجموع كانت اللعنة ، ونحن إنما قلنا : من آذى اللّه وحده ، قلنا : كل من آذى اللّه وحده في زعمه فقد آذى المسلمين ، فإن المسلم يتأذى إذا سمع في اللّه من القول ما لا يليق به ، فهو مؤاخذ من جهة ما تأذى به المسلمون ، من قولهم «1» في اللّه ما لا يليق به ، فإن قيل :فإن لم يعرف ذلك المسلمون منه حتى يتأذوا من ذلك ،

قلنا : حكم ذلك حكم الغيبة ، فإنه لو عرف من اغتيب تأذى ، وهو مؤاخذ بالغيبة فهو مؤاخذ بإيذائه اللّه وإن لم يعرف بذلك مسلم ،

قال صلّى اللّه عليه وسلم : [ لا أحد أصبر على أذى من اللّه ] ، فالمسلم من كان بهذه المثابة ، وهو السعيد المطلق وقليل ما هم : «وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» المؤمنون والمؤمنات تولاهم اللّه بالإيمان الذي هو القول والعمل والاعتقاد ، وحقيقته الاعتقاد شرعا ولغة ، وهو في القول والعمل شرعا لا لغة ، فالمؤمن من كان قوله وفعله مطابقا لما يعتقده في ذلك الفعل ، فأولئك من الذين أعد اللّه لهم مغفرة وأجرا عظيما ، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : [ المؤمن من أمنه الناس على أموالهم ]

وقال صلّى اللّه عليه وسلم : [ المؤمن من أمن جاره بوائقه ] ولم يخصّ مؤمنا ولا مسلما ،

بل قال : الناس والجار من غير تقييد ، فإن المسلم قيّده بسلامة المسلمين ، ففرق بين المسلم


(1) الضمير هنا يعود على غير المسلمين الذين آذاهم المسلم.


والمؤمن بما قيده به وبما أطلقه ، فعلمنا أن للإيمان خصوص وصف ، وهو التصديق تقليدا من غير دليل ، ليفرق بين الإيمان والعلم ، والمؤمن الذي اعتبره الشرع من أهل هذه الآية له علامتان في نفسه إذا وجدهما كان من المؤمنين ،

العلامة الواحدة أن يصير الغيب له كالشهادة ، من عدم الريب فيما يظهر على المشاهد لذلك الأمر الذي وقع به الإيمان ، من الآثار في نفس المؤمن كما يقع في نفس المشاهد له ، فيعلم أنه مؤمن بالغيب ، والعلامة الثانية أن يسري الأمان منه في نفس العالم كله ،

فيأمنوه على القطع على أموالهم وأنفسهم وأهليهم ، من غير أن يتخلل ذلك الأمان تهمة في أنفسهم من هذا الشخص ، وانفعلت لأمانته النفوس ، فذلك هو المشهود له بأنه من المؤمنين ، ومهما لم يجد هاتين العلامتين فلا يغالط نفسه ولا يدخلها مع المؤمنين ،

قال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ)

فمن ادعى الإيمان وزعم أن له نفسا يملكها فليس بمؤمن «وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ» هم الذين تولاهم اللّه بالقنوت ، وهو الطاعة للّه في كل ما أمر به ونهى عنه ، وهذا لا يكون إلا بعد نزول الشرائع ، قال تعالى : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) أي طائعين فأمر بطاعته ،

والساجدون للّه على قسمين:منهم من يسجد طوعا ، ومنهم من يسجد كره،

فالقانت يسجد طوعا ، وتصحيح طاعتهم للّه وقنوتهم أن يكون الحق لهم بهذه الموازنة ، كما قال : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)

[ ومن تقرب إليّ شبرا تقربت إليه ذراع ] فالحق مع العبد على قدر ما هو العبد مع الحق ، ومن شرط القانت أن يطيع اللّه من حيث ما هو عبد اللّه ، لا من حيث ما وعده اللّه به من الأجر والثواب لمن أطاعه ، وأما الأجر الذي يحصل للقانت ،

