موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية: مكتبة الشيخ عبد الكريم الجيلي

الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل

تأليف الشيخ عبد الكريم بن إبراهيم الجيلي (667هـ - 828هـ)

 

 


51. الباب الحادي والخمسون في الملك المسمى بالروح. كتاب الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل

اعلم أن هذا الملك هو المسمى في اصطلاح الصوفية بالحق المخلوق به والحقيقة المحمدية نظر الله تعالى إلى هذا الملك بما نظر به إلى نفسه.

فخلقه من نوره وخلق العالم منه، وجعله محل نظره من العالم.

ومن أسمائه أمر الله وهو أشرف الموجودات وأعلاها مكانة وأسماها منزلة ليس فوقه ملك، وهو سيد المقربين وأفضل المكرمين.

أدار الله عليه رحا الموجودات وجعله قطب فلك المخلوقات، له مع كل شيء خلقه الله تعالی وجه خاص به يلحقه، وفي المرتبة التي أوجده الله تعالى فيها يحفظه.

له ثمانية صورهم حملة العرش، منه خلق الملائكة جميعها عليها وعنصریها، فنسبة الملائكة إليه نسبة القطرات إلى البحر.

ونسبة الثمانية الذين يحملون العرش منه نسبة الثمانية التي قام الوجود الإنساني بها من روح الإنسان.

وهي العقل والوهم والفكر والخيال والمصورة والحافظة والمدركة والنفس.

ولهذا الملك في العالم الأفقي والعالم الجبروتي والعالم العلي والعالم الملكوتي هيمنة إلهية خلقها الله في هذا الملك.

وقد ظهر بكماله في الحقيقة المحمدية، ولهذا كان عليه أفضل البشر وبه امتن الله تعالى عليه وأمده من أجل النعم التي أسداها الله تعالى إليه.

 فقال تعالى: "وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقیم (52)" سورة الشورى.

يعني إنا جعلنا لروحك وجها كاملا من وجوه هذا الملك الذي هو أمرنا، لأن هذا الملك أسمه أمر الله، وإليه الإشارة في قوله:

"من أمر ربي" أي وجه من وجوهه.

والنكتة أنه لما أطلق ذكر الروح في سؤالهم عنه بقوله: "يسألونك عن الروح ".(سورة الإسراء)

أطلق في الجواب فقال: "قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي" (سورة الإسراء).

أي وجه من وجوه الأمر بخلاف روح محمد علي فإنه قال فيه: "كذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا" (سورة الشورى)

وذكره للاهتمام به ونكره لجلالة ذلك الوجه تنبيها على عظم قدر محمد علي، كما في قوله تعالى: "ذلك يوم مجموع له الناس" (سورة هود) أفاد التنكير عظم ذلك اليوم.

ثم قال: وروحا من أمرنا ولم يقل: أوحينا إليك من أمرنا، لأنه المقصود من الوجود لأن الروح هو المقصود من الهيكل الإنساني، ثم أتى بنون الإضافة في قول: من أمرنا كل ذلك تأكيدا وتنبيها على عظم قدر محمد صلى الله عليه وسلم.

ثم اعلم أنه لما خلق الله هذا المُلك مرآة لذاته لا يظهر الله تعالى بذاته إلا في هذا الملك وظهوره في جميع المخلوقات إنما هو بصفاته.

فهو قطب العالم الدنيوي والأخروي، وقطب أهل الجنة والنار وأهل الكثيب وأهل الأعراف.

اقتضت الحقيقة الإلهية في علم الله سبحانه أن لا يخلق شيئا إلا ولهذا الملك فيه وجه يدور فلك ذلك المخلوق على وجهه فهو قطبه.

لا يتعرف ذلك الملك لأحد من خلق الله تعالى إلا إلى الإنسان الكامل، فإذا عرفه الولي علمه أشياء.

فإذا تحقق بها صار قطبة يدور عليه رحا الوجود جميعه بحكم النيابة والعارية فاعرفه.

فإنه الروح المذكور في كتاب الله تعالى حيث قال: "يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا".

