موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية: مكتبة الشيخ عبد الكريم الجيلي

الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل

تأليف الشيخ عبد الكريم بن إبراهيم الجيلي (667هـ - 828هـ)

 

 


40. الباب الموفي أربعين في فاتحة الكتاب

اعلم أن فاتحة الكتاب هي السبع المثاني،وهي السبع صفات النفسية التي هي الحياة والعلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر والكلام.

وقال صلى الله عليه وسلم:" إن الله قد قسم الفاتحة بين عبده وبینه" حديث الترمذي.

إشارة إلى أن الوجود منقسم بين الخلق والحق.

 فالإنسان الذي هو الخلق باعتبار ظاهره هوالحق باعتبار باطنه.

فالوجود منقسم بين باطن وظاهر.

إلأ ترى أن الصفات النفسية إنما هي نفسها وعينها صفات محمد صلى الله عليه وسلم وكما يقال في الحق إنه حي عالم ، يقال في محمد إنه حي عالم ، إلى جميع الصفات، فهذه هي انقسام الفاتحة بين الحق تعالى وبين عباده.

 فالفاتحة بما دلت عليه إشارة إلى هذا الهيكل الإنساني الذي فتح الله به أقفال الوجود وانقسامها بين العبد وربه إشارة إلى أن الإنسان ولو كان خلقة فالحق حقيقته.

فكما أنه حاوي الأوصاف العبودية كذلك هو حاوي لأوصاف الربوبية.

لأن الله حقیقته وهو المراد محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا ثم غيره فهو المعتبر في المرتبتين وهو الموجود في المملكتين، فهو الحق وهو الخلق.

ألا ترى إلى سورة الفاتحة كيف قسمها الله تعالى بين ثناء على الله وبين دعاء للعبد.

فالعبد ينقسم بين كمالات إلهية حكمية غيبية وجودية، وبين نقائص خلقية غيبية شهودية، فهو فاتحة الكتاب، وهو السبع المثاني.

وفي هذه السورة من الأسرار ما لا تسعة الأوراق، بل مما لا يسعنا إذاعتها.

ولا بد أن نتكلم على ظاهر السورة بطريق التعبير تبركا بكلام الله تعالى.

قال الله تعالى:" بسم الله الرحمن الرحيم" 1 سورة الفاتحة .

 فقد وضعنا للبسملة كتابة سميناه ب الكهف والرقيم في شرح بسم الله الرحمن الرحيم فمن أراد شرح البسملة فليطالع فيه.

ونتكلم في الكتاب هذا على شيء منه بطريق الإشارة وهذا موضعه.

قالت علماء العربية: الباء في البسملة للاستعانة، معناه بسم الله أفعل كذا، وترك ذكر الفعل ليعم كل شيء، وتقدير الفعل بلسان الإشارة بسم الله يعرف الله بأنه لا سبيل إلى معرفته إلا بعد تجلي هذا الاسم عليك.

لأنه وضع مرآة للكلمات تشاهد فيها وجهك، فلا سبيل إلى مشاهدة وجهك إلا في المرأة فافهم .ما أشرنا إليه.

لأن مرآتك مركب بحر الحقيقة" باسم الله مجراها ومرساها" 41 سورة هود. لا باسم غيره.

فإذا ركب ملاح القلب سفينة الاسم في بحر التوحيد وهب ريح الرحمانية في جو: "إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن"الحديث.

يعني النفس وصل بهداية رحمة الاسم الرحمن إلى ساحل الذات.

 فتنزه في أسمائه والصفات، فاستفتح فاتحة الوجود وتحقق العابد أنه عين المعبود.

فقال:"الحمد لله" أثنى الله على نفسه بما يستحقه.

وثناؤه على نفسه عين ظهوره وتجليه فيما هو له.

والألف واللام إن كانا للشمول الذي اعتبر بمعنى كل المحامد لله، فهو المراد بجميع الصفات المحمودة بالحقية والخلقية، فثناؤه على نفسه بظهوره في المراتب الإلهية والمراتب الخلقية، كما هو عليه الوجود، ومذهب أهل السنة في لام الحمد أنه للشمول، وقد سبق بيانه.
وقالت المعتزلة وبعض علماء السنة:
إن اللام في الحمد للعهد، ومعناه أن الحمد اللائق بالله الله، فبهذا الاعتبار تكون الإشارة في الحمد ثناءه على نفسه بما تستحقه المكانة الإلهية.

فمقام الحمد أعلى المقامات ولهذا كان لواء محمد صلى الله عليه وسلم لواء الحمد ، لأنه أثنى على ذاته سبحانه وتعالى ما تستحقه المكانة الإلهية .

وظهر في المراتب الحقية والمراتب الخلقية كما هو عليه الوجود.

واختص الاسم الله بالحمد، لأن الألوهية هي الشاملة لجميع معاني الوجود ومراتبه، والاسم الله هو المعطى لكل ذي حق من حقائق الوجود حقه، وليس هذا المعنى لغير هذا الاسم.

وقد سبق بيانه في باب الألوهية فاختص هذا الاسم بالحمد، ثم نعت الاسم الله الذي قلنا إنه حقيقة الإنسان بأنه "رب العالمين" أي صاحب العوالم ومنشئها والكائن فيها ومظهرها.

فما في العوالم الإلهية ولا في العوالم العبدية أحد غيره، فهو الظاهر وهو الباطن، وهو المراد بالرحمن والرحيم.

وقد سبق تفسير الاسم الرب والاسم الرحمن في أول الكتاب فليطالع هناك.

