موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر

وهو منتخب من كتاب لواقح الأنوار القدسية المختصر من الفتوحات المكية

تأليف الشيخ عبد الوهاب الشعراني

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


المبحث السابع والثلاثون: في بيان وجوب الإذعان والطاعة لكل ما جاء به صلى اللّه عليه وسلم من الأحكام وعدم الاعتراض على شيء منه

اعلم أنه يجب على كل مؤمن أن ينشرح لكل ما شرعه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيم شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً(65) [النساء: 65] . وقد ذكر الشيخ محيي الدين أواخر الحج من "الفتوحات" ما نصه: إياك أن ترى أمورا قد أباحها الشارع صلى اللّه عليه وسلم، فتكره ذلك ويقع في نفسك من فعلها حزازة وتقول: لو أن الحكم لي فيه لحجرتها وحرمتها على الناس فترجح نظرك في ذلك على نظر الشارع وتجعل نفسك أرجح ميزانا منه وتنخرط في سلك الجاهلين. قال: وهذا واقع كثيرا من بعض الناس الذين لم يمارسوا الأدب مع الشارع صلى اللّه عليه وسلم، فيغضب على الناس إذا فعلوا بعض المباحات التي أباحها الشارع ويقول: إذا عجز عن كف الناس عنها أي شيء أصنع ؟ هذ قد أباحه الشارع ومن يقدر يتكلم فتراه يصير على حنق وكره في نفسه استعمال الناس شرع ربهم هذا من أعظم ما يكون من سوء الأدب وصاحبه ممن أضله اللّه على علم قال: وقد ظهر ذلك من بعض الناس في العصر الأول وأما اليوم فقد فشا في غالب الناس ويقولون: لو أدرك ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، لمنع الناس منه ونحن نعلم أن الشارع هو اللّه تعالى ، ولا يعزب عن علمه شيء ولو كانت إباحة ذلك الأمر خاصة بقوم دون آخرين لبينها تعالى على لسان رسوله صلى اللّه عليه وسلم، فإنه صلى اللّه عليه وسلم، مبلغ عن اللّه أحكامه فيما أراده اللّه تعالى لا ينطق قط عن هوى نفسه ولا ينسى شيئا مما أمره بتبليغهإِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النجم: 4] .وَم كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مريم: 64] وما قرر تعالى من الشرائع إلا ما تقع به المصلحة في العالم فلا يزاد فيه ول ينقص منه ومهما زيد فيه أو نقص منه أو لم يعمل بما قرره الشارع فقد اختل نظام المصلحة المقصودة للشارع فيما نزله وقرره من الأحكام وقد عاب بعض أكابر الصحابة على عائشة رضي اللّه تعالى عنها، في قولها:

" لو رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ما صنع النساء بعده لمنعهن من المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل ". لايهام هذا القول الاعتراض على الشارع وأنه لم يعلم أن ذلك يقع من الناس، وأطال الشيخ محيي الدين في ذلك ثم قال: فعلم أن من سلك كمال الأدب لا يجد قط في نفسه حرجا مما قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، " لا تمنعوا إماء اللّه مساجد اللّه " قولا عاما اللهم إلا أن يحصل من ذلك ريبة ظاهرة فلا منع من المنع وأما على الظن والتوهم فلا، فالعاقل لا ينبغي له أن يغار إلا في مواطن مخصوصة شرعها الحق تعالى له لا يتعداها وكل غيرة تعدت ذلك فهي خارجة عن حكم العقل منبعثة عن حكم الهوى فليس لإنسان أن يغار على كشف زوجته وجهها في الإحرام فإن اللّه تعالى قد شرع لها ذلك وأوجب عليها كشفه مع أن اللّه تعالى أغير من جميع خلقه كما في " الصحيح ": إن سعدا لغيور وأنا أغير من سعد واللّه أغير مني. ومن غيرته أنه تعالى حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن فمن زاد على ما جعل الحق تعالى غيرته فيه من الفواحش فكأنه ادّعى أنه أغير من اللّه تعالى لكونه غار على أمر ليس هو بفاحشة عند اللّه تعالى وما أحسن قوله تعالى: ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّ قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء: 65] ولو عرض الإنسان حال إيمانه وأدخله في هذا الميزان لعلم أنه بعيد عن مقام الإيمان الذي ذكره اللّه تعالى في قوله: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ [النساء: 65] إلى آخره. فإن اللّه تعالى نفى الإيمان عمن هذه صفته وأقسم بنفسه عليه أنه ليس بمؤمن وأطال الشيخ في ذلك ثم قال: ولولا تعلق الأغراض النفسانية ما نزلت آية الحجاب فإنها إنما نزلت باستدعاء بعض النفوس وأهل اللّه عز وجل يفرقون بين الحكم الإلهي إذا نزل ابتداء من اللّه وبين الحكم الإلهي إذا نزل مطلوبا لبعض العباد وكأنه تعالى سئل في تنزيله فأجاب السائل إذ لولا ذلك ما نزل، وفي البخاري عن محمد بن كعب القرظي التابعي الجليل أنه كان يقول: إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم على المسلمين من أجل مسألته، وكان صلى اللّه عليه وسلم يخاف على أمته من كثرة تنزل الأحكام لئلا يعجزوا عنها، كما قال لمن سأله عن الحج أكل عام يا رسول اللّه. قال: " لا ولو قلت نعم لوجبت ولم يستطيعوا " وأطال في ذم السؤال. ثم قال: فعلم أن من كمال العارف أن يعتني بالأمر المنزل ابتداء أشد من اعتنائه بما نزل بسؤال فاللّه تعالى يفهمنا مقاصد الشرع حتى لا نخرج عنه وما رجح أحد بهواه شيئا سكت الشارع عن بيان كخطبة العيد فإن الشارع فعلها ولم يخبرنا بكونها واجبة أو مندوبة فخلاص العبد من اتباع الهوى أن يفعله على وجه التأسي به صلى اللّه عليه وسلم، بقطع النظر عن كونها واجبة أو مندوبة.

(وسمعت): سيدي عليا الخواص رحمه اللّه يقول: ما من عالم يأمر الناس بفعل شيء لم يصرح الشارع بالأمر به إلا تمنى يوم القيامة أنه لم يكن رجح شيئا ثم إن المرجحين بأهويتهم خلاف ما رجح الشارع رجلان: الواحد يغلب جانب الحرمة والثاني يغلب رفع الحرج عن هذه الأمة رجوعا إلى الأصل فهذا عند اللّه أقرب منزلة من الذي يغلب الحرمة إذ الحرمة أمر عارض عرض للأصل ورافع الحرج دائر مع الأصل وإليه يعود حال الناس في الجنان يتبوءون من الجنة حيث شاءوا وما أغفل أهل الأهواء وإن كانو المؤمنين عن هذه المسألة وسيندمون إذا انكشف الحجاب. فإياك يا أخي وهوس الطبيعة فإن العبد فيه ممكور به من حيث لا يشعر قال الشيخ:

وكم قاسينا في هذا الباب من المحجوبين حيث غلبت أهواؤهم على عقولهم فأنا آخذ بحجزهم عن النار وهم يقتحمون فيها وقد دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، بعض الصحابة إلى طعامه فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم: وهذه وأشار إلى عائشة رضي اللّه تعالى عنها، فقال الرجل: لا. فأبى أن يجيبه إلى أن أنعم له فيها أن تأتي معه فأقبلا يتدافعان يعني النبي صلى اللّه عليه وسلم، وعائشة إلى منزل ذلك الرجل واللّه تعالى يقول: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21] . فأين إيمانك اليوم لو رأيت صاحب منصب من قاض أو خطيب أو وزير أو سلطان يفعل مثل هذا تأسيا برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، هل كنت تنسبه إلا إلى سفساف الأخلاق ولو أن هذه الصفة لم تكن من مكارم الأخلاق ما فعلها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فإنه بعث ليتمم مكارم الأخلاق ونظير هذه الواقعة نزوله صلى اللّه عليه وسلم، من فوق المنبر وهو يخطب حتى أخذ الحسن والحسين وصعد بهما المنبر لما رآهما يعثران في أذيالهما ثم عاد إلى خطبته أترى ذلك كان من نقص حال ؟ لا واللّه بل كان من كمال معرفته بربه عز وجل لأن ذلك من الشغل باللّه لا عن اللّه وقد عاب العارفون على الشبلي لما سمع قارئا يقرأ: إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ [يس: 55] .