 ذلك اليوم الحق يوم يقوم هذا الملك في الدولة الإلهية والملائكة بين يديه وقوفة صفة في خدمته، وهو قائم في عبودية الحق متصرف في تلك الحضرة الإلهية بما أمره الله تعالى به.

وقوله: "لا يتكلمون " راجع إلى الملائكة دونه، فهو مأذون له في الكلام مطلقة في الحضرة الإلهية لأنه مظهرها الأكمل ومجلاها الأفضل، والملائكة وإن أذن لهم بالتكلم في الحضرة الإلهية لم يتكلم كل ملك إلا كلمة واحدة ليس في طاقته أكثر من ذلك، فلا يمكنه البسط في كلام ألبتة ألبتة.

فلا يتكلم الملك في الحضرة إلا كلمة واحدة، فأول من يتلقى الأمر من الحق هذا الملك، ثم يوجه إلى غيره من الملائكة.

فهم الجند، فإذا أمر بنفوذ أمر في العالم خلق الله منه ملكة لائقة بذلك الأمر فيرسله الروح، فيفعل الملك ما أمره الروح به، وجميع الملائكة المقربين مخلوقون منه مثل إسرافيل وجبريل وميكائيل وعزرائيل.

ومن هو فوقهم كالملك المسمى بالنون، وهو الملك القائم تحت اللوح المحفوظ، كالملك المسمى بالقلم، وسيأتي بيانه في تلو هذا الباب.

والملك المسمى بالمدبر وهو الملك القائم تحت الكرسي.

والملك المسمى بالمفضل وهو القائم تحت الإمام المبين.

وهؤلاء هم العالون الذين لم يؤمروا بالسجود لآدم، حكمة إلهية، فلو أمروا بالسجود لآدم لعرفهم كل أحد من ذريته.

ألا ترى إلى الأملاك لما أمروا بالسجود لآدم كيف ظهروا على كل من بني آدم فتتصور لهم في النوم بالأمثال الإلهية التي يظهر بها الحق للنائم.

 فتلك الصور جميعها ملائكة الله فتنزل بحكم ما يأمرها الملك الموكل بضرب الأمثال فتصور بكل صور للنائم.

ولهذا يرى النائم أن الجماد يكلمه ولو لم يكن روحا متصورة بالصورة الجمادية لم يكن يتكلم، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "إن الرؤيا الصادقة وحي من الله"(صحيح البخاري ومسلم و أحمد ) وذلك أن الملك ينزل بها.

وقال: «إن الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة» الحديث (البخاري وابن ماجة و أحمد)؛

ولما كان إبليس عليه اللعنة من جملة المأمورين بالسجود لآدم ولم يسجد أمر الشياطين وهم نتیجه وذريته أن يتصوروا للنائم بما يتصور به الملائكة.

فظهرت الرؤيا الكاذبة، والحاصل من هذا الكلام جميعه أن العالين لم يؤمروا بالسجود لآدم.

ولهذا لم يتوصل إلى معرفتهم إلا الإلهيون من بني آدم منحة إلهية بعد الخلوص من الأحكام الآدمية وهي المعاني البشرية.

ألا ترى إلى قوله سبحانه وتعالى لإبليس: "ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم کنت من العالین ".(آية 75 سورة ص ) يعني أن العالين لا سجود عليهم.

وقد ذكر الإمام محيي الدين بن العربي هذا المعنى في الفتوحات المكية، ولكنه لم ينص على أحد أنه من العالين، ثم استدل بهذه الآية.

واعلم أنه لا يصح حمل السؤال من الحق تعالى على الاستفهام، فهو من حيث وقع إما بمعنى النفي أو بمعنى الإثبات أو بمعنى الإيناس أو بمعنى الإيحاش.

فهذا السؤال من الحق لإبليس في قوله: "ما منعك أن تسجد " تهديد و إيحاش، وألف الاستفهام في واستكبرت بمعنى الإثبات، يعني أستكبرت.

بقولك: "أنا خير منه " وأم في قوله: "أم كنت من العالين" بمعنى النفي يعني لست من العالين الذين لم يؤمروا بالسجود.

