موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية: مكتبة الشيخ عبد الكريم الجيلي

الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل

تأليف الشيخ عبد الكريم بن إبراهيم الجيلي (667هـ - 828هـ)

 

 


27. الباب السابع والعشرون في الإنية

إنية الحق تحديه بما هو له، فهي إشارة إلى ظاهر الحق تعالى باعتبار شمول ظهوره لبطونه، قال الله تعالى: "إنه أنا الله لا إله إلا أنا".

 يقول: إن الهوية المشار إليها بلفظة "هو" هي عين الإنية المشار إليها بلفظة (أنا) فكانت الهوية معقولة في الإنية.

 وهذا معنى قولنا إن ظاهر الحق عين باطنه، وباطنه عين ظاهره، لا أنه باطن من جهة وظاهر من جهة أخرى.

ألا ترى لقوله سبحانه وتعالى كيف أكد الجملة بإن فأتى بها موکدة، لان کل کلام یتردد فیه ذهن السامع، فإن التأکید مستحسن فیه.

 کما آن كل كلام ينكره السامع يجب التأكيد فيه بخلاف ما كان لو السامع خالي الذهن، فإنه لا يحتاج فيه إلى تأكيد.

ولما كان اعتبار البطون والظهور بالوحدة يحصل فيه للعقل تردد وهو استيفاؤه

كيف يكون الأمر باطنه ظاهره وظاهره باطنه.

 وما فائدة التقسيم بالظاهر والباطن فيه، فللنفس في هذه المسألة إما تردد وإما إنكار، فلهذا أكده الحق بلفظة "إنا".

 فقال لموسى: "إنه هو" يعني أن الأحدية الباطنة المشار إليها بالهوية هى الإنية الظاهرة المشار إليها بلفظة أنا.

 فلا تزعم أن بينهما تغايراً أو انفصالاً أو أنفكاكاً بوجه.

 ثم فسر الأمر بالبدلية وهو العلم الذاتي أعني اسم الله إشارة إلى ما تقتضيه الألوهية من الجمع والشمول.

 لأنه لما قال إن بطونه وغيبه عين ظهوره وشهادته نبه على أن ذلك من حقيقة ما هو عليه الله.

 فإن الألوهية في نفسها تقتضي شمول النقيضين وجميع الضدّين بحكم الأحدية وعدم التغاير في نفس حصول المغايرة.

 وهذه مسألة حيرة.

 ثم الجملة بقوله: " لا إله إلا أنا " يعني الإلهية المعبودية ليست إلا أنا.

 فأنا الظاهر في تلك الأوثان والأفلاك والطبائع، وفي كل ما يعبده أهل كل ملة ونحلة، فما تلك الآلهة كلها إلا أنا.

ولهذا أثبت لهم لفظة الآلهة وتسميته لهم بهذه اللفظة من جهة ما هم عليه في الحقيقة تسمية حقيقية لا مجازية.

 ولا كما يزعم أهل الظاهر أن الحق إنما أراد بذلك من حيث إنهم سموهم آلهة، لا من حيث إنهم في أنفسهم لهم هذه التسمية.

 وهذا غلط منهم وافتراء على الحق، لأن هذه الأشياء كلها بل جميع ما في الوجود له من جهة ذات الله تعالى في الحقيقة.

هذه التسمية تسمية حقيقية، لأن الحق سبحانه وتعالى عين الأشياء وتسميتها بالإلهية تسمية حقيقية، لا كما يزعم المقلد من أهل الحجاب أنها تسمية مجازية.

 ولو كان كذلك لكان الكلام أن تلك الحجارة والكواكب والطبائع والأشياء التي تعبدونها ليست بآلهة.

 وأن لا إله إلا الله أنا فاعبدوني، لكنه إنما أراد الحق أن يبين لهم أن تلك الآلهة مظاهر، وأن حکم الألوهية فيهم حقيقة.

 وأنهم ما عبدوا في جميع ذلك إلا هو.

 فقال: " لا إله إلا أنا " .

أي: ما ثم ما يطلق عليه اسم الإله إلا وهو أنا، فما في العالم ما يعبد غيري وكيف يعبدون غيري وأنا خلقتهم ليعبدوني ولا يكون إلا ما خلقتهم له.