فقال: إنه شغلهم بالجنة عنه تعالى اللهم لا تجعلني منهم. وقالوا: للشبلي إن اللّه تعالى قد ذكر الشغل عن أصحاب الجنة وأنهم هم وأزواجهم في ذلك الشغل وما عرفنا تعالى بمن تفكهوا هم وأزواجهم فبماذا يحكم الشبلي عليهم بأنهم اشتغلوا بذلك عن اللّه عز وجل. قال الشيخ محيي الدين: وقد عدوا هذا من قصور نظر الشبلي حيث جرح أهل الجنة ببادىء الرأي ولعل ذلك كان في بدايته وأطال في ذلك ثم قال: فعليك يا أخي بالغيرة الإيمانية الشرعية ولا تزد عليها فتشقى في الدني والآخرة، أما في الدنيا فلا تزال متعوب النفس فيما لا ينبغي الاعتراض عليه وأم في الآخرة فلأنه يؤدي إلى سؤال الحق تعالى لك عن ذلك وعما ينسحب عليه ومعه من الاعتراض بالحال على اللّه تعالى في أحكامه وحصول الكراهية في النفس مما أباحه اللّه تعالى انتهى. وقال أيضا في الكلام على صلاة العيدين من الباب الثامن والستين: اعلم أن اللّه تعالى قد شرع الزينة والشغل بأحوال النفوس من أكل وشرب وبعال في يوم العيد، فمن أدب المؤمن أن لا يشتغل في هذا اليوم إلا بما ذكره الشارع فجميع ما يفعله العبد من المباحات فيه يشبه سنن الصلاة في الصلاة وجميع ما يفعله فيه من النوافل في ذلك اليوم يشبه الأركان في الصلاة فلا يزال العبد في يوم العيدين في أفعال تشبه أفعال المصلي ولهذا سمي بيوم العيد أي: لأنه يعود على العبد بالأجر في كل مباح يفعله وهذا أحسن من قول بعضهم: إنما سمي عيدا لعود السرور فيه كل سنة فإنه ربما انتقض بالصلوات الخمس فإنها تعود بالسرور كل يوم لوقوف العبد فيها بين يدي اللّه، ولا يقال: فيها عيد.

