موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية: مكتبة الشيخ عبد الكريم الجيلي

الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل

تأليف الشيخ عبد الكريم بن إبراهيم الجيلي (667هـ - 828هـ)

 

 


17. الباب السابع عشر في العلم

العلم درك الحق للأشياء     .....    لو أنه من وجهه بفناء

لكنها الاسم العليم لمدرك   ......   أمر الوجود بشرط الاستيفاء

فيكون علاّم القديم وعالماً    .....   للمحدثات بغير ما إخفاء

وحقيقة العلم المقدس واحد   .....   من غير ما كل ولا أجزاء

هو مجمل في الغيب وهو مفصل   ......   في عالم المشهود والإيماء

لكن جملته هناك فقد حوى  ......    التفصيل تحقيقاً بغير مراء

وبه فتعلم ذاته خلاقنا     .....   وبه فيعلمنا عن الأهواء

وبه فنعلمه ونعلم ذاتنا   .....   فاعجب لفرد جامع الأشياء

كعلم أن العلم صفة نفسية أزلية، فعلمه سبحانه وتعالى بنفسه وعلمه بخلقه علم واحد غير منقسم ، ولا متعدد ولكنه يعلم نفسه بما هو له ويعلم خلقه بما هم عليه.

 ولا يجوز أن يقال: إن المعلومات أعطته العلم من نفسها لئلا يلزم من ذلك كونه استفاد شيئاً من غيره، ولقد سها الإمام محيي الدين بن العربي رضي الله عنه حيث قال: إن معلومات الحق أعطت الحق العلم من نفسها، فلنعذره ولا نقول إن ذلك مبلغ علمه.

ولكنا وجدناه سبحانه وتعالى بعد هذا يعلمها بعلم أصلي منه غير مستفاد مما عليه المعلومات فيما اقتضته من نفسها بحسب حقائقها غير أنها اقتضت في نفسها ما علمه سبحانه منها فحكم لها ثانياً بما اقتضته وهو حكمها عليه.

ولما رأى الإمام المذكور رضي الله عنه أن الحق حكم للمعلومات بما اقتضته من نفسها ظن أن علم الحق مستفاد من اقتضاء المعلومات فقال:

إن المعلومات أعطت الحق العلم من نفسها ، وفاته أنه إنما اقتضت ما علمها عليه بالعلم الكلي الأصلي النفسي قبل خلقها وإيجادها .

فإنها ما تعيّنت في العلم الإلهي إلاَّ بما علمها وإلاَّ بما اقتضته ذواتها .

ثم اقتضت بعد ذلك من نفسها أموراً . يعني غير ما علمها عليه أولاً .

فحكم لها ثانياً بما اقتضته وما حكم لها إلا بما علمها عليه.

فتأمل، فإنها مسألة لطيفة ولو لم يكن الأمر كذلك لم يصبح له من نفسه الغنى عن العالمين.

 لأنه إذا كانت المعلومات أعطته العلم من نفسها فقد توقف حصول العلم له على المعلومات، ومن توقف وصفه على شيء كان مفتقراً إلى ذلك الشيء في ذلك الوصف.

ووصف ألعلم له وصف نفسي، فكان يلزم من هذا أن يكون في نفسه مفتقرأ الى شيء، تعالى عن ذلك علوأ كبيرأ.

 فيسمي الحق عليمأ بنسبة العلم اليه مطلقأ، ويسمى عالمأ بنسبة معلومية الأشياء اليه، ويسعى علكما بنبة العلم ومعلومية الأشياء له معأ، فالعليم اسم صفة نفسية لعدم النظر فيه إلى شئ مما سواه .

إذ العلم ما تستحقه النفس في كمالها لذاتها.

وكما العالم فاسم صفة فعلية وذلك علمه للأشياء سواء كان علمه لنفسه أو بغيره.

 وأنها فعلية لأنك تقول عالم بنفسه ، يعني عًلِمَ نفسه وعالم بغيره يعني علم غيره، ولا بد أن تكون صفة فعليه.

وكما العلام فبالنظر إلى النسبة العلمية اسم صفة نفسية كالعليم، وبالنظر الى نسبة معلومية ألأشياء له فاسم صفة فعلية، ولهذا غلب وصف الخلق باسم العالم دون العليم والعلاَّم.

 فيقال: فلان عالم، ولا يقال: عليم ولا علام مطلقاً، اللهم إلاَّ إن قيد فيقال: فلان عليم بأمر كذا وإذا، ولم يرد علاَّم بأمر كذا ولا علام مطلقاً، فإن وصف شخص بذلك فلا بد من التقييد، فيقال: فلان علاَّم في فنّ كذا، وهذا على سبيل التوسع والتجوّز، وليس قولهم: فلان علامة من هذا القبيل لأن ذلك ليس باسم الله فلا يجوز أن يقال: إن الله علاَّمة، فافهم.

وكعلم أن العلم أقرب الأوصاف إلى الحيّ كما أن الحياة أقرب الأوصاف إلى الذات، لأنّا قد بيّنا في الباب الذي قبل هذا أن وجود الشيء لنفسه حياته وليس وجوده غير ذاته.

 فلا شيء أقرب إلى الذات من وصف الحياة، ولا شيء أقرب إلى الحياة من العلم، لأن كل حيٍّ لا بد أن يعلم علماً ما .

سواء كان إلهامياً كعلم الحيوانات والهوام بما ينبغي لها وبما لا ينبغي من المأكل والمسكن والحركة والسكون.