واعلم أن الرحيم أخص من اسمه الرحمن، والرحمن أعم منه.

فالرحمة التي وسعت كل شيء هي فيض اسمه الرحمن، والرحمة المكتوبة للذين يتقون ويؤتون الزكاة هي من فيض اسمه الرحيم.

والأصل في ذلك أن رحمة الاسم الرحمن قد يشوبها نقمة كتأديب الولد مثلا بالضرب رحمة به، وكشرب الدواء الكريه الطعم فإنه وإن كان رحمة فقد مازجته نقمة.

والرحمن يعم كل رحمة كانت وكيف كانت سواء مازجتها نقمة أم لم تمازجها، بخلاف اسمه الرحيم فإنه يختص بكل رحمة محضة لا يشوبها نقمة، ولهذا كان ظهور اسمه الرحيم في الآخرة أشد لأن نعيم الجنة لا يمازجه کدر النقمة، فهو من محض اسمه الرحيم.
 ألا ترى إليه صلى الله عليه وسلم لما كره أن تكون أمته بالنار في قوله:" شفاء أمتي في ثلاث في آية من كتاب الله، أو لعقة من عسل، أو كية من نار، ولا أحب أن تكون أمتي بالنار"(۱)
كيف سماه الحق بالرحيم فقال:"عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم " 128 سورة التوبة.

 لأن رحمته ما مازجها كدر النقمة وكان رحمة للعالمين.

 ثم وصف الحقيقة المحمدية التي هي عين ذات كل فرد من أفراد الإنسان المنعوت أولا

 فقال: «ملك يوم الدين» الملك الحاكم الشديد القوة، واليوم هنا هو التجلي الإلهي أحد أيام الله، والدين من الإدانة.

فيوم الدين عبارة عن تجلي رباني تدين له الموجودات فيتصرف فيها كيف يشاء فهو ملكها، وورد ومالك يوم الدين يعني صاحب العالم الباطني المعبر عن ذلك العالم بالقيامة والساعة، وذلك يعني صورة المحسوسات ومحل روحانية الموجودات فافهم.
ثم خاطب نفسه بنفسه فقال: "إياك نعبد"  أي لا غيرك.

قال الشاعر يخاطب نفسه:

              طحا بك قلب     …..      في الحسان طروب   
وهذا المعنى يسمى بالالتفات لأنه انتقل من مكان التكلم، إذ محله أن يقال: طحا بي قلب، إلى مقام الخطاب، فقال طحا بك: أقام نفسه مقام المخاطب.

فقال تعالى: "إياك نعبد" يخاطب نفسه.

يعني هو العابد نفسه بمظاهر المخلوقات.

إذ هو الفاعل بهم ومحركهم ومسكنهم، فعبادتهم له عبادته لنفسه.

ولأن إيجاده إياهم إنما هو لإعطاء أسمائه وأوصافه حقها.

فما عبد إلا نفسه بهم.

ثم قال يخاطب حقه بلسان الخلق "وإياك نستعين".

 لأنه المراد بالخلق والحق، فيخاطب نفسه إن شاء بكلام الحق ويسمعه بسمع الخلق، ويخاطب نفسه إن شاء بكلام الخلق ويسمعه بسمع الحق.

ولما أعلم أنه العابد نفسه بهم نبهنا على شهود ذلك فينا.

فقال: "إياك نستعين" لنبرأ من الحول والقوة والقدرة، بصرف جميع ذلك إليه سبحانه وتعالى.

 ونلاحظ ذلك منا وفينا، ولا نغفل عنه لنرتقي من ذلك إلى معرفة واحديته، فنحظى بتجلياته ويسعد منا من سبق له السعد.

و لهاتين الكلمتين من المعاني ما تضيق هذه الأوراق عن شرحها، فلنكتف بما تكلمنا عليه، إذ قصدنا الاختصار لا التطويل.

 ثم قال بلسان الخلق "اهدنا الصراط المستقیم" لأن النصف الأول من بسم الله الرحمن الرحيم إلى ملك يوم الدين كله إخبار بلسان الحق عن نفسه.

والنصف الثاني مخاطبة بلسان الخلق للحق.

 فالصراط المستقيم هو طريق المشهد الأحدي الذي يتجلى الله به لنفسه، وإليه الإشارة بقوله: "صراط الله"92 سورة الشورى.

 يعني طريقه إلى ظهور تجليه.

 ثم نعت أهل هذا المقام يعني أهل هذا المشهد الأحدي بعد جمعهم في صراط الله بلسان التفرقة فقال: "صراط الذين أنعمت عليهم" يعني أهل هذا المشهد بوجودك وشهودك.

فتجليت عليهم بنعيم القرب الإلهي "غير المغضوب عليهم" وهم أهل البعد الذين تجلى عليهم بإسم المنتقم .

"ولا الضالين" وهم الذين ضلوا في هدي الحق فما وجدوه ولكنهم ليسوا بمغضوب عليهم، بل رضي الحق عنهم فأسكنهم بجواره لا عنده.

 وهم الذين يسألهم الله تعالى فيقول لهم: "يا عبادي تمنوا علي" .

فيقولون: "ربنا نتمنى رضاك".

فيقول لهم: "رضاي عنكم أسكنكم بجواري فتمنوا".

 فلا يتمنون إلا رضاه، فإنهم لا يعرفونه، فلو عرفوه لتمنوه.

فهم منعمون بنعيم الأكوان في روضات الجنان، الذي لا يتجلى الله عليهم بما هو له فهم ضالون عن الرحمن، بل منعمون بلذات الجنان. فافهم.

والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.


 

 


 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!