موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

إشارات في تفسير القرآن الكريم

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

مستخلصة من الفتوحات المكيّة وكتبه الأخرى

سورة الأنفال (8)

 

 


الآية: 17 من سورة الأنفال

فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)

[ «وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى» الآية]

جاء المدد الملكي فأقدم حيزوم «1» لنصرة دين الحي القيوم ، ولتقوية القلوب عند أهل الإيمان بالغيوب ، وما كان عند أهل الغيب إيمانا كان لأهل الشرك عيانا ، وذلك الشهود خذلهم فقال : «فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ» قتلهم بالملك ، للأمر الذي أوحاه في السماء وأودعه حركة الفلك ، فما انحجب عن المؤمن لإهانته ، كما أنه ما كشفه المشرك لمكانته ، لكن ليثبت ارتياعه ، ويتحقق انصداعه واندفاعه ، فخذله اللّه بالكشف ، وهو من النصر الإلهي الصرف ، نصر به عباده المؤمنين على التعيين ، فإنه أوجب سبحانه على نفسه نصرتهم ، فرد عليهم لهم كرتهم ، فانهزموا أجمعين ، (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)

(1) حيزوم اسم الفرس الذي كان يركبه جبريل عليه السلام .

والمؤمن الإله الحق ، وقد نصره الخلق ، وهو القائل (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) فأظهر آمرا وأمرا ومأمورا في هذا الخطاب التكليفي ، فلما وقع الامتثال للّه ، وظهر القتل بالفعل من أعيان المحدثات ،

قال : ما هم أنتم الذين قتلتموهم ، بل أنا قاتلهم ، فأنتم لنا بمنزلة السيف لكم ، أو أي آلة كانت للقتل ، فالقتل وقع في المقتول بالآلة ولم يقل فيه إنه القاتل ، وقيل في الضارب به القاتل ، كذلك الضارب به بالنسبة إلينا مثل السيف له عنده ، فلا يقال في المكلّف إنه القاتل بل اللّه هو القاتل بالمكلّف وبالسيف ، فقام له المكلّف مقام اليد الضاربة بالسيف ، وفي حضرة الأفعال ينسب الفعل بالعوائد إلى المخلوق والحق مبطون فيه ، وينسب الفعل بخرق العادة إلى اللّه لا إلى المخلوق ، لأنه خارج عن قدرة المخلوق ، فيظهر الحق وإن كان لا يظهر إلا في الخلق ، ومن هنا يتبين أن ما قام فيه الإنسان عين ما قام فيه الحق ، بين ظاهر وباطن ،

فإذا ظهر من ظهر بطن الآخر ، وذلك قوله تعالى لنبيه صلّى اللّه عليه وسلم في رميه التراب في أعين المشركين «وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ»

فالرمي وقع منه صلّى اللّه عليه وسلم بقول اللّه ، وإيصال الرمي إلى أعين الكفار حتى ما بقيت عين لمشرك خاص إلا وقع من التراب في عينه فهذا ليس لمخلوق ،

فقال تعالى : «وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى» إثباتا للنفي في أول الآية ، فإن اللّه محا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في حكم رميه مع وجود الرمي عنه ، فقال : «وَما رَمَيْتَ» فمحاه «إِذْ رَمَيْتَ» فأثبت السبب «وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى» وما رمى إلا بيد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ،

فقوله تعالى : «وَما رَمَيْتَ» نفي «إِذْ رَمَيْتَ» إثبات عين ما نفى «وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى» نفى عين ما أثبته ، فصار إثبات الرمي وسطا بين طرفي نفي ، فالنفي الأول عين النفي الآخر ،

فمن المحال أن يثبت عين الوسط بين النفيين ، لأنه محصور ، فيحكم عليه الحصر ، ولا سيما أن النفي الآخر زاد على النفي الأول بإثبات الرمي له لا للوسط ، فثبت الرمي في الشهود الحسي لمحمد صلّى اللّه عليه وسلم بثبوت محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، فمحمد صلّى اللّه عليه وسلم رام لا رام ، وهذا لا يدرك إلا بعين البصيرة ،

فالبصيرة بها تدرك الأمر على ما هو عليه ، لأنه علم محقق ، وإذا أدرك به عين نسبة ما ظهر في الحس سمي بصرا ، فاختلفت الألقاب باختلاف المواطن ، كما اختلف حكم عين الأداة ، وإن كانت بصورة واحدة حيث كانت ، تختلف باختلاف المواطن ، مثل أداة ما ، لا شك أنها عين واحدة ،

ففي موطن تكون نافية ، وفي موطن تكون تعجبا ، وفي موطن تكون مهيئة ، وفي موطن تكون اسما ، وقد تكون مصدرية ، وتأتي للاستفهام ، وتأتي زائدة ، وغير ذلك من