فذلك من حيث العمل الذي يطلبه لا من حيث الحال الذي أوجب له القنوت ،

قال اللّه تعالى في القانتات من نساء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ

) فالأجر هنا للعمل الصالح الذي عملته ، وكان مضاعفا في مقابلة

قوله تعالى في حقهن : (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ)

لمكانة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ولفعل الفاحشة ، كذلك ضوعف الأجر للعمل الصالح ومكانة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، وبقي القنوت معرى عن الأجر ، فإنه أعظم من الأجر فإنه ليس بتكليف ، وإنما الحقيقة تطلبه ، وهو حال يستصحب العبد في الدنيا والآخرة ، والقنوت مع العبودية في دار التكليف لا مع الأجر ، ذلك هو القنوت المطلوب ، والحق إنما ينظر للعبد في طاعته بعين باعثه على تلك الطاعة ،

ولهذا قال تعالى آمر :


(وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) ولم يسم أجرا ، ولا جعل القنوت إلا من أجله لا من أجل أمر آخر «وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ» هم الذين تولاهم اللّه بالصدق في أقوالهم وأفعالهم

فقال تعالى : (رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) فهذا من صدق أحوالهم ، والصدق في القول معلوم وهو ما يخبر به ، وصدق الحال ما يفي به في المستأنف ، وهو أقصى الغاية في الوفاء لأنه شديد على النفس فلا يقع الوفاء به في الحال والقول إلا من الأشداء الأقوياء ، ولا سيما في القول ، فإنك لو حكيت كلاما عن أحد كان بالفاء فجعلت بدله واوا لم تكن من هذه الطائفة ، فانظر ما أغمض هذا المقام وما أقواه ، فإن نقلت الخبر على المعنى تعرّف السامع أنك نقلت على المعنى ، فتكون صادقا من حيث إخبارك عن المعنى عند السامع ، ولا تسمى صادقا من حيث نقلك لما نقلته ،

فإنك ما نقلت عين لفظ من نقلت عنه ، ولا تسمى كاذبا فإنك قد عرفت السامع أنك نقلت المعنى ، فأنت مخبر للسامع عن فهمك لا عمن تحكي عنه ، فأنت صادق عنده في نقلك عن فهمك ، لا عن الرسول أو من تخبر عنه أن ذلك مراده بما قال ،

فالصدق في المقال عسير جدا ، قليل من الناس من يفي به ، إلا من أخبر السامع أنه ينقل على المعنى فيخرج من العهدة ، فالصدق في الحال أهون منه إلا أنه شديد على النفوس ، فإنه يراعي جانب الوفاء لما عاهد من عاهد عليه ،

وقد قرن اللّه الجزاء بالصدق والسؤال عنه فقال : (ليجزي الصادقين بصدقهم)

ولكن بعد أن يسأل الصادقين عن صدقهم ، وجزاؤهم به هو صدق اللّه فيما وعدهم به «وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ» هؤلاء تولاهم اللّه بالصبر ، وهم الذين حبسوا نفوسهم مع اللّه على طاعته من غير توقيت ، فجعل اللّه جزاءهم على ذلك من غير توقيت ،

فقال تعالى : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) فما وقّت لهم فإنهم لم يوقتوا ، فعم صبرهم جميع المواطن التي يطلبها الصبر ، فكما حبسوا نفوسهم على الفعل بما أمروا به ، حبسوها أيضا على ترك ما نهوا عن فعله ، فلم يوقتوا فلم يوقّت لهم الأجر ، وهم الذين أيضا حبسوا نفوسهم عند وقوع البلايا والرزايا بهم عن سؤال ما سوى اللّه في رفعها عنهم ، بدعاء الغير أو شفاعة أو طب ، إن كان من البلاء الموقوف إزالته على الطب ،

ولا يقدح في صبرهم شكواهم إلى اللّه في رفع ذلك البلاء عنهم ، ألا ترى إلى أيوب عليه السلام سأل ربه رفع البلاء عنه بقوله : (مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) ومع هذا أثنى عليه بالصبر وشهد له به ، فلو كان الدعاء إلى اللّه في رفع الضرر