قال عليه الصلاة والسلام في هذا المقام: "كل ميسر لما خلق له".

 أي: لعباده الحق لأن

 

الحق تعالی قال: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"56 سورة الذاريات.

 وقال تعالى: "وإن من شيء إلا يسبح بحمده" 44 سورة الإسراء .

 فنبه الحق تنبيه موسى عليه السلام على أن أهل تلك الالهة إنما عبدوا الله تعالى. ولكن من جهة ذلك المظهر.

 فطلب من موسى ان يعبده من جهة جميع المظاهر.

 فقال: " لا إله إلا أنا" .

 أي: ما ثم إلا أنا، وكل ما أطلقوا عليه اسم الإله فهو أنا .

بعد ما أعلمه أن أنا عين هو المشار إلى مرتبته بالاسم الله.

 فاعبدني يا موسى من حيث هذه الإنية الجامعة لجميع المظاهر التي هي عين الهوية.

 فهذا عناية منه سبحانه وتعالى بنبيه موسى وعنايته به، لیلا یعبده من جهة دون جهة أخرى.

 فتفوته الحق من الجهة التي لم يعبده فيها فيضل عنه.

 ولو اهتدى من جهة كما ضل أهل الملل المتفرقة عن طريق الله تعالى.

 بخلاف ما لو عبده من حيث هذه الإنية المنبه عليها بجميع المظاهر والتجليات والشئون والمقتضيات والكمالات المنعوتة المعقولة في الهوية المندرجة في الإنية المفسرة بالله المشروحة بأنه ما ثم إله إلا أنا.

 فإنه تكون عبادته حينئذ كما ينبغي، وإلى هذا المعنى أشار بقوله تعالى:"وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله" 153 سورة الأنعام.

 فأهل السبل المتفرقة ولو كانوا على صراط الله فقد تفرقوا ودخل عليهم الشرك والإلحاد.

بخلاف المحمديين الموحدين فإنهم على صراط الله، فإذا كان العبد على صراط الله ظهر له سر قوله عليه الصلاة والسلام: "من عرف نفسه فقد عرف ربه ".

 فيطالب بعد هذا أن يعبده حق عبادته وهو التحقق بحقائق الأسماء والصفات، لأنه إذا عبده بتلك العبادة علم أنه عين الأشياء الظاهرة والباطنة.

 ويعلم أنه إذ ذاك إنية عين المعبر عنه بموسى، فيطلب له موسى ما أعلمه الحق سبحانه وتعالى أنه يستحقه من الكمالات المقتضية للأسماء والصفات ليجد ذلك. فيعبده إذ ذاك حق عبادته.

 ولا يمكن استيفاء ذلك فلا يمكنه أن يعبده حق العبادة..

 لأن الله لا يتناهى، فليس لأسمائه وصفاته، وليس لحق عبادته نهاية .

وفي هذا المقام قال عليه الصلاة والسلام: "ما عرفناك حق معرفتك ولا عبدناك حق عبادتك، أنت كما أثنيت على نفسك" .

وقال الصديق رضي الله عنه: العجز عن درك الإدراك إدراك.

و قد نظمت هذا المعنی فی :

يا صورةً حيَّر الألبابَ معناك   ....    يا دهشةً أذهلَ الاكوانَ منشاك

يا غايةَ الغايةِ القصوى وآخرَ ما    .....   يلقىَ الرشيدُ ضلالاً بينَ مغناك

عليك أنت كما أثنيتَ من آرم     .....  نزّهتَ في الحمدِ عن ثانٍ وإشراك

فليس يدركُ منكَ المرءُ بغيتَهُ   .....   حاشاكَ عن غايةٍ في المجدِ حاشاك

فبالقصور اعترافي فيك معرفتي   ......   فالعجز عن درك الإدراك إدراكي

 

وقد يطلق القوم الإنية على معقول العبد لأنها إشعار بالمشاهد الحاضر وعلى مشهود فالهوية غيبه.

 فأطلقوا الهوية على الغيب، وهو ذات الحق .

والإنية على الشهادة ، وهو معقول العبد، وهنا نكتة فافهم.


 


 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!