(فإن قلت): إن العيد مرتبط بالزينة قلنا: والزينة مشروعة في كل صلاة. قال تعالى: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف: 31] . وأيض فإن الصوم في يوم العيد حرام فصار الفطر فيه عبادة مفروضة بعد أن كان مباحا ثم لم كان يوم العيد يوم فرح وسرور وزينة واستيلاء للنفوس على طلب حظوظها من الشهوات أبدلها الشارع في ذلك تحريم الصوم فيه وشرع للناس فيه إباحة اللعب والزينة وأقر الحبشة على لعبهم في المسجد يوم العيد ووقف صلى اللّه عليه وسلم، هو وعائشة ينظران إلى لعبهم وعائشة خلفه. وفي هذا اليوم أيضا دخل بيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مغنيتان فغنتا في بيته صلى اللّه عليه وسلم، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، يسمع ولما أراد أبو بكر أن يمنعهما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دعهما يا أبا بكر فإنه يوم عيد وأطال الشيخ في ذلك ثم قال: ولما كان هذا اليوم يوم حظوظ النفوس شرع أيضا تكرار التكبير في الصلاة ليتمكن من قلوب الناس ما ينبغي للحق تعالى من الكبرياء والعظمة لئلا يشغلهم حظوظ نفوسهم عن كمال مراعاة حقه جل وعلا. قال: وبما قررنا يعرف حكمة ترك التنفل قبل صلاة العيد إذ المقصود في هذا اليوم فعل ما كان مباحا على جهة الندب خلاف ما كان عليه ذلك الفعل في سائر الأيام فلا يتنفل في ذلك اليوم سوى بصلاة العيد خاصة لأن الحكم إذا كان مربوط بوقت، غلب على ما لم يكن مربوطا بوقت وأيضا فإنه إنما ندب اللعب والفرح والزينة في هذا اليوم تذكيرا بسرور أهل الجنة ونعيمهم فلا يدخل مع ذلك مندوب آخر يعارضه ثم إذا زال زمان ذلك الحكم المربوط فحينئذ يبادر العبد إلى سائر المندوبات ويرجع ما كان مندوبا إليه في ذلك اليوم مباحا فيما عداه من الأيام وهذا كله فعل الحكيم العادل في القضايا فإن لنفسك عليك حقا، واللهو واللعب والطرب في هذا اليوم من حق النفس فلا تكن يا أخي ظالما لنفسك وأعطها حقها انتهى.

(فإن قلت): فهل يلحق بالسنة الصحيحة في وجوب الإذعان لها ما ابتدعه المسلمون من البدع الحسنة ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب الثاني والستين ومائتين: إنه يندب الإذعان لها ولا يجب كما أشار إليه قوله تعالى: وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوه ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ [الحديد: 27] وكما أشار إليها قوله صلى اللّه عليه وسلم: " من سن سنة حسنة، فقد أجاز لنا ابتداع كل ما كان حسنا وجعل فيه الأجر لمن ابتدعه ولمن عمل به ما لم يشق ذلك على الناس " وأخبر أن العابد للّه تعالى بم يعطيه نظره إذا لم يكن على شرع من اللّه تعالى معين يحشر أمة وحده يعني: بغير إمام يتبعه فجعله خيرا وألحقه بالأخيار كما قال في حكيم بن حزام أسلمت على ما أسلفت من خير وكان سأله عن أمور تبرر بها في الجاهلية من عتق وصلة رحم وكرم وأمثال ذلك وقال أيضا في حق إبراهيم عليه الصلاة والسلام إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ [النحل: 120] وذلك قبل أن يوحى إليه وفي الحديث: " بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " فمن كان على مكارم الأخلاق فهو على شرع من ربه وإن لم يعلم هو ذلك واللّه أعلم. (فإن قلت): فما المراد بحقيقة قوله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7] ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب الثالث وأربعين وخمسمائة: أن المراد به بيان ما جاء من الوحي على لسان الرسول وما جاء منه تعالى إلى عباده ولكل من الحالتين ميزان يخصه فما جاءنا على أيدي الرسل وجب علينا أخذه بغير ميزان وم جاءنا من غير واسطة بيننا وبين اللّه تعالى أعني من الوجه الخاص بطريق الإلهام وجب علينا أخذه بالميزان فإن اللّه تعالى قد نهى أن نأخذ منه كل عطاء وهو قوله تعالى: وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7] فصار أخذك من الرسول أنفع لك وأحصل لسعادتك لعصمته. فعلم أن أخذك من الرسول واجب على الإطلاق وأخذك من اللّه بطريق الإلهام واجب على التقييد لعدم عصمتك فيما أخذته بغير واسطة فانظر ما أعجب هذا الأمر ما تأخذه من الرسول مطلق مع أن الرسول مقيد وما تأخذه من اللّه تعالى مقيد مع أنه تعالى مطلق فإن في هذا ظهور الإطلاق والتقييد في الجانبين وإيضاح ذلك أن تعلم أن اللّه تعالى ما أرسل رسوله ليمكر بنا وإنما أرسله ليبين لنا ما نزل إلينا فلهذا أطلق لنا الأخذ عن الرسول والوقوف عند قوله: من غير تقييد فنحن آمنون فيه من مكر اللّه عز وجل بخلاف الأخذ من الوجه الذي بيننا وبين اللّه تعالى من طريق الإلهام ليس أحد على أمان من المكر فيه، فربما مكر الحق تعالى بالعبد من حيث لا يشعر فإن له تعالى في عباده مكرا خفيا قال تعالى: وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل: 50] . وقال: وهو خير الماكرين ولم يبح للرسل هذه الصفة ولم يجعل لهم فيها قدما لأنهم بعثوا مبينين فبشروا وأنذروا وكل ذلك صدق، وأعطى رسوله الميزان الموضوع فمن أراد السلامة فلا يضع ذلك الميزان من يده فكل ما جاءه من عند اللّه من غير واسطة وضعه في ذلك الميزان فإن قبله أخذه وعمل به وإن لم يقبله أهمله للّه تعالى ومن عزم على الأخذ عن اللّه ولا بد فليقل لا خلابة فإذا قال ذلك فإن كان من عند اللّه ثبت وأخذه وإن كان مكرا من اللّه ذهب من بين يديه بإرادة اللّه فلم يجده عند قوله: لا خلابة إذ الأمر كالبيع والشراء وإن كان الحق تعالى لا يدخل تحت الشرط هذا يقتضيه مقام الحق تعالى بالذوق وإنما يشترط على اللّه تعالى من يجهل اللّه أو يدل عليه حين ظن به خيرا كما في حديث فليظن بي خيرا وأطال الشيخ في ذلك بكلام نفيس.