والاستفهام الذي بمعنى الإيناس والبسط قوله: "وما تلك بيمينك يا موسی" (سورة طه)

ولهذا أجاب موسى بقوله: "هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي، ولي فيها مآرب أخرى" (سورة طه)

لما علم منه أنه يريد منه ذلك، وإلا كان الجواب عصاي، فهذا أدب أهل الله مع الله في حضرته، أبرزها الله لك في الإنسان الكامل لتقرأه فتعمل بموجبه فتكتب مع السعداء، فتأدب بها.

جال بنا مركب البيان في بحر التبيان إلى أن أشرف بنا على الساحل، فلنرجع إلى بحر الحقائق في التعبير عن الملك المسمى بالروح.

اعلم أن الروح له أسماء كثيرة على عدد وجوهه، يسمى بالقلم الأعلى، وبروح محمد صلى الله عليه وسلم ، وبالعقل الأول، وبالروح الإلهي من تسمية الأصل بالفرع.

وإلا فليس له في الحضرة إلا اسم واحد وهو الروح، ولهذا خصصناه في عقد الباب عليه، ولو أخذنا في شرح ما حواه هذا الملك من العجائب والغرائب احتجنا إلى كتب ومجلدات كثيرة ولقد اجتمعت به في بعض الحضرات الإلهية فتعرف إلي وسلم علي فرددت عليه السلام بعد أن كدت أذوب من هيبته وأفني من حسن بهجته.

فلما باسطني بالكلام بعد أن حيا ودار بإيناسه کاس الحميا، سألته عن مكانته و محتده وحضرته ومستنده وعن أصله وفرعه وعن هيئته ونوعه وعن صفته واسمه وعن حليته ورسمه.

 فقال: إن الأمر الذي خطبته والسر الذي طلبته عزيز المرام عظيم المقام، لا يصلح إنشاؤه بالتصريح ولا يكاد يفهم بالكناية والتلويح.

 فقلت له: هلم بالتلويح والكناية لعلي أفهمه إذا سبقت لي به العناية.

فقال: أنا الولد الذي أبوه ابنه، والخمر الذي كرمه دنه، أنا الفرع الذي أنتج أصله، والسهم الذي قوسه نصله، اجتمعت بالأمهات اللاتي ولدتني وخطبتها لأنكحها فأنكحتني, فلما سرت في ظاهر الأصول عقدت صورة المحصول، فانثنيت في نفسي أدور في حسي وقد حملت أمانات الهيولي وأحكمت الحضرة الموصوفة بالأولى، وجدتني أبا الجميع وأم الكبير والرضيع، هذه الحضرة والأمانة.

وأما المحتد والمكانة فاعلم أني كنت عينة مشهودة كان لي في الغيب حكما موجودا، فلما أردت معرفة ذلك الحكم المحتوم ومشاهدته في جانت الأمر المحكوم.

عبدت الله تعالى بذلك الاسم كذا وكذا سنة وأنا عن اليقظة في سنة، فنبهني الحق سبحانه وتعالى وأقسم باسمه وإلى أنه: " قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) ".سورة الشمس.

فلما حضرت القسمة وأحرزت ما أعطاني الاسم، أعني باسمه، زكتني الحقيقة المحمدية بلسان الحضرة الرسولية.

فقال عليه الصلاة والسلام: "خلق الله آدم على صورته" . ولا ريب في هذا ولا كلام.

ولم يكن آدم إلا مظهر من مظاهري أقيم خليفة على ظاهري فعلمت أن الحق جعلني المراد والمقصود من العباد.

فإذا بالخطاب الأكرم عن المقام الأعظم: أنت القطب الذي تدور عليه أفلاك الجمال، والشمس الذي تمت بضوئها بدر الكمال.

أنت الذي أقمنا له الأنموذج واحكمنا من أجله الزمور فتوج المراد بما يکنی عنه بهند وسلمى أو يلوح بأنها عزة وأسما.

 فالكل إلا أنت يا ذا الأوصاف السنية والنعوت الزكية، لا يدهشك الجمال ولا يرعشك الجلال ولا تستبعد استيعاب الكمال.