 فهذا العلم هو لازم لكل حيّ، وإن كان بديهياً ضرورة أو تصديقياً كعلم الإنسان والملائكة والجان، فحصل من هذا أن العلم أقرب الأوصاف إلى الحياة.

 ولهذا كنى الله تعالى عن العلم بالحياة، فقال: {أو من كان ميتا فأحييناه }1 سورة الأنعام.

يعني جاهلاً فعلمناه {و جعلنا له نورا يمشي به في الناس }2 سورة الأنعام.

أي يفعل بمقتضى ذلك العلم { كمن مثله في الظلمات}3 سورة الأنعام.

يعني في ظلمة الطبيعة التي هي عين الجهل { ليس بخارج منها}4 سورة الأنعام. 

لأن الظلمة لا تهدي إلاَّ إلى الظلمة فلا يتوصل بالجهل إلى العلم أعني بالجهل الطبيعي، ولا يمكن للجاهل أن يخرج من الجهل بالجهل { كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون}5 سورة الأنعام.

أي الساترين وجود الله تعالى بوجودهم، فلا يشهدون من أنفسهم ومن الموجودات سوى مخلوقيتها فيسترون بذلك وجه الله، ويقولون وصفه أن لا يكون مخلوقاً ،وأن لا يكون مسبوقاً بالعدم ،ولم يشعروا أن الحق سبحانه وتعالى، وإن ظهر في مخلوقاته، فإنما يظهر فيها بوصفه الذي يستحقه لنفسها .

فلا يلحق به شيء من نقائص المحدثات وان استند اليه شيء من نقائص المحدثات ظهر كماله في تلك النقائص .

فارتفع حكم النقص عنها، فكانت كاملة باستنادها إليه، فلا يكون من الكامل الا ما هو كامل، ولا يستند الى الكامل الا ما يلحق به النقص. وفي ذلك قال :

يُكمِّلُ نُقصانَ القَبيحِ جمالُه    ......    إذا لاح فيه فهو للقبح رافع

ويرفعُ مقدارَ الوضيعِ جلالُه     ......    فما ثَمَّ نقصانٌ ولا ثَمَّ واضع

ولما كان العلم لازماً للحياة، كما سبق، كنت الحياة أيضاً لازمة للعلم لاستحالة وجود عالم لا حياة له، وكل منهما لازم ملزوم، وإذ قد عرفت هذا .

فقل ما ثم لازم ولا ملزوم بالنظر إلى استقلال كل صفة لله في نفسها ، وإلا لزم أن يكون بعض صفات الله مركباً من صفة غيرها أو من مجموع صفاته، وليس هو كذلك تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.

 فتقول مثلاً: صفة الخالقية غير مركبة من القدرة والإرادة والكلام، ولو كان المخلوق لا يوجد إلاَّ بهذه الصفات الثلاث، بل الصفة الخالقية صفة لله تعالى واحدة.

فهذه مستقلة غير مركبة من غيرها ولا ملزومة ولا لازمة لسواها، وكذلك باقي الصفات فليتأمل.

وإذا صح هذا في حق الحق فهو في حق الخلق أيضاً كذلك، لأنه سبحانه وتعالى خلق آدم على صورته فلا بد أن يكون الإنسان نسخة من كل صفة من صفات الرحمن فيوجد في الإنسان، كل ما ينسب إلى الرحمن، حتى أنك تحكم للمحال بالوجوب بواسطة الإنسان، ألا تراك كذا فرضت مثلاً كما تفرض للمحال أن ثمة حياً لا علم له ، أو عالماً لا حياة له ، كان ذلك الحيّ الذي لا علم له أو العالم الذي لا حياة له موجوداً في عالم فرضك وخيالك ومخلوقاً لربك.

 إذ الخيال بما فيه مخلوق لله تعالى، فوجد في العالم بواسطة الإنسان ما كان متخيله في غيره.

وإعلم أن المحسوس فرع لعالم الخيال إذ هو ملكوته، فما وجد في الملكوت لا بد أن يظهر في الملك منه بقدر القوابل والوقت والحال ما يكون نسخة لذلك الموجود في الملكوت.

وتحت هذه الكلمات من الأسرار الإلهية ما لا يمكن شرحه ، فلا تهملها فإنها مفاتيح للغيب الذي إن صحّ

بيدك فتحت بها أقفال الوجود جميعه أعلاه وأسفله.

وسيأتي الكلام على عالم الملكوت في محله من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

فقل في العلم والحياة وغيرهما من الصفات إن شئت بالتلازم، وإن شئت بعدمه.

 وتوسع في الجناب الإلهي القائل على لسان نبيه: { إن أرضي واسعة فإياي فأعبدون}56 سورة العنكبوت.

وقال رحمه الله تعالى في معنى ذلك:

عجب لبحر هاج في زخراته     ......    متلاطم الأمواج في طفحاته

من كل رآن تهتوي أرياحه     ......  فيقيم طود الموج في جنباته

والرعد فيه كأنه لتواتر     ......   مثل الصدى للموج في زجراته

والبرق يخطف كل مقلة ناظر     .....   كالسيف يلمع في مدى هزَّاته

والسحب تركم بعضها في بعضها   .....   والمزن تمطر من هوا صفحاته

ظلمات بعض فوق بعض قطرة    .....   مما حوى ذا البحر في ظلماته

كيف السلامة فيه للصبّ الذي     ......   غرقت مركب وصفه في ذاته

أو كيف يصنع سابح قطعت   ......    قوائمه ومن يقضي له بنجاته

اللَّه كبر ما بها من سالم     .....   هيهات في هيهات في هيهاته


 


 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!