* - وقال في الباب الثامن والأربعين أيضا في قوله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7] . أي: لأني جعلت له أن يأمر وينهى زائدا على تبليغ صريح أمرنا ونهينا إلى عبادنا. وقال فيه أيضا في قوله تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء: 59] اعلم أنه إنم لم يكتف بقوله: أَطِيعُوا اللَّهَ [النساء: 59] . عن قوله: وَأَطِيعُو الرَّسُولَ [النساء: 59] . مع أنه تعالى قال: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء: 80] . لأنه تعالى ليس كمثله شيء فلذلك استأنف القول وصرح بقوله: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النساء: 59] بخلاف طاعة أولي الأمر لم يستأنف فيها بقوله:

وأطيعوا أولي الأمر منكم. فهم لا تشريع لهم إنما هو بحكم التبع للشارع وأطال في ذلك.

* - وقال في باب أسرار الصلاة: يجب على العبد إذا وعظه ولي الأمر بما لم يعمل هو به أن ينقاد لأمره ويعمل ولا يقل لا أعمل بذلك حتى تعمل أنت به إذ لا يشترط في الداعي أن يكون عاملا بكل ما يدعو إليه فقد يدعو بما ليس هو عليه في حاله وهو خير من ترك الدعاء على كل حال.

(فإن قلت): فما الحكمة في سلام المؤمنين على النبي صلى اللّه عليه وسلم، في الصلاة مع أنه آمن منه صلى اللّه عليه وسلم، والسلام إنما هو أمان ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب الثالث والسبعين: أن الحكمة في ذلك للمؤمنين هو أن مقام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يعطي الاعتراض عليهم ولو بالباطن لأمرهم الناس بما يخالف أهواءهم كما أن مقامهم يعطي التسليم لهم أيض فلذلك شرع لنا أن نسلم على نبينا صلى اللّه عليه وسلم، كأنا نقول له: أنت ي رسول اللّه في أمان منا أن نعترض عليك في شيء أمرتنا به أو نهيتنا عنه انتهى.

