موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

الذخائر والأعلاق في شرح ترجمان الأشواق

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

تحقيق الدكتور محمد حاج يوسف

وهنا قصائد ترجمان الأشواق دون شرح

 

 


25- القصيدة الخامسة والعشرين وهي عشرون بيتاً من البحر الرجز

وقال رضي الله عنه:

1

وَاحَرَبَا مِنْ كَبِدِي، وَاحَربَا،

***

وَاطَرَبَا مِنْ خَلَدِي، وَاطَرَبَ

2

فِي كَبِدِي نَارُ جَوىً مُحرِقَةٌ

***

فِي خَلَدِي بَدْرُ دُجىً قَدْ غَرَبَ

3

يَا مِسْكُ، يَا بَدْرُ، وَيَا غُصْنَ نَقَا،

***

مَا أَوْرَقَا، مَا أَنْوَرَا، مَا أَطْيَبَ

4

يَا مَبْسِماً أَحْبَبْتُ مِنْهُ الحَبَبَا،

***

وَيَا رُضَاباً ذُقْتُ مِنْهُ الضَّـرَبَ

5

يَا قَمَراً فِي شَفَقٍ مِنْ خَفَرٍ

***

فِي خَدِّهِ لَاحَ لَنَا مُنْتَقِبَ

6

لَوْ أَنَّهُ يُسْفِرُ عَنْ بُرْقُعِهِ

***

كَانَ عَذَاباً، فَلِهٰذَا احْتَجَبَ

7

شَمْسُ ضُحىً فِي فَلَكٍ طَالِعَةٌ،

***

غُصْنُ نَقاً فِي رَوْضَةٍ قَدْ نُصِبَ

8

ظَلْتُ لَهَا مِنْ حَذَرٍ مُرْتَقِباً

***

وَالْغُصْنَ أَسْقِيهِ سَمَاءً صَيِّبَ

9

إِنْ طَلَعَتْ كَانَتْ لِعَيْنِي عَجَباً

***

أو غَرَبَتْ كَانَتْ لِحَيْنِي سَبَبَ

10

مُذْ عَقَدَ الْحُسْنُ عَلَى مَفْرِقِهَ

***

تَاجاً مِنَ التِّبْرِ عَشِقْتُ الذَّهَبَ

11

لَوْ أَنَّ إْبْلِيسَ رَأَى مِنْ آدَمٍ

***

نُورَ مُحيَّاهَا عَلَيْهِ مَا أَبَى

12

لَوْ أَنَّ إِدْرِيسَ رَأَى مَا رَقَمَ الْ

***

ـحُسْنُ بَخَدَّيْهَا إَذاً مَا كَتَبَ

13

لَوْ أَنَّ بِلْقيسَ رَأَتْ رَفْرَفَهَ

***

مَا خَطَرَ الْعَرْشُ وَلَا الصَّـرْحُ بِبَ

14

يَا سَرْحَةَ الْوَادِي وَيَا بَانَ الْغَضَ

***

أَهْدُوا لَنَا مِنْ نَشْـرِكُمْ مَعَ الصَّبَ

15

مُمَسَّكاً يَفُوحُ رَيَّاهُ لَنَ

***

مِنْ زَهْرِ أَهْضَامِكِ أو زَهْرِ الرُّبَ

16

يَا بَانَةَ الْوَادِي أَرِينَا فَنَناً

***

فِي لِينِ أَعْطَافٍ لَهَا أو قُضُبَ

17

رِيحُ صَباً تُخْبِرُ عَنْ عَصْـرِ صِبَ

***

بِحَاجِرٍ أو بِمِنىً أو بِقُبَ

18

أو بِالْنَّقَا، فَالمُنْحَنَى عِنْدَ الْحِمَى

***

أو لَعْلَعٍ حَيْثُ مَرَاتِعُ الظِّبَ

19

لَا عَجَبٌ لَا عَجَبٌ لَا عَجَبَ

***

مِنْ عَرَبِيٍّ يَتَهَاوَى الْعُرُبَ

20

يَفْنَى إِذَا مَا صَدَحَتْ قُمْرِيَّةٌ

***

بِذِكْرِ مَنْ يهْوَاهُ فِيهِ طَرَبَ

شرح البيتين الأول والثاني:

1

وَاحَرَبَا مِنْ كَبِدِي، وَاحَربَا،

***

وَاطَرَبَا مِنْ خَلَدِي، وَاطَرَبَ

2

فِي كَبِدِي نَارُ جَوىً مُحرِقَةٌ

***

فِي خَلَدِي بَدْرُ دُجىً قَدْ غَرَبَ

لَمَّا كان الخَلَدُ محلُّ شاهد الحق القائم به، قال: "وا طربا"، لسروره بمشاهدته، وبيَّن البيتُ الثاني ذلك لأنه مفسِّرٌ له فقال: "في كبدي نار جوى محرقة"، يشير به إلى الاصطلام، والحرب الذي يشكو منه هو خوف التلف على نفسه بفساد هذا الهيكل الذي بواسطته اكتسب العلوم الإلهية، وإن كان أكثر النفوس تطلب التجرد منه والالتحاق بعالمها البسيط، ولكن عند المحققين إنما تطلب التجرد عنه حالا وفناء لانفصال علاقة لما لها بوجوده من المزيد فيما هي سبيله. فلهذا شكا الحرب.

وقوله: "في خلدي بدرُ دجى"، الدجى إشارة إلى الغيب فإنه الليل، وهو محل الستر، والغيب ستر. وقوله: "قد غربا"، رجَّح جانب الستر على جانب الكشف، أي غرب عن عالم الحس وطلع في الخلد بدرا، يريد كامل النور، إشارة إلى قوله عليه الصلاة والسلام: «تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ (صَحْوًا لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ)» [مسلم: 183]، صفة كمالية.

شرح البيت الثالث:

3

يَا مِسْكُ، يَا بَدْرُ، وَيَا غُصْنَ نَقَا،

***

مَا أَوْرَقَا، مَا أَنْوَرَا، مَا أَطْيَبَ

سمَّاها "مِسكاً" لِما تعطيه من الأنفاس الرحمانية اليمنية [كنز العمال: 33951، وانظر هذا الحديث في شرح البيت الثاني عشر من القصيدة الثانية]، لإظهار العلوم الإلهيةالمحمدية، وسماها "بدراً" لِما توصف به من الكمال، وما يُنسب إليها مما لا يليق به في اعتقاد من خالف اعتقاده العلم بما يليق بها من التنزيه والتقديس،بمنزلة الكسوف والنقص الذي يطرأ على البدور، وذلك راجع إلى شاهد الحق في قلب كلِّ أحدٍ بحسب ما هو الشاهد عليه لاقتضاء دليله واعتقاده أو إلهامه، وليس الاستمداد الذي فيه من النور الشمسي لمصالح الكون، فشاهِد الحق في قلب العبد مستمِدٌّ من النور الإلهي الذاتي. وسماه أيضا بدراً لكونها مرآة لمن تجلى فيها، وهو من باب ظهور الحقِّ في الخلق، وبالعكس أيضا (أي ظهور الخلق في الحق).

وسماها "غصن نقا" للصفة القيومية التي لها، وأضافالقيومية منها إلى النقا، الذي هو كدس الرمل،وهو المعنى الذي أظهر فيه هذه الصفة القيومية فظهرت فيه، وبما فيه من العلووالنشوزعلى الأرض لِما فيه من التنزيه عن مراتب الكون، وبما يطرأ على النقا من ذهاب الرياح به عند هبوبها هو ما تعارضه هذه العلوم الرملية من الأهواء النفسانية في أوقات ما، وتلك أوقات الغفلات، مثلا كمن يعلم قطعا أنّ الله هو الرزَّاق وأنه وقد سبق علمه بأن ما هو لك ليس لغيرك، فتأتي الأهواء النفسانية بالخواطر الطبيعية فتحول بينك وبين هذا العلم، فتضطرب عند الفقد وتسعى في طلب ما قد فرغ لك منه، فهذا هو ذلك.