ورفع البلاء يناقض الصبر المشروع المطلوب لم يثن اللّه به على أيوب بالصبر وقد أثنى عليه به ، بل من سوء الأدب مع اللّه أن لا يسأل العبد رفع البلاء عنه ، لأن فيه رائحة من مقاومة القهر الإلهي بما يجده من الصبر وقوته ،

وهذا لا يناقض الرضا بالقضاء ، فإن البلاء إنما هو عين المقضي لا القضاء ، فيرضى بالقضاء ويسأل اللّه في رفع المقضي عنه ، فيكون راضيا صابر «وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ»

قوم تولاهم اللّه بالخشوع من ذل العبودية القائم بهم ، لتجلي سلطان الربوبية على قلوبهم في الدار الدنيا ، فينظرون إلى الحق سبحانه من طرف خفي ، يوجده اللّه لهم في قلوبهم في هذه الحالة ، خفي عن إدراك كل مدرك إياه ، بل لا يشهد ذلك النظر منهم إلا اللّه ، فمن كانت حالته هذه في الدار الدنيا من رجل أو امرأة فهو الخاشع وهي الخاشعة ، فيشبه القنوت من وجه إلا أن القنوت يشترط فيه الأمر الإلهي ، والخشوع لا يشترط فيه إلا التجلي الذاتي ،

وكلتا الصفتين تطلبهما العبودية ، فلا يتحقق بهما إلا عبد خالص العبودية والعبودة ،

وله حال ظاهر في الجوارح التي لها الحركات ، وحال باطن في القلوب ، فيورث في الظاهر سكونا ويؤثر في الباطن ثبوتا ، والقنوت يورث في الظاهر بحسب ما ترد به الأوامر من حركة وسكون ، فإن كان القانت خاشعا فحركته في سكون ولا بد إن ورد الأمر بالتحرك ، ويورث القنوت في الباطن انتقالات أدق من الأنفاس ، متوالية مع الأوامر الإلهية الواردة عليه في عالم باطنه ، فالخاشع في قنوته في الباطن ثبوته على قبول تلك الأوامر الواردة عليه من غير أن يتخللها ما يخرجها عن أن تكون مشهودة لهذا الخاشع ،

فالخاشع والقانت خشوعه وقنوته أخوان متفقان في الموفقين من عباد اللّه «وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ» وهم الذين تولاهم اللّه بجوده ليجودوا بما استخلفهم اللّه فيه مما افتقر إليه خلق اللّه ، فأحوج اللّه الخلق إليهم لغناهم باللّه ، فالكلمة الطيبة صدقة ،

ولما كان حالهم التعمل في الإعطاء لا العمل ، دل على أنهم متكسبون في ذلك ، لنظرهم أن ذلك ليس لهم وإنما هو للّه ، فلا يدعون فيما ليس لهم ، فلا منة لهم في الذي يوصلونه إلى الناس أو إلى خلق اللّه من جميع الحيوانات ، وكل متغذ عليهم لكونهم مؤدين أمانة كانت بأيديهم أوصلوها إلى مستحقيها ،

فلا يرون أن لهم فضلا عليهم فيما أخرجوه ، وهذه الحالة لا يمدحون بها إلا مع الدوام والدءوب عليها في كل حال «وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ» قوم تولاهم اللّه بالإمساك الذي يورثهم الرفعة عند اللّه تعالى عن كل شيء أمرهم الحق أن يمسكو


عنه أنفسهم وجوارحهم ، فمنه ما هو واجب ومندوب ، والصوم المعهود داخل فيه ، والمقام الأكمل لمن تحقق بهذا الإمساك ، فأورثه الرفعة عند اللّه ، فإن الصوم هو الرفعة ، قال الشاعر : إذا صام النهار وهجر ؛ أي ارتفع النهار «وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ» وهو خصوص من عموم حفظ حدود اللّه ،