أنت النقطة وهي الدائرة وأنت اللابس وهي الثياب الفاخرة.

قال : الروح

 فقلت: أيها السيد الكبير والعلام الخبير نسألك بالتأييد والعصمة، أخبرني عن درر الحكمة وبحر الرحمة بأن جعلت صدفها سوائي وما انعقدت سوى من مائي.

ولم وسم طيري باسم غيري وكتم هذا الأمر رأسه فلم يعلم لحديدته بأسا؟

فقال: اعلم أن الحق تعالى أراد أن تتجلى أسماؤه وصفاته لتعرف الخلق ذاته، فأبرزها في المظاهر المتميزة والبواطن المتحيزة وهي الموجودات الذاتية المتجلية في المراتب الإلهية.

ولو أطلق الأمر كفاحة وأطلق لهذا العبد سراح، جهلت الرتب، وفقدت الإضافات والنسب.

فإن الإنسان إذا أشهد غيره فقد استوعب خيره وسهل عليه الاتباع وأخذ في ذلك ما استطاع.

فلهذا أرسل الله الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام بكتابه المبين وخطابه المتين، يترجم عن صفاته العليا وأسمائه الحسنى، ليعلم أن ذاته لها التعالي عن الإدراك فلا يعرفها غيرها ولا إشراك.

 ولهذا أمرنا السيد الأواه فقال: «تخلقوا بأخلاق الله».

لتبرز أسراره المودعة في الهياكل الإنسانية، فيظهر بذلك علق العزة الربانية، ويعلم حق المرتبة الرحمانية ولا سبيل إلى معرفته بحسب حصره إذ هو القائل عن نفسه: " وما قدروا الله حق  قدره. "(9- 10 سورة الشمس)

هذا در الحكمة وبحر الرحمة.

وكون الصدق سواك، وما انعقدت درارية إلا من ماك، فهو القشر على اللباب، لئلا يرتقي إلى الحكمة وفصل الخطاب سوی من أهله لذلك في أم الكتاب.

وأما رسم طيرك باسم غيرك فلاستيعاب خيرك.

وأما كتم الأمر فلعدم الطاقة على خوض البحر، فإن العقول تقصر عن الإدراك، ولا محيص لها عن قيدها ولا انفكاك.

وهذه الجملة قشور العبارات، وقبور الإشارات جعلناها عن الوجه نقابة.

لتحجبه عمن ليس من أهله حجابا، فافهم إن کنت مدركا خطابا، فالوجود التي برزت في الظواهر هي الأبكار التي استترت في البواطن حجب على تلك الوجوه، واستتار هذا الأمر المنكوس تحار فيه الأفكار.

قال الراوي: فما زلت أشرب مما سقاني الروح الأسمى، وبالري منه ما زلت كما كنت أو أظمأ، إلى أن طلع شمس الاقتدار وأسفر فجر الاسم كالنهار.

 وإذا بالقمري قد غنى على وكري، فترجم عن الحال، ثم أنشد عن الملك المسمى بالروح فقال:

خود لها في حسنها طلعات        .....    الكل معنى الوصف وهي الذات

هي روح أشباح الجمال وإنها      .....     نفي ولكن بعدها الإثبات

هي صورة الحسن التي لوحتها      .....     وكنيت عنها أنها الهندات

وهي المعاني الباطنات حقيقة        ......    عن حسنكم لكن لها ظهرات

كل العوالم تحت مركز قطبها      ......      هي جمعهم وهمو لها أشتات

كنيت بحق إنها لحقيقة            ......       خلق الإله وأنها الكلمات

فقدت قديماً ثم أحدثها الذي       ......      يمضي ويفعل ما اقتضته صفات

لكنها لما تعيّن ذاتها           ......         ظهرت بأحكام لها لهجات

فغدت وقد لبست ثياب جمالها    .....      تزهو بحسن دونه الحسنات

وتقول إن وجودها لا مسبق      .....   بالانعدام ولا لها لحقات

وأنت تشاهد وصفها بكمالها      .....     عيناً وحقّ الذات تحقيقات

 

.


 


 

 

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!