وقوله: "ما أروقا"، يريد ما يَلبِسُه غصن القيومية من الأسماء الإلهية التي بها تجمُّله في قلوب العباد، كما أنّ الأوراق ملابس الأغصان. وقوله: "م أنورا"، يريد البدر، من قوله (تعالى): ﴿اللهُ نُورُ اَلسَّمَاوَاتِ واَلْأَرْضِ﴾ [النور: 35] والمثلُ المثل. وقوله: "ما أطيبا"، يريد المسك، وهو ما تعطيه الأنفاس التي ذكرناها من المعارف والأخلاق الإلهية لهذا العبد المتصف بها.

شرح البيت الرابع:

4

يَا مَبْسِماً أَحْبَبْتُ مِنْهُ الحَبَبَا،

***

وَيَا رُضَاباً ذُقْتُ مِنْهُ الضَّـرَبَ

يشير إلى ما أراد عليه السلام بقوله: «إِنَّ اللهَ يَضْحَكُ» حتى قالت العرب: «لا عَدِمْنَا الْخَيْرَ مِنْ رَبٍّ يَضْحَكُ» [كنز العمال: 1685]. وشبه المبسم بالحَبَب، وهو ما يطفو على وجه الماء،وهو راجع إلى ريح، والماء سر الحياة فهو ما يظهر على الحياة الإلهية من العلوم الرحمانية عند هبوب الأنفاس، كما قال تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ [الأنعام: 122]، يريد (أحييناه) بالعلممن الجهل، وقوله (تعالى): ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ اَلْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ [الأنبياء: 30]، فهذا ذلك.

وقوله: "ورضابا"، يشير إلى العلوم الفهوانيةوالمناجاة والكلام والحديث والسَّمَر، ولكن من العلوم التي تعقب اللذة في قلب من قامت به، فإنه ما كل علم يكون عنه لذة. و"الضَّرَب" هو العسل الأبيض، فشبَّهَ الرُّضاب به للحلاوة والبياض، كما شبَّهَ (الله تعالى) النورَ الإلهي بنور المصباح (كما ورد في سورة النور، آية 35)، وإن بعدت المناسبة ولكناللسان العربي يُعطي التفهُّم بأدنى شيءٍ من متعلقات التشبيه.

شرح البيت الخامس:

5

يَا قَمَراً فِي شَفَقٍ مِنْ خَفَرٍ

***

فِي خَدِّهِ لَاحَ لَنَا مُنْتَقِبَ

شبَّهَه بالقمر، وهي حالة بين البدر والهلال، فهو مشهد برزخي مثالي صوري يضبطهالخيال، والشفق هنا الحمرة من أجل الخَفَر، الذي هو الحياء، والحياء يعطي الحمرة في الخدود، والله حيِيّ، كما أخبر عليه السلام [كنز العمال: 26606]، ولما كانت حمرة الخفر في الوجنةلذلك ذكر الخدَّ دون غيره.

وقوله: "لاح لنا منتقبا"، الإشارة إلى ما أشار عليه السلام بالحجب الإلهية النورانية الظلمانية، وسيأتي في البيت الثاني (من هذا البيت، أي البيت التالي) معنى ما ذكرناه.

شرح البيت السادس:

ثم قال:

6

لَوْ أَنَّهُ يُسْفِرُ عَنْ بُرْقُعِهِ

***

كَانَ عَذَاباً، فَلِهٰذَا احْتَجَبَ

الإشارة بـ"الإسفار" و"العذاب" و"الحجاب"، للإشارة إلى قوله عليه السلام: «إِنَّ للّهِ سَبْعِينَ أَلْفَ حِجَابٍ مِنْ نُورٍ وَظُلْمَةٍ لَوْ كَشَفَهَ أَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ (مِنْ خَلْقِهِ)» [القصيدة الثانية: البيت السادس]. وهو مشهد عظيم نزيه لا يُبقى أثراً ولا عيناً ولا كوناً، فما احتجب إلا رحمة بنا، لبقاء أعياننا، فإنه في بقاء عين الكون ظهور الحضرة الإلهية وأسماؤها الحسنى، وهو جمال الكون، فلو ذهب (الكون) لم تُعلم (الحضرة الإلهية وأسماؤها)، فبالرسوم والجسوم انتشرت العلوم، وتميزت الفهوم، وظهر الاسم الحيُّ القيوم، فسبحان من أرسل رحمته عامة على خلقه وكونه، لشهود صفته وعينه.