ولهذا قال فيهم : «أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً» أي سترا ، لأن الفرج عورة تطلب الستر ، فهو إنباء عن حقيقة والحافظون فروجهم على طبقتين : منهم من يحفظ فرجه عما أمر بحفظه منه ولا يحفظه مما رغب في استعماله ، لأمور إلهية وحكم ربانية أظهرها إبقاء النوع على طريق القربة ، ومنهم من يحفظ فرجه إبقاء على نفسه لغلبة عقله على طبعه ، وغيبته عما سنه أهل السنن من الترغيب في ذلك ، فإن انفتح له عين وانفرج له طريق إلى ما تعطيه حقيقة الوضع المرغب في النكاح فذلك صاحب فرج فلم يحفظه الحفظ الذي أشرنا إليه ، وأما صاحب الشرع الحافظ به فلا بد له من الفتح ، ولكن إذا اقترنت مع الحفظ الهمة «وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ» وهم الذين تولاهم اللّه بإلهام الذكر ليذكروه فيذكرهم ،

قال تعالى : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)

وقال : [ من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه ] والذكر أعلى المقامات كلها ، ولما كان الذاكرون أعلى الطوائف لأن اللّه جليسهم ، لهذا ختم اللّه بجلسائه وبذكرهم صفات المقربين من أهل اللّه ، ذكرانهم وإناثهم ، فالذاكر هو الرجل الذي له الدرجة على غيره من أهل المقامات ، فإن اللّه تعالى مع الذاكرين له بمعية اختصاص ، وما ثمّ إلا مزيد علم ، به يظهر الفضل ، فكل ذاكر لا يزيد علما في ذكره بمذكوره فليس بذاكر ، وإن ذكر بلسانه ، لأن الذاكر هو الذي يعمه الذكر كله ، فذلك هو جليس الحق ، فلا بد من حصول الفائدة ، لأن العالم الكريم الذي لا يتصور فيه بخل لا بد أن يهب جليسه أمرا لم يكن عنده ، إذ ليس هنالك بخل ينافي الجود ، فلم يبق إلا المحل القابل ، ولا يجالس إلا ذو محل قابل ، فذلك هو جليس الحق ، وهم على الحقيقة جلساء اللّه من حيث الاسم الذي يذكرونه به ،

وهذه مسئلة لا يعرفها كثير من الناس ، وما ذكر اللّه بعد الذاكرات شيئا ، فالذاكرون اللّه كثيرا والذاكرات آخر الطوائف ، ليس بعدهم أحد له نعت يذكر ، فختم بهم جلساءه ،

وقوله تعالى : «كَثِيراً» أي في كل حال ، هذا معنى الكثير ، فإنه من الناس من يكون له هذه الحالة في أوقات ما ، ثم ينحجب ، ومن ذلك أن كل صفة علوية إلهية لا تنبغي إلا للّه ويكون


مظهرها في المخلوقين (مثل الغنى والعزة والجبروت) ، فإن العلماء باللّه يذلون تحت سلطانها ولا تحجبهم المظاهر عنها ولا يعرف ذلك إلا العلماء باللّه ، وأعلى الذكر أن نذكره بكلامه من حيث علمه بذلك لا من حيث علمنا ، فيكون هو الذي يذكر نفسه لا نحن «أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً» هؤلاء أعد اللّه لهم المغفرة والأجر العظيم قبل وقوع الذنب المقدر عليهم عناية منه ، فدلّ ذلك على أنهم من العباد الذين لا تضرهم الذنوب التي وقعت منهم بالقدر المحتوم ، لا انتهاكا للحرمة الإلهية ، وقد ورد في الصحيح في الخبر الإلهي [ اعمل ما شئت فقد غفرت لك ] .


المراجع:

(35) الفتوحات ج 2 / 23 ، 26 ، 29 ، 30 ، 397 ، 30 - ج 3 / 457 ، 474 - ج 2 / 397 - ج 3 / 212 - ج 2 / 30 ، 397 ، 23

 

 

البحث في التفسير


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!