موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل

تأليف الشيخ عبد الكريم بن إبراهيم الجيلي (667هـ - 828هـ)

 

 


48. الباب الثامن والأربعون في اللوح المحفوظ نفس حوت بالذات علم عالم ...... هي لوحنا المحفوظ يا ابن الآدمي

صور الوجود جميعها منقوشة          .....       في قابليتها بغير تكاتم

فإذا زكت بإلهها وصفت به      ......     من ظلمات الغيم الغيوم القاتم

ظهرت لها الأشياء فيها عندها          .....        وبدت لها مستخفيات العالم

اعلم هداك الله أن اللوح المحفوظ:
عبارة عن نور إلهي حقي متجلي في مشهد خلقي، انطبعت الموجودات فيه انطباعة أصلية، فهو أم الهيولي، لأن الهيولي لا تقتضي صورة إلا وهي منطبعة في اللوح المحفوظ.

 فإذا اقتضت الهيولي صورة ما وجد العالم على حسب ما اقتضته الهيولى من الفور والمهلة.

 لأن القلم الأعلى جرى في اللوح المحفوظ بإيجادها، و اقتضتها الهيولى  فلا بد من إيجادها على حسب المقتضى.

ولهذا قالت الحكماء الإلهيون:
إذا اقتضت الهيولي صورة، كان حقا على واهب الصور أن يبرز تلك الصورة في العالم، وقولهم حقا على واهب الصور من باب التوسع.

جارية مجرى قوله عليه الصلاة والسلام: «إن حقا على الله أن لا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه "(۱).

لا من أنه يجب عليه شيء، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرة.

وسيأتي بيان الهيولي في موضعه

ثم اعلم أن النور الإلهي المنطبع فيه الموجودات، هو المعبر عنه بالنفس الكلي.

ثم الإدراك لما كتبه القلم الأعلى في ذلك النور المعبر عنه باللوح المحفوظ لا يكون إلا بوجه من وجوه ذلك النور.

وذلك الوجه هو المعبر عنه عندنا بالعقل الكلي.

كما أن الانطباع في النور، هو المعبر عنه بالقضاء، وهو التفصيل الأصلي الذي هو يقتضي الوصف الإلهي.

وقد عبرنا عن مجلاه بالكرسي، ثم التقدير في اللوح، هو الحكم بإبراز الخلق على الصورة المعينة بالحالة المخصوصة في الوقت المفروض.

وهذا هو المعبر عن مجلاه بالقلم الأعلى، وهو في اصطلاحنا العقل الأول.

وسيأتي ذكره في محله، مثاله:

 قضى الحق تعالى بإيجاد زيد على الهيئة الفلانية في الزمن الفلاني.

 فالأمر الذي اقتضى هذا التقدير في اللوح هو القلم الأعلى، وهو المسمى بالعقل الأول.

والمحل الذي وجد فيه بيان هذا الاقتضاء هو اللوح المحفوظ، وهو المعبر عنه بالنفس الكلي.

ثم الأمر الذي اقتضى إيجاد هذا الحكم في الوجود، هو مقتضى الصفات الإلهية وهو المعبر عنه بالقضاء، ومجلاه هو الكرسي.

فاعرف ما المراد بالقلم، وما المراد باللوح، وما المراد بالقضاء، وما المراد بالقدر.

ثم اعلم أن علم اللوح المحفوظ نبذة من علم الله تعالى.

أجراه الله على قانون الحكمة الإلهية، حسب ما اقتضته حقائق الموجودات الخلقية.

ولله علم وراء ذلك هو حسب ما تقتضيه الحقائق الحقية، برز على نمط اختراع القدرة في الوجود لا تكون مثبتة في اللوح المحفوظ، بل قد تظهر فيه عند ظهورها في العالم العيني

وقد لا تظهر فيه بعد ظهورها أيضا.

وجميع ما في اللوح المحفوظ هو علم مبتدأ الوجود الحسي إلى يوم القيامة، وما فيه من علم أهل الجنة والنار شيء على التفصيل.