شرح البيت السابع:

7

شَمْسُ ضُحىً فِي فَلَكٍ طَالِعَةٌ،

***

غُصْنُ نَقاً فِي رَوْضَةٍ قَدْ نُصِبَ

قول: "شمس ضحى": يريد وضوح التجلي عند الرؤية، و"الفلك": عبارة عن الصورة التي يقع بها التجلي، وهي تختلف باختلاف المعتَقَدات والمعارف، وهي حضرة التبدُّل والتحوُّل في الصُّوَر، وهذه القوة الإلهية والصفة الربانية تظهر أعلامُها لأهل الجنان في سوق الجنة، الذي لا بيع فيه ولا شراء، وقد يصل إلى هذا المقام هنا بعض العارفين؛ كقضيب البانوغيره (ممن كان لهم التبدُّل) في الصورة الحسية، وأما في الصورة الباطنة فهي أحوال الخلق كافة (ولكنها خفية عن العيان، انظر الباب 47 من الفتوحات المكية [ج1ص255]). وأراد بـ"طلوعها": ظهورها لعين المشاهِد.

وقوله "غصن نقا": فهي الصفة القيومية، "في روضة": يريد روضة الأسماء الإلهية، لا روضة العلوم. وقوله "قد نصبا": إشارة إلى التخلُّق بهذه الصفة (القيومية)، خلافا لابن جنيد (القبرفيقي) وغيره ممن يمنع التخلق بها [راجع شرح البيت الرابع في القصيدة الرابعة والعشرين]، وأجمعنا على التحقق إلاّ أني أمنع إدراك التحقُّق بالشيء إذا امتنع التخلُّق به، إذِ التخلُّق بالشيء هو الدليل الموصل إلى التحقُّق به، وما لا يُتَخَلَّق به فلا يُتَحَقَّق به أصلا، إذ لا ذوق يدركه، لكن قد يعلم علم علامة أو إشارة لا علم ذوق وحال.

وقوله: "قد نُصبا"، كأنه يُفهم منه أنّ نَصبه أثَّرَ فيه، وليس كذلك، وإنما كشْفُنا هذا الرأي له في هذه الروضة، بعد أن لَم يكن له كاشفا (قبل هذا)، هو نصبٌ في حقه، كما قال تعالى: ﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ﴾ [الأنبياء: 2]، يعني (محدث) عندهم لا في نفس الأمر، كما يحدث الآن خبرٌ عندنا من الملِك، وكان قد تكلَّمَ به منذ شهرٍ (أمام حاشيته) مثلاً، فحدوثه الآن عندنا لا في نفس الأمر.

شرح البيت الثامن:

8

ظَلْتُ لَهَا مِنْ حَذَرٍ مُرْتَقِباً

***

وَالْغُصْنَ أَسْقِيهِ سَمَاءً صَيِّبَ

يقول: لما كانت عزيزة المنال، لا تتقيد بالمثال، خِفت من الحجاب بالمثال من الالتفات الغرضي النفسي، فصرت أشهدها في كلِّ شيء، وقبل كلِّ شيء، من حيث تعلُّقِ ذلك الشيء بها، في ثبوته قبل وجوده، لا من حيث هي مجردة عن تعلُّق التشبيه بها، ومن كونها غُصناً أسقيه "سماءً"، يريد مطراً وغيثاً؛ إشارة إلى ما تكون به الحياة العرفانية، و"صيِّباً": نازلاً من أعلى، يشير إلى أنه يأخذ من العلوِّ منّة وفضلا، لا كسباً وتعمُّلاً، ويسقيه ليثمر عنه ما تعطيه قوته من المعارف المحمولة فيه.

شرح البيت التاسع:

9

إِنْ طَلَعَتْ كَانَتْ لِعَيْنِي عَجَباً

***

أو غَرَبَتْ كَانَتْ لِحَيْنِي سَبَبَ

"إن طلعت كانت لعيني"، متعلقٌ بطلعت، و"العجب" الذي يقع منه حيث أدرك الخسيسُ - على خساسته - النفيسَ على نفاسته، ولكنْ يسهُلُ هذا الأمر عند من وقف عند قوله عليه السلام (عن ربِّه عزَّ وجلَّ أنَّه قال): «كُنْتُ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ» [البخاري: 6502]؛ فما أدركه سواه، ولا سمع كلامه غيره، قال تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَ يَسْمَعُونَ﴾ [الأنفال: 21]. ولَمَّا غاب هذا القائل عن هذا المشهد، لذلك ذكر هذا. وقد يريد بقوله (في هذا البيت): فإن كنت في شكٍّ، وهي لا تطلع، فلا يكون عجبا.

