موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية: مكتبة الشيخ عبد الكريم الجيلي

الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل

تأليف الشيخ عبد الكريم بن إبراهيم الجيلي (667هـ - 828هـ)

 

 


41. الباب الحادي والأربعون في الطور وكتاب مسطور في رق منشور والبيت المعمور والسقف المرفوع والبحر المسجور

اعلم وفقنا الله وإياك أن هذا الباب عمدة أبواب هذا الكتاب.

فليكن تأملك فيه مع حضورك فيما يقال لك، ولا تكتف بظاهر اللفظ، بل اطلب ما وراء ذلك مما نبهنا عليه من الإشارات و أومأنا إليه بلطف العبارات.
واعلم أن جميع هذه المعاني المذكورة في الطور وغيره مما سبق ذكره في الأبواب جميعها ولو كان المعتمد على ظواهرها في قول الشرائع .

فأنت المراد بها في باطن الأمر، فإنيتك هي الحاوية لجميع تلك العبارات وتعدد تلك المعاني التعدد وجوه إنيتك، فاعتبرها جميعها في نفسك، فأنت المسمى بتلك الأسماء. وأنت الموصوف بتلك الصفات.

واعلم بأن المراد بالطور نفسك

قال الله تعالى: "وناديناه من جانب الطور الأيمن" أي جانب النفس.

فعلم أن ثم طورة غير الأيمن وهو الجبل الذي كان موسى يتجلى فيه كما يتجلى أهل الله في الكهوف والمغارات والأودية.

فالتجلي الحاصل هناك على موسى إنما كان من حيث نفسه لا من حيث الجبل، ولم يكن الجبل إلا محلا المكان تعبد موسی.

و اندكاك الجبل عبارة عن فناء نفسه بالله.

 وصعقه عبارة عن المحق والسحق.

 فعدم موسى وصار العبد كأن لم يكن والحق كما لم يزل، فما رأى موسى ربه وإنما الله رأى الله.

 وما ثم إلا المعبر عنه بموسی.

وإلى هذا المعنى أشار الحق سبحانه وتعالى بقوله: "لن تراني" 143 سورة الأعراف.

أي یا موسی، يعني لأنك إذا كنت موجودا فأنا مفقود عنك.

وإن وجدتنيفأنت مفقود، ولا يمكن للحادث أن يثبت عند ظهور القديم.
وإلى هذا المعنى أشار الجنيد بقوله:
المحدث إذا قورن بالقديم لم يبق له أثر.
وقال علي رضي الله عنه: إن غبت بدا وإن بدا غيبني.

وإلى هذه الإشارة بقوله لموسي : فارق نفسك وتعالى.

حين قال موسى في مناجاته:يا رب كيف أصل إليك.

 فإذا علمت أن الطور هو باطن نفسك وذلك هو المعبر عنه بالحقيقة الإلهية في الإنسان إذ خلقه مجاز.

ألا ترى إلى الحديث النبوي الذي قال فيه:" إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن".

وقد تقدم فيما بيناه أن الطور الأيمن هو النفس لأن الطور الذي هو غير الأيمن هو الجبل.

فاكتفى عليه السلام في هذا الحديث بذكر اليمن، ونبه على أنه وجد نفس الرحمن من نفسه.

ونفس الرحمن هو ظهوره في أسمائه وصفاته.

 قال الله تعالى: "والصبح إذا تنفس".  يعني إذا ظهر.

 فاعلم حينئذ أن الكتاب المسطور هو الوجود المطلق على تفاريعه، وأقسامه واعتباراته الحقية والخلقية.

وهو مسطور أي موجود مشهود في الملكوت، وهو اللوح المحفوظ.

ونظيره في الملك في المقابلة الإنسانية، وهي المعبر عنها بالرق المنشور.

فمحل تشبيه قابلية روح الإنسان بالرق هو وجود الأشياء فيها بالانطباع الأصلي الفطري.