مواطنها ، فهذه عين واحدة حكمت عليها المواطن بأحكام مختلفة ، كذلك صور التجلي بمنزلة الأحكام لمن يعقل ما يرى ، فأبان اللّه لنا فيما ذكره في هذه الآية الذي كنا نظنه حقيقة محسوسة ، انما هي متخيلة ، يراها رأي العين ، والأمر في نفسه على خلاف ما تشهده العين ، وهذا سار في جميع القوى الجسمانية والروحانية ، ولولا الاسم الباطن ما عرفنا أن الرامي هو اللّه في صورة محمدية ، فإنه ما رمى إلا محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، وما وقع الحس إلا على رميه ، وما رمى إلا اللّه ، فأين محمد صلّى اللّه عليه وسلم وسلم ؟ محاه وأثبته ، ثم محاه ، فهو مثبت بين محوين ، كما ورد في الخبر [ كنت سمعه وبصره ] فأين الإنسانية هنا ؟ فإنه نفى عين ما أثبته لك وأثبته لنفسه ، فقال : «وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى» وما رمى إلا العبد ، فأعطاه اسمه وسماه به ، وبقي الكلام في أنه هل حلّاه به كما سماه به أم لا ؟ فإنا لا نشك أن العبد رمى ، ولا نشك أن اللّه تعالى قال : «وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى» وقد نفى الرمي عنه أولا ، فنفى عنه اسم العبودة وسماه باسمه ، إذ لا بد من مسمى ، وليس إلا وجود عين العبد ، لا من حيث هو عبد ، لكن من حيث هو عين ، فإن العبد لا يقبل اسم السيادة ، والعين كما تقبل العبودة تقبل السيادة ، فانتقل عنها الاسم الذي خلقت له وخلع عليها الاسم الذي يكون عنه التكوين ، وهو قوله تعالى : «وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى» والحق لا يباهت خلقه ، فما يقول إلا ما هو الأمر عليه في نفسه ، فقوله : «وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ» أثبت لك ما رأيت ، ودل قوله : «وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى» على أمر يستوي فيه البصير والأعمى ، فيد اللّه يد الأكوان ، وإن اختلفت الأعيان ، وهذا عهد من اللّه تعالى إلينا أن الفعل الذي يشهد به الحس أنه للعبد هو للّه تعالى لا للعبد ، فإن أضفته لنفسي فإنما أضيفه بإضافة اللّه لا بإضافتي ، فأنا أحكي وأترجم عن اللّه به وهو قوله : (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ)

فرد الفعل الذي أضافه إلى نفسه وهو حقه الذي له قبلي بهذه الإضافة ، ولكن لا بد من ميزان إلهي نرده به إليه ،

وهو قوله صلّى اللّه عليه وسلم : اعبد اللّه كأنك تراه ، فإن الوزن نعت إلهي لا ينبغي لعبد من عباد اللّه أن يغفل عنه في كل فعل ظاهر في الكون من موجود ما من الموجودات ، فلا يزال مراقبا له في غيره ، فيحكم عليه بالميزان الموضوع عنده ، وليس إلا الشرع ، وهذه الآية تشير إلى نفي الركون إلى الأسباب لا الأسباب ، فإن اللّه لا يعطل حكم الحكمة في الأشياء ، والأسباب حجب إلهية موضوعة لا ترفع ، فمن الحكمة إبقاء الأسباب ، مع محو العبد من الركون إليها على حكم نفي أثرها في المسببات ، فالأسباب ستور

وحجب ، وفي هذه الآية علم إضافة الأفعال ، هل تضاف إلى اللّه أو إلى العبد أو إلى اللّه وإلى العبد ؟ فإن وجودها محقق ، ونسبتها غير محققة ، وهذا موضوع اختلف الناس فيه ، والخلاف لا يرتفع من العالم بقولي ، فمن الناس من نسب الأفعال إلى الخلق ، ومنهم من نسب الأفعال إلى اللّه ، ومنهم من نسب الفعل إلى اللّه بوجه وإلى العباد بوجه ، فعلق المحامد والحسن بما ينسب من الأفعال للحق ، وعلق المذام والقبح بما ينسب من الأفعال للعباد لحكم الاشتراك العقلي ، وكمال الوجود توقف على وجودهما ،

قال تعالى : «وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى» فنفى الرمي عمن أثبته له ، فأثبت بهذه الآية أعيان العالم ، والفعل كله إنما يظهر صدوره من الصورة ، وهو القائل «وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى» فكان الحق عين الصورة التي تشاهد الأعمال منها ، وهذا مقام الحيرة ، فصدّق اللّه الخواص في حيرتهم بقوله هذا لأخص خلقه علما ومعرفة ، فنفى عين ما أثبت فما أثبت ؟ وما نفى ؟

فأين العامة من هذا الخطاب ، فالعلم باللّه حيرة ، والعلم بالخلق حيرة ، وقد حجر النظر في ذاته وأطلقه في خلقه ، فالهداة في النظر في خلقه لأنه الهادي وقد هدى ، والعمى في النظر في الحق فإنه قد حجر وجعله سبيل الردى ، وهذا خطاب خاطب به العقلاء ، فما زادهم إلا إيمانا بالحيرة وتسليما لحكمها ،

ولذلك قال تعالى في هذه الآية : «وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً»

فجاء بالخبرة بقوله تعالى : «وَلِيُبْلِيَ» أي قلنا هذا اختبارا للمؤمنين في إيمانهم لنا في ذلك من تناقض الأمور ، الذي يزلزل إيمان من في إيمانه نقص عما يستحقه الإيمان من مرتبة الكمال ، فإن اللّه حيّر المؤمنين ، وهو ابتلاؤه بما ذكر من نفي الرمي وإثباته ، وجعله بلاء حسنا ، أي إن نفاه العبد عنه أصاب ، وإن أثبته له أصاب ، وما بقي إلا أي الإصابتين أولى بالعبد وإن كان كله حسنا ؟

وهذا موضع الحيرة ، ولذلك سماه بلاء أي موضع اختبار ، فمن أصاب الحق وهو مراد اللّه أي الإصابتين أو أي الحكمين أراد ، حكم النفي أو حكم الإثبات كان أعظم عند اللّه من الذي لا يصيب ، لذلك قال : «إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» .


المراجع:

(17) الفتوحات ج 4 / 362 - ج 3 / 549 ، 286 - ج 4 / 33 ، 414 - ج 2 / 553 - ج 3 / 525 - ج 2 / 69 - ج 4 / 213 ، 335 ، 33 - ج 2 / 553 - ج 1 / 731 - ج 4 / 280 - ج 3 / 411 - ج 2 / 69 ، 147

 

 

البحث في التفسير


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!