وقوله "أو غربت كانت لحَيني سببا": ينبِّهُ على صفة عشقية يموت للفقد شوق (لها)، كما ذكره المحبُّون في كلامهم.

شرح البيت العاشر:

10

مُذْ عَقَدَ الْحُسْنُ عَلَى مَفْرِقِهَ

***

تَاجاً مِنَ التِّبْرِ عَشِقْتُ الذَّهَبَ

"الحُسن": مشهد عيني في مقام التفرقةالتي تميَّزَ فيها العبد من الرب، وهو الفرق الثاني المطلوب، وهو أعلى عند المحققين العارفين بالله من المُقام في عين الجمع، فإنّ الجمع على الحقيقة إذنٌ بالتفرقة، فإنه يؤذن بالكثرة، ولا كثرة في العين، فهو راجع إلى جمعك به عند أخذك منك.

وقوله: "تاجا"، زينة إلهية خارجة عن مقام الاستواء، و"الذهب": صفة كمال لكمال مراتب المقامات، فإنّ الذهب حاز صفة كمال الاعتدال، وهو أشرف المعادن، وجعله تِبراً (وهو الذهب الخام)، أي لم تدنِّسه أيدي الكون بالتخليص، فإنه في تِبره أشرف في حقنا، لأنّ ظهوره لنا بنا هو الذي يصحُّ ويوجد، وأما ظهوره لنا به فلا يصح، فالطمع في غير مَطمع جهل. وجعله "عشقا": من (شجرة) العِشقة، للعلاقة التي بين العبد والرب في الرقيقةالتي ينزل فيها إلى قلبه بالمعرفة.

شرح البيت الحادي عشر:

11

لَوْ أَنَّ إْبْلِيسَ رَأَى مِنْ آدَمٍ

***

نُورَ مُحيَّاهَا عَلَيْهِ مَا أَبَى

قيل لإبليس: اسجد لآدم، فغاب عن لام الخفض، التي هي إشارة إلى لام الإضافة، واحتُجِب العلمُ عنه بذكر آدم، فلو رأى اللام من قوله "لآدم" لرأى نور محيّا هذه الذات المطلوبة لقلوب الرِّجال، فما كانت تتصور منه الإباءة عَمَّا دعاه إليه، فاحتجب "إبليس" واستكبر بنظره إلى عنصره الأعلى (الناري)، عن عنصر آدم الترابي، فلما رأى الشرف له امتنع عن النزول للأخسّ، وما عرف ما أبطن الله له فيه من سبحات الأسماء الإلهية والإحاطة.

شرح البيت الثاني عشر:

12

لَوْ أَنَّ إِدْرِيسَ رَأَى مَا رَقَمَ الْ

***

حُسْنُ بَخَدَّيْهَا إَذاً مَا كَتَبَ

"إدريس": من الدرس، وهو العلم المكتسب مقام أيضاً شريف، يقول: لو أنّ صاحب العلم النظري الإلهي رأى ما كتبه بالرقم العياني الإلهي بوجه هذه الصفة المطلوبة ما طلب اكتساب علم ولا كتب علما أصلا، فإن كلَّ علم مندرجٌ في هذا المشهد العظيم العياني.

شرح البيت الثالث عشر:

ثم قال:

13

لَوْ أَنَّ بِلْقيسَ رَأَتْ رَفْرَفَهَ

***

مَا خَطَرَ الْعَرْشُ وَلَا الصَّـرْحُ بِبَ

"بلقيس"حقيقة برزخية بين الإنس والجن، و"رفرفها": مرتبتها، والهاء تعود على هذه النكتة المطلوبة الذاتية، (لو أنها رأت رفرفها) ما خطر لها عظيم مقامها، الذي هو سرير ملكها، ولا الصرح السليماني، لها ببال، لذهولهافي عظيم ما تراه في علو مرتبتها. وهذه الحقيقة البرزخية يشهدها السالك عند انفصاله عن تربتهإلى ناره، من حيث اجتماع طرفي الدائرة، لا على ما يقتضيه الترتيب الطبيعي عن الانفصال عن التراب إلى الماء إلى الهواء إلى النار.