لأن ذلك من اختراع القدرة، وأمر القدرة مبهم لا معين.

نعم يوجد فيه علمها على الإجمال مطلقة، كالعلم بالنعيم مطلقة لمن جرى له القلم بالسعادة الأبدية.

 ثم لو فصل ذلك النعيم لكان تفصيل ذلك الجنس، وهو أيضا جملة، كما تقول بأنه من أهل جنة المأوى، أو من أهل جنة الخلد، أو جنة النعيم، أو جنة الفردوس، على الإجمال لا سبيل إلى غير ذلك، وكذلك حال أهل النار.

ثم اعلم أن المقتضى به المقدر في اللوح على نوعين:

 مقدر لا يمكن التغيير فيه ولا التبديل.

 ومقدر يمكن التغيير فيه والتبديل.

 فالذي لا يمكن فيه التغيير والتبديل :

هي الأمور التي اقتضتها الصفات الإلهية في العالم، فلا سبيل إلى عدم وجودها، وأما الأمور التي يمكن فيها التغيير:

 فهي الأشياء التي اقتضتها قوابل العالم على قانون الحكمة المعتادة، فقد يجريها الحق سبحانه وتعالى على ذلك الترتيب.

 فيقع المقتضى به في اللوح المحفوظ، وقد يجريها على حكم الاختراع الإلهي فلا يقع المقضي به.
ولا شك أن ما اقتضته قوابل العالم هو نفس مقتضى الصفات الإلهية.

ولكن بينهما فرق، أعني بين ما اقتضته قوابل العالم وبين ما اقتضته الصفات مطلقة وذلك أن قوابل العالم ولو اقتضت شيئا فإنه من حكمها العجز لاستناد أمرها إلى غيرها.

فلأجل هذا قد يقع وقد لا يقع، بخلاف الأمور التي اقتضتها الصفات الإلهية، فإنها واقعة ضرورة الاقتضاء الإلهي.

 وثم وجه ثان:

 وهو أن قوابل العالم ممكنة، والممكن يقبل الشيء وضده.

فإذا اقتضت القابلية شيئا ولم يجر القدر إلا بوقوع نقيضه، كان ذلك النقيض أيضا من مقتضى القابلية التي في الممكن.

 فنقول بإيقاع ما اقتضته قوابل العالم على قانون الحكمة؛ وهذا أمر ذوقي لا يدركه العقل من حيث نظره الفكري، بل هو کشف إلهي يمنحه الله من يشاء من عباده.

فالقضاء المحكم هو الذي لا تغيير فيه ولا تبديل، والقضاء المبرم: هو الذي يمكن فيه التغيير، ولهذا ما استعاذ النبي لا بالله إلا من القضاء المبرم، لأنه يعلم أنه يمكن أن يحصل فيه التغيير والتبديل.

قال الله تعالى: ويمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب (۱) بخلاف القضاء المحكم، فإنه المشار إليه بقوله: "وكان أمر الله قدرا مقدورا".
وأصعب ما على المكاشف بهذا العلم معرفة القضاء المبرم من القضاء المحكم.

فيتأدب فيما يعلمه محكمة، ويشفع فيما يعلمه مبرمة.

وإعلام الحق له بالقضاء المبرم، هو الإذن في الشفاعة، قال الله تعالى: "من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ".

ثم اعلم أن النور الإلهي المعبر عنه باللوح المحفوظ:

هو نور ذات الله تعالى ونور ذاته عين ذاته لاستحالة التبعيض والانقسام عليه.

فهو حق مطلق، وهو المعبر بالنفس الكلية، فهو خلق مطلق، وإلى هذه الإشارة بقوله: بل هو قرآن مجيد. في لوح محفوظ"

 يعني: بالقرآن نفس ذات المجد الشامخ، والعز الباذخ في لوح محفوظ في النفس الكلية.

أعني: نفس الإنسان الكامل بغير حلول، تعالى عن الحلول والاتحاد، والله يقول الحق وهو يهدي إلى سبيل الرشاد.


 


 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!