وكان وجود الموجودات فيها بحيث لا تفقد شيئا، وهو المعبر عنه بالمنشور، لأن الكتاب إذا كان منشورة لا يبقى فيه شيء إلا وقد عرف.

 والرق المنشور هو اللوح المحفوظ، ونظيره: روح الإنسان باعتبار قبولها وأنطباع الموجودات فيها. وذلك ذات اللوح ولا مغايرة بينهما.

 وأما البيت المعمور فهو المحل الذي اختصه الله لنفسه فرفعه من الأرض إلى السماء وعمره بالملائكة ونظيره قلب الإنسان فهو محل الحق.

 ولا يخلو أبدا ممن يعمره إما روح إلهي قدسي أو ملكي أو شيطاني أو نفساني،وهو الروح الحيواني.

 فلا يزال معمورة بمن فيه من السكان.

 قال الله تعالى: "إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله"18 سورة التوبة.

أي يقيم فيها، فالعمارة هي السكني.

والسقف المرفوع هي المكانة العليا الإلهية التي في هذا القلب.

لأنه لما شبه القلب بالبيت المعمور جعل الحقيقة الإلهية منها سقفها المرفوع والسقف من البيت، فسقف البيت المعمور هو الألوهية والبيت هو القلب.

وكما أن السقف من البيت وبعضه، كذلك القلب الذي وسع الله ربه منه وبعضه، لأن الواسع هو الكل والموسوع هو الجزء.

وهذا بلسان التوسع الذي عليه حقيقة الأمر:

وأما الحق فحكمه ووصفه أن يسع الأشياء ولا يسعه شيء، ولا يجوز فيه البعض ولا الكل، بل منه في قدسه عن جميع ذلك.

فاعلم ما هو الله من حيث الوجود العيني، واعلم ما هو له سبحانه من حيث الوجود الحكمي.

واعرف من هو واعرف من أنت.

وبما أنت هو وبما هو أنت.

وبما أنت مغاير له وبما هو منزه عن نقائصك.

واعلم أن النسبة التي بينك وبينه من أين صحت فوجدت..

ومن أين انقطعت بينك وبينه ففقدت.

وتأمل إلى هذه العبارات التي تضمنت أسرار الحق في التصريح والإشارات:

 وأما البحر المسجور فهو العلم المصون والسر المكنون الذي هو بين الكاف والنون هذا تعبيره بلسان الإشارة.

وأما في الظاهر فيقال أنه بحر تحت العرش يلج فيه جبريل كل يوم.

 فإذا أخرج منه نفض جناحيه فقطرت منه سبعون ألف قطرة، فيخلق الله تعالى بكل قطرة ملكا يحمل علما إلهيا.

فهذه الملائكة هم الذين يدخلون البيت المعمور كل يوم من باب ويخرجون من باب ولا يعودون إليه إلى يوم القيامة، فافهم ما أشرنا إليه في التصريح.

واعلم ما رمزنا لك في التلويح وانظر لم سجر لك هذا البحر ومنع هذا الفجر.

هل هو لقصور العقل عن درکه أم الغيرة الإلهية منعت من فکه.

 فإنه صلى الله عليه وسلم قال: "أخذ على كتمه".

حيث قال: "أوتيت ليلة أسري بي ثلاثة علوم فعلم أمرت بتبليغه وعلم خيّرت في تبليغه وعلم أخذ عليّ في كتمه" الحديث.

فجميع ما أبرزناه في هذا المستور أهو في زبد هذا البحر المسجور لا من درة اللائق بالبحور، بيد أنا لم نكتم منه شيئا.

إذ وضعنا جميعه بين رمز في عبارة وبين لغز في إشارة.

وبين تصريح أضربنا عنه إلى غيره، والمراد هو لما يحوي من خيره.

وهذا كتاب لم يأت بمثله الزمان، ولم يسمح بشكله الأوان، فافهمه وتأمله فالسعيد ابن السعيد من قرأه أو حصله.

والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.


تم الجزء الأول، ويليه الجزء الثاني
وأوله الباب الثاني والأربعون في الرفرف الأعلى


 

"يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم 4" .


 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!