وقوله: "ببا"، وحذف اللام للدلالة عليها فيما يقتضيه الكلام، وإنما حذف اللام لمعنى آخر: ليبقى حرف الباء خاصة، وهو مقام العقل الذي هو في ثاني مرتبة من الوجود، كما أنّ الباء في المرتبة الثانية من الحروف، فكأنه يقول: إذا أقيمت هذه الحقيقة البرزخية في مقام التمليك لمرتبة العقل، التي هي أقصى المراتب، فيكون ذلك عرشها وحالها وصرحها لم يخطر لها ببال، فكيف إذا كانت مع صورتها البرزخية!

شرح البيت الرابع عشر:

ثم قال:

14

يَا سَرْحَة الْوَادِي وَيَا بَانَ الْغَضَ

***

أَهْدُوا لَنَا مِنْ نَشْـرِكُمْ مَعَ الصَّبَ

يريد بـ"الوادي": مسيل المعارف في قلوب العباد من حيث هم عباد، و"الغضا": مقام المجاهدة، و"بانة" و"سرحة الوادي": هما ما أنتجه لهم الدخول في هذه المعاملات، يقول لهما: اهدوا لنا من طيبكم الطريِّ مع عالم الأنفاس التي تكون عند التجلي، ولهذا كنّى عنه بالصَّبا، التي هي الريح الشرقية، مطالع النور.

شرح البيت الخامس عشر:

15

مُمَسَّكاً يَفُوحُ رَيَّاهُ لَنَ

***

مِنْ زَهْرِ أَهْضَامِكِ أو زَهْرِ الرُّبَ

قوله "ممسكا": مجعولٌ فيه المسك، وهو طيب يخرج من حيوان (هو نوع من الظباء يسمى ''غزال المسك'')، أي هذا الطيب انبعث من مقام الحياة، تفوح رائحته لمشامّ العارفين.

وقوله: "من زهر أهضامك أو زهر الرّبا"، يقول: إنه من مقام التنزيل الإلهي الوارد على ألسنة الرسل في الكتب المنزّلة، وكنّى عنه بالأهضام (وهو البخور)، وهو الذي أورث التواضع عند العارفين، فنالوا بذلك المراتب العلى، وقد يكون أيضاً من مقام "حجاب العزة الأحمى في بحر العمى"، فكنّى عن ذلك بالربا، جمع ربوة، كما قال تعالى: ﴿لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ﴾، بمنزلة الرُّبا هنا، ﴿وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾ [المائدة: 66]، كالإهضام هنا، وشبَّهَه بهذه الأزهار العطرية، لأنه أوائل التجليات، ودلائل على معارف ذوقية تأتي بعدها، كما يأتي عقد الثمر بعد الزهر.

شرح البيتين السادس عشر والسابع عشر:

ثم قال:

16

يَا بَانَة الْوَادِي أَرِينَا فَنَناً

***

فِي لِينِ أَعْطَافٍ لَهَا أو قُضُبَ

17

رِيحُ صَباً تُخْبِرُ عَنْ عَصْـرِ صِبَ

***

بِحَاجِرٍ أو بِمِنىً أو بِقُبَ

يخاطب ميل الكون إلى جناب الحق، يقول: أينميلُك ونَعمتك من ميل حضرة الحق إليك ونعمتها، وظهور أنوارها عليك، وذلك لأنّ ميلك إليها ميل افتقار واستفادة، وميلها إليك ميل غناء وإفادة، فلا نسبة إلاّ من حيث النقيض. وذكر "الفنن" لِما في لفظه من الفنون، وهي أنواع المعارف، وذكر "القضب" لحملها القضيب، يشير إلى المعارف الذوقية، وذكر "الأعطاف"، وهو جمع عِطف، وهو العَطف الإلهي التي تتضمنه الرحمة الشاملة المطلقة التي وسعت كلَّ شيء [الأعراف: 156] وبها حاجَّ إبليسُ سهلَ بن عبد الله التستريّ، فقال له: "التقييد صفتك يا سهل لا صفته"،فإنّ الله لا يُحجِّر بعد السّعة، ولكن يقسم أنواع المشارب على عباده فيعطي قوماً من وجه ما، ويعطي آخرين من وجه آخر، فلا يتقيَّد على الحق شيء، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا، فرحمته المتقين من باب الوجوب الإلهي الذي أوجبه على نفسه، ورحمة غير المتقين من باب المِنَّة والفضل، كما كان التقوى للمتقين من باب المِنَّة والفضل؛ إذاً فرحمته على بابها وَسِعت كلَّ شيء.