(فإن قلت): فما المراد بقوله تعالى: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ [الأنفال: 24] ولم يكتف تعالى بقوله: (استجيبوا للرسول) إذ الشرع ما عرفناه إلا منه ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب التاسع عشر وخمسمائة: أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم، يدعونا من طريقين فإن دعانا بالقرآن فهو مبلغ وترجمان وهو حينئذ من دعاء اللّه تعالى لا من دعاء الرسول فإجابتنا حقيقة إنما هي للّه وللرسول الإسماع وإن دعانا بغير القرآن فالدعاء حينئذ دعاء الرسول فكانت إجابتنا للرسول وإن كان لا فرق بين الإجابتين ولا بين الدعاءين وفي الحديث إني شرعت لكم مثل القرآن أو أكثر. رواه الطبراني وغيره. فإذن علة إجابة الرسل هو السماع لا من قال: إنه سمع ولم يسمع كما ذكره الشيخ في الباب العشرين وخمسمائة: إذ السمع هو عين العقل لما أدركته الأذن بسمعها من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، الذي لا ينطق عن الهوى فإذا علم ما سمع كان بحسب ما علم فإن العلم حاكم قاهر في حكمه لا بد من ذلك وإن لم يكن كذلك فليس بعلم ولذلك لم يقدر أحد يعصي اللّه تعالى وهو يعتقد مؤاخذته على تلك المعصية أبدا انتهى.

(فإن قلت): فهل تخلف أحد عن الإذعان لما جاء به الشارع غير الإنس والجن ممن بعث إليهم من الملائكة والحيوانات والجمادات والأشجار على ما مر في مبحث عموم بعثته أم التخلف خاص بالإنس والجن ؟

(فالجواب): لم يتخلف أحد من سائر من بعث إليهم صلى اللّه عليه وسلم، سوى من تخلف من الجن والإنس وقد قال الشيخ في الباب التاسع والأربعين في قوله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(56) [الذاريات: 56] . إن اللّه تعالى لم يخص بالذلة التي هي العبودية أحدا غير الثقلين مع أنهم لم يكونوا حين خلقهم أذلاء وإنما خلقهم ليذلوا في المستقبل وأما ما سوى الثقلين فإنه خلقهم أذلاء من أصل نشأتهم ولذلك لم يقع من أحد من خلق اللّه تكبر على الرسول إلا الثقلين.

(فإن قلت): فما سبب تكبر الثقلين على الرسل دون غيرهما ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ في الباب المذكور آنفا أن سبب تكبرهم كون التوجه على إيجادهم من الأسماء: أسماء اللطيف والحنان والرحمة والشفقة والتنزل الإلهي فلما أبرزهم الحق تعالى إلى هذا الوجود لم يروا عظمة ولا عزا لغيرهم ول كبرياء ورأوا نفوسهم قد استندت في وجودها إلى لطف وعطف لكون أن الحق تعالى لم يبدلهم شيئا من عظمته ولا كبريائه ولا جلاله ولا جبروته حين أخرجهم إلى الدني فقالوا: ربنا لم خلقتنا فقال تعالى لهم: لتعبدوني. أي لتكونوا أذلاء بين يدي فلم يروا صفة قهر ولا عزة تذلهم ورأوا الحق تعالى قد أضاف فعل الإذلال إليهم فتكبروا لذلك ولو أنه تعالى قال لهم: ما خلقتكم إلا لإذلالكم. لرأوا الذلة من نفوسهم خوفا من سطوة هذه الكلمة وقهره كما قال تعالى للسماوات والأرضائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْن طائِعِينَ [فصلت: 11] لأجل قوله: أَوْ كَرْهاً [فصلت: 11] فافهم. قال:

وأما سبب عدم تكبر غير الثقلين فلأن المتوجه على إيجادهم من الأسماء الإلهية أسماء الجبروت والكبرياء والعظمة والعزة والقهر. فلذلك خرجوا أذلاء تحت هذا القهر الإلهي فلم يتمكن لأحد منهم أن يرفع رأسه على أحد من خلق اللّه تعالى فضلا عن رسل اللّه ولا أن يجد في نفسه طعما للكبرياء على أحد من خلق اللّه تعالى انتهى. فتأمله فإنه نفيس لا تجده في كتاب واللّه تعالى أعلم.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!