أحدهما أسخطت الأخرى وكما أن السراج يطفئ منه الهواء ما لحق أي يطفئه ما لحقه من الهواء ويبقى منه نيّراً ما لم يلحق أي ما لم يلحقه الهواء وهو كناية عن غفلة العارف عن ملاحظة جناب القدس فإذا مال إلى عالم الكون انطفئ مصباح المشاهدة ووقع في تيه المكابدة وحيث لازم المراقبة دامت المشاهدة واستمر نور المصباح إلى الصباح كذلك نور المعرفة ليس يذهب ذهاباً كلياً بل جزئياً ولكن يذهب منه ما تعلق بالحق فيذهب من نور معرفته بقدر تعلقه من الخلق استغراقاً والتفاتاً وغيبة وحضوراً ويبقى منه أي من نور المعرفة ما تعلق بالخلق فمراتب العارفين مختلفة باختلاف أحوالهم من استغراقهم في حضرة المشاهدة والتفاتهم في كونهم وعالم شهادتهم وكما يفجأ النفخ للسراج بغتة فيطفئه وهذا أسوأ حالاً من مقام ميل السراج بواسطة الهواء كما لا يخفى كذلك الحضرة المستغرقة تطفئ نور المعرفة أي الحضرة المستغرقة في مقام الأحدية تطفئ نور معرفته بنفسه فضلاً عن غيره وهو المعروف بمقام الفناء في اصطلاحهم ولا يكلوه ولا يكلوا من هذه الحضرة الاستغراقية على الدوام وقد عرفته مدحاً (201/أ)

وذماً فإن بقي منه دخان أي من نور المعرفة فتلك الهمة الفاترة فيعود إليه نوره وهو جالس أي ملازم للعبادة والمشاهدة فمتى لازم المراقبة عاد إلى ذلك الدخان المبتغى نور ليس كمثله شيء فيصفى من شوائب النقص وظلمة النفس والغفلة فإن لم يبق له دخان فسيكران الغرانق الفارس وهو الذي يتقدم على الفرسان في حومة الميدان لشجاعته وبراعته وكما أن السراج إذا لم يمده الدهن طفئ لعدم استمداده بما أوجب إيقاده كذلك نور المعرفة إذا لم يمده التقوى عُدِم لأن التقوى شرط لحصول نور المعرفة كما أن الدهن شرط لإيقاد نور السراج فإذا عدم الشرط عدم المشروط وكما أن السراج إذا لم يتعلق بجسم لم يوجد له عين لأنه عرض والعرض لا يقوم بنفسه بل لابد له من محل يُقَوِّمه كذلك نور المعرفة مع الكون فيكون الكون بمنـزلة الجسم للمعرفة كما أن السراج بمنـزلة الجسم للنور ومنه " كنت كنـزاً مخفياً " وكما أن السراج لا يكون ضوئه كاشفاً إلاّ حيث الظلام أي فإن نور السراج إنما يكون كاشفاً للأعيان إذا حلّ الظلام (فح) يقوى نوره وينتفع به كذلك نور المعرفة في الأجسام (201/ب)

فإن الأجسام بمنـزلة الظلمة لنور المعرفة كما أن الظلام سبباً لظهور نور السراج وكما أن السراج لا يضيء به إلا من يليه يقابله ويقرب منه كذلك نور معرفة العارف لا يستضيء به إلا من يصطفيه ويدنيه أي من يختاره من خلقه ويقرب إليه وذلك بملازمة الآداب وموت النفوس وانسلاخها عن هذا الوجود وتجردها للمعبود وكما أن السراج لا يستضيء به من بعد لضعف المادة كذلك نور المعرفة يشهد البعيد في الأفعال أي البعيد من نور المعرفة بحسب مقامه من المعرفة قرباً وبعداً فيحصل من مقام المعرفة مشاهدة الأفعال من خلق السماوات والأرض وما فيها وهذا هو مقام معرفة أكثر الناس فيستدلّون به على الصانع القادر ويشهد القريب إليه بعروج روحانيته إلى حضرة ملائكية في وصفه العجيب في وصف ما حصل له من ذلك المقام من مشاهدة تلك الأنوار والأسرار ممّا تكل الألسن عن صفاته وتعجز الأفكار عن مشاهدته وكما أن من حصل فيه نور السراج يَقِد منه أي يستوقد منه على سبيل التولد والتعاقب أهل الأرض جميعاً واحداً بعد واحدٍ