وقوله: "ريح صَبا تخبر عن عصر صِبا"، يقول: نسيم روح المعارف من جانب الكشف والتجلي أخبر عن أوان زمان الشباب، الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عند نزول المطر، فكشف رأسه عليه الصلاة والسلام حتى أصابه المطر، فقال عليه الصلاة والسلام: «إِنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ» [مسلم: 898]، فلهذا أشار بعصر الصِّبا، وفيه أيضا من اشتقاق الصَّبا من الصبابة وهي الميل، فكأنَّ هذه الريح تخبر عن أوان الميل بالأعطاف الإلهية.

قال: ووَقْعُ أخبار هذه الريح في مقامات مختلفة، منها: مقام الحرمة، ومقام تمييز الأشياء بحقائقها بعضها عن بعض، فكنّى عنه بـ"حاجر"، من التحجير، ومنها مقام التمني مع وجود الطهارة والزكاة، فكنّى عنه بـ"مِنى"، ومنها مقام الراحة والتجريد فكنى عنه بـ"قبا"، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها (أي مسجد قباء) في «كُلّ سَبْتٍ (كَانَ يَأْتِيهِ رَاكِبًا وَمَاشِيًا)» [مسلم: 1399]، والسبت (أيضاً) حلقُ الرأس (كما جاء في مختار الصحاح)، ففيه مقام التجريد [انظر أيضاً شرح البيت الثاني من القصيدة السابعة والخمسين].

شرح البيت الثامن عشر:

ثم قال:

18

أو بِالْنَّقَا، فَالمُنْحَنَى عِنْدَ الْحِمَى

***

أو لَعْلَعٍ حَيْثُ مَرَاتِعُ الظِّبَ

يقول: أيضا "أو بالنقا"، يشير إلى الكثيب الذي تقع فيه الرؤية [كنز العمال: 21063، وانظر: القصيدة الثالثة: البيت الأول]. وقوله: "فالمنحنى"، ما يكون من الشفقة الإلهية، والعطف من باب الرحمة بالكون لبقاء العين عند ظهور العين التي هي الحمى، فلا تُنال مع كونها تُشهد.

وقوله: "أو لعلع"، من التولع، يشير إلى حالة عشقية، "حيث مراتع الظبى" لتشبيه أهل الحسن والجمال بها، أو لأنها محل الأعراف الطيِّبةِ النشر، لكون الظبي تحمل المسك في نوافجه، فتأكل الطيّب وتطرح الطّيب.

شرح البيتين التاسع عشر والعشرين:

19

لَا عَجَبٌ لَا عَجَبٌ لَا عَجَبَ

***

مِنْ عَرَبِيٍّ يَتَهَاوَى الْعُرُبَ

20

يَفْنَى إِذَا مَا صَدَحَتْ قُمْرِيَّة

***

بِذِكْرِ مَنْ يهْوَاهُ فِيهِ طَرَبَ

يقول: لا تعجبوا من شيء يحنّ إلى أصله ويشتاق إليه. وقوله: "يفنى إذا م صدحت قمرية "، كنّى بالقمرية عن نفس عارف مثله قد فُوِّهت بأمرٍ علوي أشاقه إلى م جاء عنه، وقد أشار إلى هذه القمرية بعض العقلاء (وهو ابن سينا) بقوله:

هبطت إليك من المحلّ الأرفع

***

ورقاء ذات تعزّز وتمنع

وكان الصدح من هذه الحمامة بلسان الأنس والجمال، فكان فناؤه طربا لحسن السماع بذكر من يهواه.



 

 

البحث في نص الكتاب


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!